تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وقوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ، كما قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] الآية ، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه قال في الآية الأخرى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا ، ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤] ولهذا قال (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان قالا :

حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، وكان بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرا ، وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت.

وقوله (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا ، أي محسنا إليهما ، (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) يعني المؤمنين ، (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قال الطبراني في كتاب العشرة : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد ، حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال :

أنزلت في هذه الآية (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) [العنكبوت : ٨] الآية ، قال : كنت رجلا برا بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ، فيقال: يا قاتل أمه ، فقلت : لا تفعلي يا أمه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوما وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت ، مكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل ، فأصبحت قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء ، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي ، فأكلت.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩)

٣٠١

هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم ، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها ، فقال (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل ، وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله إنها ضمير الشأن والقصة ، وجوز على هذا رفع مثقال ، والأول أولى. وقوله عزوجل (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط ، وجازى عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء : ٤٧] الآية.

وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء ، أو غائبة ذاهبة في ارجاء السموات والأرض ، فإن الله يأتي بها ، لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي لطيف العلم ، فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت ، (خَبِيرٌ) بدبيب النمل في الليل البهيم.

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أنها صخرة تحت الأرضين السبع ، وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك ، ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة ، فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان».

ثم قال (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي بحدودها وفروضها وأوقاتها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي بحسب طاقتك وجهدك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى ، فأمره بالصبر. وقوله (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور وقوله (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) يقول لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارا منك لهم ، واستكبارا عليهم ، ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث «ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، والمخيلة لا يحبها الله» (٢).

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) يقول لا تتكبر

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٨.

(٢) أخرجه أبو داود في اللباس باب ٢٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٦٥ ، ٥ / ٦٣ ، ٦٤ ، ٣٧٨.

٣٠٢

فتحقر عباد الله ، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، وكذا روى العوفي وعكرمة عنه. وقال مالك عن زيد بن أسلم (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تتكلم وأنت معرض ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم. وقال إبراهيم النخعي : يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابن جرير (١) : وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها ، حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها ، فشبه به الرجل المتكبر ، ومنه قول عمرو بن حيي التغلبي [الطويل].

وكنا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّما (٢)

وقال أبو طالب في شعره [الطويل] :

وكنا قديما لا نقر ظلامة

إذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها (٣)

وقوله (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي خيلاء متكبرا جبارا عنيدا ، لا تفعل ذلك يبغضك الله ، ولهذا قال (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي مختال معجب في نفسه ، فخور أي على غيره. وقال تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء : ٣٧] وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى ، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشدد فيه ، فقال «إن الله لا يحب كل مختال فخور» فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ، ويعجبني شراك نعلي ، وعلاقة سوطي ، فقال «ليس ذلك الكبر ، إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» ورواه من طريق أخرى بمثله ، وفيه قصة طويلة ، ومقتل ثابت ووصيته بعد موته.

وقوله (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي امش مقتصدا مشيا ليس بالبطيء المتثبط ، ولا بالسريع المفرط ، بل عدلا وسطا بين بين. وقوله (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ، ولهذا قال (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال مجاهد وغير واحد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه ، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى ، وهذا التشبيه في هذا بالحمير ، يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢١٤.

(٢) البيت للمتلمس في ديوانه ص ٢٤ ، ولسان العرب (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٥ ، ٢ / ١٤٩ ، وتاج العروس (درأ) ، (صعر) ، (كون) ، ولعمرو بن حنيّ التغلبي في تفسير الطبري ١٠ / ٢١٤ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٢ / ٢٧٤ ، ويروى «من درئه» بدل «من ميله».

(٣) البيت في سيرة ابن هشام ١ / ٢٦٩.

٣٠٣

يعود في قيئه» (١).

وقال النسائي عند تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانا» (٢) وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن جعفر بن ربيعة به ، وفي بعض الألفاظ : بالليل ، فالله أعلم.

فهذه وصايا نافعة جدا ، وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم ، وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة ، فلنذكر منها أنموذجا ودستورا إلى ذلك. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا سفيان ، أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال : أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه». وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان ، عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني إياك والتقنع ، فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار».

