تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

على من عداه ، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل ، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقد أورد النسائي هاهنا حديثا فقال : حدثنا إبراهيم بن يعقوب ، حدثني محمد بن الصباح ، حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيدي فقال «إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش في اليوم السابع ، فخلق التربة يوم السبت ، والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين ، والمكروه يوم الثلاثاء ، والنور يوم الأربعاء ، والدواب يوم الخميس ، وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر ، وخلقه من أديم الأرض : أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ، من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث» هكذا أورد هذا الحديث إسنادا ومتنا ، وقد أخرج مسلم والنسائي أيضا من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو من هذا السياق وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال : وقال بعضهم : أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح ، وكذا علله غير واحد من الحفاظ ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [الطلاق : ١٢] الآية ، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة وقال مجاهد وقتادة والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام ، ولكنه يقطعها في طرفة عين ، ولهذا قال تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي المدبر لهذه الأمور ، الذي هو شهيد على أعمال عباده ، يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها ، هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه ، ودانت له العباد والرقاب ، الرحيم بعباده المؤمنين ، فهو عزيز في رحمته رحيم في عزته.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

يقول تعالى مخبرا أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها. وقال مالك عن زيد بن أسلم (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قال : أحسن خلق كل شيء كأنه جعله من المقدم والمؤخر ، ثم لما ذكر تعالى خلق السموات والأرض ، شرع في ذكر خلق الإنسان ، فقال

٣٢١

تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) يعني خلق أبا البشر آدم من طين (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي يتناسلون كذلك من نطفة من بين صلب الرجل وترائب المرأة (ثُمَّ سَوَّاهُ) يعني آدم لما خلقه من تراب ، خلقا سويا مستقيما (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعني العقول (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عزوجل ، فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عزوجل.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أإنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك ، وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قدرتهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم ، الذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) ثم قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة ، كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم ، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور ، قاله قتادة وغير واحد وله أعوان ، وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم وتناولها ملك الموت ، قال مجاهد : حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء ، ورواه زهير بن محمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه مرسلا ، وقاله ابن عباس رضي الله عنهما.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري ، حدثنا عمر بن سمرة عن جعفر بن محمد قال : سمعت أبي يقول : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن» فقال ملك الموت : يا محمد طب نفسا وقر عينا ، فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ، حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.

قال جعفر : بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة ، فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ، ولقنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة. وقال عبد الرزاق : حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهدا يقول : ما على ظهر الأرض من بيت شعر أو مدر إلا

٣٢٢

وملك الموت يطوف به كل يوم مرتين. وقال كعب الأحبار : والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه ، رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤)

يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي اللهعزوجل، حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم ، أي من الحياء والخجل يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك ، كما قال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠] وهكذا هؤلاء يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا) أي إلى دار الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق ، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفارا يكذبون بآيات الله ويخالفون رسله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٩] الآية ، وقال هاهنا (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من الصنفين فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها ، نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك ، (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي سنعاملكم معاملة الناسي ، لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عنه شيء ، بل من باب المقابلة كما قال تعالى : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية : ٣٤] وقوله تعالى : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب كفركم وتكذيبكم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ـ إلى قوله ـ فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٢٤ ـ ٣٠].

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ

٣٢٣

يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧)

يقول تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) أي إنما يصدق بها (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) أي استمعوا لها وأطاعوها قولا وفعلا (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن أتباعهم والانقياد لها كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] ثم قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة ، قال مجاهد والحسن في قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) يعني بذلك قيام الليل.

وعن أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة : هو الصلاة بين العشاءين ، وعن أنس أيضا : هو انتظار صلاة العتمة. ورواه ابن جرير بإسناد جيد. وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي خوفا من وبال عقابه وطمعا في جزيل ثوابه (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية ، ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : [الطويل]

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع (١)

أرانا الهدى بعد العمى ، فقلوبنا

به موقنات أنّ ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا روح وعفان قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «عجب ربنا من رجلين : رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول : ربنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي ، ثار من فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا ، فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع ، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي ، فيقول الله عزوجل للملائكة : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه». وهكذا رواه أبو داود (٣) في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به بنحوه.

__________________

(١) البيت الثالث لعبد الله بن رواحة في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٥ / ٣٦ ، وروح المعاني ٢٣ / ٤٨ ، وتفسير البحر المحيط ٧ / ٣٣٠.

(٢) المسند ١ / ٤١٦.

