تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا ابن نمير ، أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله ، فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه؟ فيقول رب خشيت الناس ، فيقول : فأنا أحق أن يخشى» ورواه أيضا عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجة (٢) عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به.

وقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد ، أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها ، فماتوا صغارا وولد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضا رضيعا ، وكان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين ، فمات في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث ، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ماتت بعده لستة أشهر.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) كقوله عزوجل : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده ، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى ، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة ، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس ، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثلي في النبيين كمثل رجل بني دارا فأحسنها وأكملها ، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» ورواه الترمذي (٤) عن بندار عن أبي عامر العقدي به ، وقال حسن صحيح.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا المختار بن فلفل ، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعد ولا نبي» قال : فشق ذلك على الناس ، فقال : «ولكن

__________________

(١) المسند ٣ / ٣٠ ، ٣٧.

(٢) كتاب الفتن باب ٢٠.

(٣) المسند ٥ / ١٣٦ ، ١٣٧.

(٤) كتاب الأدب باب ٧٧.

(٥) المسند ٣ / ٢٦٧.

٣٨١

المبشرات» قالوا : يا رسول الله وما المبشرات؟ قال : «رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة» وهكذا رواه الترمذي (١) عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به ، وقال : صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل.

[حديث آخر] قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة ، فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» (٢) ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به ، وقال الترمذي : صحيح غريب من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بني دارا فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» انفرد به مسلم (٤) من رواية الأعمش به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال : سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبوة بعدي إلا المبشرات» قيل : وما المبشرات يا رسول الله؟ قال «الرؤيا الحسنة» ـ أو قال ـ «الرؤيا الصالحة».

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون : ألا وضعت هاهنا لبنة فيتم بنيانك ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكنت أنا اللبنة» (٧) أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

[حديث آخر] عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال الإمام مسلم : حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله

__________________

(١) كتاب الرؤيا باب ٢.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ١٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٢ ، ٢٣ ، والترمذي في الأدب باب ٧٧ ، والمناقب باب ١.

(٣) المسند ٣ / ٩.

(٤) كتاب الصلاة حديث ٢٠٧ ، ٢٠٨.

(٥) المسند ٥ / ٤٥٤.

(٦) المسند ٢ / ٣١٢.

(٧) أخرجه البخاري في المناقب باب ١٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٠ ، ٢٣.

٣٨٢

عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون» (١) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل بن جعفر ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» (٢) ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته». [حديث آخر] قال الزهري : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» (٤) أخرجاه في الصحيحين.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما كالمودع فقال : «أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاثا ـ ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه ، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش ، وتجوز بي ، وعوفيت وعوفيت أمتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه» تفرد به الإمام أحمد.

ورواه الإمام أحمد (٦) أيضا عن يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عبد الله بن عمرو

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥ ـ ٨ ، والترمذي في السير باب ٥.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.

(٣) المسند ٤ / ١٢٧.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب باب ١٧ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٢٤ ، ١٢٥.

(٥) المسند ٢ / ٢١٢.

(٦) المسند ٢ / ١٧٢.

٣٨٣

رضي الله عنهما ، فذكر مثله سواء.

والأحاديث في هذا كثيرة ، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له ، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل ، لو تخرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله ، وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال ، فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها.

وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه ، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢] الآية ، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه ، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات ، فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسموات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٤٤)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن ، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب ، وجميل المآب. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد ، حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكر الله عزوجل» (٢) وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد

__________________

(١) المسند ٥ / ١٩٥.

(٢) أخرجه الترمذي في الدعاء باب ٦ ، وابن ماجة في الأدب باب ٥٣.

٣٨٤

مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس التراغمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه به ، قال الترمذي : رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : دعاء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أدعه : اللهم اجعلني أعظم شكرك ، وأتبع نصيحتك ، وأكثر ذكرك ، وأحفظ وصيتك ، ورواه الترمذي (٢) عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فذكر مثله ، وقال : غريب ، وهكذا رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، فذكره.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال : سمعت عبد الله بن بسر يقول : جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طال عمره وحسن عمله» وقال الآخر : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فمرني بأمر أتشبث به ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى» (٤) وروى الترمذي وابن ماجة الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا سريج ، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال : إن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون». وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم العمي ، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيب الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذكروا الله ذكرا كثيرا حتى يقول المنافقون إنكم تراؤون».

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي ، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال

__________________

(١) المسند ٢ / ٤٧٧.

(٢) كتاب الدعوات باب ١١٣.

(٣) المسند ٤ / ١٩٠.

(٤) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٤.

(٥) المسند ٣ / ٦٨.

(٦) المسند ٢ / ٢٢٤.

