تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم ، قال : فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال : دلني عليه ، قال : وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب ، قال فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إلام تدعو؟ قال «أدعوا إلى كذا وكذا» قال : أشهد أنك رسول الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما علمك بذلك؟» قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم ، قال : فنزلت هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الآية ، قال : فأرسل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عزوجل قد أنزل تصديق ما قلت ، وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها : وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل.

وقال تبارك وتعالى إخبارا عن المترفين المكذبين : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة وهيهات لهم ذلك قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وقال تبارك وتعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ٥٥] وقال عزوجل (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١١ ـ ١٧].

وقد أخبر الله عزوجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد ، ثم لم يغن عنه شيئا بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة ، ولهذا قال عزوجل ها هنا : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب ، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء ، وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

ثم قال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) أي ليست هذه دليلا على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا كثير ، حدثنا جعفر ، حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (٢) ورواه مسلم وابن ماجة من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به ، ولهذا قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ

__________________

(١) المسند ٢ / ٥٣٩.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٣٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩.

٤٦١

صالِحاً) أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها» فقال أعرابي : لمن هي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام» (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي يسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي بحسب ماله في ذلك من الحكمة يبسط على هذا من المال كثيرا. ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جدا. وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها غيره ، كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١] أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وهذا غني موسع عليه ، فكذلك هم في الآخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات ، وهذا في الغمرات في أسفل الدركات ، وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (١) رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما.

وقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم ، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل ، وفي الآخرة بالجزاء والثواب ، كما ثبت في الحديث «يقول الله تعالى أنفق ، أنفق عليك» (٢) وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول. أحدهما : اللهم أعط ممسكا تلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط منفقا خلفا (٣) ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنفق بلالا ، ولا تخشى من ذي العرش إقلالا». وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس ، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض ، يعض الموسر ما في يده حذار الإنفاق» ثم تلا هذه الآية (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٢٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٨ ، ١٧٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٢ ، والنفقات باب ١ ، والتوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ٣٦ ، ٣٧ ، وابن ماجة في الكفارات باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٢ ، ٣١٤ ، ٤٦٤.

(٣) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٢٧ ، ومسلم في الزكاة حديث ٥٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٦ ، ٣٤٧ ، ٥ / ١٩٧.

٤٦٢

الرَّازِقِينَ).

وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي : حدثنا روح بن حاتم ، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال : بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن بعد. زمانكم هذا زمان عضوض ، يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق» قال الله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وفي الحديث «شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك ، وإلا فلا تزده هلاكا إلى هلاكه» هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال : قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الآية (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) إذا كان عند أحدكم ما يقيمه ، فليقصد فيه ، فإن الرزق مقسوم.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤٢)

يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى ، فيقول للملائكة (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم ، كما قال تعالى في سورة الفرقان (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان : ١٧] وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة : ١١٦] وهكذا تقول الملائكة (سُبْحانَكَ) أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله.

(أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) يعنون الشياطين ، لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) كما قال تبارك وتعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللهُ) [النساء : ١١٧] قال الله عزوجل (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم «اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا» (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا

٤٦٣

إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥)

يخبر الله عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب ، لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) يعنون أن دين آبائهم هو الحق ، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل ، عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى : (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) يعنون القرآن (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) قال الله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا ، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.

ثم قال تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي من القوة في الدنيا. وكذلك قال قتادة والسدي وابن زيد ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأحقاف : ٢٦] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) [غافر : ٨٢] أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده ، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله ، ولهذا قال : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦)

يقول تبارك وتعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي إنما آمركم بواحدة وهي (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي تقوموا قياما خالصا لله عزوجل من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا هل. بمحمد من جنون. فينصح بعضكم بعضا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ، ويتفكر في ذلك ، ولهذا قال تعالى : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتادة وغيرهم ، وهذا هو المراد من الآية.