(٣) كتاب الجهاد باب ٣٦.

٣٢٤

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ـ ثم قال : ـ ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ـ ثم قرأ ـ (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) حتى بلغ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال ـ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ ـ فقلت : بلى يا رسول الله فقال : ـ رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله.

ثم قال ـ : ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» فقلت : بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه ثم قال «كف عليك هذا». فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ، فقال «ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال : على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم» (٢) ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

ورواه ابن جرير (٣) من حديث شعبة عن الحكم قال : سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد في جوف الليل» وتلا هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

ورواه أيضا من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعا بنحوه. ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر ، عن معاذ أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) قال «قيام العبد من الليل» (٤).

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٣١.

(٢) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٢.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٠.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤١.

٣٢٥

جبل قال : كنت مع النبي لله في غزوة تبوك فقال «إن شئت أنبأتك بأبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل» ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ـ الآية ـ فيقومون وهم قليل».

وقال البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا الوليد بن العطاء بن الأغر ، حدثنا عبد الحميد بن سليمان ، حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه ، قال : قال بلال : لما نزلت هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية ، كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء ، فنزلت هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) ثم قال : لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه ، وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق.

وقوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية ، أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد ، لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب ، جزاء وفاقا ، فإن الجزاء من جنس العمل قال الحسن البصري : أخفى قوم عملهم ، فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر ، رواه ابن أبي حاتم.

قال البخاري (١) قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية ، حدثنا. علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) قال : وحدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال الله مثله. قيل لسفيان رواية ، قال : فأي شيء (٢)؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

ثم قال البخاري (٣) : حدثنا إسحاق بن نصر ، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش ، حدثنا أبو

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٢ ، باب ١.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢ ، ٤ ، ٥ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٢ ، باب ٢.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٢ ، باب ١.

٣٢٦

صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ذخرا من بله ما اطلعتم عليه» ثم قرأ (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح : قرأ أبو هريرة قرأت أعين انفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تعالى قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٢) أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق ، قال : ورواه الترمذي في التفسير ، وابن جرير من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله ، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حماد : أحسبه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (٣) رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.

وروى الإمام أحمد (٤) : حدثنا هارون ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول : شهدت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ، ثم قال في آخر حديثه «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» ثم قرأ هذه الآية (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ـ إلى قوله ـ يَعْمَلُونَ) وأخرجه مسلم (٥) في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد ، كلاهما عن ابن وهب به.

وقال ابن جرير (٦) : حدثني العباس بن أبي طالب ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يروي عن ربه عزوجل قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر

__________________

(١) المسند ٢ / ٣١٣.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٥ ، وبدء الخلق باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣١٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٢ ، باب ٢.

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره ١٠ / ٢٤٤ ، ومسلم في الجنة حديث ٢.

(٤) المسند ٥ / ٣٣٤.

(٥) كتاب الجنة حديث ٣ ، ٤.

(٦) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٣.

٣٢٧

على قلب بشر لم يخرجوه.

وقال مسلم (١) أيضا في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر وغيره ، حدثنا سفيان ، حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد ، سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال : سمعته على المنبر يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سأل موسى عليه‌السلام ربه عزوجل : ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال : هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : رضيت رب ، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ، ومثله فقال في الخامسة ، رضيت رضيت ربي ، فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، فيقول : رضيت رب ، قال : رب فأعلاهم منزلة؟ قال : أولئك الذين أردت ، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلم تر عين ، ولم تسمع أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، قال : ومصداقه من كتاب الله عزوجل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآية ، ورواه الترمذي (٢) عن ابن أبي عمر وقال : حسن صحيح. قال : ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه ، والمرفوع أصح.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير المدائني ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، حدثنا زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال ، بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه ، فتقول : قد ان لك أن يكون لنا منك نصيب ، فيقول : من أنت؟ فتقول : أنا من المزيد ، فيمكث معها سبعين سنة ، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه ، فتقول له : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب ، فيقول : من أنت؟ فتقول : أنا التي قال الله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات ، معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم ، وذلك قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ويخبرون أن الله عنهم راض. وروى ابن جرير (٣) : حدثنا سهل بن موسى الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره ، قال : الجنة مائة درجة ، أولها درجة فضة ، وأرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها المسك ، والثانية ذهب ، وأرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها المسك ، والثالثة لؤلؤ ، وأرضها لؤلؤ ، ومساكنها

__________________

(١) كتاب الإيمان حديث ٣١٢.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٢ ، باب ٢.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٣.