٣٨٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على تركه ، فقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء : ١٠٣] بالليل والنهار في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال. وقال عزوجل : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته ، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جدا ، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي عند الصباح والسماء ، كقوله عزوجل (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم : ١٧ ـ ١٨] وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) هذا تهييج إلى الذكر ، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ، كقوله عزوجل (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥١ ـ ١٥٢] وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» (١) والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة ، حكاه البخاري عن أبي العالية ، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه ، وقال غيره : الصلاة من الله عزوجل الرحمة. وقد يقال : لا منافاة بين القولين ، والله أعلم.

وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار ، كقوله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) [غافر : ٧ ـ ٩] الآية. وقوله تعالى : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم ، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٥ ، ٤٣ ، ومسلم في الذكر حديث ٢ ، ٢١.

٣٨٦

الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة ، وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم ، وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ، ابني ، وسعت فأخذته ، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار ، قال فخفضهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «لا ، والله لا يلقي حبيبه في النار» إسناده على شرط الصحيحين ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، ولكن في صحيح الإمام البخاري (٢) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امراة من السبي قد أخذت صبيا لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟» قالوا : لا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها»

وقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ تحيتهم ، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام أي يوم يسلم عليهم كما قال عزوجل : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة ، واختاره ابن جرير. [قلت] وقد يستدل له بقوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠]. وقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٤٨)

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في

__________________

(١) المسند ٣ / ١٠٤.

(٢) كتاب الأدب باب ١٨ ، وأخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٢.

(٣) المسند ٢ / ١٧٤.

٣٨٧

القرآن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لست بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وقد رواه البخاري (١) في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله ، قيل ابن رجاء ، وقيل ابن صالح ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به.

ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به.

وقال البخاري في البيوع : وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وقال وهب بن منبه : إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء : أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أميا من الأميين ، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته ، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه ، أبعثه مبشرا ونذيرا لا يقول الخنا ، أفتح به أعينا كمها وآذانا صما وقلوبا غلفا ، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحق شريعته ، والعدل سيرته والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأعرف به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأستنقذ به فئاما من الناس عظيمة من الهلكة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي ، ألهمهم التسبيح والتحميد ، والثناء والتكبير والتوحيد ، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قيانا وقعودا ويقاتلون في سبيل الله صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفا ، يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار ، وأجعل في أهل بيته ، وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين ، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون ، وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم ، وأجعل دائرة السوء على من خالفهم ، أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئا مما في أيديهم ، أجعلهم ورثة لنبيهم ، والداعية إلى ربهم ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٨ ، باب ٣ ، والبيوع باب ٥٠.

٣٨٨

الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه‌الله.

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي ، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وقد كان أمر عليا ومعاذا رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، إنه قد أنزل علي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي ، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله ، وقال في آخره «فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على أمتك ومبشرا بالجنة ونذيرا من النار وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجا منيرا بالقرآن». فقوله تعالى : (شاهِداً) أي لله بالوحدانية ، وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيدا كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

وقوله عزوجل : (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي بشيرا للمؤمنين بجزيل الثواب ، ونذيرا للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) أي داعيا للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك (وَسِراجاً مُنِيراً) أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه (وَدَعْ أَذاهُمْ) أي اصفح وتجاوز عنهم ، وكل أمرهم إلى الله تعالى ، فإن فيه كفاية لهم ، ولهذا قال جل جلاله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٤٩)

هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اختلفوا في النكاح : هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده إلا في هذه الآية ، فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.

وقوله تعالى : (الْمُؤْمِناتِ) خرج مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق ، وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري

٣٨٩

وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ، لأن الله تعالى قال : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) فعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم‌الله تعالى ، وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما‌الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فعندهما متى تزوجها طلقت منه ، واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك : لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه ، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق ، قال : سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إذا قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال : ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) الآية وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما قال الله عزوجل : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح ، وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال الله تعالى : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) فلا طلاق قبل النكاح.

وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» (١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي. هذا حديث حسن ، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب ، وهكذا روى ابن ماجة عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا طلاق قبل نكاح»(٢).

وقوله عزوجل : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) هذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها ، فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها ، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا. وقوله تعالى : (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى :

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ٧ ، وابن ماجة في الطلاق باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ١١٠ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ٢٠٧.

(٢) أخرجه البخاري في الطلاق باب ٩ ، وابن ماجة في الطلاق باب ١٧.

٣٩٠

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة: ٢٣٧] وقال عزوجل (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦].

وفي صحيح البخاري (١) عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل ، فلما أن دخلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقين ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن كان سمى لها صداقا فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقا أمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٠)

يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور هاهنا ، كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشا وهو نصف أوقية ، فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه‌الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها ، كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ـ رضي الله عنهن أجمعين ـ.

وقوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما‌السلام ، وكانتا من السراري رضي الله عنهما.

وقوله تعالى : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) الآية ، هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط ، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا ، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته ، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى ، فأباح بنت العم والعمة ، وبنت الخال والخالة ، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع ، وإنما قال : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن

__________________

(١) كتاب الطلاق باب ٣.

٣٩١

كقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) [النحل : ٤٨] (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة :٢٥٧] (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] وله نظائر كثيرة.

وقوله تعالى : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ قالت : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله تعالى : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به ، ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه ، ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) أي أسلمن ، وقال الضحاك : قرأ ابن مسعود واللائي هاجرن معك.

وقوله تعالى : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ) الآية ، أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان ، كقوله تعالى إخبارا عن نوح عليه‌السلام أنه قال لقومه (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] وكقول موسى عليه‌السلام (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨٤] وقال هاهنا : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) الآية.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا» فقال : لا أجد شيئا ، فقال «التمس ولو خاتما من حديد» فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل معك من القرآن شيء؟» قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ـ السور يسميها ـ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زوجتكها بما معك من القرآن» (٢) أخرجاه من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان ، حدثنا مرحوم ، سمعت ثابتا يقول : كنت مع أنس

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في النكاح باب ٤٠ ، ومسلم في النكاح حديث ٣٥ ، ٧٦.

(٣) المسند ٣ / ٢٦٨.

٣٩٢

جالسا وعنده ابنة له ، فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا نبي الله هل لك في حاجة؟ فقالت ابنته : ما كان أقل حياءها ، فقال : «هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» انفرد بإخراجه البخاري (١) من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به.

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا عبد الله بن بكير ، حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا ، فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها ، فقال : «قد قبلتها» فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئا قط ، فقال : «لا حاجة لي في ابنتك» لم يخرجوه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : التي وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه : أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه : كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا : تزوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث عشرة امرأة ، ستا من قريش : خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة ، وثلاثا من بني عامر بن صعصعة ، وامرأتين من بني هلال بن عامر : ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزينب أم المساكين ، وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات ، وهي التي اختارت الدنيا ، وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه ، وزينب بنت جحش الأسدية ، والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) قال : هي ميمونة بنت الحارث ، فيه انقطاع ، هذا مرسل ، والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية ، وقد ماتت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته ، فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، كما قال البخاري (٣) : حدثنا زكريا بن

__________________

(١) كتاب النكاح باب ٤٠.

(٢) المسند ٣ / ١٥٥.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٧.

٣٩٣

يحيى ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن منصور الجعفي ، حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : لم يكن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير ، أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحا له ومخصوصا به ، لأنه مردود إلى مشيئته ، كما قال الله تعالى : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) أي إن اختار ذلك.

وقوله تعالى : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك ، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا ، وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما ، أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها ، كما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت ، فحكم لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها ، والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها ، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي ، ولا شهود ، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها ، ولهذا قال قتادة في قوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يقول : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر ، وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم ، وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئا منه (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) (٥١)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة

__________________

(١) المسند ٦ / ١٥٨.

٣٩٤

رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله عزوجل (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) الآية ، قالت : إني أرى ربك يسارع لك في هواك. وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة ، فدل هذا على أن المراد بقوله : (تُرْجِي) أي تؤخر (مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) أي من الواهبات (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) أي من شئت قبلتها ومن شئت رددتها ، ومن رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فآويتها ، ولهذا قال : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ).

قال عامر الشعبي في قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الآية ، كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده ، منهن أم شريك وقال آخرون : بل المراد بقوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الآية ، أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن ، فتقدم من شئت وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت وتترك من شئت ، هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، ومع هذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم لهن ، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة.

وقال البخاري (١) : حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا عبد الله هو ابن المبارك ، وأخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) فقلت لها : ما كنت تقولين؟ فقالت : كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا.

فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم ، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ، ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات وفي النساء ، اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم ، وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي ، وفيه جمع بين الأحاديث ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم ، فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختيارا منك ، لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن به ، وحملن جميلك في ذلك ، واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٧.

٣٩٥

لا يمكن دفعه ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : «اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (٢) ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة ، وزاد أبو داود بعد قوله «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب. وإسناده صحيح ، ورجاله كلهم ثقات ، ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي بضمائر السرائر (حَلِيماً) أي يحلم ويغفر.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢)

ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم ، أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم في الآية ، فلما اخترن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن ، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن ، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهن.

قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله له النساء (٣) ، ورواه أيضا من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة ، ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ، حدثني عمر بن أبي بكر ، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الخزامي عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم ، وذلك قول الله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الآية فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة ، الأولى ناسخة للتي بعدها ، والله أعلم.

