تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه ، حكاه البغوي وغيره ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه‌الله : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه». وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة (١). وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث ابن عجلان ، والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ).

وقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : أنزل الله عزوجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم ، فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد ، وآخى عمر رضي الله عنه فلانا ، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلا من بني زريق بن سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره ، قال الزبير رضي الله عنه : وواخيت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته ، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، والله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي هذا الحكم ، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير ، قاله مجاهد وغير واحد ، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٤١ ، والنسائي في الطهارة باب ٣٥ ، وابن ماجة في الطهارة باب ١٦ ، والدارمي في الطهارة باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٧ ، ٢٥٠.

٣٤١

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨)

يقول الله تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله تعالى ، وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق ، كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٨١] فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم ، وكذلك هذا ، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم ، وهو من باب عطف الخاص على العام.

وقد صرح بذكرهم أيضا في هذه الآية ، وفي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) [الشورى : ١٣] فذكر الطرفين ، والوسط الفاتح ، والخاتم ، ومن بينهما على الترتيب ، فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها ، كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة الدمشقي ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) الآية. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم» سعيد بن بشير فيه ضعف ، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا وهو أشبه ، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا : والله علم.

وقال أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو أحمد حدثنا حمزة الزيات ، حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خيار ولد آدم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وخيرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. موقوف وحمزة فيه ضعف ، وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي أحذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام ، كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : ورفع أباهم آدم ، فنظر إليهم يعني ذريته ، وأن فهيم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك ، فقال : رب لو سويت بين عبادك ، فقال : إني أحببت أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، وهو الذي يقول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وهذا قول مجاهد أيضا ، وقال ابن عباس : الميثاق الغليظ العهد.

٣٤٢

وقوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قال مجاهد : المبلغين المؤدين عن الرسل. وقوله تعالى : (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) أي من أممهم (عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ، ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء ، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين ، فما جاءت به الرسل هو الحق ، ومن خالفهم فهو على الضلال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١٠)

يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا ، وذلك عام الخندق ، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور. وقال موسى بن عقبة وغيره : كان في سنة أربع ، وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بن النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى خيبر ، منهم سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع ، خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة ، فأجابوهم إلى ذلك ، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا.

وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدها أبو سفيان صخر بن حرب ، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر ، والجميع قريب من عشرة آلاف ، فلما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسيرهم ، أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق ، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ، ونقل معهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التراب وحفر ، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات. وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ، ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة ، كما قال الله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو ثلاثة آلاف ، وقيل سبعمائة ، فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم إلى نحو العدو ، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجال أن تصل إليهم ، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة ، وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ، ولهم عهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل.

فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري ، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعظم الخطب واشتد الأمر وضاق الحال ، كما قال الله تبارك وتعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١] ومكثوا محاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٤٣

وأصحابه قريبا من شهر ، إلا أنهم لا يصلون إليهم ولم يقع بينهم قتال ، إلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية ، ركب ومعه فوارس ، فاقتحموا الخندق وخلصوا إلى ناحية المسلمين ، فندب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيل المسلمين إليه ، فيقال إنه لم يبرز أحد فأمر عليا رضي الله عنه فخرج إليه فتجاولا ساعة ثم قتله علي رضي الله عنه ، فكان علامة النصر.

ثم أرسل الله عزوجل على الأحزاب ريحا شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء ، ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار ، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين ، كما قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً) قال مجاهد : وهي الصبا ، ويؤيده الحديث الآخر : «نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور» (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود عن عكرمة قال قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي ننصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت الشمال : إن الحرة لا تسري بالليل ، قال : فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا.

ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن حفص بن غياث ، عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فذكره.

وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثنا يونس حدثنا ابن وهب ، حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إلى المدينة ، فقال : ائتنا بطعام ولحاف ، قال : فاستأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن لي وقال «من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا» قال : فذهبت والريح تسفي كل شيء ، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فما يلوي أحد منهم عنق ، قال : وكان معي ترس لي ، فكانت الريح تضربه علي ، وكان فيه حديد ، قال : فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي فأبعدها إلى الأرض.