٤٦٤

فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «أعطيت ثلاثا لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها ، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة ، قال الله تعالى : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي» فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قال البخاري (١) عندها : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا ذات يوم فقال : «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك؟ فقال : «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني» قالوا : بلى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب : تبا لك ألهذا جمعتنا. فأنزل الله عزوجل (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) [المسد : ١] وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤].

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم. حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : خرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فنادى ثلاث مرات ، فقال : «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟» قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا رجلا يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه ، أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم» ثلاث مرات ، وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني» تفرد به الإمام أحمد (٢) في مسنده.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمشركين (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) أي لا أريد

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٤ ، في الترجمة ، باب ٢.

(٢) المسند ٤ / ٣٠٩ ، ٥ / ٣٤٨.

٤٦٥

منكم جعلا ولا عطاء على أداء رسالة الله عزوجل إليكم ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه.

وقوله عزوجل : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) كقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥] أي يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض ، وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.

وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي : جاء الحق من الله والشرع العظيم ، وذهب الباطل وزهق واضمحل ، كقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ٨] ولهذا لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (١) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية ، كلهم من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه به ، أي لم يبق للباطل مقالة ولا رئاسة ولا كلمة وزعم قتادة والسدي أن المراد بالباطل هاهنا إبليس ، أي أنه لا يخلق أحدا ولا يعيده ولا يقدر على ذلك ، وهذا وإن كان حقا ولكن ليس هو المراد هاهنا ، والله أعلم.

وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي الخير كله من عند الله ، وفيما أنزل الله عزوجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد ، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن تلك المسألة في المفوضة أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. وقوله تعالى : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي سميع لأقوال عباده قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وقد روى النسائي هنا حديث أبي موسى في الصحيحين «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا» (٢).

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري في المظالم باب ٣٢ ، والمغازي باب ٤٨ ، وتفسير سورة ١٧ ، باب ١٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨٧ ، والترمذي في تفسير سورة ١٧ ، باب ٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٠ ، ومسلم في الذكر حديث ٤٤ ، ٤٥.

٤٦٦

يقول تبارك وتعالى : ولو ترى يا محمد إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة ، فلا فوت أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب بل أخذوا من أول وهلة. قال الحسن البصري : حين خرجوا من قبورهم. وقال مجاهد وعطية العوفي وقتادة : من تحت أقدامهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك : يعني عذابهم في الدنيا. وقال عبد الرحمن بن زيد : يعني قتلهم يوم بدر ، والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة ، وهو الطامة العظمى ، وإن كان ما ذكر متصلا بذلك.

وحكى ابن جرير (١) عن بعضهم قال : إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في أيام بني العباس رضي الله عنهم. ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية ، ثم لم ينبه على ذلك ، وهذا أمر عجيب غريب منه (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] ولهذا قال تعالى : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم ، وصاروا إلى الدار الآخرة وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء ، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان ، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد.

قال مجاهد (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) قال : التناول لذلك. وقال الزهري : التناوش تناولهم الإيمان وهم في الآخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا ، وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال تعاطوا الإيمان من مكان بعيد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة ، وكذا قال محمد بن كعب القرظي رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال مالك عن زيد بن أسلم (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) قال : بالظن ، قلت : كما قال تعالى : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] فتارة يقولون شاعر ، وتارة يقولون كاهن ، وتارة يقولون ساحر ، وتارة يقولون مجنون إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد ويقولون (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢] قال قتادة ومجاهد : يرجمون بالظن لا بعث ولا جنة ولا نار.

وقوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما : يعني الإيمان وقال السدي (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) وهي التوبة ، وهذا اختيار ابن جرير

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٨٧.

