تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وقوله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقال قتادة : مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره ، وقال مثل هذا ابن جرير ، وقد أنشد بعض المفسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف :

إذا سكن الغدير على صفاء

وجنب أن يحركه النسيم

ترى فيه السماء بلا امتراء

كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي

يرى في صفوها الله العظيم

وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شيء ، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه ، الحكيم في أقواله وأفعاله شرعا وقدرا ، وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) قال : لا إله إلا الله.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩)

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به ، العابدين معه غيره ، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ، ملك له ، كما كانوا في تلبيتهم يقولون :

لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. فقال تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي يرتضي أحدكم أن يكون عبده شريكا له في ماله فهو وهو فيه على السواء (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي تخافون أن يقاسموكم الأموال.

قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك ، وليس له ذاك ، كذلك الله لا شريك له ، والمعنى إن أحدكم يأنف من ذلك ، فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟ وهذا كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) [النحل : ٦٣] أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون ، أم يدسه في التراب؟ فهم يأنفون من البنات ، وجعلوا الملائكة بنات الله ، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ، فهذا أغلظ الكفر ، وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه ، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك ، أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قال الطبراني : حدثنا محمود بن الفرج الأصفهاني ، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي ، حدثنا حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان يلبي

٢٨١

أهل الشرك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. فأنزل الله تعال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١).

ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى. قال تعالى : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سفها من أنفسهم وجهلا (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي المشركون (أَهْواءَهُمْ) أي في عبادتهم الأنداد بغير علم (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ولا محيد لهم عنه ، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٢)

يقول تعالى : فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم ، الذي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢]. وفي الحديث «إني خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» (٢) وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام ، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية.

وقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها ، فيكون خبرا بمعنى الطلب ، كقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] وهو معنى حسن صحيح ، وقال آخرون : هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي لدين الله ، وقال البخاري : قوله (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لدين الله ، خلق الأولين دين الأولين ، الدين والفطرة الإسلام : حدثنا عبدان : أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٢٩٨.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

٢٨٢

عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟» ثم يقول (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به ، وأخرجاه أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة ، فمنهم الأسود بن سريع التميمي.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغزوت معه فأصبت ظهرا ، فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟» فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال «لا إنما خياركم أبناء المشركين ـ ثم قال ـ لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية ـ وقال ـ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها» ورواه النسائي في كتاب السير عن زياد بن أيوب عن هشيم ، عن يونس وهو ابن عبيد بن الحسن البصري به.

ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري. قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا هاشم ، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه ، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا».

ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي. قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أولاد المشركين ، فقال «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم» (٥) أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا بذلك.

وقد قال الإمام أحمد (٦) أيضا : حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة ، أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : أتى علي زمان وأنا أقول : أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين ، وأولاد المشركين مع المشركين ، حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنهم ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٣ ، ٢٤.

(٢) المسند ٣ / ٤٣٥ ، ٤ / ٢٤٥.

(٣) المسند ٣ / ٣٥٣.

(٤) المسند ١ / ٣٢٨.

(٥) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٩٣ ، ومسلم في القدر حديث ٢٦ ، ٢٧ ، ٢٨.

(٦) المسند ٥ / ٧٣.

٢٨٣

فقال «الله أعلم بما كانوا عاملين». قال : فلقيت الرجل فأخبرني ، فأمسكت عن قولي.

ومنهم عياض بن حمار المجاشعي. قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب ذات يوم ، فقال في خطبته «إن ربي عزوجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل ما نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله عزوجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان : ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : يا رب إذا يثلغ رأسي فيدعه خبزة ، قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك ، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ـ قال ـ : وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير متصدق وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» وذكر البخيل أو الكذاب والشنظير : الفحاش (١). انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق عن قتادة به.

وقوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس ، فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦] الآية. وقوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) قال ابن زيد وابن جريج : أي راجعين إليه. (وَاتَّقُوهُ) أي خافوه وراقبوه ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهي الطاعة العظيمة ، (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يوسف بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال : مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال : ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ : ثلاث وهن المنجيات : الإخلاص وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها ، والصلاة وهي الملة ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر : صدقت. حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر رضي الله عنه قال لمعاذ : ما قوام هذا الأمر؟ فذكر نحوه (٣).

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٦٢ ، ١٦٣.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ١٨٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٨٣.

