تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

عن عبد الله بن السائب به. فأما الحديث الآخر «من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي من بعيد بلغته» ففي إسناده نظر تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.

قال أصحابنا : ويستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رواه الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل حال ، وقال إسماعيل القاضي : حدثنا عارم بن الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا زكريا عن الشعبي عن وهب بن الأجدع قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا وصلوا عند المقام ركعتين ، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع مرات تكبيرا بين حمد الله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسألة لنفسك ، وعلى المروة مثل ذلك ، إسناد جيد حسن قوي ، قالوا : ويستحب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ذكر الله عند الذبح ، واستأنسوا بقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الانشراح : ٤] قال بعض المفسرين : يقول الله تعالى : لا أذكر إلا ذكرت معي ، وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا : هذا موطن يفرد فيه ذكر الله تعالى كما عند الأكل والدخول والوقاع وغير ذلك مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[حديث آخر] قال إسماعيل القاضي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عمرو بن هارون عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني» ، في إسناده ضعيفان ، وهما عمرو بن هارون وشيخه ، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيدة الربذي به ، ومن ذلك أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن إن صح الخبر في ذلك على أن الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال : حدثنا زياد بن يحيى ، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله عن علي بن أبي رافع عن أبيه عن أبي رافع قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل ذكر الله من ذكرني بخير» ، إسناده غريب ، وفي ثبوته نظر ، والله علم.

[مسألة] وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما كتبه ، وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة عن نهشل عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب» وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة وقد روي من حديث أبي هريرة ولا يصح أيضا ، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخنا أحسبه موضوعا ، وقد روي نحوه عن أبي بكر وابن عباس ولا يصح من ذلك شيء والله أعلم. وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه [الجامع

٤٢١

لآداب الراوي والسامع] قال : رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله كثيرا ما يكتب اسم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا.

[فصل] وأما الصلاة على غير الأنبياء فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث اللهم صل على محمد وآله وأزواجه وذريته ، فهذا جائز بالإجماع وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم فقال قائلون : يجوز ذلك ، واحتجوا بقول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) [الأحزاب : ٣٣] ، وبقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ، وبقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٣] الآية ، وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال «اللهم صل على آل أبي أوفى» أخرجاه في الصحيحين ، وبحديث جابر أن امرأته قالت يا رسول الله صل علي وعلى زوجي ، فقال «صلى الله عليك وعلى زوجك» قال الجمهور من العلماء لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعارا للأنبياء إذ ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه أو قال علي صلى الله عليه ، وإن كان المعنى صحيحا ، كما لا يقال : قال محمدعزوجل ، وإن كان عزيزا جليلا لأن هذا من شعار ذكر الله عزوجل وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم ، ولهذا لم يثبت شعارا لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته ، وهذا مسلك حسن.

وقال آخرون : لا يجوز ذلك لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء ، يصلون على من يعتقدون فيهم ، فلا يقتدى بهم في ذلك والله أعلم.

ثم اختلف المانعون من ذلك : هل هو من باب التحريم أو الكراهة التنزيهية أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال ، حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم قال : والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع وقد نهينا عن شعارهم ، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء ، كما أن قولنا عزوجل مخصوص بالله تعالى فكما لا يقال محمد عزوجل وإن كان عزيزا جليلا لا يقال أبو بكر أو علي صلى الله عليه ، هذا لفظ بحروفه ، قال : وأما السلام؟ فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه‌السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات ، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك ، وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم ، وهذا مجمع عليه انتهى ما ذكره.

(قلت) وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن ينفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه‌السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه ، وهذا وإن كان معناه صحيحا ، لكن ينبغي

٤٢٢

أن يسوي بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم ، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين.

قال إسماعيل القاضي حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب بن زياد حدثني عثمان بن حكيم بن عبادة بن حنيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة ، وقال أيضا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله : أما بعد فإن ناسا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة ، وإن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك. أثر حسن.

