تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

ورسوله. فسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وعرض على نسائه فتتابعن كلهن ، فاخترن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن سنان البصري ، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عقيل عن الزهري ، أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير ، فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، قالت ثم قال : «إن الله تبارك وتعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآيتين ، قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن ، فقلن ما قالت عائشة رضي الله عنهن (١) ، وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت : خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاخترناه ، فلم يعدها علينا شيئا (٣) ، أخرجاه من حديث الأعمش وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا زكريا بن إسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فلم يؤذن له ، ثم أقبل عمر رضي الله عنه ، فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فدخلا والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وحوله نساؤه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت ، فقال عمر رضي الله عنه : لأكلمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله يضحك ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه وقال : «هن حولي يسألنني النفقة» فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده ، فنهاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده ، قال : وأنزل الله عزوجل الخيار ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال : «إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت : وما هو؟ قال : فتلا عليها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية ، قالت عائشة رضي الله عنها : أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله ، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا ، لا تسألني

__________________

(١) أخرجه البخاري في المظالم والغضب باب ٢٥ ، ومسلم في الطلاق حديث ٢٢.

(٢) المسند ٦ / ٤٥.

(٣) أخرجه البخاري في الطلاق باب ٥ ، ومسلم في الطلاق حديث ٢٦ ، ٣٠.

(٤) المسند ٣ / ٣٢٨.

٣٦١

امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» (١) انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إسحاق المكي به.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع ، عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير نساءه الدنيا والآخرة ولم يخيرهن الطلاق (٢) ، وهذا منقطع.

وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك ، وهو خلاف الظاهر من الآية ، فإنه قال : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن ، وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن لو طلقهن على قولين ، أصحهما نعم لو وقع ليحصل المقصود من السراح ، والله أعلم. قال عكرمة : وكان تحته يومئذ تسع نسوة : خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيب وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن ، وكانت تحته صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفية بنت حيي النضيرية وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضي الله عنهن وأرضاهن جميعا.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) (٣١)

يقول الله تعالى واعظا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وهي النشوز وسوء الخلق ، وعلى كل تقدير فهو شرط ، والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وكقوله عزوجل : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قال مالك عن زيد بن أسلم (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قال : في الدنيا والآخرة ، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي سهلا هينا ، ثم ذكر عدله

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ٢٩ ، والنسائي في الطلاق باب ٢٦.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٧٨.

٣٦٢

وفضله في قوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي ويستجب (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعلى عليين ، فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤)

هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك ، فقال تعالى مخاطبا لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهن إذا اتقين الله عزوجل كما أمرهن ، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ، ثم قال تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) قال السدي وغيره : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ، ولهذا قال تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي دغل (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال ابن زيد : قولا حسنا جميلا معروفا في الخير ، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.

وقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) أي الزمن فلا تخرجن لغير حاجة ، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات» (١) وفي رواية «وبيوتهن خير لهن» (٢).

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا حميد بن مسعدة ، حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة ، حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال : جئن النساء إلى رسول الله فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى ، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قعدت ـ أو كلمة نحوها ـ منكن في بيتها ، فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب ، وهو رجل من أهل البصرة مشهور.

وقال البزار أيضا : حدثنا محمد المثنى ، حدثني عمرو بن عاصم ، حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المرأة عورة ، فإذا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٥٢ ، والدارمي في الصلاة باب ٥٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٣٨ ، ٤٧٥ ، ٥٢٨ ، ٥ / ١٩٢ ، ١٩٣ ، ٦ / ٧٠.

(٢) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٢ / ٧٦ ، ٧٧.

٣٦٣

خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها» رواه الترمذي (١) عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإسناده المتقدم وأبو داود أيضا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها» (٢) وهذا إسناد جيد.

وقوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) يقول : إذا خرجتن من بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج ، فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال مقاتل بن حيان (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده ، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ، ويبدو ذلك كله منها ، وذلك التبرج ، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني ابن زهير ، حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود بن أبي الفرات ، حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تلا هذه الآية (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) قال : كانت فيما بين نوح وإدريس ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة. وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس لعنه الله أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام ، فآجر نفسه منه فكان يخدمه ، فاتخذ إبليس شيئا من مثل الذي يرمز فيه الرعاء ، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حوله فانتابوهم يسمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة ، فيتبرج النساء للرجال ، قال ويتزين الرجال لهن ، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك ، فرأى النساء وصباحتهن ، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ، فتحولوا إليهن فنزلوا معهن ، وظهرت الفاحشة فيهن ، فهو قول الله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

وقوله تعالى : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت هاهنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في

__________________

(١) كتاب الرضاع باب ١٨.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٥٣.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٥.