وقال : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان بن ضمرة ، حدثنا الترمذي بن يحيى قال : قال لقمان لابنه : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام ، يعني السلام ، ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا ، فإن أفاضوا في ذكر الله ، فأجل سهمك معهم ، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال : وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه ، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل ، فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر ، قال : فتفطر ابنه.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي ، حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتخذوا السودان ، فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم ، والنجاشي ، وبلال المؤذن»

__________________

(١) أخرجه البخاري في الهبة باب ٣٠ ، ومسلم في الهبات حديث ٥ ، ٦.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٥ ، ومسلم في الذكر حديث ٨٢ ، والترمذي في الدعوات باب ٥٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٦ ، ٣٢١ ، ٣٦٤.

(٣) المسند ٢ / ٨٧.

٣٠٤

قال أبو القاسم الطبراني أراد الحبش.

فصل في الخمول والتواضع

وذلك متعلق بوصية لقمان عليه‌السلام لابنه. وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابا مفردا ، ونحن نذكر منه مقاصده ، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «رب أشعث ذي طمرين يصفح عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لأبره» ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت ، وعلي بن زيد عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، وزاد «منهم البراء بن مالك».

وقال أبو بكر بن سهل التميمي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن زيد عن عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن ، عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد ، فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ما يبكيك يا معاذ؟ قال : حديث سمعته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سمعته يقول «إن اليسير من الرياء شرك ، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، ينجون من كل غبراء مظلمة».

حدثنا الوليد بن شجاع ، حدثنا عفان بن علي عن حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ، لو قال : اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ، ولم يعطه من الدنيا شيئا». وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله دينارا أو درهما أو فلسا لم يعطه ، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها ، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها ، ولم يمنعها إياه لهوانه عليه ، ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقال أيضا : حدثنا إسحاق ابن إبراهيم ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عوف قال : قال أبو هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصت لهم ، حوائج أحدهم تتجلجل في صدره ، لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم». قال : وأنشدني عمر بن شبة عن ابن عائشة قال : قال عبد الله بن المبارك [الطويل] :

ألا رب ذي طمرين في منزل غدا

زرابيّه مبثوثة ونمارقه

قد اطّردت أنهاره حول قصره

وأشرق والتفّت عليه حدائقه

٣٠٥

وروي أيضا من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا «قال الله : من أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من صلاة ، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك» قال : ثم أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وقال «عجلت منيته ، وقل تراثه ، وقلت بواكيه» وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله إلى الله الغرباء ، قيل : ومن الغرباء؟ قال : الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم.

وقال الفضيل بن عياض : بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أنعم عليك ، ألم أعطك ، ألم أسترك؟ ألم ... ألم ... ألم أخمل ذكرك. ثم قال الفضيل : إن استطعت ألا تعرف فافعل ، وما عليك أن لا يثنى عليك ، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محمودا عند الله. وكان ابن محيريز يقول : اللهم إني أسألك ذكرا خاملا. وكان الخليل بن أحمد يقول : اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك ، واجعلني في نفسي من أوضع خلقك. وعند الناس من أوسط خلقك.

(باب ما جاء في الشهرة)

ثم قال : حدثنا أحمد بن عيسى المصري ، حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : حسب امرئ من الشر إلا من عصم الله أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه ، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن ابن أبي فديك ، عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي ، عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله ، وروي عن الحسن مرسلا نحوه فقيل للحسن : فإنه يشار إليك بالأصابع ، فقال : إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق.

وعن علي رضي الله عنه قال : لا تبدأ لأن تشتهر ، ولا ترفع شخصك لتذكر ، وتعلم واكتم ، واصمت تسلم ، تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه‌الله : ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب : ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وقال محمد بن العلاء : من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس. وقال سماك بن سلمة : إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان : إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.

وقال : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال : رأى طلحة قوما يمشون معه فقال : ذباب طمع وفراش النار.

٣٠٦

وقال ابن إدريس عن هارون بن عنترة عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن : خرج ابن مسعود فاتبعه أناس ، فقال : والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد : كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم ، ردوا ردا شديدا ، فكان ذلك يغمه. وقال عبد الرزاق عن معمر : كان أيوب يطيل قميصه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص ، واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلبسهما أياما ثم خلعهما ، وقال : لم أر الناس يلبسونهما. وقال إبراهيم النخعي : لا تلبس من الثياب ما يشهر في الفقهاء ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري : كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه.

وحدثنا خالد بن خداش ، حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال : كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال : إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه‌الله : إن قوما جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم ، فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه‌السلام قال لبني إسرائيل : ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان ، وقلوبكم قلوب الذئاب ، البسوا ثياب الملوك ، وألينوا قلوبكم بالخشية.