قال إسماعيل القاضي حدثنا معاذ بن أسد حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعبا دخل على عائشة رضي الله عنها فذكروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال كعب : ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه.

[فرع] قال النووي إذا صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول : صلى الله عليه فقط ولا عليه‌السلام فقط ، وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فالأولى أن يقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨)

يقول تعالى متهددا ومتوعدا من آذاه بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص ـ عياذا بالله من ذلك ـ قال عكرمة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) نزلت في المصورين. وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره» (١) ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون يا خيبة الدهر فعل بنا كذا وكذا فيسندون أفعال الله وتعالى إلى الدهر ويسبونه وإنما الفاعل لذلك هو اللهعزوجل فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء رحمهم‌الله.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٥ ، باب ١ ، والتوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في الألفاظ حديث ٢ ، ٣.

٤٢٣

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب. والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يونس حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» وقد رواه الترمذي (٢) من حديث عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل به ، ثم قال وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم ، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فإن الله عزوجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين.

وقال أبو داود : حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال : «ذكرك أخاك بما يكره» قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (٣) وهكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به ثم قال حسن صحيح ، وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن عمار بن أنس عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «أي الربا أربى عند الله؟» قالوا الله ورسوله أعلم قال «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا

__________________

(١) المسند ٤ / ٨٧.

(٢) كتاب المناقب باب ٥٨.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٧٠ ، وأبو داود في الأدب باب ٣٥ ، والترمذي في البر باب ٢٣.

٤٢٤

يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات ـ خاصة أزواجه وبناته لشرفهن ـ بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء ، والجلباب هو الرداء فوق الخمار ، قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم. قال الجوهري : الجلباب الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها [البسيط] :

تمشي النسور إليه وهي لاهية

مشي العذارى عليهنّ الجلابيب (١)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة (٢) ، وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزوجل : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وقال عكرمة تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الطهراني فيما كتب إليّ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن القربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثنا يونس بن يزيد قال وسألناه يعني الزهري هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة؟ قال عليها الخمار إن كانت متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات وقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ).

وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة وإنما نهى عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن واستدل بقوله تعالى : (وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) وقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر. قال السدي. في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) قال كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان

__________________

(١) البيت لجنوب أخت عمرو ذي الكلب في شرح أشعار الهذليين ص ٥٨٠ ، ولسان العرب (جلب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٢ ، وتاج العروس (جلب) وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١ / ٤٧٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٣٢.

٤٢٥

الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها ، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها ، وقال مجاهد يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك ، ثم قال تعالى متوعدا للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال عكرمة وغيره هم الزناة هاهنا (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب وهو كذب وافتراء لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لنسلطنك عليهم. وقال قتادة لنحشرنك بهم ، وقال السدي لنعلمنك بهم (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ) حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين (أَيْنَما ثُقِفُوا) أي وجدوا (أُخِذُوا) لذلتهم وقلتهم (وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) ثم قال تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (٦٨)

يقول تعالى مخبرا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك ، وأرشده أن يرد علمها إلى الله عزوجل كما قال الله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية وهذه مدنية فاستمر الحال في رد علمها إلى الذي يقيمها لكن أخبره أنها قريبة بقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) كما قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] وقال : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] وقال : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) أي أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) أي في الدار الآخرة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه.

ثم قال : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أي يسحبون في النار على وجوههم وتلوى وجوههم على جهنم يقولون وهم كذلك يتمنون أن لو

٤٢٦

كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) [الفرقان : ٢٧ ـ ٢٩].

وقال تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر : ٢] وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) وقال طاوس ، سادتنا يعني الأشراف وكبراءنا يعني العلماء ، رواه ابن أبي حاتم أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي بكفرهم وإغوائهم إيانا.

(وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) قرأ بعض القراء بالباء الموحدة ، وقرأ آخرون بالثاء المثلثة وهما قريبا المعنى كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال : «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (١) أخرجاه في الصحيحين ، يروى كثيرا وكبيرا وكلاهما بمعنى صحيح واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه وفي ذلك نظر ، بل الأولى أن يقول هذا تارة وهذا تارة كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيهما قرأ. فحسن وليس له الجمع بينهما ، والله أعلم.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا ضرار بن صرد ، حدثنا علي بن هاشم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في تسمية من شهد مع علي رضي الله عنه الحجاج بن عمرو بن غزية وهو الذي كان يقول عند اللقاء يا معشر الأنصار أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩)

قال البخاري (٢) عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن موسى كان رجلا حييا وذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرا جدا وقد رواه

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٩ ، ومسلم في الذكر حديث ٤٧ ، ٤٨.

(٢) كتاب الأنبياء باب ٨ ، وتفسير سورة ٣٣ ، باب ١١.

٤٢٧

في أحاديث الأنبياء بهذا السند بعينه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى عليه‌السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة. وإن الله عزوجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه‌السلام فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله عزوجل وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا ـ قال ـ فذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) وهذا سياق حسن مطول وهذا الحديث من إفراد البخاري دون مسلم.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح ، حدثنا عوف عن الحسن عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) قال : قال رسول الله : «إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه.» ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه عنه في تفسيره عن روح عن عوف به.

ورواه ابن جرير (٢) من حديث الثوري عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو هذا. وهكذا رواه من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس في قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) قال : قال قومه له إنك آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشد بثيابه وخرج يتبعها عريانا حتى انتهب به مجالس بني إسرائيل فرأوه ليس بآدر فذلك قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما سواء.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدمي قالا : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال : «كان موسى عليه‌السلام رجلا حييا وإنه أتى ـ أحسبه قال الماء ـ ليغتسل فوضع ثيابه على صخرة وكان لا يكاد تبدو عورته فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة ـ يعنون أنه لا يضع ثيابه ـ فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال ـ أو كما قال ـ فذلك قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

__________________

(١) المسند ٢ / ٥١٤ ، ٥١٥.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٣٧.

٤٢٨

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) قال : صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون عليه‌السلام فقال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حياء فآذوه من ذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجالس بني إسرائيل فتكلمت بموته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وإن الله جعله أصم أبكم وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن موسى الطوسي عن عباد بن العوام به ثم قال وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى وجائز أن يكون الأول هو المراد فلا قول أولى من قول الله عزوجل.

(قلت) يحتمل أن يكون الكل مرادا وأن يكون معه غيره ، والله أعلم.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله قال : فقلت يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قلت فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحمر وجهه ثم قال «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش به.

[طريق أخرى] ـ قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني عن زيد بن زائدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة ، قال : فتثبت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إنك قلت لنا «لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا» وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا ، فاحمر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشق عليه ثم قال «دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر».

وقد رواه أبو داود (٤) في الأدب عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل عن الوليد بن أبي هشام به مختصرا «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا إني

__________________

(١) المسند ١ / ٣٨٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٧ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٤٠ ، ١٤١.

(٣) المسند ١ / ٣٩٥ ، ٣٩٦.

(٤) كتاب الأدب باب ٢٨.

٤٢٩

أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» وكذا رواه الترمذي (١) في المناقب عن الذهلي سواء إلا أنه قال زيد بن زائدة ، ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هشام به مختصرا أيضا فزاد في إسناده السدي ، ثم قال غريب من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) اي له وجاهة وجاه عند ربه عزوجل. قال الحسن البصري كان مستجاب الدعوة عند الله ، وقال غيره من السلف لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ، ولكن منع الرؤية لما يشاء عزوجل. وقال بعضهم من وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا (قَوْلاً سَدِيداً) أي مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها ثم قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عوف ، حدثنا خالد عن ليث عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الظهر ، فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال : «إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولا سديدا» ثم أتى النساء فقال : «إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا».