وقوله (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف ، فكان رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان إلي ، فيجتمعون إليه ، فيقول : النجاء ، النجاء لما ألقى الله عزوجل في قلوبهم من الرعب. وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٦ ، والمغازي باب ٢٩ ، وبدء الخلق باب ٥ ، والأنبياء باب ١ ، ومسلم في الاستسقاء حديث ١٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٢٣ ، ٢٢٨ ، ٣٢٤ ، ٣٤١ ، ٣٥٥ ، ٣٧٣.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٢٦٣.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٦٣.

٣٤٤

القرظي قال : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه : يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبتموه؟ قال : نعم يا ابن أخي ، قال : وكيف كنتم تصنعون؟ قال : والله لقد كنا نجهد ، قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا. قال : قال حذيفة رضي الله عنه : يا ابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخندق ، وصلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هويا من الليل ، ثم التفت فقال «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ ـ يشترط له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع ـ أدخله الله الجنة» قال : فما قام رجل ، ثم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هويا من الليل (١). ثم التفت إلينا فقال مثله ، فما قام منا رجل.

ثم صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هويا من الليل ، ثم التفت إلينا فقال «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ ـ يشترط له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرجعة ـ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» فما قام من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ، ولا تحدثنّ شيئا حتى تأتينا».

قال : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله عزوجل تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قرارا ولا نارا ولا بناء ، فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش ، لينظر كل امرئ من جليسه ، قال حذيفة رضي الله عنه : فأخذت بيد الرجل إلى جنبي فقلت : من أنت؟ فقال : أن فلان بن فلان ، ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، والله ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ، ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم ، ولو لا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه : فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل ، فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح علي طرف المرط ، ثم ركع وسجد ، وإني لفيه ، فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم (٢).

وقد رواه مسلم (٣) في صحيحه من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجال : لو أدركت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاتلت معه وأبليت،

__________________

(١) هويا من الليل : أي جزءا من الليل.

(٢) انظر الأثر في سيرة ابن هشام ٢ / ٢٣١ ، ٢٣٢ ، وأخرجه أحمد في المسند ٥ / ٣٩٢ ، ٣٩٣.

(٣) كتاب الجهاد حديث ٩٩.

٣٤٥

فقال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة» فلم يجبه منا أحد ، ثم الثانية ثم الثالثة مثله ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم» فلم أحد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال : «ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي» قال : فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه ، ثم ذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تذعرهم علي ، ولو رميته لأصبته ، قال : فرجعت كأنما أمشي في حمام ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت ، فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى الصبح ، فلما أصبحت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قم يا نومان».

ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم قال : إن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه : نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنكم أدركتموه ولم ندركه ، ورأيتموه ولم نره ، فقال حذيفة رضي الله عنه : ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه ، والله لا تدري يا ابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون ، لقد رأيتنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة ، ثم ذكر نحو ما تقدم مطولا. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضا.

وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال جلساؤه : أما والله لو شاهدنا ذلك كنا فعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك ، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، ويأذن لهم فيتسللون ، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله رجلا رجلا ، حتى أتى علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي.

قال : فأتاني صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا جاث على ركبتي فقال : «من هذا؟» فقلت : حذيفة. قال : «حذيفة؟» فتقاصرت الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم ، فقمت فقال «إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم» قال : وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قهرا. قال : فخرجت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» قال : فو الله ما خلق الله تعالى فزعا ولا قرّا في جوفي إلا خرج من جوفي ، فما أجد فيه شيئا ، قال : فلما وليت ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتني» قال :

٣٤٦

فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد ، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ، ويقول : الرحيل الرحيل ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك ، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار ، فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني».

قال : فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر ، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا ، فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرستهم ، الريح تضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك إذ أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين ، فقالوا : أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مشتمل في شملته يصلي ، فو الله ما عدا أن رجعت راجعني القر ، وجعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده وهو يصلي ، فدنوت منه فأسبل عليّ شملته ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم ، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون ، وأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) وأخرج أبو داود في سننه منه : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى ، من حديث عكرمة بن عمار به.

وقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) أي الأحزاب (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي شدة الخوف والفزع (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) قال ابن جرير : ظن بعض من كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك. وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق ، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط.

وقال الحسن في قوله عزوجل (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر ، (ح) وحدثنا أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه ، عن رتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ،

٣٤٧

فهزمهم بالريح وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل (١) عن أبي عامر العقدي.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً) (١٣)

يقول الله تعالى مخبرا عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة ، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالا شديدا ، فحينئذ ظهر النفاق ، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أما المنافق فنجم نفاقه ، والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال ، وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ) يعني المدينة. كما جاء في الصحيح «أريت في المنام دار هجرتكم ، أرض بين حرتين ، فذهب وهلي أنها هجر فإذا هي يثرب» (٢) وفي لفظ : المدينة.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن البراء رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى ، إنما هي طابة هي طابة» تفرد الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف ، والله أعلم.

ويقال كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح ، قاله السهيلي. قال : وروي عن بعضهم أنه قال : إن لها في التوراة أحد عشر اسما : المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال : إنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة : يا طيبة ويا طابة ويا مسكينة لا تقلي الكنوز أرفع أحاجرك على أحاجر القرى.

وقوله (لا مُقامَ لَكُمْ) أي هاهنا يعنون عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مقام المرابطة (فَارْجِعُوا) أي إلى بيوتكم ومنازلكم (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : هم بنو حارثة قالوا : بيوتنا نخاف عليها السراق ، وكذا قال غير واحد ، وذكر ابن إسحاق أن القائل

__________________

(١) المسند ٣ / ٣.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، ومناقب الأنصار باب ٤٥ ، والتعبير باب ٣٩ ، ومسلم في الرؤيا حديث ٢٠ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ١٠.

(٣) المسند ٤ / ٢٨٥.

٣٤٨

لذلك هو أوس بن قيظي ، يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو ، فهم يخشون عليها منهم ، قال الله تعالى : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أي ليست كما يزعمون (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي هربا من الزحف.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧)

يخبر تعالى عن هؤلاء الذين (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ، ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعا ، وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع ، هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير (١) ، وهذا ذم لهم في غاية الذم ، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي وإن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك ، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة ، ولهذا قال تعالى : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي بعد هربكم وفراركم (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) [النساء : ٧٧] ثم قال تعالى : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) أي يمنعكم (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً(١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٩)

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار ، وهم مع ذلك (لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي في الغنائم ، (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٧٠.

٣٤٩

أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي من شدة خوفه وجزعه ، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاما بليغا فصيحا عاليا ، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة ، وهم يكذبون في ذلك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما (سَلَقُوكُمْ) أي استقبلوكم.

وقال قتادة : أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة : أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم ، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق ، وهم مع ذلك أشحة على الخير ، أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر [الطويل] :

أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العوارك (١)

أي في حال المسالمة كأنهم الحمر ، والأعيار جمع عير وهو الحمار ، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي سهلا هينا عنده.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً) (٢٠)

وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) بل هم قريب منهم وإن لهم عودة إليهم (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة ، بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم ، والله سبحانه وتعالى العالم بهم.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢)

هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عزوجل ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ،

__________________

(١) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب ٣ / ٢٦٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٤٢ ، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٨٢ ، والكتاب ١ / ٣٤٤ ، ولسان العرب (عور) ، (عير) ، (عرك) ، والمقتضب ٣ / ٢٦٥ ، والمقرب ١ / ٢٥٨ ، وتاج العروس (عرك) ، ويروى «أشباه النساء» بدل «أمثال النساء».

٣٥٠

ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً).

ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : يعنون قوله تعالى في سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (١) [البقرة : ٢١٤] أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب ، ولهذا قال تعالى : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ). وقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم ، كما قال جمهور الأئمة : إنه يزيد وينقص ، وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة ، ومعنى قوله جلت عظمته (وَما زادَهُمْ) أي ذلك الحال والضيق والشدة (إِلَّا إِيماناً) بالله (وَتَسْلِيماً) أي انقيادا لأوامره وطاعة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٤)

لما ذكر عزوجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار ، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) قال بعضهم : أجله. وقال البخاري : عهده وهو يرجع إلى الأول (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي وما غيروا عهد الله ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري (٢) : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال : لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها لم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه ، الذي جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهادته بشهادة رجلين (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) تفرد به البخاري دون مسلم ، وأخرجه أحمد (٣) في مسنده والترمذي (٤) والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٧٨.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٣.