٣٢٨

اللؤلؤ ، وآنيتها اللؤلؤ ، وترابها المسك ، وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم تلا هذه الآية (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) الآية.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح الأمين قال «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض ، فإن بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة ، قال : فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث ، قال : فقلت فأين ذهبت الحسنة؟ قال (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) الآية ، قلت : قوله تعالى: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) قال : العبد يعمل سرا أسره إلى لله لم يعلم به الناس ، فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته متبعا لرسله ، بمن كان فاسقا أي خارجا عن طاعة ربه ، مكذبا لرسل الله إليه ، كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١] وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨] وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] الآية ، ولهذا قال تعالى هاهنا (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) أي عند الله يوم القيامة.

وقد ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط ، ولهذا فصل حكمهم فقال (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها وهي الصالحات (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية (نُزُلاً) أي ضيافة وكرامة (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي خرجوا عن الطاعة فمأواهم النار ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، كقوله (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢] الآية قال الفضيل بن عياض : «والله إن الأيدي لموثقة ، وإن الأرجل لمقيدة ، وإن اللهب ليرفعهم ، والملائكة تقمعهم (وَقِيلَ لَهُمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٣.

٣٢٩

ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا.

وقوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) قال ابن عباس : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف. وقال ابن عباس في رواية عنه : يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة : يعني به عذاب القبر. وقال النسائي ، أخبرنا عمرو بن علي ، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، وأبي عبيدة عن عبد الله (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) قال : سنون أصابتهم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثني عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الجزار ، عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الآية (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) قال : القمر والدخان قد مضيا والبطشة واللزام (١) ، ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفا نحوه. وعند البخاري (٢) عن ابن مسعود نحوه. وقال عبد الله بن مسعود أيضا في رواية عنه : العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر ، وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم. قال السدي وغيره : لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير ، فأصيبوا أو غرموا ، ومنهم من جمع له الأمران.

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها ، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها.

قال قتادة : إياكم والإعراض عن ذكر الله ، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة ، وأعوز أشد العوز ، وعظم من أعظم الذنوب ، ولهذا قال تعالى متهددا لمن فعل ذلك (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.

وروى ابن جرير (٣) : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله يقول : ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، أو عق والديه ، أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم ، يقول الله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش به وهذا حديث غريب جدا.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صفات المنافقين حديث ٤٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٢٨.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٤ ، باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٩.

٣٣٠

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٢٥)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى عليه‌السلام أنه آتاه الكتاب ، وهو التوراة ، وقوله تعالى : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) قال قتادة : يعني به ليلة الإسراء ، ثم روي عن أبي العالية الرياحي قال : حدثني ابن عم نبيكم ، يعني ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس ، ورأيت مالكا خازن النار والدجال» في آيات أراهن الله إياه (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا روح بن عبادة. حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية ، عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) قال : جعل موسى هدى لبني إسرائيل ، وفي قوله (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) قال : من لقاء موسى ربه عزوجل. وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب الذي آتيناه (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) كما قال تعالى في سورة الإسراء (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) [الإسراء : ٢].

وقوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي لما كانوا صابرين على أوامر الله ، وترك زواجره ، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ، ويدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا ، سلبوا ذلك المقام ، وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا ، ولهذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) قال قتادة وسفيان : لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان : هكذا كان هؤلاء ، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع : قال سفيان : لا بد للدين من العلم ، كما لا بد للجسد من الخبز.

وقال ابن بنت الشافعي : قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي : سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤساء. قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ)

٣٣١

الآية ، كما قال هنا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي من الاعتقادات والأعمال.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧)

يقول تعالى : أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من قويم السبل ، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [مريم : ٩٨] ولهذا قال (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي هؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين ، فلا يرون منها أحدا ممن يسكنها ويعمرها ، ذهبوا منها (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [الأعراف : ٩٢] كما قال (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] وقال (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ـ إلى قوله ـ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٥ ـ ٤٦] ولهذا قال هاهنا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ، ونجاة من آمن بهم ، لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل متناظرة (أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح ، وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته ، ولهذا قال تعالى : (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي التي لا نبات فيها ، كما قال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف : ٨] أي يبسا لا تنبت شيئا ، وليس المراد من قوله (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أرض مصر فقط ، بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها ، ولكنها مرادة قطعا من هذه الآية ، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرا لتهدمت أبنيتها ، فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة ، وفيه طين أحمر ، فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضا ، لينبت الزرع فيه ، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم ، وطين جديد من غير أرضهم ، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود ابتداء.