٢٨٤

وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه ، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقرأ بعضهم : فارقوا دينهم ، أي تركوه وراء ظهورهم ، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) [الأنعام : ١٥٩] الآية ، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة ، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء ، وهذه الأمة أيضا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة ، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه ، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال «ما أنا عليه وأصحابي».

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٧)

يقول تعالى مخبرا عن الناس أنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له ، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هي لام العاقبة عند بعضهم ، ولام التعليل عند آخرين ، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك ، ثم توعدهم بقوله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال بعضهم والله لو توعدني حارس درب لخفت منه ، فكيف والمتوعد هاهنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون؟ ثم قال منكرا على المشركين فيما اختلقوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي حجة (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) أي ينطق (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) وهذا استفهام إنكار ، أي لم يكن لهم شيء من ذلك.

ثم قال تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله ووفقه ، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ١٠] أي يفرح في نفسه ويفخر على غيره ، وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية. قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر

٢٨٥

فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (١). وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله ، فيوسع على قوم ويضيق على آخرين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠)

يقول تعالى آمرا بإعطاء ذي القربى حقه أي من البر والصلة ، (وَالْمِسْكِينَ) وهو الذي لا شيء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته ، (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره ، (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم ، فهذا لا ثواب له عند الله ، بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب والشعبي ، وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه ، إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، قاله الضحاك ، واستدل بقوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه.

وقال ابن عباس : الربا رباءان : فربا لا يصح ، يعني ربا البيع؟ وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها ، وأضعافها ، ثم تلا هذه الآية (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) وإنما الثواب عند الله في الزكاة ، ولهذا قال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء. كما جاء في الصحيح «وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها ، كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد» (٢).

وقوله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أي هو الخالق الرزاق ، يخرج الإنسان من بطن أمه عريانا لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوة ، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن سلام أبي شرحبيل عن حبة وسواء ابني خالد قالا : دخلنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٦ / ١٥ ، ١٦.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٨ ، والتوحيد باب ٢٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ٦٣ ، ٦٤.

(٣) المسند ٣ / ٤٦٩.

٢٨٦

يصلح شيئا فأعناه ، فقال «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يرزقه الله عزوجل».

وقوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي بعد هذه الحياة ، (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي يوم القيامة. وقوله تعالى : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أي الذين تعبدونهم من دون الله (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة ، ولهذا قال بعد هذا كله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد ، بل هو الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) (٤٢)

قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي وغيرهم : المراد بالبر هاهنا الفيافي ، وبالبحر الأمصار والقرى. وفي رواية عن ابن عباس وعكرمة : البحر الأمصار ، والقرى ما كان منهما على جانب نهر. وقال آخرون بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر هو البحر المعروف. وقال زيد بن رفيع (ظَهَرَ الْفَسادُ) يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط ، وعن البحر تعمى دوابه ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الأعرج عن مجاهد (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال : فساد البر قتل ابن آدم ، وفساد البحر أخذ السفينة غصبا.

وقال عطاء الخراساني : المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر جزائره. والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون ، ويؤيده ما قاله محمد بن إسحاق في السيرة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب إليه ببحره ، يعني ببلده ، ومعنى قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي.

وقال أبو العالية : من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود «لحدّ يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا» (١) والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات ، وإذا تركت المعاصي كان سببا في حصول

__________________

(١) لم نجد الحديث بهذا اللفظ في سنن أبي داود ، والحديث بلفظ : «حدّ يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من مطر ...» أخرجه النسائي في السارق باب ٧ ، وابن ماجة في الحدود باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٦٢ ، ٤٠٢.

٢٨٧

البركات من السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية ، وهو تركها ، فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف ، فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج ، قيل للأرض : أخرجي بركتك ، فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها ، ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس ، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيح : «أن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» (١).

وقال الإمام أحمد بن حنبل (٢) : حدثنا محمد والحسين قالا : حدثنا عوف عن أبي قحذم قال : وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد ، صرة فيها حب ، يعني من بر ، أمثال النوى عليه مكتوب : هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل ، وروى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد هاهنا الشرك ، وفيه نظر. وقوله تعالى : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) الآية ، أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختبارا منه لهم ومجازاة على صنيعهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي عن المعاصي ، كما قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ١٦٨] ثم قال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبلكم (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ(٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤٥)

يقول تعالى آمرا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي يوم القيامة إذا راد كونه فلا راد له (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يتفرقون ، ففريق في الجنة وفريق في السعير ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي يجازيهم مجازاة الفضل ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٢ ، ومسلم في الجنائز باب ٦١.