(٣) المسند ٥ / ١٨٨ ، ١٨٩.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٢.

٣٥١

الترمذي : حسن صحيح.

وقال البخاري (١) أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ) الآية ، انفرد به البخاري من هذا الوجه ، ولكن له شواهد من طرق أخر.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال : قال أنس : عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيّبت عنه ، لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرين الله عزوجل ما أصنع. قال فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال له أنس رضي الله عنه : يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة إني أجده دون أحد قال : فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه ، قال : فوجد في جسده بضع وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية ، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه ، قال : فنزلت هذه الآية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه ، وفي أصحابه رضي الله عنهم (٣). ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به. ورواه النسائي أيضا وابن جرير (٤) من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس ، رضي الله عنه قال : إن عمه يعني أنس بن النضر رضي الله عنه ، غاب عن قتال بدر ، قال : غيّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين ، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين الله تعالى ما أصنع ، قال : فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد ، فقال : أنا معك. قال سعد رضي الله عنه : فلم أستطع أن أصنع ما صنع ، فلما قتل قال : فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم ، وكانوا يقولون : فيه وفي أصحابه نزلت (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) وأخرجه الترمذي (٥)

__________________

(١) كتاب التفسير تفسير سورة ٣٣ ، باب ٣.

(٢) المسند ٤ / ١٩٣.

(٣) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٤٨ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٣ ، باب ٣.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٨٠.

(٥) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٣.

٣٥٢

في التفسير عن عبد بن حميد ، والنسائي فيه أيضا عن إسحاق بن إبراهيم ، كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي : حسن. وقد رواه البخاري (١) في المغازي عن حسان بن حسان ، عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به ، ولم يذكر نزول الآية. ورواه ابن جرير (٢) من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني ، حدثنا سليمان بن أيوب بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله ، حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال : لما أن رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد صعد المنبر ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وعزى المسلمين بما أصابهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر ، ثم قرأ هذه الآية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) الآية كلها ، فقام إليه رجل من المسلمين فقال : يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان ، فقال : «أيها السائل : هذا منهم» وكذا رواه ابن جرير (٣) من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضا ، وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال : حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر ـ يعني العقدي ـ حدثني إسحاق ـ يعني ابن طلحة بن عبيد الله ـ عن موسى بن طلحة قال : دخلت على معاوية رضي الله عنه ، فلما خرجت دعاني فقال : ألا أضع عندك يا ابن أخي حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ أشهد لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «طلحة ممن قضى نحبه».

ورواه ابن جرير (٤) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال : قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «طلحة ممن قضى نحبه» ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعني عهده (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) قال يوما فيه القتال فيصدق في اللقاء. وقال الحسن (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعني موته على الصدق والوفاء ، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك ، ومنهم من لم يبدل تبديلا ، وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم ، نحبه نذره. وقوله تعالى : (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر ، بل استمروا

__________________

(١) كتاب المغازي باب ١٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٢٨٠.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٨١.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٨١.

٣٥٣

على ما عاهدوا عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ... (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ). وقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب ، فيظهر أمر هذا بالفعل ، وأمر هذا بالفعل ، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه ، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده ، وكذا قال الله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] ولهذا قال تعالى هاهنا (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه ، وعذابه ، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه ، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه فهي الغالبة لغضبه قال (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٢٥)

يقول تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ، ولو لا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين ، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد ، ولكن قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى ، وهم أخلاط من قبائل من قبائل شتى أحزاب وآراء ، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم ، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم ، ولم ينالوا خيرا لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه ، ومن هم بشيء وصدق همه بفعله ، فهو في الحقيقة كفاعله.