قال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال : لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص ، حين دخل بؤونة من أشهر العجم ، فقالوا : أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال : وما ذاك؟ قالوا : إن كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر ، عمدنا إلى جارية بكر

٣٣٢

بين أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإسلام ، إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليه عمر : إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا ، فألقها في النيل.

فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها ، فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد ، فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك ، فنسأل الله أن يجريك. قال : فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة ، قد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له ، ولهذا قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) كما قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) [عبس : ٢٤ ـ ٣١] الآية ، ولهذا قال هاهنا (أَفَلا يُبْصِرُونَ).

وقال ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس في قوله (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) قال : هي التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا إلا ما يأتيها من السيول ، وعن ابن عباس ومجاهد : هي أرض باليمن ، وقال الحسن رحمه‌الله : هي قرى بين اليمن والشام. وقال عكرمة والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد : الأرض الجرز التي لا نبات فيها ، وهي مغبرة ، قلت : وهذا كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) الآيتين.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

يقول تعالى مخبرا عن استعجال الكفار ووقوع بأس الله بهم ، وحلول غضبه ونقمته عليهم ، استبعادا وتكذيبا وعنادا (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي متى تنصر علينا يا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتا علينا وينتقم لك منا ، فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين ، قال الله تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣ ـ ٨٥] الآيتين.

ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النجعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلام الطلقاء ، وقد كانوا قريبا من ألفين ، ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)

٣٣٣

وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) [الشعراء : ١١٨] الآية ، وكقوله (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) [سبأ : ٢٦] الآية ، وقال تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [إبراهيم : ١٥] وقال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وقال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩].

ثم قال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي أعرض عن هؤلاء المشركين ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك ، كقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ١٠٦] الآية ، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعد وسينصرك على من خالفك ، إنه لا يخلف الميعاد. وقوله (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي أنت منتظر وهم منتظرون ويتربصون بكم الدوائر (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك ، وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم ، وحلول عذابه بهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة.

٣٣٤

سورة الأحزاب

وهي مدنية

قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا خلف بن هشام ، حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال : قال لي أبي بن كعب : كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال : قلت ثلاثا وسبعين آية ، فقال : قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ، ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، نكالا من الله ، والله عليم حكيم (١) ، ورواه النسائي من وجه آخر عن عاصم وهو ابن أبي النجود ، وهو ابن بهدلة به ، وهذا إسناد حسن ، وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا ، والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣)

هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأخرى. وقد قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ، ولهذا قال تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي من قرآن وسنة (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي فلا تخفى عليه خافية ، وتوكل على الله ، أي في جميع أمورك وأحوالك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا معروفا حسيا ، وهو أنه كما لا يكون

__________________

(١) المسند ٥ / ١٣٢.

٣٣٥

للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أما له ، كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له ، فقال (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) كقوله عزوجل (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة : ٢] الآية. وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) هذا هو المقصود بالنفي ، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه قبل النبوة ، فكان يقال له زيد بن محمد ، فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) كما قال تعالى في أثناء السورة (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب : ٤٠] وقال هاهنا (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) قال سعيد بن جبير (يَقُولُ الْحَقَ) أي العدل ، وقال قتادة (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي الصراط المستقيم.

وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين ، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس ، وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان ، قال : إن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟ قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يصلي فخطر خطرة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين : قلبا معكم وقلبا معهم ، فأنزل الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) وهكذا رواه الترمذي (٢) عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني ، عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس ، كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به. ثم قال : وهذا حديث حسن ، وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل : يقول ليس ابن رجل آخر ابنك (٣) ، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عزوجل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم

__________________

(١) المسند ١ / ٢٦٧ ، ٢٦٨.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٣ ، باب ١.

(٣) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٥٦.

٣٣٦

الأدعياء ، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط والبر.

قال البخاري رحمه‌الله : حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال : حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) (١) وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما : يا رسول الله إنا كنا ندعو سالما ابنا ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل علي وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرضعيه تحرمي عليه» (٢) الحديث.

ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي ، وتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وقال عزوجل (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) [الأحزاب : ٣٧] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] احترازا عن زوجة الدعي فإنه ليس من الصلب ، فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين «حرّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب» (٣).

فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهى عنه في هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي ، من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدّمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول «أبينيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» (٤) قال أبو عبيدة وغيره : أبينيّ تصغير بني وهذا ظاهر الدلالة ، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر.