[فصل في حسن الخلق]

قال أبو التياح عن أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحسن الناس خلقا (١) وعن عطاء عن ابن عمر : قيل يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال «أحسنهم خلقا». وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعا «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنه لضعيف العبادة ، وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد» وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعا «ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» وعن عائشة مرفوعا «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار» (٢).

وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكثر ما يدخل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ١١٢ ، ومسلم في الأدب باب ٣٠ ، وأبو داود في الأدب باب ١ ، والترمذي في البر باب ٦٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٧٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٦٤ ، ٩٠ ، ١٣٣.

٣٠٧

الناس الجنة ، فقال «تقوى الله وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار ، فقال «الأجوفان : الفم والفرج» (١) وقال أسامة بن شريك : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان ، فقالوا : يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال «حسن الخلق»(٢).

وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال : ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق (٣) ، وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعا «إن من خياركم أحسنكم أخلاقا» (٤). حدثنا عبد الله بن أبي بدر ، حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق ، كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الأجر ويروح». وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعا «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منزلا في الجنة مساويكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون» (٥) وعن أبي أويس عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا «ألا أخبركم بأكملكم إيمانا أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يؤلفون ويألفون».

وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر بن أبي الفرات قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما حسن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار». وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعا «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن : البخل وسوء الخلق». وقال ميمون بن مهران عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق» وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال : حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو المغيرة الأحمسي ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق ، إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب. كما تذيب الشمس الجليد ، وإن الخلق السيئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل». وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريزة مرفوعا «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ، ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق». وقال محمد بن سيرين : حسن الخلق عون على الدين.

[فصل في ذم الكبر]

قال علقمة عن ابن مسعود رفعه «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر ، ولا يدخل

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٩١ ، ٣٩٣.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٧٨.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٤٢.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب باب ٣٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٦٨ ، والترمذي في البر باب ٤٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٦١ ، ١٨٩ ، ١٩٣ ، ٢١٨.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٣.

٣٠٨

النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان» (١) وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، أكبه الله على وجهه في النار» حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعا «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين ، فيصيبه ما أصابهم من العذاب»(٢).

وقال مالك بن دينار : ركب سليمان بن داود عليهما‌السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن ، فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء ، ثم خفضوه حتى مست قدمه ماء البحر ، فسمعوا صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع قال : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه فيقول : خرج من مجرى البول مرتين.

وقال الشعبي : من قتل اثنين فهو جبار ، ثم تلا (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) وقال الحسن : عجبا لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين ، ثم يتكبر يعارض جبار السموات. قال : حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا حماد بن زيد عن علي بن الحسن عن الضحاك بن سفيان ، فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال : إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه. وقال محمد بن الحسين بن علي ـ من ولد علي رضي الله عنه ـ ما دخل قلب رجل شيء من الكبر ، إلا نقص من عقله بقدر ذلك.

وقال يونس بن عبيد : ليس مع السجود كبر ، ولا مع التوحيد نفاق. ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته ، وذلك قبل أن يستخلف ، فطعن طاوس في جنبه بإصبعه ، وقال : ليس هذا شأن من في بطنه خرء؟ فقال له كالمعتذر إليه : يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا : كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية.

[فصل في الاختيال]

عن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعا «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» (٣)

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤١٢ ، ٤٥١ ، والترمذي في البر باب ٦١.

(٢) أخرجه الترمذي في البر باب ٦١.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٩ ، ١٠.

٣٠٩

ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله. وحدثنا محمد بن بكار ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره (١) ، و «بينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» (٢) وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١)

يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم ، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد ، وجعله إياها لهم سقفا محفوظا ، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار ، وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة الشبه والعلل ، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم ، بل منهم من يجادل في الله ، أي في توحيده وإرساله الرسل ومجادلته في ذلك بغير علم.

ولا مستند من حجة صحيحة ، ولا كتاب مأثور صحيح ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي مبين مضيء (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لهؤلاء المجادلين في توحيد الله (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي على رسوله من الشرائع المطهرة (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين ، قال الله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه ، ولهذا قال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ).

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤)

يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه ، ولهذا قال (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي في عمله باتباع ما به أمر ، وترك ما عنه زجر (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في اللباس باب ٥ ، ٢٠.

(٢) أخرجه مسلم في اللباس حديث ٥٠ ، ٥١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٥٣١.

