تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وهم كفار بالهداية والدعوة إليها ، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي إنما عليك البلاغ والإنذار ، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين ، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر ، وأزاح عنهم العلل ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] وكما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦] الآية ، والآيات في هذا كثيرة.

وقوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات (وَبِالزُّبُرِ) وهي الكتب (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح البين (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاءوهم به ، فأخذتهم أي بالعقاب والنكال (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيما شديدا بليغا ، والله أعلم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨)

يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد ، وهو الماء الذي ينزله من السماء ، يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار ، كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٤].

وقوله تبارك وتعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان ، كما هو المشاهد أيضا من بيض وحمر ، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة ، مختلفة الألوان أيضا قال ابن عباس رضي الله عنهما : الجدد الطرائق ، وكذا قال أبو مالك والحسن وقتادة والسدي ، ومنها غرابيب سود. قال عكرمة : الغرابيب الجبال الطوال السود ، وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة : وقال ابن جرير (١) : والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا : أسود غربيب ، ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية : هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي سود غرابيب ، وفيما قاله نظر.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٠٩.

٤٨١

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي كذلك الحيوانات من الأناسي ، والدواب ، وهو كل ما دب على القوائم ، والأنعام ، من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضا ، فالناس منهم بربر وحبوش وطماطم في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض ، والعرب بين ذلك والهنود دون ذلك ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) [الروم : ٢٢] وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان ، بل الحيوان الواحد يكون أبلق فيه من هذا اللون وهذا اللون ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح ، حدثنا زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيصبغ ربك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم صبغا لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض» وروي مرسلا وموقوفا ، والله أعلم. ولهذا قال تعالى بعد هذا : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به ، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى ، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير (١) وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال : العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. وقال سعيد بن جبير : الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزوجل. وقال الحسن البصري : العالم من خشي الرحمن بالغيب ، ورغب فيما رغب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه ، ثم تلا الحسن (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال : إن العلم ليس بكثرة الرواية ، وإما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري : معناه أن الخشية ، لا تدرك بكثرة الرواية ، وإنما العلم الذي فرض الله عزوجل أن يتبع ، فإنما هو الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين ، فهذا ، لا يدرك إلا بالرواية ، ويكون تأويل قوله : نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٠٩.

٤٨٢

أبي حيان التيمي عن رجل قال : كان يقال العلماء ثلاثة : عالم بالله ، عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله ، وعالم بأمر الله ، ليس بعالم بالله ، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض ، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض ، والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عزوجل.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٠)

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا ، سرا وعلانية (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي يرجون ثوابا عند الله لا بد من حصوله ، كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه : إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة ، ولهذا قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم (إِنَّهُ غَفُورٌ) أي لذنوبهم (شَكُورٌ) للقليل من أعمالهم.

قال قتادة : كان مطرف رحمه‌الله إذا قرأ هذه الآية يقول : هذه آية القراء. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، حدثنا سالم بن غيلان قال : إنه سمع دراجا أبا السمح يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله ، وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أضعاف من الشر لم يعمله» غريب جدا.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣١)

يقول تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد من الكتاب وهو القرآن (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المتقدمة بصدقها كما شهدت له بالتنويه ، وأنه منزل من رب العالمين (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي هو خبير بهم بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه ، ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر ، وفضل النبيين بعضهم على بعض ، ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق جميعهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢)

__________________

(١) المسند ٣ / ٣٨.

٤٨٣

يقول تعالى : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة ، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع ، فقال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات ، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات ، (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وهو الفاعل للواجبات والمستحبات ، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) قال : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب (١).

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبد الرحمن بن معاوية العتبي قالا : حدثنا أبو الطاهر بن السرح ، حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني. حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ذات يوم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». قال ابن عباس رضي الله عنهما : «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون : بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما فمنهم ظالم لنفسه قال هو الكافر وكذا روى عنه عكرمة ، وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال : هم أصحاب المشأمة. وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن وقتادة : هو المنافق ، ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة : وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها ، والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق يشد بعضها بعضا ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر.

[الحديث الأول] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤١١.

(٢) المسند ٣ / ٧٨.

٤٨٤

عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) قال «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة» هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي إسناده من لم يسم ، وقد رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم من حديث شعبه به نحوه. ومعنى قوله بمنزلة واحدة ، أي في أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة.