٣٦٤

السوق (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا زيد بن الحبّاب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال : نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففيه نظر ، فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك :

[الحديث الأول] : قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : «الصلاة يا أهل البيت ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) رواه الترمذي (٢) عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال : حسن غريب.

[حديث آخر] قال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا يونس عن أبي إسحاق ، أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما ، فقال : «الصلاة الصلاة ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب.

[حديث آخر] وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا شداد أبو عمار قال : دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وعنده قوم ، فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه ، فشتمه معهم ، فلما قاموا قال لي : شتمت هذا الرجل؟ قلت : قد شتموه فشتمته معه ، ألا أخبركم بما رأيت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه ، فقالت : توجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم ، آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما ، وأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسنا وحسينا رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه ، ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءه ، ثم تلاصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقال : «اللهم هؤلاء

__________________

(١) المسند ١ / ٣٣١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٧.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٦ ، ٢٩٧.

(٤) المسند ٤ / ١٠٧.

٣٦٥

أهل بيتي ، وأهل بيتي أحق».

وقد رواه أبو جعفر بن جرير (١) عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم ، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه ، زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه : فقلت وأنا ـ يا رسول الله صلى الله عليك ـ من أهلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنت من أهلي» قال واثلة رضي الله عنه : وإنها من أرجى ما أرتجي ، ثم رواه أيضا عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين ، عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد بن أبي عمار قال : إني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، إذ ذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه ، فلما قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إني عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم ، فألقى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم كساء له ثم قال لهم : «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قلت : يا رسول الله وأنا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنت» قال : فو الله إنها لأوثق عمل عندي.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح ، حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في بيتها ، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة ، فدخلت عليه بها فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم لها : «ادعي زوجك وابنيك» قالت : فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم ، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له ، وكان تحته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أصلي ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت رضي الله عنها : فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضل الكساء فغطاهم به ، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت : فأدخلت رأسي البيت ، فقلت : وأنا معكم يا رسول الله؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك إلى خير ، إنك إلى خير» في إسناده من لم يسم وهو شيخ عطاء ، وبقية رجاله ثقات.

[طريق أخرى] قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا مصعب بن المقداد ، حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة ، تحملها على طبق ، فوضعتها بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أين ابن عمك وابناك؟» فقالت رضي الله عنها في البيت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعيهم» فجاءت إلى علي رضي الله عنه فقالت : أجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت وابناك ، قالت أم سلمة رضي الله عنها : فلما رآهم مقبلين مد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده إلى كساء كان على المنامة ، فمده

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٨.

(٢) المسند ٦ / ٢٩٢.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٧.

٣٦٦

وبسطه وأجلسهم عليه ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله ، فضمه فوق رؤوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه فقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

[طريق أخرى] قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال : ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها فقالت : في بيتي نزلت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت أم سلمة : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيتي فقال : «لا تأذني لأحد» فجاءت فاطمة رضي الله عنها ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن رضي الله عنه ، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمه رضي الله عنها ثم جاء علي رضي الله عنه ، فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا فجللهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكساء كان عليه ، ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله وأنا؟ قالت : فو الله ما أنعم ، وقال : «إنك إلى خير».

[طريق أخرى] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال : إن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في بيتي يوما إذ قالت الخادم : إن فاطمة وعليا رضي الله عنهما بالسدة ، قالت : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قومي فتنحي عن أهل بيتي» قالت : فقمت فتنحيت في البيت قريبا ، فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم ، وهما صبيان صغيران ، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما ، واعتنق عليا رضي الله عنه بإحدى يديه ، وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى ، وقبل فاطمة وقبل عليا : وأغدق عليهم خميصة سوداء ، وقال «اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي» قالت : فقلت وأنا يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنت».

[طريق أخرى] قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب حدثنا الحسن بن عطية ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : إن هذه الآية نزلت في بيتي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : وفي البيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.

[طريق أخرى] رواها ابن جرير (٤) أيضا عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٨.

(٢) المسند ٦ / ٢٩٦.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٧ ، ٢٩٨.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٧.

٣٦٧

عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها.

[طريق أخرى] قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد ، حدثني موسى بن يعقوب ، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال : أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله عزوجل ثم قال : «هؤلاء أهل بيتي» قالت أم سلمة رضي الله عنها : فقلت يا رسول الله أدخلني معهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت من أهلي».

[طريق أخرى] رواها ابن جرير (٢) أيضا عن أحمد بن محمد الطوسي ، عن عبد الرحمن بن صالح ، عن محمد بن سليمان الأصبهاني ، عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء ، عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها بنحو ذلك.