وقوله تبارك وتعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم ، بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده ، ولهذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده» (١) أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على

__________________

(١) أخرجه البخاري في العمرة باب ١٢ ، والدعوات باب ٥٢ ، ومسلم في الحج حديث ٤٢٨.

٣٥٤

الأحزاب فقال «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم» (١).

وفي قوله عزوجل (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم. قال محمد بن إسحاق ، لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة ، وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح ، كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى عن سفيان ، حدثني أبو إسحاق قال : سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب «الآن نغزوهم ولا يغزوننا» وهكذا رواه البخاري (٣) في صحيحه من حديث الثوري ، وإسرائيل عن أبي إسحاق به.

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) أي بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيرا ، وأعز الله الإسلام وأهله ، وصدق وعده ونصر رسوله وعبده ، فله الحمد والمنة.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧)

قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة ، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد ، وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله ، دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد ، وقال له فيما قال : ويحك قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلون محمدا وأصحابه ، فقال له كعب : بل والله أتيتني بذل الدهر ، ويحك يا حيي إنك مشؤوم ، فدعنا منك ، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه ، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن ، فيكون له أسوتهم ، فلما نقضت قريظة ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جدا.

فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة ، ورجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا ، ووضع الناس السلاح ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغتسل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٩٨ ، ١١٢ ، والمغازي باب ٢٩ ، ومسلم في الجهاد حديث ٢٠.

(٢) المسند ٤ / ٢٦٢.

(٣) كتاب المغازي باب ٢٩.

٣٥٥

من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم.

ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة ، وفي رواية فقال له : عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح؟ قال «نعم» قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أين؟» قال : بني قريظة ، فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم ، فنهض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة ، وكانت على أميال من المدينة ، وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا تعجيل المسير.

وقال آخرون : لا نصليها إلا في بني قريظة ، فلم يعنف واحدا من الفريقين ، وتبعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم نازلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما طال عليه الحال ، نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه ، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية ، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك ، كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع ، حين استطلقهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك ، ولم يعلموا أن سعدا رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق ، فكواه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أكحله وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب.

وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فأفجرها ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، فاستجاب الله تعالى دعاءه ، وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا من تلقاء أنفسهم فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة ليحكم فيهم ، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه ، جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم ، ويرققونه عليهم ويعطفونه وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم.

فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون ، فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم ، فلما جلس قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن هؤلاء ـ وأشار إليهم ـ قد نزلوا على حكمك ، فاحكم فيهم بما شئت» فقال رضي الله عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم». قال وعلى من في هذه الخيمة؟ قال «نعم». قال وعلى من هاهنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله ، وهو معرض

٣٥٦

بوجهه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجلالا وإكراما وإعظاما ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم». فقال رضي الله عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة» ، وفي رواية «لقد حكمت بحكم الملك» ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض ، وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة ، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم ، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزا وبسيطا ، ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل ، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] فعليهم لعنة الله.

وقوله تعالى : (مِنْ صَياصِيهِمْ) يعني حصونهم ، كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف ، ومنه سمي صياصي البقر ، وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها ، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وهو الخوف ، لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس من يعلم كمن لا يعلم ، وأخافوا المسلمين وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا ، فانعكس عليهم الحال ، وانقلبت إليهم القتال ، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون ، فكما راموا العز ذلوا ، وأرادوا استئصال المسلمين فاستئصلوا ، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة ، ولهذا قال تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) فالذين قتلوا هم المقاتلة والأسراء هم الأصاغر والنساء.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم بن بشير ، أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال : عرضت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم قريظة ، فشكوا في ، فأمر بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد ، فنظروني فلم يجدوني أنبت ، فخلي عني وألحقني بالسبي (٢) ، وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه النسائي أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) أي جعلها لكم من قتلكم لهم (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قيل : خيبر ، وقيل مكة ، رواه مالك عن زيد بن أسلم وقيل فارس والروم ، وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مرادا (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

__________________

(١) المسند ٥ / ٣١١ ، ٣١٢.

(٢) أخرجه أبو داود في الحدود باب ١٨ ، والترمذي في السير باب ٢٩ ، وابن ماجة في الحدود باب ٤ ، والدارمي في السير باب ٢٦.