(٢) المسند ٢ / ٢٩٦.

٢٨٨

عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها ، ولهذا قال تعالى : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) أي في البحر وإنما سيرها بالريح (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم ، وقطر إلى قطر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى.

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس ، فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا ، كقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الآية (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) (٥١)

يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء ، فقال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) إما من البحر كما ذكره غير واحد ، أو مما يشاء الله عزوجل (فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) أي يمده فيكثره وينميه ، ويجعل من القليل كثير ، ينشئ سحابة ترى في رأي العين مثل الترس ، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق ، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالا مملوءة ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ـ إلى قوله ـ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٥٧] وكذلك قال هاهنا (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة : يعني قطعا. وقال غيره : متراكما ، كما قاله الضحاك. وقال غيره : أسود من كثرة الماء ، تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض.

٢٨٩

وقوله تعالى : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي فترى المطر وهو القطر ، يخرج من بين ذلك السحاب (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي إليه يفرحون لحاجتهم بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) معنى الكلام أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر ، كانوا قنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك ، فلما جاءهم جاءهم على فاقة ، فوقع منهم موقعا عظيما ، وقد اختلف النحاة في قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) فقال ابن جرير : هو تأكيد ، وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون : من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله ، أي الإنزال لمبلسين ، ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس ، ويكون معنى الكلام أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله ، ومن قبله أيضا قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت ، فترقبوه في إبانه ، فتأخر ، ثم مضت مدة فترقبوه فتأخر ، ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط ، فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ولهذا قال تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) يعني المطر (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها).

ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها فقال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم قال تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) يقول تعالى: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه ، فرأوه مصفرا ، أي قد أصفر وشرع في الفساد لظلوا من بعده ، أي بعد هذا الحال ، يكفرون ، أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم. كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ـ إلى قوله ـ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة : ٦٣ ـ ٦٧].

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : الرياح ثمانية : أربعة منها رحمة ، وأربعة عذاب ، فأما الرحمة : فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وأما العذاب : فالعقيم والصرصر وهما في البر ، والعاصف والقاصف وهما في البحر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد الله بن عياش ، حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني الأرض الثانية ـ فلما أراد أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا ، فقال : يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور ، قال له الجبار تبارك وتعالى : لا إذا تكفأ الأرض وما عليها ، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم ، فهي التي قال الله في كتابه (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه.

٢٩٠

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٥٣)

يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مع ذلك مدبرون عنك ، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم بل ذلك إلى الله ، فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وليس ذلك لأحد سواه ، ولهذا قال تعالى : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال المؤمنين ، والأول مثل الكافرين ، كما قال تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام : ٣٦].

وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال عمر : يا رسول الله ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون» (١) وتأولته عائشة على أنه قال «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق» (٢). وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة.

والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه‌السلام».

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٥٤)

ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال ، فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم يصير عظاما ، ثم تكسى العظام لحما ، وينفخ فيه الروح ، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى ، ثم يشب قليلا قليلا حتى يكون صغيرا ، ثم حدثا ثم مراهقا شابا. وهو القوة بعد الضعف ، ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم ، وهو

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٧٧ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٧٢ ، ٣ / ١٠٤ ، ١٧٢ ، ٢٢٠ ، ٢٦٣.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ١٧٠.

٢٩١

الضعف بعد القوة ، فتضعف الهمة والحركة والبطش ، وتشيب اللمة ، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن فضيل ويزيد ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي قال : قرأت على ابن عمر (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (٢) (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) فقال «الله الذي خلقكم من ضعف (٣) ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا» ثم قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قرأت علي ، فأخذ علي كما أخذت عليك (٤) ، ورواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث فضيل ، ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧)

يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا من عبادة الأوثان ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا ، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا ، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. قال الله تعالى : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) اي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا ، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في كتاب الأعمال (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال الله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي اعتذارهم عما فعلوا (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا ، كما قال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

__________________

(١) المسند ٢ / ٥٨ ، ٥٩.