٣١٠

بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي فقد أخذ موثقا من الله متينا لا يعذبه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به ، فإن قدر الله نافذ فيهم ، وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا ، أي فيجزيهم عليه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا تخفى عليه خافية ، ثم قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) أي في الدنيا (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي نلجئهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فظيع صعب مشق على النفوس ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٧٠].

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦)

يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له ، ولهذا قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ثم قال تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو خلقه وملكه (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي الغني عما سواه. وكل شيء فقير إليه ، الحميد في جميع ما خلق ، له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع ، وهو المحمود في الأمور كلها.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٢٨)

يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمده سبعة أبحر معه ، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مددا.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٢٢٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٤٨ ، والوتر باب ٥ ، والترمذي في الدعوات باب ٧٥ ، ١١٢ ، والنسائي في الطهارة باب ١١٩ ، والتطبيق باب ٤٧ ، ٧١ ، وقيام الليل باب ٥١ ، وابن ماجة في الدعاء باب ٣ ، والإقامة باب ١١٧ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ١ / ٦٦ ، ١١٨ ، ١٥٠ ، ٦ / ٥٨ ، ٢٠١.

٣١١

وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) [الكهف : ١٠٩] فليس المراد بقوله (بِمِثْلِهِ) آخر فقط بل بمثله ثم بمثله ، ثم بمثله ثم هلم جرا ، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.

قال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام. وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.

وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية ، يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله ، والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول.

وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود. قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قولك (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلاكما» قالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية ، وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن يسار ، وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية ، لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله أعلم.

وقوله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه ، حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه. وقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة ، الجميع هين عليه ، (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٥] أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة ، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٢ ـ ١٣] وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة ، ولهذا قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية.

٣١٢

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠)

يخبر تعالى أنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك ، ويقصر هذا ، وهذا يكون زمن الصيف ، يطول النهار إلى الغاية ، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار ، وهذا يكون في الشتاء (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قيل إلى غاية محدودة ، وقيل إلى يوم القيامة ، وكلا المعنيين صحيح ، ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت» (١). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس أنه قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها ، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها ، قال : وكذلك القمر ، إسناده صحيح.

وقوله (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) كقوله (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحج : ٧٠] ومعنى هذا أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء ، كقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] الآية. وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق ، أي الموجود الحق الإله الحق ، وأن كل ما سواه باطل ، فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ، لأن كل ما في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده ، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه ، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء ، فكل خاضع حقير بالنسبة إليه.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣٢)

يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر لتجري فيه الفلك بأمره ، أي بلطفه وتسخيره ، فإنه لو لا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت ، ولهذا قال (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي من

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٦ ، باب ١ ، وبدء الخلق باب ٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٠.

٣١٣

قدرته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي صبار في الضراء شكور في الرخاء ، ثم قال تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) أي كالجبال والغمام (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] وقال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] الآية.

ثم قال تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال مجاهد : أي كافر كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥]. وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل ، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر : ٣٢] الآية ، فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل ، ويحتمل أن يكون مرادا هنا أيضا ، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في البحر ، ثم بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات ، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا والحالة هذه والله أعلم. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) فالختار هو الغدار ، قاله مجاهد والحسن وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم : وهو الذي كلما عاهد نقض عهده ، والختر أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب : [الوافر]

وإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر (١)

وقوله (كَفُورٍ) أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣)

يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد ، وآمرا لهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه. لم يقبل منه ، ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ، فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه ، وليس من ذلك شيء بل كان ما قال تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١٢٠].

قال وهب بن منبه : قال عزيز عليه‌السلام : لما رأيت بلاء قومي ، اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي ، فضرعت إلى ربي وصليت وصمت ، فأنا في ذلك أتضرع أبكي ، إذ أتاني الملك فقلت له ، أخبرني هل تشفع أرواح المصدقين للظلمة أو الآباء لأبنائهم؟ قال : إن القيامة فيها

__________________

(١) البيت لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص ١٠٩ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٢٢٤ ، وتفسير البحر المحيط ٧ / ١٧٧ ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٤ / ٥٤.