وقال ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري حدثنا عيسى بن سمرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر إلا سمعته يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) الآية ، غريب جدا ، وروى من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن محمد بن كعب عن ابن عباس موقوفا : من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، قال عكرمة القول السديد لا إله إلا الله وقال غيره السديد الصدق وقال مجاهد ، هو السداد. وقال غيره : هو الصواب والكل حق.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ

__________________

(١) كتاب المناقب باب ٦٣.

٤٣٠

كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

قال العوفي عن ابن عباس : يعني بالأمانة الطاعة وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الأمانة الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك ، وأشفقوا عليه من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) يعني غرا بأمر الله.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) قال : عرضت على آدم ، فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذبتك ، قال : قبلت فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة ، وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريبا من هذا ، وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه ، والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد : إن الأمانة هي الفرائض.

وقال آخرون : هي الطاعة ، وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة : الأمانة الدين والفرائض والحدود ، وقال بعضهم الغسل من الجنابة ، وقال مالك عن زيد بن أسلم قال : الأمانة ثلاثة : الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري ، حدثنا حماد بن واقد ، يعني أبا عمر الصفار سمعت أبا معمر يعني عون بن معمر يحدث عن الحسن ، يعني البصري أنه تلا هذه الآية (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) قال عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها : هل تحملين

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٣٩.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٣٩.

٤٣١

الأمانة وما فيها؟ قالت : وما فيها؟ قال : قيل لها إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت قالت : لا ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد ، التي شدت بالأوتاد ، وذللت بالمهاد ، قال : فقيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : وما فيها؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، قالت : لا ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال قيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : وما فيها؟ قال لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت قالت : لا.

وقال مقاتل بن حيان إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسموات والأرض والجبال فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة ، وهي الطاعة ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة ، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة؟ فقلن : يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون ، ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني ، وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ، ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا به. ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك؟ قال : يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل ، وحسن الثواب في الجنة ، وإن عصيت ، ولم ترعها حق رعايتها ، وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار ، قال : رضيت يا رب ، وأتحملها ، فقال الله عزوجل عند ذلك قد حملتكها فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) رواه ابن أبي حاتم.

وعن مجاهد أنه قال : عرضها على السموات فقالت : يا رب حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة. قال : وعرضها على الأرض فقالت : يا رب غرست في الأشجار وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة ، وقالت الجبال مثل ذلك قال الله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) في عاقبة أمره ، وهكذا قال ابن جريج. وعن ابن أشوع أنه قال : لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن ، وقلن : ربنا لا طاقة لنا بالعمل ولا نريد الثواب.

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي ، حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذه الآية (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، قال الإنسان بين أذني وعاتقي ، فقال الله عزوجل : إني معينك عليها ، إني معينك على عينيك بطبقتين ، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق ، ومعينك على لسانك بطبقتين ، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق ، ومعينك على فرجك بلباس فلا تكشفه إلى ما أكره. ثم روي عن أبي حازم نحو هذا.

٤٣٢

وقال ابن جرير (١) : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) الآية ، قال : إن الله تعالى عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين ، فقلن لا ، نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا ، قال : وعرض الله تبارك وتعالى على آدم فقال : بين أذني وعاتقي ، قال ابن زيد : قال الله تعالى له : أما إذا تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك ، فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية ، حدثنا عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه ، وكان من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به ، فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي ، ومنهم نبي رسول ، ونزل القرآن وهو كلام الله ، وأنزلت العجمية والعربية ، فعلموا أمر القرآن ، وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله تعالى شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم ، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح ، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب ، فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها ، حتى وصل إليّ وإلى أمتي ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك ، فالحذر أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا» هذا حديث غريب جدا ، وله شواهد من وجوه أخرى.

ثم قال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبيد الله بن عبيد المجيد الحنفي ، حدثنا أبو العوام القطان ، حدثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها ـ وكان يقول ـ وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة». قالوا : يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة؟ قال رضي الله عنه : الغسل من الجنابة ، فإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره ، وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن أبي العوام عمران بن داود القطان به.