وقال آخرون : بل معنى الآية (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد ما ذكرنا لك من

__________________

(١) المسند ٦ / ١٤٤.

(٢) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣٨ ، والترمذي في النكاح باب ٤١ ، والنسائي في النساء باب ٢ ، وابن ماجة في النكاح باب ٤٧ ، والدارمي في النكاح باب ٢٥.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٣ ، باب ١٩ ، ولم أجده بهذا اللفظ في مسند أحمد بن حنبل.

٣٩٦

صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك ، اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك ، وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه ، وعكرمة والضحاك في رواية ، وأبي رزين في رواية عنه ، وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية ، والسدي وغيرهم.

قال ابن جرير (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن داود بن أبي هند ، حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال : قلت لأبي بن كعب : أرأيت لو أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال : وما يمنعه من ذلك؟ قال : قلت قول الله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) فقال : إنما أحل الله له ضربا من النساء ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ـ إلى قوله تعالى ـ إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) ثم قيل له: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ورواه عبد الله بن أحمد من طرق عن داود به.

وروى الترمذي (٢) عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) فأحل الله فتياتكم المؤمنات ، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، ثم قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الآية.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ ـ إلى قوله تعالى ـ خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء ، وقال مجاهد (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد ما سمى لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وقال أبو صالح (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غربية ، ويتزوج بعد من نساء تهامة وما شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة.

وقال عكرمة (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي التي سمى الله.

واختار ابن جرير رحمه‌الله : أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء ، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا ، وهذا الذي قاله جيد ، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف ، فإن كثيرا منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة ، والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها! وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة ، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) الآية ، وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح ، ولكن لا يحتاج إلى

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣١٧.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ١٩.

٣٩٧

ذلك ، فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته وأنه لا يستبدل بهن غيرهن ، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال ، فالله أعلم ، فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي سبب نزول قوله تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) [النساء : ١٢٨] الآية.

وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها (١) ، وهذا إسناد قوي.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر قال : دخل عمر على حفصة وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك؟ لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلقك ، إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي ، والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا ، ورجاله على شرط الصحيحين.

وقوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) فنهاه عن الزيادة إن طلق واحدة منهن ، واستبدال غيرها بها ، إلا ما ملكت يمينه ، وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا مناسبا ذكره هاهنا ، فقال : حدثنا إبراهيم بن نصر ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي ، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك : وأبادلك بامراتي ، أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عائشة ، فدخل بغير إذن ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأين الاستئذان؟» فقال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه عائشة أم المؤمنين» قال : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال «يا عيينة إن الله قد حرم ذلك» فلما أن خرج قالت عائشة : من هذا؟ قال «هذا أحمق مطاع ، وإنه على ما ترين لسيد قومه» ثم قال البزار : إسحاق بن عبد الله لين الحديث جدا ، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبينا العلة فيه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ٣٨ ، والنسائي في الطلاق باب ٨٦ ، وابن ماجة في الطلاق باب ١.

٣٩٨

لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٥٤)

هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال : وافقت ربي عزوجل في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب ، وقلت لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم : ٥] فنزلت كذلك (١) ، وفي رواية لمسلم (٢) ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة.

وقد قال البخاري (٣) : حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما ، وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث ، فالله أعلم.

قال البخاري (٤) : حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ، ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقوا ، فجئت فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب : ٥٣] الآية ، وقد رواه أيضا في موضع آخر ، ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به.

ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٣٢ ، وتفسير سورة ٢ ، باب ٩ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤.

(٢) كتاب فضائل الصحابة حديث ٢٤.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٨.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٨.

٣٩٩

بنحوه ، ثم قال : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : بنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقلت : يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه ، قال «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة ، ثم رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شديد الحياء ، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة ، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا ، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزل آية الحجاب (١). انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث ، ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك ، وقال رجلان : انفرد به من هذا الوجه ، وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر ، حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيسا ثم جعلته في تور فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل ، قال أنس : والناس يومئذ في جهد ، فجئت به فقلت : يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك ، وهي تقرئك السلام وتقول : أخبره أن هذا منا له قليل ، فنظر إليه ثم قال «ضعه» فوضعته في ناحية البيت ثم قال : «اذهب فادع لي فلانا وفلانا» فسمى رجالا كثيرا وقال «ومن لقيت من المسلمين».

فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين ، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس ، فقلت : يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال : كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جيء به» فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال «ما شاء الله» ثم قال «ليتحلق عشرة عشرة ، وليسموا ، وليأكل كل إنسان مما يليه» فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارفعه» قال : فجئت فأخذت التور ، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت؟ قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط ، فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أشد الناس حياء ، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزا ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) راجع الحاشية السابقة.

٤٠٠