[حديث آخر] قال ابن جرير (٣) : حدثنا وكيع قال : حدثنا محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت : قالت عائشة رضي الله عنها : خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ثم جاء علي رضي الله عنه فأدخله معه ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به.

[طريق أخرى] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد عن العوام يعني ابن حوشب رضي الله عنه عن عم له قال : دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه ، فقالت رضي الله عنها : تسألني عن رجل من أحب الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا رضي الله عنهم ، فألقى عليهم ثوبا فقال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت : فدنوت منهم فقلت : يا رسول الله ، وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنحي فإنك على خير».

[حديث آخر] قال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي ، حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٨.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٨.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٦.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٦.

٣٦٨

الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم ، وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[حديث آخر] قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا بكير بن مسمار قال : سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال : قال سعد رضي الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزل عليه الوحي ، فأخذ عليا وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم ، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال : «رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي».

[حديث آخر] وقال مسلم (٢) في صحيحه : حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد ، عن ابن علية ، قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلمة إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ، وما لا فلا تكلفونيه.

ثم قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خما ، بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال : «أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله تعالى ، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله عزوجل ورغب فيه ، ثم قال «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاثا ، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده ، قال : ومن هم؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم ، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال : نعم.

ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه ، فذكر الحديث بنحو ما تقدم ، وفيه فقلت له : من أهل بيته نساؤه؟ قال : لا ، وايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٨.

(٢) كتاب فضائل الصحابة حديث ٣٦.

٣٦٩

تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه ، إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح جمعا بينهما وبين الرواية التي قبلها ، وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ، فإن في بعض أسانيدها نظرا ، والله أعلم ، ثم الذي لا شك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلات في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة ، قاله قتادة وغير واحد.

واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس ، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس ، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة ، وأحظاهن بهذه الغنيمة ، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة ، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي في فراش امرأة سواها ، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. قال بعض العلماء رحمه‌الله : لأنه لم يتزوج بكرا سواها ، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله عنها ، فناسب أن تخصص بهذه المزية ، وأن تفرد بهذه المرتبة العليا ، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته ، فقرابته أحق بهذه التسمية ، كما تقدم في الحديث «وأهل بيتي أحق». وهذا ما يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال : «هو مسجدي هذا» (١) فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بتسميته بذلك ، والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال : إن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما ، قال : فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجره ، وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد ، وحسن رضي الله عنه ساجد. قال : فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه ، فمرض منها أشهرا ثم برأ ، فقعد على المنبر فقال : يا أهل العراق اتقوا الله فينا ، فإنا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يحن بكاء.

وقال السدي عن أبي الديلم قال : قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من الشام :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ٥١٤.

٣٧٠

أما قرأت في الأحزاب (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)؟ فقال : نعم ، ولأنتم هم؟ قال : نعم. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي بلطفه بكن ، بلغتن هذه المنزلة ، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه‌الله : واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة ، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي ذا لطف بكن ، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة ، وهي السنة. خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله وقال قتادة (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) قال : يمتن عليهن بذلك ، رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) يعني لطيفا باستخراجها خبيرا بموضعها ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال : سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقول : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت : فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر ، وأنا أسرح شعري ، فلففت شعري ثم خرجت إلى حجرتي حجرة بيتي ، فجعلت سمعي عند الجريد فإذا هو يقول عند المنبر «يا أيها الناس إن الله تعالى يقول : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله.

[طريق أخرى عنها] قال النسائي أيضا : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سويد ، أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها ، أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا نبي الله ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله يذكر الرجال ولا نذكر ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية.

[طريق أخرى] قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قالت أم سلمة

__________________

(١) المسند ٦ / ٣٠٥.

٣٧١

رضي الله عنها : يا رسول الله يذكر الرجال ولا نذكر ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية.

[حديث آخر] قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا سيار بن مظاهر العنزي ، حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النساء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فأنزل لله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية ، وحدثنا بشر حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلن : قد ذكر كن الله تعالى في القرآن ولم نذكر بشيء أما فينا ما. يذكر؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) (٢) الآية ، فقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) دليل على أن الإيمان غير الإسلام ، وهو أخص منه لقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]. وفي الصحيحين «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٣) فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين ، فدل على أنه أخص منه كما قررناه أولا في شرح البخاري.

وقوله تعالى : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) القنوت هو الطاعة في سكون (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩] وقال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [الروم : ٢٦] (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو الإيمان ، ثم القنوت ناشئ عنهما (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) هذا في الأقوال ، فإن الصدق خصلة محمودة ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، وهو علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، ومن صدق نجا ، «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإن. الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (٤).