وقال ابن جرير (٤) أيضا : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق عن شريك عن الأعمش،

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٤٠ ، ٣٤١.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٤٠.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٣٤٠.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٣٤١.

٤٣٣

عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ـ أو قال ـ يكفر كل شيء إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك ، فيقول أني يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك ، فيقول أني يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك ، فيقول أني يا رب وقد ذهبت الدنيا؟. فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية ، فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين» قال : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع ، فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال : صدق.

وقال شريك : وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ولم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء ، إسناده جيد ، ولم يخرجوه.

ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر المجل (٢) كجمر دحرجته على رجلك ، تراه منتبرا (٣) وليس فيه شيء ـ قال : ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال ـ فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان ، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلما ليردنه علي دينه ، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا (٤). وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة» هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما ، وقد قال الطبراني في مسنده

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٨٣.

(٢) يقال : مجلت يده ؛ إذا ثخن جلدها وتعجر ، وظهر فيها ما يشبه البثور من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة.

(٣) الانتبار : التورم والانتفاخ.

(٤) أخرجه البخاري في الفتن باب ١٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٠.

(٥) المسند ٢ / ١٧٧.

٤٣٤

عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة» فزاد في الإسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما.

وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة ، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد : حدثنا شريك عن أبي إسحاق الشيباني عن خناس بن سحيم أو قال : جبلة بن سحيم ، قال : أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي لا والأمانة ، فجعل زياد يبكي ويبكي فظننت أني أتيت أمرا عظيما ، فقلت له : أكان يكره هذا؟ قال : نعم ، كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي ، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع قال أبو داود (١) : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بالأمانة فليس منا» تفرد به أبو داود رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي إنما حمل بني آدم الأمانة وهي التكاليف ، ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات ، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). آخر تفسير سورة الأحزاب ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) كتاب الإيمان ، باب ٥.

٤٣٥

تفسير سورة سبأ

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢)

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة ، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ، كما قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولهذا قال تعالى هاهنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [الليل : ١٣] ، ثم قال عزوجل : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) فهو المعبود أبدا ، المحمود على طول المدى.

وقوله تعالى : (هُوَ الْحَكِيمُ) أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره (الْخَبِيرُ) الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء ، وقال مالك عن الزهري : خبير بخلقه ، حكيم بأمره ، ولهذا قال عزوجل : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض ، والحب المبذور ، والكامن فيها ، ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) أي من قطر ورزق ، وما يعرج فيها ، أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي الرحيم بعباده ، فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة ، الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٦)

هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقع : المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة

٤٣٦

يونس عليه‌السلام ، وهي قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس : ٥٣] والثانية هذه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، والثالثة في سورة التغابن ، وهي قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [التغابن : ٧] فقال تعالى : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره ، فقال : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

قال مجاهد وقتادة : لا يعزب عنه لا يغيب عنه ، أي الجميع مندرج تحت علمه ، فلا يخفى عليه شيء ، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت ، وأين تفرقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ، فإنه بكل شيء عليم. ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة ، بقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله ، (أُولئِكَ لَهُمْعَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين ، كما قال عزوجل : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨].

وقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها ، وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا ، رأوه حينئذ عين اليقين ، ويقولون يومئذ أيضا (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣] يقال أيضا (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس : ٥٢] (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد قهر كل شيء وغلبه ، الحميد ، في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩)

هذا إخبار من الله عزوجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة ، واستهزائهم

٤٣٧

بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إخباره بذلك (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق (إِنَّكُمْ) أي بعد هذا الحال (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك ، وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين : إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحي إليه ذلك ، أو أنه لم يتعمد ، لكن لبس عليه كما يلبس على المعتوه والمجنون.