(٢) ضعف : بفتح الضاد.

(٣) ضعف : بضم الضاد.

(٤) أخرجه أبو داود في الحروف باب ١٠ ، ١١ ، والترمذي في القرآن باب ٤.

٢٩٢

يقول تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي قد بينا لهم الحق ، ووضحناه لهم ، وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويتبعوه (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي لو رأوا أي آية كانت ، سواء كانت باقتراحهم أو غيره ، لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل ، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] ولهذا قال هاهنا (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم ، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي بل اثبت على ما بعثك الله به ، فإنه الحق الذي لا مرية فيه ، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع ، بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة : نادى رجل من الخوارج عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة ، فقال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥] فأنصت له علي حتى فهم ما قال ، فأجابه وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

وقد رواه ابن جرير (١) من وجه آخر فقال : حدثنا وكيع ، حدثنا يحيى بن آدم عن شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن علي بن ربيعة قال : نادى رجل من الخوارج عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر ، فقال (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

[طريق أخرى] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال : صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر ، فناداه رجل من الخوارج (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

(ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر)

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيب أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم ، فقال «إنه يلبس علينا القرآن ، فإن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٠٠.

(٢) المسند ٣ / ٤٧١ ، ٥ / ٣٦٨.

٢٩٣

الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» وهذا إسناد حسن ، ومتن حسن ، وفيه سر عجيب ، ونبأ غريب ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به ، فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام.

آخر تفسير سورة الروم. ولله الحمد والمنة.

٢٩٤

سورة لقمان

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

تقدم في سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة ، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين ، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة ، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم ، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة ، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك لم يراءوا به ، ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكورا ، فمن فعل ذلك كذلك ، فهو من الذين قال الله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧)

لما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٣] الآية ، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب ، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال : هو والله الغناء.

روى ابن جرير (١) : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٠٢ ، ٢٠٣.

٢٩٥

سَبِيلِ اللهِ) فقال عبد الله بن مسعود : الغناء والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : الغناء (١) ، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة.

وقال الحسن البصري : نزلت هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) في الغناء والمزامير. وقال قتادة : قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والله لعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ، وما يضر على ما ينفع ، وقيل : أراد بقوله (يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) اشتراء المغنيات من الجواري. قال ابن أبي حاتم ، حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع عن خلاد الصفار عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عزوجل علي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب ، وضعف علي بن يزيد المذكور.

(قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء ، والله أعلم.

وقال الضحاك في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : يعني الشرك ، وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله. وقوله (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله ، وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة أو تعليلا للأمر القدري ، أي قيضوا لذلك ليكونوا كذلك. وقوله تعالى : (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزوا يستهزئ بها. وقال قتادة : يعني ويتخذ آيات الله هزوا ، وقول مجاهد أولى.

وقوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر. ثم قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به من صمم ، كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها ، (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي يوم القيامة ، يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٢٠٣.

٢٩٦

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩)

هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة ، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنساء والنضرة والسماع ، الذي لم يخطر ببال أحد وهم في ذلك مقيمون دائما فيها ، لا يظعنون دائما ولا يبغون عنها حولا. وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد ، لأنه الكريم المنان الفعال لما يشاء القادر على كل شيء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي قد قهر كل شيء ودان له كل شيء (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله ، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤] الآية. وقوله (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢].

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١)

يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ، فقال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) قال الحسن وقتادة : ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، لها عمد لا ترونها ، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد بما أغنى عن إعادته ، (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء ، ولهذا قال (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تميد بكم.

وقوله تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها ، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي من كل زوج من النبات كريم ، أي حسن المنظر. وقال الشعبي : والناس أيضا من نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم. وقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) أي هذا الذي ذكره الله تعالى من خلق السموات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره ، وحده لا شريك له في ذلك ، ولهذا قال تعالى : (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد (بَلِ الظَّالِمُونَ) يعني المشركين بالله العابدين معه غيره (فِي ضَلالٍ) أي جهل وعمى

٢٩٧

(مُبِينٍ) أي واضح ظاهر لا خفاء به.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢)

اختلف السلف في لقمان : هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين ، الأكثرون على الثاني. وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير : قلت لجابر بن عبد الله : ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال : كان قصيرا أفطس من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : كان لقمان من سودان مصر ، ذا مشافر ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال الأوزاعي : حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله ، فقال له سعيد بن المسيب : لا تحزن من أجل أنك أسود ، فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان : بلال ، ومهجع مولى عمر بن الخطاب ، ولقمان الحكيم كان أسود نوبيا ذا مشافر.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة ، فذبحها ، قال : أخرج أطيب مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ، ثم قال : اذبح لنا هذه الشاة ، فذبحها ، قال : أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه : أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها ، فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها ، فأخرجتهما؟ فقال لقمان : إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ، ولا أخبث منهما إذا خبثا.

وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد : كان لقمان عبدا صالحا ولم يكن نبيا.

وقال الأعمش : قال مجاهد : كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين ، مشقق القدمين. وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد : كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا ، غليظ الشفتين ، مصفح القدمين ، قاضيا على بني إسرائيل ، وذكر غيره أنه كان قاضيا على بني إسرائيل في زمان داود عليه‌السلام.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا الحكم ، حدثنا عمرو بن قيس قال : كان لقمان عبدا أسود ، غليظ الشفتين ، مصفح القدمين ، فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم ، فقال له : ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال : نعم ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٢٠٩.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٢٠٩.

٢٩٨

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال : إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته ، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك ، فقال له : ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال : بلى ، قال : فما بلغ بك ما أرى؟ قال : قدر الله ، وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركي ما لا يعنيني ، فهذه الآثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبيا ، ومنها ما هو مشعر بذلك ، لأن كونه عبدا قد مسه الرق ينافي كونه نبيا ، لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها ، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا ، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة إن صح السند إليه ، فإنه رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة ، قال : كان لقمان نبيا ، وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف ، والله أعلم.

وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة ، قال : وقف رجل على لقمان الحكيم ، فقال : أنت لقمان ، أنت عبد بني الحسحاس؟ قال : نعم ، قال : أنت راعي الغنم؟ قال : نعم ، قال : أنت الأسود؟ قال : أما سوادي فظاهر ، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال : وطء الناس بساطك ، وغشيهم بابك ، ورضاهم بقولك. قال : يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك ، قال لقمان : غضي بصري وكفي لساني ، وعفة طعمتي وحفظي فرجي ، وقولي بصدق ، ووفائي بعهدي ، وتكرمتي ضيفي ، وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني ، فذاك الذي صيرني إلى ما ترى.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن عبدة بن رباح ، عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم ، فقال : ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال ، ولكنه كان رجلا صمصامة سكيتا ، طويل التفكر ، عميق النظر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع ، ولا يبول ولا يتغوط ، ولا يغتسل ، ولا يعبث ولا يضحك ، وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد أولاد ، فماتوا فلم يبك عليهم ، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر ، فبذلك أوتي ما أوتي (١).

وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم فقال : حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الوليد ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي ، حدثنا سعيد عن ابن بشير قتادة قال : خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة ، فاختار الحكمة على النبوة ، قال : فأتاه جبريل وهو نائم ، فذر عليه الحكمة ، أو رش عليه الحكمة ، قال : فأصبح ينطق بها ، قال سعيد : فسمعت عن قتادة يقول : قيل للقمان : كيف اخترت الحكمة على النبوة ، وقد خيرك ربك؟ فقال : إنه لو

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٣١٢.

٢٩٩

أرسل إلى بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه ، ولكنت أرجو أن أقوم بها ، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة ، فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير ، وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه ، فالله أعلم ، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أي الفقه في الإسلام ، ولم يكن نبيا ولم يوح إليه.

وقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أي الفهم والعلم والتعبير (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي أمرناه أن يشكر الله عزوجل على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم : ١٤]. وقوله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا ، فإنه الغني عما سواه ، فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥)

يقول تعالى مخبرا عن وصية لقمان لولده ، وهو لقمان ابن عنقاء بن سدون ، واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي ، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر ، وأنه آتاه الحكمة ، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه ، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا ، ثم قال محذرا له (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أي هو أعظم الظلم.

قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنه ليس بذاك ، ألا تسمع إلى قول لقمان (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) ورواه مسلم من حديث الأعمش به ، ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن ، وقال هاهنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) قال مجاهد : مشقة وهن الولد ، وقال قتادة جهدا على جهد ، وقال عطاء الخراساني ضعفا على ضعف.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣١ ، باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٩٧.

٣٠٠