وقوله (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وقد قتل في يوم مؤتة سنة

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٣ ، باب ٢ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٦٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٣ ، باب ٩.

(٢) أخرجه مسلم في الرضاع حديث ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٠ ، وأبو داود في النكاح باب ٩ ، والنسائي في النكاح باب ٩ ، والنسائي في النكاح باب ٥٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٧٤ ، ٢٢٨ ، ٢٤٩ ، ٢٦٩.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٣ ، باب ٩ ، ومسلم في الرضاع حديث ٥.

(٤) أخرجه أبو داود في المناسك باب ٦٥ ، والنسائي في المناسك باب ٢٢٢ ، وابن ماجة في المناسك باب ٦٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٣٤ ، ٣٤٣.

٣٣٧

ثمان ، وأيضا ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا بني» ورواه أبو داود والترمذي.

وقوله عزوجل (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا ، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم ، أي عوضا عما فاتهم من النسب ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خرج من مكة عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي ، يا عم يا عم ، فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها : دونك ابنة عمك ، فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها ، فكل أدلى بحجة ، فقال علي رضي الله عنه : أنا أحق بها وهي ابنة عمي : وقال زيد : ابنة أخي ، وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي وخالتها تحتي ، يعني أسماء بنت عميس ، فقضى بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالتها وقال «الخالة بمنزلة الأم» (١) وقال لعلي رضي الله عنه «أنت مني وأنا منك» (٢). وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي» (٣). وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا» ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم بالحق ، وأرضى كلا من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا» (٤). كما قال تعالى : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).

وقال ابن جرير (٥) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكرة رضي الله عنه : قال الله عزوجل (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) فأنا ممن لا يعرف أبوه فأنا من إخوانكم في الدين ، قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه ، وقد جاء في الحديث «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه كفر» (٦) وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم ، ولهذا قال تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).

ثم قال تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلح باب ٦ ، والمغازي باب ٤٣ ، وأبو داود في الطلاق باب ٣٥ ، والترمذي في البر باب ٦.

(٢) أخرجه البخاري في الصلح باب ٦.

(٣) أخرجه البخاري في الصلح باب ٦ ، وفضائل أصحاب النبي باب ١٠ ، والترمذي في المناقب باب ٢٩.

(٤) أخرجه البخاري في الصلح باب ٦.

(٥) تفسير الطبري ١٠ / ٢٥٧.

(٦) أخرجه البخاري في المناقب باب ٥.

٣٣٨

الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع ، فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى آمرا عباده أن يقولوا (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : قد فعلت»(١). وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر» (٢). وفي حديث آخر «إن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطأ. والنسيان وما يكرهون عليه» (٣) وقال تبارك وتعالى هاهنا (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وإنما الإثم على من تعمد الباطل ، كما قال عزوجل (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الآية. وفي الحديث المتقدم «ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كفر». وفي القرآن المنسوخ : فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال : إن الله تعالى بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإنما أنا عبد الله ، فقولوا عبده ورسوله» وربما قال معمر «كما أطرت النصارى ابن مريم» ورواه في الحديث الآخر «ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم» (٥).

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦)

قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحة لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم كان مقدما على اختيارهم لأنفسهم ، كما قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٩٩ ، ٢٠٠.

(٢) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢٠.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الطلاق باب ١٦.

(٤) المسند ١ / ٤٧.

(٥) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ٢٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤.

٣٣٩

وولده والناس أجمعين» (١). وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن يا عمر» (٢) ولهذا قال تعالى في هذه الآية (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

وقال البخاري (٣) عند هذه الآية الكريمة : حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح ، حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرءوا إن شئتم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» تفرد به البخاري ورواه أيضا في الاستقراض ، وابن جرير (٤) وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله ، ورواه أحمد (٥) من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ ، ومن ترك مالا فهو لورثته» (٦) ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه.

وقال تعالى : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي في الحرمة والاحترام ، والتوقير والإكرام والإعظام ، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم ، وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم ، ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك ، وهل يقال لهن أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييبا؟ وفيه قولان ، صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يقال ذلك ، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه.

وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرءا (النبي أولى بالمؤمنين من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٩ ، ٧٠.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨.

(٣) كتاب الاستقراض وأداء الديون باب ١١ ، وتفسير سورة ٣٣ ، في الترجمة ، باب ١.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٢٥٨.

(٥) المسند ٣ / ٢٩٦.

(٦) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٩ ، والفرائض باب ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٨ ، ٣٣٥ ، ٤٦٤.

٣٤٠