[الحديث الثاني] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عقبة ، عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذي يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلاقاهم الله برحمته ، فهم الذين يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٤ ـ ٣٥].

[طريق أخرى] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا الحسين بن حفص ، حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثم أورثنا الكتاب اصطفينا من عبادنا ، فمنهم ظالم لنفسه ـ قال ـ فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن ، ثم يدخل الجنة».

ورواه ابن جرير (٣) من حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال : ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد ، فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه ، فقال : اللهم آنس وحشتي ، وارحم غربتي ويسر لي جليسا صالحا ، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك ، سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه وذكر هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ، فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن ، وذلك قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤].

[الحديث الثالث] قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٣.

(٢) المسند ٥ / ١٩٨.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٤.

٤٨٥

حدثنا ابن مسعود ، أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) الآية ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلهم من هذه الأمة».

[الحديث الرابع] قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عزيز ، حدثنا سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أمتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون : لا إله إلا الله وحده ، يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده ، واحملوا خطاياهم على أهل النار ، وهي التي قال الله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة ، قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) فجعلهم ثلاثة أنواع ، وهم أصناف كلهم ، فمنهم ظالم لنفسه ، فهذا الذي يمحص ويكشف» غريب جدا.

[أثر عن ابن مسعود] رضي الله عنه. قال ابن جرير (١) : حدثني ابن حميد ، حدثنا الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن عيسى رضي الله عنه عن يزيد بن الحارث ، عن شقيق أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عزوجل : ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئا ، فيقول الرب عزوجل : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية.

[أثر آخر] قال أبو داود الطيالسي عن الصلت بن دينار بن الأشعث عن عقبة بن صهبان الهنائي قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية ، فقالت لي : يا بني هؤلاء في الجنة ، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحياة والرزق ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم ، قال : فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا ، وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع ، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه‌الله تعالى : قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٢.

٤٨٦

تبارك وتعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قال : هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا ، وسابقنا أهل الجهاد ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال عوف الأعرابي : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه ، قال : إن الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله تعالى قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ـ إلى قوله عزوجل ـ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) قال : فهؤلاء أهل النار ، رواه ابن جرير من طرق عن عوف به ثم قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال : إن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعبا عن قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ـ إلى قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) قال : تماست مناكبهم ورب كعب ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم.

ثم قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا الحكم بن بشير ، حدثنا عمرو بن قيس عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية ، قال أبو إسحاق : أما ما سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج ، ثم قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنه قال : إنها أمة مرحومة ، الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنان عند الله ، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله. ورواه الثوري عن إسماعيل بن سميع عن رجل عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنه بنحوه.

وقال أبو الجارود : سألت محمد بن علي ـ يعني الباقر ـ رضي الله عنهما عن قول الله تعالى (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) فقال : هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا. فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا ، فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة ، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة ، وأولى الناس بهذه الرحمة ، فإنهم كما قال الإمام أحمد (٢) رحمه‌الله حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق ، فقال : ما أقدمك أي أخي؟ قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أما قدمت لتجارة؟ قال : لا ، قال : أما قدمت لحاجة؟ قال : لا ، قال : أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال : نعم. قال رضي الله عنه : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سلك طريقا يطلب فيها علما ، سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤١١.

(٢) المسند ٥ / ١٩٦.

٤٨٧

على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (١) وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث كثير بن قيس ، ومنهم من يقول قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء : إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي».

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ(٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥)

يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة ، مأواهم جنات عدن ، أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عزوجل (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (٢). (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا ، فأباحه الله تعالى لهم في الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (٣) وقال «هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سواد السرحي ، أخبرنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم ، وذكر حلي أهل الجنة فقال «مسورون بالذهب والفضة مكللة بالدر ، وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جرد مرد مكحولون» (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وهو الخوف من المحذور ، أزاحه عنا وأرحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في العلم باب ١ ، والترمذي في العلم باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٧ ، والدارمي في المقدمة باب ٣٢.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٤٠ ، والنسائي في الطهارة باب ١٠٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٢ ، ٣٧١.

(٣) أخرجه البخاري في اللباس باب ٢٥ ، ومسلم في اللباس حديث ١١ ، ١٢.

٤٨٨

عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» رواه ابن أبي حاتم من حديثه.

وقال الطبراني : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، حدثنا موسى بن يحيى المروزي ، حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي عن عبد العزيز بن حكيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور ، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).

قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : غفر لهم الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) يقولون الذي أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من فضله ومنّه ورحمته ، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك ، كما ثبت في الصحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل» (١).

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء. والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب ، وكأن المراد بنفي هذا وهذا عنهم ، أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم ، والله أعلم ، فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا ، فسقط عنهم التكليف بدخولها ، وصاروا في راحة دائمة مستمرة قال الله تبارك وتعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤].

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧)

لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء ، شرع في بيان مآل الأشقياء ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) كما قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)[طه : ٧٤] وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أما أهل النار الذين هم أهلها ، فلا يموتون فيها ولا يحيون» (٢) وقال عزوجل : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم ، ولكن لا سبيل إلى ذلك ، قال الله تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) كما قالعزوجل : (إِنَّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٨ ، ومسلم في المنافقين حديث ٧١ ـ ٧٣.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٠٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.

٤٨٩

الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٤] وقال جل وعلا : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠] ثم قال تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق.

وقوله جلت عظمته : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عزوجل بأصواتهم (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول ، وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، وإنهم لكاذبون فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك ، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه ، ولذا قال هاهنا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هاهنا ، فروي عن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما أنه قال : مقدار سبع عشرة سنة.

وقال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة ، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر قد نزلت هذه الآية (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وكذا قال أبو غالب الشيباني. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن رجل عن وهب بن منبه في قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال : عشرين سنة وقال هشيم عن منصور عن زاذان عن الحسن في قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال : أربعين سنة ، وقال هشيم أيضا عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة ، فليأخذ حذره من الله عزوجل.

وهذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أربعون سنة ، هكذا رواه من هذا الوجه عن ابن عباس رضي الله عنهما به ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس ، كلاهما عن عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) ستون سنة ، فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضا ، لما ثبت في ذلك من الحديث

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٨.

٤٩٠

كما سنورده ، لا كما زعمه ابن جرير من أن الحديث لم يصح في ذلك ، لأن في إسناده من يجب التثبت في أمره ، وقد روى أصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه أنه قال : العمر الذي عيرهم الله به في قوله (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) ستون سنة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا دحيم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي عن ابن أبي حسين المكي ، أنه حدثه عن عطاء هو ابن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ، قيل : أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) وكذا رواه ابن جرير عن علي بن شعيب عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به ، وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك به ، وهذا الحديث فيه نظر لحال إبراهيم بن الفضل ، والله أعلم.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ الستين أو سبعين سنة ، لقد أعذر الله تعالى إليه ، لقد أعذر الله تعالى إليه».

وهكذا رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه : حدثنا عبد السلام بن مطهر عن عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري ، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعذر الله عزوجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة» (٢) ثم قال البخاري : تابعه أبو حازم وابن عجلان عن سعيد المقبري ، فأما أبو حازم فقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو صالح الفزاري ، حدثنا محمد بن سوار ، أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القادر أي الإسكندري ، حدثنا أبو حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» وقد رواه الإمام أحمد (٤) والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن به.

ورواه البزار قال : حدثنا هشام بن يونس ، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» يعني (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) وأما متابعة ابن عجلان فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عز

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٧٥.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٨.

(٤) المسند ٢ / ٤١٧.

٤٩١

وجل إليه في العمر» وكذا رواه الإمام (١) أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقري به ، ورواه أحمد أيضا عن خلف عن أبي معشر عن أبي سعيد المقبري.

[طريق أخرى] عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن جرير (٢) : حدثني أحمد بن الفرج أبو عتبة الحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا المطرف بن مازن الكناني ، حدثني معمر بن راشد قال : سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أعذر الله عزوجل في العمر إلى صاحب الستين والسبعين» فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق ، فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت وقول ابن جرير : إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري ، والله أعلم. وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة ، فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين ، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم ، كما قال الشاعر [الوافر] :

إذا بلغ الفتى ستين عاما

فقد ذهب المسرة والفتاء (٣)

ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به ويزيح به عنهم العلل ، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة ، كما ورد بذلك الحديث. قال الحسن بن عرفة رحمه‌الله : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك» (٤) وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة جميعا في كتاب الزهد عن الحسن بن عرفة به. ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وهذا عجيب من الترمذي ، فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى عن أبي هريرة حيث قال : حدثنا سليمان بن عمرو عن محمد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٢٠.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤١٨.

