تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أي ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وهو الحريق.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا ، فقال : حدثنا أبي حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير ، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجن على ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون» رفعه غريب جدا. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا حرملة ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني بكر بن مضر عن محمد بن بحير عن ابن أنعم أنه قال : الجن ثلاثة أصناف : صنف لهم الثواب وعليهم العقاب ، وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض ، وصنف حيات وكلاب. قال بكر بن مضر : ولا أعلم إلا أنه قال : حدثني أن الإنس ثلاثة أصناف : صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة ، وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، وصنف في صورة الناس على قلوب الشياطين.

وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق ، حدثنا سلمة يعني ابن الفضل عن إسماعيل عن الحسن قال : الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون ، وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا ، فهو ولي الله تعالى ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.

وقوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) أما المحاريب فهي البناء الحسن ، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره. وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك : هي المساجد ، وقال قتادة : هي القصور والمساجد. وقال ابن زيد : هي المساكن. وأما التماثيل ، فقال عطية العوفي والضحاك والسدي : التماثيل الصور. قال مجاهد : وكانت من نحاس. وقال قتادة : من طين وزجاج. وقوله تعالى : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الجواب جمع جابية ، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس [الطويل] :

تروح على آل المحلّق جفنة

كجابية الشيخ العراقيّ تفهق (١)

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (كَالْجَوابِ) أي كالجوبة من الأرض. وقال العوفي عنه كالحياض ، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. والقدور الراسيات ، أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها ، كذا قال

__________________

(١) البيت للأعشى في ديوانه ص ٢٧٥ ، ولسان العرب (حلق) ، (فهق) ، (جبى) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٤٠٤ ، ومقاييس اللغة ١ / ٥٠٣ ، ٤٥٦ ، ومجمل اللغة ٤ / ٦٧ ، وتاج العروس (فهق) ، (جبى) ، وتفسير الطبري ١٠ / ٣٥٥ ، وبلا نسبة في المخصص ١٠ / ٥٠.

٤٤١

مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال عكرمة : أثافيها منها. وقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي وقلنا لهم : اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا ، وشكرا مصدر من غير الفعل ، أو أنه مفعول له ، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية ، كما قال الشاعر :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجّبا

قال أبو عبد الرحمن الحبلي : الصلاة شكر والصيام شكر ، وكل خير تعمله لله عزوجل شكر ، وأفضل الشكر الحمد ، رواه ابن جرير ، وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح ، وهذا لمن هو متلبس بالفعل ، وقد كان آل داود عليهم‌السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولا وعملا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن ثابت البناني ، قال : كان داود عليه‌السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة ، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي ، فغمرتهم هذه الآية (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى» (١).

وقد روى أبو عبد الله بن ماجة (٢) من حديث سنيد بن داود : حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قالت أم سليمان بن داودعليهم‌السلام ، لسليمان ، يا بني لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرا يوم القيامة» وروى ابن أبي حاتم عن داود عليه الصلاة والسلام هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا أبو زيد فيض بن إسحاق الرقي قال : قال فضيل في قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) قال داود : يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال «الآن شكرتني حين قلت إن النعمة مني». وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) إخبار عن الواقع.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤)

يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه‌السلام ، وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه ، وهي منسأته ، كما قال ابن عباس

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٧ ، ومسلم في الصيام حديث ١٨٦ ، ١٨٧.

(٢) كتاب الإقامة باب ١٧٤.

٤٤٢

رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد : مدة طويلة نحوا من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، وهي الأرضة ، ضعفت وسقطت إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة. وتبينت الجن والإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب وفي صحته نظر.

قال ابن جرير (١) : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا موسى بن مسعود ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان نبي الله سليمان عليه‌السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه ، فيقول لها : ما اسمك؟ فتقول كذا ، فيقول : لأي شيء أنت؟ فإن كانت تغرس غرست ، وإن كانت لدواء كتبت ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب ، قال : لأي شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت ، فقال سليمان عليه‌السلام : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا ميتا والجن تعمل ، فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين» قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، قال : فشكرت الجن للأرضة ، فكانت تأتيها بالماء ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث إبراهيم بن طهمان به. وفي رفعه غرابة ونكارة ، والأقرب أن يكون موقوفا ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات وفي بعض حديثه نكارة.

وقال السدي في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي الله عنهم. قال : كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا ينبت الله في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها : فيقول ما اسمك؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت تنبت دواء قالت : نبت دواء كذا وكذا ، فيجعلها كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة ، فسألها : ما اسمك؟ قالت : أنا الخروبة ، قال ولأي شي نبت؟ قالت : نبت لخراب هذا المسجد.