والأحاديث فيه كثيرة جدا ، (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) هذه سجية الأثبات ، وهي الصبر على المصائب ، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى ، أي

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٣٠٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٩ ، ٣٠٠.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٣.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب باب ٦٩ ، ومسلم في البر حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥.

٣٧٢

أصعبه في أول وهلة ، ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) الخشوع : السكون والطمأنينة ، والتؤدة والوقار ، والتواضع ، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته ، كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١).

(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) الصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإحسانا إلى خلقه. وقد ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ فذكر منهم ـ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (٢) وفي الحديث الآخر «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» (٣). والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا له موضع بذاته.

(وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة «والصوم زكاة البدن» (٤) أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا ، كما قال سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى : (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (٥) ناسب أن يذكر بعده (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) أي عن المحارم والمآثم إلا عن المباح كما قال عزوجل : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [المؤمنون : ٥ ـ ٧].

وقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» (٦) وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ١ ، ٥ ، ٧.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٣٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ٩١.

(٣) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ٨ ، والجمعة باب ٧٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٢ ، والفتن باب ١٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٢١ ، ٣٩٩ ، ٥ / ٢٣١.

(٤) لم أجد الحديث بهذا اللفظ في سنن ابن ماجة.

(٥) أخرجه البخاري في الصوم باب ١٠ ، والنكاح باب ٢ ، ٣ ، ومسلم في النكاح حديث ١ ، والنسائي في الصيام باب ٤٣ ، وابن ماجة في النكاح باب ١.

(٦) أخرجه أبو داود في التطوع باب ١٨ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٥.

٣٧٣

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» قال : قلت يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى؟ قال : «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير في طريق مكة ، فأتى على جمدان فقال «هذا جمدان سيروا فقد سبق المفردون» قالوا : وما المفردون؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا : والمقصرين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا ، والمقصرين؟ قال : «والمقصرين» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم دون آخره.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال : إنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عزوجل» وقال معاذ رضي الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا : بلى يا رسول الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذكر الله عزوجل».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن رجلا سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أكثرهم لله تعالى ذكرا» قال : فأي الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أكثرهم لله عزوجل ذكرا» ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة. كل ذلك يقول رسول الله «أكثرهم لله ذكرا» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أجل». وسنذكر إن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢] الآية ، إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ

__________________

(١) المسند ٣ / ٧٥.

(٢) المسند ٢ / ٤١١.

(٣) المسند ٥ / ٢٣٩.

(٤) المسند ٣ / ٤٣٨.

٣٧٤

مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦)

قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها ، فقالت : لست بناكحته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى فانكحيه» قالت : يا رسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) الآية ، قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» قالت : إذا لا أعصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنكحته نفسي (١).

وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه وقالت : أنا خير منه حسبا ، وكانت امرأة فيها حدة ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية كلها (٢) ، وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء ، يعني بعد صلح الحديبية ، فوهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : قد قبلت ، فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه ـ بعد فراقه زينب ، فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجنا عبده ، قال : فنزل القرآن (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) إلى آخر الآية ، قال : وجاء أمر أجمع من هذا (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قال : فذاك خاص وهذا إجماع (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه ، قال : خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها ، فقال : حتى أستأمر أمها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فنعم إذا» قال : فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها ، قالت : لاها الله ذا ما

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٣٠١.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٠١.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٣٠١ ، ٣٠٢.

(٤) المسند ٣ / ١٣٦.

٣٧٥

وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا جليبيبا وقد منعناها من فلان وفلان ، قال : والجارية في سترها تسمع ، قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره ، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه ، قال : فكأنها جلت عن أبويها ، وقالا : صدقت فذهب أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن كنت رضيته فقد رضيناه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإني قد رضيته» قال : فزوجها ، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب ، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم ، قال أنس رضي الله عنه : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي ، عن أبي برزة الأسلمي قال : إن جليبيبا كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن ، فقلت لامرأتي : لا يدخلن اليوم عليكن جليبيبا فإنه إن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن ، قالت : وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها حاجة أم لا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل من الأنصار «زوجني ابنتك» قال : نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة عين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لست أريدها لنفسي» قال : فلمن يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لجليبيب» فقال : يا رسول الله أشاور أمها ، فأتى أمها ، فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ابنتك؟ فقالت : نعم ونعمة عين ، فقال : إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجليبيب ، فقالت : أجليبيب إنيه أجليبيب إنيه؟ ألا لعمر الله لا نزوجه ، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره بما قالت أمها ، قالت الجارية : من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها ، قالت : أتردون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره؟ ادفعوني إليه ، فإنه لن يضيعني ، فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : شأنك بها فزوجها جليبيبا.

قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة له ، فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم «هل تفقدون من أحد»؟ قالوا : نفقد فلانا ونفقد فلانا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انظروا هل تفقدون من أحد» قالوا : لا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكنني أفقد جليبيبا» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاطلبوه في القتلى» فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه ، فقالوا : يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه ، فأتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام عليه فقال «قتل سبعة وقتلوه ، هذا مني وأنا منه» مرتين أو ثلاثا ، ثم وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إلا ساعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم وضعه في قبره ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه ، قال ثابت رضي الله عنه : فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتا : هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : قال «اللهم صب عليها الخير صبا ولا تجعل عيشها كدا» وكذا كان ، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها.

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٢٢.

٣٧٦

هكذا أورده الإمام أحمد بطوله ، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها : أتردون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره؟ نزلت هذه الآية (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

وقال ابن جريج : أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال : إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) فهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد هنا ، ولا رأي ولا قول ، كما قال تبارك وتعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] وفي الحديث «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» ولهذا شدد في خلاف ذلك ، فقال (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي بالعتق من الرق ، وكان سيدا كبير الشأن جليل القدر حبيبا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال له الحب ، ويقال لابنه أسامة الحب ابن الحب ، قالت عائشة رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية إلا أمره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخلفه ، رواه الإمام أحمد (١) عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داود عن عبد الله البهي عنها.

وقال البزار : حدثنا خالد بن يوسف ، حدثنا أبو عوانة ، ح وحدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة ، أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال : حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : فقالا : يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقلت : علي والعباس يستأذنان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدري ما حاجتهما؟» قلت : لا يا رسول الله ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٢٧ ، ٢٥٤ ، ٢٨١.

٣٧٧

«لكني أدري» قال : فأذن لهما ، قالا : يا رسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إليك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد» قالا : يا رسول الله ما نسألك عن فاطمة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه».

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها ، وأمها أميمة بنت عبد المطلب ، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما ، وخمارا وملحفة ودرعا ، وخمسين مدا من طعام وعشرة أمداد من تمر ، قاله مقاتل بن حيان ، فمكث عنده قريبا من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما ، فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له : «أمسك عليك زوجك واتق الله» قال الله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها فلا نوردها.

وقد روى الإمام أحمد هاهنا أيضا حديثا من رواية حماد بن زيد عن ثابت ، عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضا. وقد روى البخاري (١) أيضا بعضه مختصرا فقال : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد ، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن هذه الآية (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) نزلت في زيد ، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال : إن هذه الآية (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم مرزوق ، حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى :

(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) فذكرت له ، فقال : لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إليه قال : «اتق الله وأمسك عليك زوجك» فقال : قد أخبرتك أني مزوجكها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ). وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لو كتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) وقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) الوطر هو الحاجة والأرب ، أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها ، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عزوجل بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٦.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٣٠٣.

٣٧٨

بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم يعني ابن القاسم ، أخبرنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها ، قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرك ، قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عزوجل ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليها بغير إذن ، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعته ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه ، فألقى الستر بيني وبينه ، ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) الآية كلها (٢) ، ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به.

وقد روى البخاري رحمه‌الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات ، وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما ، فقالت زينب رضي الله عنها : أنا الذي نزل تزويجي من السماء ، وقالت عائشة رضي الله عنها : أنا التي نزل عذري من السماء ، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال : كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني لأدلي عليك بثلاث ، وما من نسائك امرأة تدلي بهن : إن جدي وجدك واحد ، وإني أنكحنيك الله عزوجل من السماء ، وإن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي إنما أبحنا لك تزويجها ، وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات

__________________

(١) المسند ٣ / ١٩٥ ، ١٩٦.

(٢) أخرجه مسلم في النكاح حديث ٨٩.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٣٠٣.

٣٧٩

الأدعياء ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فكان يقول له زيد بن محمد ، فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ـ إلى قوله تعالى ـ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب : ٤ ـ ٥] ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا بوقوع تزويج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها ، لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه ، ولهذا قال تعالى في آية التحريم (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] ليحترز من الابن الدعي ، فإن ذلك كان كثيرا فيهم. وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لا محالة ، كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨)

يقول تعالى : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج ، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه ولا معدل ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً(٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠)

يمدح تبارك وتعالى (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها (وَيَخْشَوْنَهُ) أي يخافونه ولا يخافون أحدا سواه ، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي وكفى بالله ناصرا ومعينا ، وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم ، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع ، فإنه قد كان النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة ، وأما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده ، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم ، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، في ليله ونهاره ، وحضره وسفره ، وسره وعلانيته ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا ، فبنورهم يقتدي المهتدون ، وعلى منهجهم يسلك الموفقون ، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم.

٣٨٠