(٣) يروى البيت :

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفتاء

وهو للربيع بن ضبع في أمالي المرتضى ١ / ٢٥٤ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٧٩ ، ٣٨٠ ، ٣٨١ ، ٣٨٥ ، والدرر ٤ / ٤١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٧٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٢٥ ، والكتاب ١ / ٢٠٨ ، ٢ / ١٦٢ ، ولسان العرب (فتا) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٣٥ ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص ٢٩٩ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٥٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٣٢ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٢٣ ، وشرح المفصل ٦ / ٢١ ، ومجالس ثعلب ص ٣٣٣ ، والمقتضب ٢ / ١٦٩ ، والمنقوص والممدود ص ١٧.

(٤) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١٠١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.

٤٩٢

أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك» (١) وقد رواه الترمذي في كتاب الزهد أيضا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن محمد بن ربيعة به ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد روي من غير وجه هذا نصه بحروفه في الموضعين ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو موسى الأنصاري ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم عن المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين» وبه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقل أمتي أبناء سبعين» إسناده ضعيف.

[حديث آخر] في معنى ذلك. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا إبراهيم بن مهدي عن عثمان بن مطر عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله أنبئنا بأعمار أمتك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين الخمسين إلى الستين» قالوا : يا رسول الله فأبناء السبعين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل من يبلغها من أمتي ، رحم الله أبناء السبعين ، ورحم الله أبناء الثمانين» ثم قال البزار : لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش ثلاثا وستين سنة ، وقيل ستين ، وقيل خمسا وستين ، والمشهور الأول ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه وقتادة وسفيان بن عيينة أنهم قالوا : يعني الشيب وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ ابن زيد (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦] وهذا هو الصحيح عن قتادة فيما رواه شيبان عنه أنه قال : احتج عليهم بالعمر والرسل ، وهذا اختيار ابن جرير ، وهو الأظهر لقوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف : ٧٧ ـ ٧٨] أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتم ، وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تبارك وتعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٨ ـ ٩]. وقوله تعالى : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم ، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.

__________________

(١) راجع الحاشية السابقة.

٤٩٣

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً) (٣٩)

يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض ، وإنه يعلم ما تكنه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر ، وسيجازي كل عامل بعمله ، ثم قال عزوجل (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي يخلف قوم لآخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم. كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) [فاطر : ٣٩] أي فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى ، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين ، فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله ، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمشركين : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام والأنداد (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي ليس لهم شيء من ذلك ما يملكون من قطمير. وقوله (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي أم أنزلنا عليهم كتابا بما يقولونة من الشرك والكفر؟ ليس الأمر كذلك (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي يمنوها لأنفسهم وهي غرور وباطل وزور.

ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما ، فقال (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي أن تضطربا عن أماكنهما ، كما قال عزوجل : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ١] أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه ، وهو يحلم فيؤخر ، وينظر ويؤجل ولا يعجل ، ويستر آخرين ويغفر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا بل منكرا ، فقال : حدثنا علي بن الحسين بن

٤٩٤

الجنيد ، حدثني إسحاق بن إبراهيم ، حدثني هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام على المنبر قال : وقع في نفس موسى عليه الصلاة والسلام : هل ينام الله عزوجل؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ، وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ، قال : ضرب الله له مثلا أن الله عزوجل لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض.

والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع بل من الإسرائيليات المنكرة ، فإن موسى عليه الصلاة والسلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى النوم ، وقد أخبر الله عزوجل في كتابه العزيز بأنه (الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٥٥] وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).

وقد قال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال : جاء رجل إلى عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه فقال : من أين جئت؟ قال : من الشام ، قال : من لقيت؟ قال : لقيت كعبا ، قال : ما حدثك؟ قال : حدثني أن السموات تدور على منكب ملك ، قال : أفصدقته أو كذبته؟ قال : ما صدقته ولا كذبته ، قال : لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها ، كذب كعب إن الله تعالى يقول (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٤١] وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود رضي الله عنه.

ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال : ذهب جندب البجلي إلى كعب بالشام فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي سماه ـ سير الفقهاء ـ أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع عن وكيع عن الأعمش به ، ثم قال : وأخبرنا زونان يعني عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب عن مالك أنه قال : السماء لا تدور ، واحتج بهذه الآية ، وبحديث «إن بالمغرب بابا للتوبة لا يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٣ ، ٢٩٥ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٥ ، ٤٠١ ، ٤٠٥.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٢١.