٣١٤

فصل القضاء ، وملك ظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن ، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ، ولا ولد عن والده ، ولا أخ عن أخيه ، ولا عبد عن سيده ، ولا يهتم أحد به غيره ، ولا يحزن لحزنه ، ولا أحد يرحمه ، كل مشفق على نفسه ، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان ، كل يهمه همه ، ويبكي عوله ، ويحمل وزره ، ولا يحمل وزره معه غيره ، رواه ابن أبي حاتم.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها ، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ، ومن يشاء الله من خلقه ، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا ، علم الملائكة الموكلون بذلك ، ومن شاء الله من خلقه ، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غدا في دنياها وأخراها (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان ، لا علم لأحد بذلك ، وهذه شبيهة بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] الآية. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بريدة ، سمعت أبي بريدة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «خمس لا يعلمهن إلا الله عزوجل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجوه.

[حديث ابن عمر] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) انفرد بإخراجه البخاري (٣) ، فرواه في كتاب الاستسقاء في صحيحه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان بن سعيد الثوري به. ورواه في التفسير من وجه آخر ، فقال : حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عمر بن محمد بن زيد بن

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٥٣.

(٢) المسند ٢ / ٢٤ ، ٥٢ ، ٥٨.

(٣) كتاب الاستسقاء باب ٢٩.

٣١٥

عبد الله بن عمر أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مفاتيح الغيب خمس» ثم قرأ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) (١) انفرد به أيضا. ورواه الإمام أحمد (٢) عن غندر عن شعبة عن عمر بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

[حديث ابن مسعود] رضي الله عنه. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى عن شعبة ، حدثني عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال : قال عبد الله : أوتي نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وكذا رواه عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة به. وزاد في آخره. قال : قلت له أنت سمعته من عبد الله؟ قال : نعم ، أكثر من خمسين مرة ، ورواه أيضا عن وكيع عن مسعر عن عمرو بن مرة به. وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ، ولم يخرجوه.

[حديث أبي هريرة] قال البخاري (٤) عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوما بارزا للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ولقائه ، وتؤمن بالبعث الآخر» قال : يا رسول الله ما الإسلام؟ قال «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان» قال : يا رسول الله ما الإحسان؟ قال «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال : يا رسول الله متى الساعة؟ قال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها ، وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ، (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) الآية ، ثم انصرف الرجل فقال «ردوه علي» فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال : «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم» ورواه البخاري أيضا في كتاب الإيمان (٥) ، ومسلم (٦) عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣١ ، باب ١.

(٢) المسند ٢ / ٨٥ ، ٨٦.

(٣) المسند ١ / ٣٨٦ ، ٤٣٨ ، ٤٤٥.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣١ ، باب ١.

(٥) باب ٣٧.

(٦) كتاب الإيمان حديث ٥ ، ٧.

٣١٦

طرق عن أبي حيان به. وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري ، وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله ، وهو من أفراد مسلم.

[حديث ابن عباس] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا فأتاه جبريل ، فجلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضعا كفيه على ركبتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله : حدثني ما الإسلام؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإسلام أن تسلم وجهك لله عزوجل ، وتشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله» قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال «إذا فعلت ذلك فقد أسلمت» قال : يا رسول الله ، فحدثني ما الإيمان؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر ، والملائكة والكتاب والنبيين ، وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت ، وتؤمن بالجنة والنار ، والحساب والميزان ، وتؤمن بالقدر كله : خيره وشره» قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال «إذا فعلت ذلك فقد آمنت».

قال : يا رسول الله حدثني ما الإحسان؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك» قال : يا رسول الله فحدثني متى الساعة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ـ سبحان الله ـ في خمس لا يعلمهن إلا هو (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك ـ قال : أجل يا رسول الله ، فحدثني ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا رأيت الأمة ولدت ربتها ـ أو ربها ـ ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان ، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس ، فذلك من معالم الساعة وأشراطها» قال : يا رسول الله ومن أصحاب الشاء الحفاة الجياع العالة؟ قال «العرب» حديث غريب ، ولم يخرجوه.

[حديث رجل من بني عامر] روى الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن خراش عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أألج؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخادمة «اخرجي إليه ، فإنه لا يحسن الاستئذان ، فقولي له فليقل : السلام عليكم ، أأدخل؟» قال : فسمعته يقول ذلك ، فقلت : السلام عليكم ، أأدخل؟ فأذن لي فدخلت ، فقلت : بم أتيتنا به؟ قال «لم آتكم إلا بخير ، أتيتكم بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأن تدعوا اللات والعزى ، وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات ، وأن تصوموا من السنة شهرا ، وأن تحجوا البيت ، وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم» قال : فقال فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ قال «قد علم الله عزوجل خيرا ، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عزوجل : الخمس (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي

__________________

(١) المسند ١ / ٣١٨ ، ٣١٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٦٨ ، ٣٦٩.