٤٦٧

رحمه‌الله. وقال مجاهد (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل ، وروي نحوه عن ابن عمر وابن عباس والربيع بن أنس رضي الله عنهم ، وهو قول البخاري وجماعه ، والصحيح أنه لا منافاة بين القولين ، فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا أثرا غريبا عجيبا جدا فنذكره بطوله ، فإنه قال : حدثنا محمد بن يحيى حدثنا بشر بن حجر السامي ، حدثنا علي بن منصور الأنباري عن الشرقي بن قطامي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عزوجل : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) إلى آخر الآية ، قال : كان رجل من بني إسرائيل فاتحا أي فتح الله تعالى له مالا ، فمات فورثه ابن له تافه أي فاسد ، فكان يعمل في مال الله تعالى بمعاصي الله تعالى عزوجل ، فلما رأى ذلك أخوات أبيه ، أتوا الفتى فعذلوه ولاموه ، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت (١) ، ثم رحل فأتى عينا ثجاجة (٢) فسرح فيها ماله وابتنى قصرا ، فبينما هو ذات يوم جالس إذ حملت عليه ريح بامرأة من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا ، أي ريحا ، فقالت : من أنت يا عبد الله؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل ، قالت : فلك هذا القصر وهذا المال؟ فقال :

نعم. قالت : فهل لك من زوجة؟ قال : لا.

قالت : فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال : قد كان ذاك ، قال : فهل لك من بعل؟ قالت : لا ، قال : فهل لك إلا أن أتزوجك؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل ، فإذا كان الغد فتزود زاد يوم وائتني ، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يهولنك ، فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق ، فانتهى إلى قصر فقرع رتاجه (٣) ، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا ، أي ريحا ، فقال : من أنت يا عبد الله؟ فقال : أنا الإسرائيلي ، قال : فما حاجتك؟ قال : دعتني صاحبة القصر إلى نفسها ، قال : صدقت ، قال : فهل رأيت في الطريق هولا؟ قال : نعم ولو لا أنها أخبرتني أن لا بأس علي لهالني الذي رأيت ، قال : ما رأيت؟ قال : أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها ، ففزعت فوثبت فإذا أنا من ورائها ، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها ، فقال له الشاب : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويسرهم حديثه.

قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بمائة عنز حفّل (٤) ، وإذا فيها جدي يمصها ، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة ، فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون

__________________

(١) الصامت : أي الذهب والفضة ، خلاف الناطق وهو الحيوان.

(٢) عين ثجاجة : أي عين يسيل عنها الماء سيلا.

(٣) الرتاج : الباب العظيم.

(٤) عنز حفّل : أي كثيرة اللبن.

٤٦٨

في آخر الزمان ملك يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة ، قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر فأعجبني غصن من شجرة منها ناضرة ، فأردت قطعه فنادتني شجرة أخرى : يا عبد الله مني فخذ حتى ناداني الشجر أجمع يا عبد الله مني فخذ ، فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان يقل الرجال ويكثر النساء حتى أن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.

قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، فإذا أنا برجل قائم على عين يغرف لكل إنسان من الماء ، فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشيء ، قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله تعالى ، قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها ، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها ، وإذا رجل قد أخذ بذنبها ، وإذا راكب قد ركبها ، وإذا رجل يحتلبها ، فقال : أما العنز فهي الدنيا ، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها ، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقا ، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه ، وأما الذي ركبها فقد تركها ، وأما الذي يحلبها فبخ بخ ذهب ذلك بها.

قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يمتح على قليب كلما أخرج دلوه صبه في الحوض فانساب الماء راجعا إلى القليب ، قال : هذا رجل رد الله عليه صالح عمله فلم يقبله ، قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يبذر بذرا فيستحصد فإذا حنطة طيبة ، قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله وأزكاه له. قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه ، قال : يا عبد الله ادن مني فخذ بيدي وأقعدني ، فو الله ما قعدت منذ خلقني الله تعالى ، فأخذت بيده ، فقام يسعى حتى ما أراه ، فقال له الفتى هذا عمر الأبعد نفد ، أنا ملك الموت ، وأنا المرأة التي أتتك أمرني الله تعالى بقبض روح الأبعد في هذا المكان ، ثم أصيره إلى نار جهنم ، قال : ففيه نزلت هذه الآية (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) الآية (١) ، هذا أثر غريب وفي صحته نظر ، وتنزيل الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا ، كما جرى لهذا المغرور المفتون ، ذهب يطلب مراده فجاءه ملك الموت فجأة بغتة وحيل بينه وبين ما يشتهي.