قال سليمان عليه الصلاة والسلام : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولم تعلم به الشياطين ، وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٥٨.

٤٤٣

عليهم فيعاقبهم ، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه‌السلام في المحراب إلا احترق ، فمر ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ، ونظر إلى سليمان عليه‌السلام قد سقط ميتا ، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ، ففتحوا عليه فأخرجوه. ووجدوا منسأته ، وهي العصا بلسان الحبشة ، قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة.

وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ، فمكثوا يدينون له من بعد موته حولا كاملا ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم يطلعون على الغيب ، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له ، وذلك قول الله عزوجل : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين ، قال : فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت ، قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين شكرا لها (١).

وهذا الأثر ـ والله أعلم ـ إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب ، وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق ، ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق ، والباقي لا يصدق ولا يكذب.

وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تبارك وتعالى : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال : قال سليمان عليه‌السلام لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت ، قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، قال : فبعث الله عزوجل دابة الأرض ، قال : والدابة تأكل العيدان يقال لها القادح ، فدخلت فيها فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتا ، فلما رأت ذلك الجن ، انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله تعالى : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) قال أصبغ : بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر ، وذكر غير واحد من السلف نحوا من هذا ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٥٨ ، ٣٥٩.

٤٤٤

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) (١٧)

كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم ، وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ، ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ ، شذر مذر ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريبا وبه الثقة.

قال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سمعت ابن عباس يقول : إن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ : ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هو رجل ولد له عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، والشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون ، فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير ، وأما الشامية : فلخم وجذام وعاملة وغسان» ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن ، ولم يخرجوه ، وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر.

وقال الإمام أحمد (٢) أيضا وعبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانئ بن عروة عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» فقاتل بمقبل قومك مدبرهم» فلما وليت دعاني فقال : «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام» فقلت : يا رسول الله أرأيت سبأ ، واد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بل هو رجل من العرب ، ولد له عشرة فتيامن ستة ، وتشاءم أربعة ، تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، الذين يقال لهم بجيلة وخثعم ، وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان».

وهذا أيضا إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي ، وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقزي عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانئ المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال : قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره.

__________________

(١) المسند ١ / ٣١٦.

(٢) المسند ٣ / ٤٥٢.

٤٤٥

[طريق أخرى] لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال : كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بإفريقية ، فقال يوما : ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها ، فقال علي بن أبي رباح : كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية ، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أمرت فيهم بشيء بعد» فأنزلت هذه الآية (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) الآيات ، فقال له رجل : يا رسول الله ما سبأ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن سبأ ما هو : أبلد أم رجل أم امرأة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل رجل ولد له عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، والشام أربعة ، أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها ، وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة» فيه غرابة من حيث ذكر نزول الآية بالمدينة ، والسورة مكية كلها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[طريق أخرى] قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الحسن بن الحكم ، حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو : أرض أم امرأة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد ، فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار» فقال رجل : ما أنمار؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذين منهم خثعم وبجيلة» ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا : حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب.

وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي ، عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال : إن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن سبأ ، فذكر مثله ، فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ : اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو ، فأعطى قومه فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشر برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمانه المتقدم ، وقال في ذلك شعرا :

سيملك بعدنا ملكا عظيما

نبي لا يرخص في الحرام (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٦٠.

(٢) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير ٢ / ١٥٨.

٤٤٦

ويملك بعده منهم ملوك

يدينوه العباد بغير ذام

ويملك بعدهم منا ملوك

يصير الملك فينا باقتسام

ويملك بعد قحطان نبي

تقي مخبت خير الأنام

يسمى أحمدا يا ليت أني

أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري

بكل مدجج وبكل رام

متى يظهر فكونوا ناصريه

ومن يلقاه يبلغه سلامي

ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال [أحدها] أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. [والثاني] أنه من سلالة عابر ، وهو هود عليه الصلاة والسلام ، واختلفوا أيضا في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضا. [والثالث] أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضا. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة.

ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان رجلا من العرب» يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح ، وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه‌السلام ، وليس هذا المشهور عندهم ، والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون ، فقال : «ارموا بني إسماعيل؟ فإن أباكم كان راميا» (١) فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عزوجل عليهم سيل العرم ، ونزلت طائقة منهم بالشام ، وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل ، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه [البسيط] :

إما سألت فإنا معشر نجب

الأزد نسبتنا والماء غسان (٢)

ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولد له عشرة من العرب» أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة ، والأقل والأكثر ، كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة» أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم ، منهم من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٧٨ ، والأنبياء باب ١٢ ، والمناقب باب ٤.