ولهذا قالوا : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) قال الله عزوجل رادا عليهم (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما زعموا ، ولا كما ذهبوا إليه ، بل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الصادق البار الراشد ، الذي جاء بالحق ، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء (فِي الْعَذابِ) أي : الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) من الحق في الدنيا ، ثم قال تعالى منبها لهم على قدرته في خلق السموات والأرض ، فقال تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي حيثما توجهوا وذهبوا ، فالسماء مطلة عليهم ، والأرض تحتهم ، كما قال عزوجل : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٧ ـ ٤٨].

قال عبد بن حميد : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال : إنك إن نظرت عن يمينك ، أو عن شمالك ، أو من بين يديك ، أو من خلفك ، رأيت السماء والأرض. وقوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم ، ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا ، ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قال معمر عن قتادة : (مُنِيبٍ) تائب. وقال سفيان عن قتادة : المنيب المقبل إلى الله تعالى ، أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله ، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد ، لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها ، وهذه الأرضين في انخفاضها ، وأطوالها وأعراضها ، إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام ، كما قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٨١] وقال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١)

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوي العدد والعدد ، وما أعطاه ومنحه

٤٣٨

من الصوت العظيم ، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات ، والغاديات ، والرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» (١).

وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، ومعنى قوله تعالى : (أَوِّبِي) أي سبحي ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة ، وفي هذا نظر ، فإن التأويب في اللغة هو الترجيع ، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها.

وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه ـ الجمل ـ في باب النداء منه (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي سيري معه بالنهار كله ، والتأويب سير النهار كله ، والإسآد سير الليل كله ، وهذا لفظه ، وهو غريب جدا لم أره لغيره ، وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة ، لكنه بعيد في معنى الآية هاهنا ، والصواب أن المعنى في قوله تعالى : (أَوِّبِي مَعَهُ) أي رجعي مسبحة معه كما تقدم ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم : كان لا يحتاج أن يدخله نارا ولا يضربه بمطرقة ، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط ، ولهذا قال تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) وهي الدروع قال قتادة ، وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال : كان داود عليه‌السلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ، ألفين له ، ولأهله ، وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه‌السلام في تعليمه صنعة الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر ، وقال الحكم بن عيينة : لا تغلظه فيقصم ، ولا تدقه فيقلق ، وهكذا روي عن قتادة وغير واحد ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السرد حلق الحديد. وقال بعضهم : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر [الكامل] :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع (٢)

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ٣١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٣٥ ، ٢٣٦.

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذلي في سر صناعة الإعراب ٢ / ٧٦٠ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٣٩ ، وشرح المفصل ٣ / ٥٩ ، ولسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، والمعاني الكبير ص ١٠٣٩ ، وتاج العروس (صنع) ، (قضى) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٣ / ٥٨.

٤٣٩

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر ، وفيه كلام ، عن أبي إلياس عن وهب بن منبه ما مضمونه أن داود عليه‌السلام كان يخرج متنكرا ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحدا إلا أثنى عليه خيرا في عبادته وسيرته وعدله عليه‌السلام. قال وهب : حتى بعث الله تعالى ملكا في صورة رجل ، فلقيه داود عليه الصلاة والسلام فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا. قال : ما هي قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين ، يعني بيت المال ، فعند ذلك نصب داود عليه‌السلام إلى ربه عزوجل في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله ، فألان الله عزوجل له الحديد ، وعلمه صنعة الدروع ، فعمل الدروع ، وهو أول من عملها ، فقال الله تعالى: (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) يعني مسامير الحلق.

قال : وكان يعمل الدرع ، فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها ، واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن يعمل غيرها ، وقال : إن الله أعطى داود شيئا لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج ، إلا على أصناف صوتهعليه‌السلام ، وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكان قد أعطي سبعين مزمارا في حلقه. وقوله تعالى : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم ، لا يخفى علي من ذلك شيء.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣)

لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود ، عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام من تسخير الريح له ، تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر. قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق ، فينزل باصطخر يتغذى بها ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل ، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع.

وقوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد : القطر النحاس. قال قتادة : وكانت باليمن ، فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه‌السلام قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام. وقوله تعالى : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه. أي بقدره

٤٤٠