٤٩٥

منه» (١) قلت : وهذا الحديث في الصحيح ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣)

يخبر تعالى عن قريش والعرب ، أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ، أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل ، قاله الضحاك وغيره كقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) [آل عمران : ١٥٦ ـ ١٥٧] وكقوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الصافات : ١٦٧ ـ ١٧٠] قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم ، وهو القرآن المبين (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أي ما ازدادوا إلا كفرا إلى كفرهم ، ثم بين ذلك بقوله : (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) أي : استكبروا عن اتباع آيات الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.

قال ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياك ومكر السيئ ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، ولهم من الله طالب» وقال محمد بن كعب القرظي : ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به : من مكر أو بغى أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣] (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) [الفتح : ١٠] وقوله عزوجل : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي لا تغير ولا تبدل ، بل هي جارية كذلك في كل مكذب (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) أي (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [الرعد : ١١] ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد ، والله أعلم.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٤٠ ، ٢٤١.

٤٩٦

فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة : سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل ، كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، فخلت منهم منازلهم ، وسلبوا ما كانوا فيه من نعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد ، وكثرة الأموال والأولاد ، فما أغنى ذلك شيئا ، ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء ، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء إذا أراد كونه في السموات والأرض (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي عليم بجميع الكائنات قدير على مجموعها ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب ، (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، فيجازي بالثواب أهل الطاعة وبالعقاب أهل المعصية ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً). آخر تفسير سورة فاطر ولله الحمد والمنة.

٤٩٧

تفسير سورة يس

وهي مكية

قال أبو عيسى الترمذي (١) : حدثنا قتيبة وسفيان بن وكيع ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس ، ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن ، وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : ولا يصح لضعف إسناده. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : منظور فيه ، أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن الفضل ، حدثنا زيد هو ابن الحباب ، حدثنا حميد هو المكي مولى آل علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» ثم قال : لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا حجاج بن محمد عن هشام بن زياد عن الحسن قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورا له ، ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفور له» إسناده جيد. وقال ابن حبان في صحيحه : حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف ، حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني ، حدثنا أبي ، حدثنا زياد بن خيثمة ، حدثنا محمد بن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عزوجل غفر له».

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا ، واستخرجت (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] من تحت العرش فوصلت بها ـ أو فوصلت بسورة البقرة ـ ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله

__________________

(١) كتاب ثواب القرآن باب ٧.

(٢) المسند ٥ / ٢٦.

٤٩٨

والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرءوها على موتاكم» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان به.

ثم قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عارم ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي ، عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرءوها على موتاكم» يعني يس (٢) ، ورواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة من حديث عبد الله بن المبارك به ، إلا أن في رواية النسائي عن أبي عثمان عن معقل بن يسار رضي الله عنه ، ولهذا قال بعض العلماء : من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى ، وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة ، وليسهل عليه خروج الروح ، والله تعالى أعلم.

قال الإمام أحمد (٣) رحمه‌الله : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان قال : كان المشيخة يقولون : إذا قرئت ـ يعني يس ـ عند الميت خفف الله عنه بها. وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي» يعني يس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والضحاك والحسن وسفيان بن عيينة أن يس بمعنى يا إنسان (٤). وقال سعيد بن جبير : هو كذلك في لغة الحبشة ، وقال مالك عن زيد بن أسلم : هو اسم من أسماء الله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (إِنَّكَ) أي يا محمد (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٢ ـ ٥٣].

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٦ ، ٢٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ٢٠ ، وابن ماجة في الجنائز باب ٤.

(٣) المسند ٤ / ١٠٥.

(٤) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٢٤.

٤٩٩

وقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) يعني بهم العرب ، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله ، وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم ، كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم ، وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. وقوله تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) قال ابن جرير : لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالله ولا يصدقون رسله.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢)

يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسه فصار مقمحا ، ولهذا قال تعالى : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) والمقمح هو الرافع رأسه ، كما قالت أم زرع في كلامها : وأشرب فأتقمح (١) ، أي أشرب فأروي ، وأرفع رأسي تهنيئا وترويا ، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر [الوافر] :

فما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير أيهما يليني (٢)

أالخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي لا يأتليني؟

فاكتفى بذكر الخير عن الشر ، لما دل الكلام والسياق عليه ، وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق ، اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) قال : هو كقوله عزوجل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) قال : رافعي رؤوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) قال مجاهد : عن الحق (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) قال مجاهد : عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة : في الضلالات.

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ٨٢ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٩٢.

(٢) البيتان للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٨٠ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٩١ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٣٨.

٥٠٠