(٢) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٧٩ ، ولسان العرب (غسس) ، (غسن) ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٦ ، وتاج العروس (أزر) (غسس)

٤٤٧

أقام ببلادهم ، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين ، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم ، فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدا عظيما محكما ، حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار ، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل ، ويعرف بسد مأرب.

وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ، ولا شيء من الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه ، كما قال تبارك وتعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) ثم فسرها بقوله عزوجل : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد.

وقوله تعالى : (فَأَعْرَضُوا) أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم ، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله ، كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) [النمل : ٢٢ ـ ٢٤] وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبيا وقال السدي : أرسل الله عزوجل إليهم اثني عشر ألف نبي ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) المراد بالعرم المياه ، وقيل الوادي ، وقيل الجرذ ، وقيل الماء الغزير ، فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز ، حكى ذلك السهيلي. وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك : إن الله عزوجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم ، بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه : وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير ، وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم.

وقال قتادة وغيره : الجرذ هو الخلد ، نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى ، وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط ، فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال ، فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة ، كما قال الله تبارك وتعالى :

٤٤٨

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي : وهو الأراك وأكلة البرير (وَأَثْلٍ) قال العوفي عن ابن عباس : هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء ، وقيل هو السمر ، والله أعلم.

وقوله : (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة ، والمناظر الحسنة ، والظلال العميقة ، والأنهار الجارية ، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل ، وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس : لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة ، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه ، قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة ، والضيق في المعيشة ، والتعسر في اللذة ، قيل : وما التعسر في اللذة؟ قال : لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (١٩)

يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد ، والبلاد الرخية ، والأماكن الآمنة ، والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم ، ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) قال وهب بن منبه : هي قرى بصنعاء ، وكذا قال أبو مالك ، وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم : يعني قرى الشام ، يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة.

وقال العوفي عن ابن عباس : القرى التي باركنا فيها بيت المقدس ، وقال العوفي عنه أيضا : هي قرى عربية بين المدينة والشام (قُرىً ظاهِرَةً) أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى ، ولهذا قال تعالى : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا

٤٤٩

ونهارا.

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وقرأ آخرون بعد بين أسفارنا وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد ، وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ، مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة ، ولهذا قال لهم : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١] وقال عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢]. وقال تعالى في حق هؤلاء : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي جعلناهم حديثا للناس وسمرا يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء ، تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا ، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، وتفرقوا شذر مذر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : سمعت أبي يقول : سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ـ إلى قوله تعالى ـ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وكانت فيهم كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء ، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم ، فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالا : يا بني إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعله ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا لطمتك فالطمني.

قال : يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد ، قال : يا بني قد حدث أمر لا بد منه ، فلم يزل به حتى وافاه على ذلك ، فلما أصبحوا واجتمع الناس قال : يا بني افعل كذا وكذا ، فأبى فانتهره أبوه ، فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه ، فوثب على أبيه فلطمه ، فقال : ابني يلطمني؟ علي بالشفرة ، قالوا : ما تصنع بالشفرة؟ قال : اذبحه ، قالوا تريد أن تذبح ابنك؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك ، قال : فأبى ، قال : فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك ، فجاء أخواله فقالوا : خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه ، قالوا : فلتموتن قبل أن تذبحه ، قال : فإذا كان الحديث هكذا ، فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه ،

٤٥٠

اشتروا مني دوري ، اشتروا مني أرضي ، فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره.

فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال : أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا ، فمن أراد منكم دارا جديدا وحمى شديدا وسفرا بعيدا ، فليلحق بعمان ، ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ـ فليلحق ببصرى ، ومن أراد الراسخات في الوحل : المطعمات في المحل ، المقيمات في الضحل ، فليلحق بيثرب ذات نخل ، فأطاعه قومه ، فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى ، وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل ، قال : فأتوا على بطن مر ، فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا ، فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة ، لأنهم انخزعوا من أصحابهم ، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة ، وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى.

هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم ، فقال : وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم ، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النقلة عن اليمن ، وكان قومه ، فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقال عمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو ، فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده ، وقالت الأزد : لا نتخلف عن عمرو بن عامر ، فباعوا أموالهم وخرجوا معه ، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالا ، ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه [الطويل] :

وعك بن عدنان الذين تغلبوا

بغسان حتى طرّدوا كل مطرد (١)

وهذا البيت من قصيدة له. قال : ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان ، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام ، ونزلت الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت خزاعة مرا ، ونزلت أزد السراة السراة ، ونزلت أزد عمان عمان ، ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه ، وفي ذلك أنزل الله عزوجل هذه الآيات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق ، إلا أنه قال : فأمر ابن أخيه مكان ابنه ـ إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا ، رواه

__________________

(١) البيت في ديوان عباس بن مرداس السلمي ص ١٢٠ ، وتاج العروس (عكك) ، وسيرة ابن هشام ١ / ١٠ ، ١٣ ، ويروى «تلقبوا» بدل «تغلّبوا».

٤٥١

ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال : يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم ، كان كاهنا فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بكأس أو كرود. قال : فكانت وادعة بن عمرو ، ومن كان منكم ذا هم مدن ، وأمر دعن ، فليلحق بأرض شن ، فكانت عوف بن عمرو ، وهم الذين يقال لهم بارق ، ومن كان منكم يريد عيشا آنيا ، وحرما آمنا فليلحق بالأرزين ، فكانت خزاعة ، ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكانت الأوس والخزرج ، وهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا ، وملكا وتأميرا ، فليلحق بكوثى وبصرى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق : وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر ، وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك ، فالله أعلم أي ذلك كان ، وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، ثم قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيدة قال : قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس [المتقارب]:

وفي ذاك للمؤتسي أسوة

ومأرب قفى عليها العرم (٢)

رخام بنته لهم حمير

إذا جاء ماؤهم لم يرم

فأروى الزروع وأعنابها

على سعة ماؤهم إذا قسم

فصاروا أيادي ما يقدرون

منه على شرب طفل فطم

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام ، لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا : أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر،

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٦٩.

(٢) الأبيات في ديوان الأعشى ص ٩٣ ، وسيرة ابن هشام ١ / ١٤ ، والبيت الأول في معجم البلدان (مأرب) وبلا نسبة في لسان العرب (قفا) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٣٢٧ ، والبيت الرابع في أساس البلاغة (فطم)

(٣) المسند ١ / ١٧٣.

٤٥٢

وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به ، وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه ، ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (١). قال مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١)

لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان ، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى ، فقال : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : هذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم عليه الصلاة والسلام ، ثم قال : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] وقال : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] والآيات في هذا كثيرة ، وقال الحسن البصري : لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء ، هبط إبليس فرحا بما أصاب منهما ، وقال : إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف ، وكان ذلك ظنا من إبليس ، فأنزل الله عزوجل (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقال عند ذلك إبليس : لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه ، فقال الله تعالى : «وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت ، ولا يدعوني إلا أجبته ، ولا يسألني إلا أعطيته ، ولا يستغفر إلا غفرت له» ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله تبارك وتعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي من حجة. وقال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا ولا أكرهم على شيء ، وما كان إلا غرورا وأماني ، دعاهم إليها فأجابوه ، وقوله عزوجل : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء ، فيحسن عبادة ربه عزوجل في الدنيا ممن هو منها في شك.

وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس ، وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤.

٤٥٣

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣)

بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك له ، بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض ، فقال : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الآلهة التي عبدت من دونه (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) كما قال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [فاطر : ١٣] وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) أي لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل الشركة (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور ، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه ، قال قتادة في قوله عزوجل : (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) من عون يعينه بشيء.

ثم قال تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال عزوجل : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٣٥٥] وقال جل وعلا : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] وقال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨] ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال : «فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع» الحديث بتمامه.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة ، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه ، أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي ، قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي زال الفزع عنها ، قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزوجل : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) يقول : جلى عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف ، وجاء مرفوعا إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ، ولهذا قال تعالى : (قالُوا الْحَقَ) أي أخبروا

٤٥٤

بما قال من غير زيادة ولا نقصان (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

وقال آخرون : بل معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا : ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا ، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) يعني ما فيها من الشك قال : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة ، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره.

قال البخاري (١) عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : إن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها ، ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» (٢) انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة به ، والله أعلم.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا : حدثنا معمر ، أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في نفر من أصحابه ، قال عبد الرزاق : من الأنصار ، فرمي بنجم فاستنار ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية» قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري : أكان يرمي بها في الجاهلية ، قال : نعم ولكن غلظت حين بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنها لا يرمي بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٤ ، باب ١ ، وسورة ١٥ ، باب ١.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٤ ، باب ٢٢ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

(٣) المسند ١ / ٢١٨.

٤٥٥

قضى أمرا سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء ، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون».

هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم (١) في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله ، أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم ، وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به ، ورواه الترمذي (٢) فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه ، والله أعلم.

[حديث آخر] قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي ، والسياق لمحمد بن عوف ، قالا : حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة ، كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول عليه‌السلام : قال الحق وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض».

وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول : ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه‌الله ، وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وعن قتادة أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ

__________________

(١) كتاب السلام حديث ١٢٤.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٤ ، باب ٣.

٤٥٦

مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

يقول تعالى مقررا تفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية أيضا ، فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض ، أي بما ينزل من المطر وينبت من الزرع إلا الله ، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره. وقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا من باب اللف والنشر أي واحد من الفريقين مبطل ، والآخر محق لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال ، بل واحد منا مصيب ، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى ، ولهذا قال : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). قال قتادة : قد قال ذلك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين والله ما نحن وإياهم على أمر واحد إن أحد الفريقين لمهتد (١). وقال عكرمة وزياد بن أبي مريم : معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين (٢).

وقوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) معناه التبري منهم ، أي لستم منا ولا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراد العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم ، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١]. وقال عزوجل : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ١ ـ ٦].

وقوله تعالى : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد ، ثم يفتح بيننا بالحق ، أي يحكم بيننا بالعدل ، فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصر والسعادة الأبدية كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) [الروم : ١٤ ـ ١٦] ولهذا قال عزوجل : (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور.

وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيرتموها له عدلا (كَلَّا) أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل. ولهذا قال تعالى : (بَلْ هُوَ اللهُ) أي الواحد الأحد الذي لا شريك له (الْعَزِيزُ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٧٥ ، ٣٧٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٧٦.

٤٥٧

الْحَكِيمُ) أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شيء وغلبت كل شيء ، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علوا كبيرا ، والله أعلم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠)

يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إلا إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] ، (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي تبشر من أطاعك بالجنة وتنذر من عصاك بالنار (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) كقوله عزوجل : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦].

قال محمد بن كعب في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) يعني إلى الناس عامة. وقال قتادة في هذه الآية : أرسل الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب والعجم ، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أطوعهم لله عزوجل.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة ، قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى فضل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا : يا ابن عباس فيم فضله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه : إن الله تعالى قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (١) وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت إلى الأسود والأحمر» (٢) قال مجاهد : يعني الجن والإنس. وقال غيره : يعني العرب والعجم ، والكل صحيح.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٢٢ ، والصلاة باب ٥٦ ، والتيمم باب ١ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥ ، ٧ ، ٨.

(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣ والدارمي في السير باب ٢٨ وأحمد في المسند ١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢.

٤٥٨

ثم قال عزوجل مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهذه الآية كقوله عزوجل : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨] الآية ، ثم قال تعالى : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي لكم ميعاد مؤجل معدود محرر لا يزاد ولا ينقص ، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم كما قال تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤] وقال عزوجل : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٤ ـ ١٠٥]

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣)

يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم ، وبما أخبر به من أمر المعاد ، ولهذا قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الله عزوجل متهددا لهم ومتوعدا ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) منهم وهم قادتهم وسادتهم (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي لو لا أنتم تصدوننا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ)؟ أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان ، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك ، ولهذا قالوا (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بل كنتم تمكرون بنا ليلا نهارا وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أنا على هدى وأنا على شيء ، فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومين.

قال قتادة وابن زيد (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يقول : بل مكركم بالليل والنهار ، وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم بالليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي نظراء وآلهة معه وتقيمون لنا شبها وأشياء من المحال تضلونا بها (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي

٤٥٩

إنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم وللأتباع بحسبهم (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨].

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن صرد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها ، ثم لفحتهم لفحة فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب». وحدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا الطيب أبو الحسن عن الحسن بن يحيى الخشني قال : ما في جهنم دار ولا مغار ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبها عليها مكتوب ، قال : فحدثته أبا سليمان ، يعني الداراني رحمة الله عليه ، فبكى ثم قال : ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه ، فجعل القيد والغل في يديه ، والسلسلة في عنقه ، ثم أدخل النار وأدخل المغار؟ اللهم سلم.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣٩)

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآمرا بالتأسي بمن قبله من الرسل ، ومخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاؤهم ، كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] وقال الكبراء من قوم صالح (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٧٥ ـ ٧٦] وقال عزوجل : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٣٣] وقال جل وعلا : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦] وقال جل وعلا هاهنا : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أي نبي أو رسول (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة ، قال قتادة : هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي لا نؤمن به ولا نتبعه.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا محمد بن

٤٦٠