٣٥٧

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال : أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت : خرجت يوم الخندق أقفوا الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي ، فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة ، قالت : فجلست إلى الأرض ، فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه ، فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم ، فمر وهو يرتجز ويقول [رجز] :

لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل

ما أحسن الموت إذا حان الأجل (٢)

قالت : فقمت فاقتحمت حديقة ، فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفهيم رجل عليه تسبغة له ، تعني المغفر ، فقال عمر رضي الله عنه : ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة ، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز؟ قالت : فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ ، فدخلت فيها ، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه ، فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ، فقال : يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟

قالت : ورمى سعدا رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له ، وقال له : خذها وأنا ابن العرقة ، فأصاب أكحله فقطعه ، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال : اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة ، قالت : وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية ، قالت : فرقأ كلمه وبعث الله تعالى الريح على المشركين (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة ، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد ، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ، ورجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد ، قالت : فجاءه جبريل عليه‌السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار ، فقال : أوقد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح ، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم.

قالت : فلبس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته ، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا ، فمر على بني تميم وهم جيران المسجد ، فقال «من مر بكم؟» قالوا : مر بنا دحية الكلبي ، وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فأتاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء ، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر ، فأشار إليهم إنه الذبح ، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ

__________________

(١) المسند ٦ / ١٤١ ، ١٤٢.

(٢) الرجز لحمل بن سعدانة بن عليم العليمي في تاج العروس (حمل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حمل)

٣٥٨

رضي الله عنه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انزلوا على حكم سعد بن معاذ» فنزلوا ، وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه ، وحف به قومه فقالوا : يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك ، وأهل النكاية ومن قد علمت.

قالت : فلا يرجع إليهم شيئا ولا يلتفت إليهم ، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال : قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال : قال أبو سعيد فلما طلع ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه : سيدنا الله ، قال «أنزلوه» فأنزلوه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «احكم فيهم» قال سعد رضي الله عنه : فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسم أموالهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله» ثم دعا سعد رضي الله عنه ، فقال : اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قال : فانفجر كلمه وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص ، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله.

قالت عائشة رضي الله عنها : فحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قالت : فو الذي نفس محمد بيده ، إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي ، وكانوا كما قال الله تعالى : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) قال علقمة : فقلت أي أمه ، فكيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع؟ قالت : كانت عينه لا تدمع على أحد ، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحوا من هذا ، ولكنه أخصر منه ، وفيه دعا سعد رضي الله عنه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن رضي الله عنهنّ وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة ، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. قال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه ، قالت : فبدأ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٠ ، ومسلم في الجهاد حديث ٦٥.

٣٥٩

أبويك» وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، قالت : ثم قال : «إن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة؟ وكذا رواه معلقا عن الليث ، حدثني يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها فذكره ، وزاد : قالت ثم فعل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما فعلت ، وقد حكى البخاري (١) أن معمرا اضطرب فيه ، فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة ، وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال : قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أريد أن أذكر لك أمرا ، فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك» قالت : قلت : وما هو يا رسول الله؟ قال فرده عليها ، فقالت : وما هو يا رسول الله؟ قالت فقرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) إلى آخر الآية ، قالت : فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة ، قالت : ففرح بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدثنا ابن وكيع ، حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزلت آية التخيير بدأ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عائشة إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك : أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما» فقالت : يا رسول الله وما هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) قالت : فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم استقرأ الحجر فقال : «إن عائشة رضي الله عنها قالت كذا وكذا» فقلن : ونحن نقول مثلما قالت عائشة رضي الله عنهن كلهن. رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به.

قال ابن جرير (٣) : وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل على نسائه أمر أن يخيرهن ، فدخل علي فقال : «سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك» فقلت : وما هو يا رسول الله؟ قال : «إني أمرت أن أخيركن» وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الآيتين ، قالت : فقلت وما الذي تقول : لا تعجلي حتى تستشيري أباك؟ فإني أختار الله

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ٥.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٠.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٩٠.

٣٦٠