٣١٧

الْأَرْحامِ) الآية ، وهذا إسناد صحيح.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى ، فأخبرني ما تلد ، وبلادنا مجدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث ، وقد علمت متى ولدت ، فأخبرني متى أموت فأنزل الله عزوجل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ـ إلى قوله ـ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) قال مجاهد: وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١) وقال الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) (٢).

وقوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) قال قتادة : أشياء استأثر الله بهن ، فلم يطلع عليهنّ ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ، أو في أي شهر ، أو ليل أو نهار (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلا أو نهارا (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى ، أحمر أو أسود ، وما هو (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أخير أم شر ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غدا ، لعلك المصاب غدا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض ، أفي بحر أم بر أو سهل أو جبل (٣).

وقد جاء في الحديث «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة بن زيد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما جعل الله ميتة عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة».

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن أبي إسحاق عن مطر بن عكاش قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قضى الله ميتة عبد بأرض جعل له إليها حاجة» (٤) وهكذا رواه الترمذي في القدر من حديث سفيان الثوري به ، ثم قال : حسن غريب ، ولا يعرف لمطر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير هذا الحديث ، وقد رواه أبو داود في المراسيل ، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن أبي المليح بن أسامة عن أبي عزة

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٢٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٢٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٢٦.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٢٧.

(٥) المسند ٣ / ٤٢٩.

٣١٨

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها ـ أو قال ـ بها حاجة» وأبو عزة هذا هو يسار بن عبيد الله ، ويقال ابن عبد الهذلي. وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية ، وقال : صحيح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني ، حدثنا المؤمل بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي عزة الهذلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ـ إلى ـ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

[حديث آخر] قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ومحمد بن يحيى القطعي قالا : حدثنا عمر بن علي ، حدثنا إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرفعه إلا عمر بن علي المقدمي. وقال ابن أبي الدنيا : حدثني سليمان بن أبي مسيح قال : أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان [البسيط] :

فما تزود مما كان يجمعه

سوى حنوط غداة البين مع خرق

وغير نفحة أعواد تشب له

وقل ذلك من زاد لمنطلق

لا تأسين على شيء فكل فتى

إلى منيته سيار في عنق

وكل من ظن أن الموت يخطئه

معلل بأعاليل من الحمق (١)

بأيما بلدة تقدر منيته

إن لا يسير إليها طائعا يسق

أورده الحافظ ابن عساكر رحمه‌الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث ، وهو أعشى همدان ، وكان الشعبي زوج أخته ، وهو مزوج بأخت الشعبي أيضا ، وقد كان ممن طلب العلم والتفقه ، ثم عدل إلى صناعة الشعر فعرف به ، وقد روى ابن ماجة عن أحمد بن ثابت وعمر بن شبة ، كلاهما عن عمر بن علي مرفوعا : «إذا كان أجل أحدكم بأرض أو ثبته له إليها حاجة ، فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله عزوجل ، فتقول الأرض يوم القيامة : رب هذا ما أودعتني» (٢) ، قال الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له إليها حاجة».

__________________

(١) لأبي دؤاد الأيادي بيت له نفس الصدر وهو :

وكل من ظن أن الموت مخطئه

معلّل بسواء الحقّ مكذوب

والبيت في ديوان أبي دؤاد ص ٢٩٤ ، والإنصاف ص ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٣٨ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٤ ، وهو بلا نسبة في الدرر ٣ / ٩٣ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٣٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣١ ، بلفظ «استودعتني» بدل «أودعتني».

٣١٩

سورة السجدة

وهي مكية

روى البخاري (١) في كتاب الجمعة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] ورواه مسلم (٢) أيضا من حديث سفيان الثوري به. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا الحسن بن صالح عن ليث عن أبي الزبير عن جابر قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة ، وتبارك الذي بيده الملك ، تفرد به أحمد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا. وقوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ثم قال تعالى مخبرا عن المشركين أم (يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي يتبعون الحق.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦)

يخبر تعالى أنه خالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، وقد تقدم الكلام على ذلك (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي بل هو. المالك لأزمة الأمور ، الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء ، القادر على كل شيء ، فلا ولي لخلقه سواه ، ولا شفيع إلا من بعد إذنه (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) يعني أيها العابدون غيره المتوكلون

__________________

(١) كتاب الجمعة باب ١٠.

(٢) كتاب الجمعة حديث ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٦.

(٣) المسند ٣ / ٣٤٠.

٣٢٠