وقوله تعالى : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥]. وقوله تبارك وتعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ

__________________

(١) انظر الأثر في الدر المنثور ٥ / ٤٥٥ ، ٤٥٦.

٤٦٩

مُرِيبٍ) أي كانوا في الدنيا في شك ريبة ، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب ، قال قتادة إياكم والشك والريبة ، فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه. آخر تفسير سورة سبأ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

٤٧٠

تفسير سورة فاطر

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

قال سفيان الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها أي بدأتها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بديع السموات والأرض. وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض ، فهو خالق السموات والأرض. وقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي بينه وبين أنبيائه (أُولِي أَجْنِحَةٍ) أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعا.

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل عليه‌السلام ليلة الإسراء وله ستمائة جناح ، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ، ولهذا قال جل وعلا : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء وقال الزهري وابن جريج في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) يعني حسن الصوت ، رواه عن الزهري البخاري في الأدب ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وقرئ في الشاذ يزيد في الحلق بالحاء المهملة ، والله أعلم.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢)

يخبر تعالى أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي ولا منع. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا مغيرة ، أخبرنا عامر عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال : إن معاوية كتب إلى المغيرة بن شعبة اكتب لي بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاني المغيرة فكتبت إليه : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ،

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٥٤ ، ٢٥٥.

٤٧١

اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وسمعته ينهى عن قيل وقال : وكثرة السؤال وإضاعة المال ، وعن وأد البنات ، وعقوق الأمهات ، ومنع وهات (١) ، وأخرجاه من طرق عن ورّاد به.

وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : «سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، اللهم أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (٢) وهذه الآية كقوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [يونس : ١٠٧] ولها نظائر كثيرة. وقال الإمام مالك (٣) رحمة الله عليه : كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا مطروا يقول : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يقرأ هذه الآية (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ورواه ابن أبي حاتم عن يونس عن ابن وهب عنه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣)

ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه المستقل بالخلق والرزق ، فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ولهذا قال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان ، ووضوح هذا البرهان ، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان ، والله أعلم.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦)

ويقول تبارك وتعالى : وإن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد ، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة ، فإنهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وسنجزيهم على ذلك

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستقراض باب ١٩ ، والأدب باب ٦ ، والرقاق باب ٢٢ ، والاعتصام باب ٣ ، ومسلم في الأقضية حديث ١٢ ، ١٤.

(٢) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٩٤ ، والمساجد حديث ١٣٧ ، ١٣٨.

(٣) كتاب الاستسقاء حديث ٦.

٤٧٢

أوفر الجزاء ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي المعاد كائن لا محالة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم ، فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الشيطان قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، أي لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته ، فإنه غرار كذاب أفاك.

وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] وقال مالك عن زيد بن أسلم هو الشيطان ، كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب (بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [الحديد : ١٣ ـ ١٤] ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير ، فهذا هو العدو المبين نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان وأن يرزقنا اتباع كتاب الله ، والاقتفاء بطريق رسله ، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير ، وهذه كقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠].

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨)

لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير ، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد ، لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن ، وأن الذين آمنوا بالله ورسله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لما كان منهم من ذنب (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) على ما عملوه من خير. ثم قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ، أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة ، لا حيلة لك فيه (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي بقدره كان ذلك (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي لا تأسف على ذلك ، فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي ، لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام ، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)

٤٧٣

وقال ابن أبي حاتم عند هذه الآية : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني أو ربيعة عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط بالطائف يقال له الوهط ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضل ، فلذلك أقول جف القلم على ما علم الله عزوجل».

ثم قال : حدثنا محمد بن عبدة القزويني ، حدثنا حسان بن حسان البصري ، حدثنا إبراهيم بن بشير ، حدثنا يحيى بن معن ، حدثنا إبراهيم القرشي عن سعد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «الحمد لله الذي يهدي من الضلالة ، ويلبس الضلالة على من أحب» وهذا أيضا حديث غريب جدا.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١)

كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها ، كما في أول سورة الحج (١) ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها ، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : ٥] كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها ، أنزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعا ، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض ولهذا جاء في الصحيح «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب» (٢) ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ النُّشُورُ) وتقدم في الحج حديث أبي رزين قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا» قلت : بلى ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فكذلك يحيي الله الموتى» وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يحب أن يكون عزيزا في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات ٥ ـ ٧ من سورة الحج.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٩ ، باب ٣ ، وسورة ٧٨ ، باب ١ ، ومسلم في الفتن حديث ١٤١ ـ ١٤٣ ، وأبو داود في السنة باب ٢٢ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٢ ، ومالك في الجنائز حديث ٤٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٢٢ ، ٤٢٨ ، ٤٩٩ ، ٣ / ٢٨.

٤٧٤

الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى ، فإنه يحصل له مقصوده لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وله العزة جميعا ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩] وقال عزوجل : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] وقال جل جلاله (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : ٨] قال مجاهد (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) بعبادة الأوثان (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) وقال قتادة (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي فليتعزز بطاعة الله عزوجل ، وقيل من كان يريد علم العزة لمن هي (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) وحكاه ابن جرير.

وقوله تبارك وتعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) يعني الذكر والتلاوة والدعاء ، قاله غير واحد من السلف. وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال : قال لنا عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى ، إن العبد المسلم إذا قال سبحان الله وبحمده والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر تبارك الله ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا واستغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الله عزوجل ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : قال كعب الأحبار : إن لسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل يذكرن لصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن (٢) ، وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه ، وقد روي مرفوعا.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا ابن نمير ، حدثنا موسى يعني ابن مسلم الطحان عن عون بن عبد الله عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله ، يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل ، يذكرن بصاحبهن ، ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به» وهكذا رواه ابن ماجة (٤) عن أبي بشر خلف عن يحيى بن سعيد القطان عن موسى بن أبي عيسى الطحان ، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه أو عن أخيه ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه به.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٩٨ ، ٣٩٩.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٩٩.

(٣) المسند ٤ / ٢٦٨ ، ٢٧١.

(٤) كتاب الأدب باب «فضل التسبيح».

٤٧٥

وقوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : الكلم الطيب ذكر الله تعالى ، يصعد به إلى الله عزوجل ، والعمل الصالح أداء الفريضة ، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله وذكر الله تعالى به إلى الله عزوجل ، ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله ، فكان أولى به ، وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب ، وكذا قال أبو العالية وعكرمة وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي والربيع بن أنس وشهر بن حوشب وغير واحد. وقال إياس بن معاوية القاضي ، لو لا العمل الصالح لم يرفع الكلام. وقال الحسن وقتادة : لا يقبل قول إلا بعمل.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب : هم المراؤون بأعمالهم ، يعني يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى ، وهم بغضاء إلى الله عزوجل يراءون بأعمالهم (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المشركون ، والصحيح أنها عامة ، والمشركون داخلون بطريق الأولى ، ولهذا قال تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهي ، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنين المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل ينكشف لهم عن قريب وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.

وقوله تبارك وتعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ابتدأ خلق أبيكم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى ، لطفا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجا من جنسكم لتسكنوا إليها. وقوله عزوجل : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل (ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : ٨ ـ ٩].

وقوله عزوجل : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي ما يعطي بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) الضمير عائد على الجنس لا على العين ، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس قال ابن جرير : وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي هو ونصف ثوب آخر ، وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يقول : ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت

٤٧٦

ذلك له ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه ، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ، فذلك قوله تعالى : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يقول : كل ذلك في كتاب عنده ، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) قال : ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها : ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا. وقال قتادة : والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة. وقال مجاهد (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق على عمر واحد ، بل لهذا عمر ، ولهذا عمر هو أنقص من عمره. فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ ، وقال بعضهم : بل معناه (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي ما يكتب من الأجل (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) وهو ذهابه قليلا قليلا ، الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة ، وشهرا بعد شهر ، وجمعة بعد جمعة ، ويوما بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه ، نقله ابن جرير عن أبي مالك ، وإليه ذهب السدي وعطاء الخراساني ، واختار ابن جرير الأول ، وهو كما قال.

وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان قال : سمعت ابن وهب يقول : حدثني يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (١). وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يونس بن يزيد الأيلي به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الوليد بن الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو سرح ، حدثنا عثمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد ، فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر». وقوله عزوجل : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي سهل عليه ، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته ، فإن علمه شامل للجميع ، لا يخفى عليه شيء منها.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٢ ، والبيوع باب ١٣ ، ومسلم في البر حديث ٢٠ ، ٢١ ، وأبو داود في الزكاة باب ٤٥.

٤٧٧

يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة خلق البحرين العذب الزلال ، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار والعمران والبراري والقفار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما تكون مالحة زعافا مرة ، ولهذا قال : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مر. ثم قال تعالى : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) يعني السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [الرحمن : ٢٢ ـ ٢٣] كما قال عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

وقوله جل وعلا : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو صدره ، وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام وقوله جل وعلا : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم ، وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم ، تذهبون أين أردتم ، ولا يمتنع عليكم شيء منه ، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، الجميع من فضله ورحمته.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤)

وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم في تسخيره الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم يأخذ من هذا في هذا ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفا وشتاء (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي والنجوم السيارات ، والثوابت الثاقبات ، بأضوائهن أجرام السموات ، الجميع يسيرون بمقدار معين ، وعلى منهاج مقنن محرر ، تقديرا من عزيز عليم (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى يوم القيامة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي الذي فعل هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء وعطية العوفي والحسن وقتادة وغيرهم : القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة (١) ، أي لا يملكون من السموات والأرض شيئا ولا بمقدار هذا القطمير.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٠٣.

٤٧٨

ثم قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) يعني الآلهة التي تدعونها من دون الله لا تسمع دعاءكم ، لأنها جماد لا أرواح فيها ، (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي لا يقدرون على شيء مما تطلبون منها (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يتبرؤون منكم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢]. وقوله تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى ، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

يخبر تعالى بغناه عما سواه ، وبافتقار المخلوقات كلها وتذللها بين يديه ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات ، وهو تعالى الغني عنهم بالذات ، ولهذا قال عزوجل : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له ، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم ، وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع ، ولهذا قال تعالى : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).

وقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي يوم القيامة (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي وإن كان قريبا إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها ، كل مشغول بنفسه وحاله. قال عكرمة في قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) الآية ، قال هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني ، وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة ، فيقول له : يا مؤمن إن لي عندك يدا قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى منزل دون منزله ، وهو في النار.

وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول : يا بني أي والد كنت لك ، فيثني خيرا ، فيقول له : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده :

٤٧٩

يا أبت ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثلما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة ، أو يا هذه أي زوج كنت لك؟ فتثني خيرا ، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها ممن ترين ، قال : فتقول : ما أيسر ما طلبت ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إني أتخوف مثل الذي تتخوف.

يقول الله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها) الآية ، ويقول تبارك وتعالى : (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] ويقول تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٦] رواه ابن أبي حاتم رحمه‌الله عن أبي عبد الله الطهراني عن حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة به.

ثم قال تبارك وتعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنّهى ، الخائفون من ربهم ، الفاعلون ما أمرهم به (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي ومن عمل صالحا فإنما يعود نفعه على نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أي وإليه المرجع والمآب ، وهو سريع الحساب ، وسيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦)

يقول تعالى : كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢] وقال عزوجل : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) [هود : ٢٤] فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ، والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها ، بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٣ ـ ٤٤].

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها. (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم

٤٨٠