تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥)

يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم وبأس الله أن يحل عليهم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] وقال هاهنا : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) أي لو لا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه ، ثم قال : (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة.

قال شعبة عن سماك عن عكرمة : قال في قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) قال: البحر (١). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد ، حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبي أنه سمع ابن عباس يقول : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وجهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه ، وتكور فيه الشمس والقمر ، ثم يوقد فيكون هو جهنم. وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن حيي ، أخبرني صفوان بن يعلى عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البحر هو جهنم» قالوا ليعلى ، فقال : ألا ترون أن الله تعالى يقول : (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) قال : لا والذي نفس يعلى بيده ، لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله تعالى ، هذا تفسير غريب ، وحديث غريب جدا ، والله أعلم.

ثم قال عزوجل : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] وقال تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] وقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) [الأنبياء : ٣٩] الآية ، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم ، وهذا أبلغ في العذاب الحسي. وقوله تعالى : (وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تهديد وتقريع وتوبيخ ، وهذا عذاب معنوي على النفوس ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٨ ـ ٤٩] وقال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٥٥.

(٢) المسند ٤ / ٢٢٣.

٢٦١

فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٦].

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠)

هذا أمر من الله تعالى المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم ، ولهذا قال تعالى: (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني جبير بن عمرو القرشي ، حدثني أبو سعد الأنصاري عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيرا فأقم» ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك ، فوجدوا خير المنزلين هناك : أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه‌الله تعالى ، فآواهم وأيدهم بنصره ، وجعلهم سيوما ببلاده (٢) ، ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة.

ثم قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي أينما كنتم يدرككم الموت ، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله ، فهو خير لكم ، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه ، ثم إلى الله المرجع والمآب ، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء ، ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن ، يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) نعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على دينهم. وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء ، وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده وتصديق موعوده.

وقال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا أبي ، أخبرنا صفوان المؤذن ، أخبرنا الوليد بن مسلم ، أخبرنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود ، حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حدثه أن في الجنة غرفا يرى

__________________

(١) المسند ١ / ١٦٦.

(٢) جعلهم سيوما ببلاده : أي جعلهم آمنين.

٢٦٢

ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وأطاب الكلام ، وتابع الصلاة والصيام ، وقام بالليل والناس نيام.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة ، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا ، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب ، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار ، ولهذا قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي الله يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها ، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض ، والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا يزيد يعني ابن هارون ، حدثنا الجراح بن منهال الجزري ـ هو أبو العطوف ـ عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة ، فجعل يلتقط من التمر ويأكل ، فقال لي : «يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟» قال : قلت لا أشتهيه يا رسول الله ، قال لكني أشتهيه ، وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟» قال : فو الله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عزوجل لم يأمرني بكنز الدنيا ، ولا باتباع الشهوات ، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية ، فإن الحياة بيد الله ، ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبأ رزقا لغد» هذا حديث غريب ، وأبو العطوف الجزري ضعيف.

وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض ، فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش ، فيظل الفرخ فاتحا فاه يتفقد أبويه فيقيض الله تعالى طيرا صغارا كالبرغش ، فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه ، والأبوان يتفقدانه كل وقت ، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه ، فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق ، ولهذا قال الشاعر :

يا رازق النعاب في عشه

وجابر العظم الكسير المهيض

وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سافروا تصحوا وترزقوا» قال البيهقي : أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، أخبرنا محمد بن غالب ، حدثني محمد بن سنان ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن رداد شيخ من أهل

٢٦٣

المدينة ، حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سافروا تصحوا وتغنموا» قال : ورويناه عن ابن عباس.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة ، أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سافروا تربحوا وصوموا تصحوا ، واغزوا تغنموا» وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ، وعن معاذ بن جبل موقوفا ، وفي لفظ «سافروا مع ذوي الجد والميسرة» قال : ورويناه عن ابن عباس : وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣)

يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو ، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم ، واختلافها واختلاف أرزاقهم ، فتفاوت بينهم ، فمنهم الغني والفقير وهو العليم بما يصلح كلا منهم ، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر ، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها ، فإذا كان الأمر كذلك ، فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته ، وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦)

يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها ، وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء ، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله تعالى : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لآثروا ما يبقى على ما يفنى ، ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له ، فهلا يكون هذا منهم دائما (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] الآية ،

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٨٠ ، ولفظه : «سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا».

٢٦٤

وقال هاهنا : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ).

وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل ، أنه لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ذهب فارا منها ، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة ، فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربهم الدعاء ، لا ينجي فإنه هاهنا إلا هو ، فقال عكرمة : والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره ، فإنه. لا ينجي في البر أيضا غيره ، اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد ، فلأجدنه رؤوفا رحيما ، فكان كذلك ، وقوله تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة ، لأنهم لا يقصدون ذلك ، ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم ، وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل ، وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، ومن دخله كان آمنا فهم في أمن عظيم ، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا ، ويقتل بعضهم بعضا ، كما قال تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ١ ـ ٤] وقوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد و (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله ، فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله ، وأن لا يشركوا به ، وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره ، فكذبوه وقاتلوه ، وأخرجوه من بين ظهرهم ، ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم ، وقتل من قتل منهم ببدر ، ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ففتح الله على رسوله مكة ، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.

ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) أي لا احد أشد عقوبة ممن كذب على الله ، فقال : إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء. ومن قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه ، فالأول مفتر والثاني مكذب ، ولهذا قال تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) يعني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي لنبصرنهم سبلنا ، أي طرقنا في الدنيا والآخرة.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، أخبرنا عباس الهمداني أبو

٢٦٥

أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) قال : الذين يعملون بما يعملون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني ، فأعجبه وقال : ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حتى وافق ما في نفسه.

وقوله (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري ، حدثنا أبو جعفر الرازي عن المغيرة عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريمعليه‌السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، والله أعلم. آخر تفسير سورة العنكبوت. ولله الحمد والمنة.

٢٦٦

سورة الروم

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧)

نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم. واضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا أبو إسحاق عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قال غلبت وغلبت ، قال : كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، فذكر ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجلا خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «ألا جعلتها إلى دون ـ أراه قال العشر ـ» قال سعيد بن جبير : البضع ما دون العشر ، ثم ظهرت الروم بعد قال : فذلك قوله (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٢) هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن الحسين بن حريث عن معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان بن سعيد الثوري به.

وقال الترمذي : حسن غريب إنما نعرفه من حديث سفيان عن حبيب ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق الصاغاني عن معاوية بن عمرو به.

__________________

(١) المسند ١ / ٢٧٦ ، ٣٠٤.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٠ ، باب ٢.

٢٦٧

ورواه ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي ، الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري فذكره ، وعندهم قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر.

[حديث آخر] قال سليمان بن مهران الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين ، الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم (٢) ، أخرجاه. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند ، عن عامر ـ هو الشعبي ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كان فارس ظاهرا على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين؟ قال : صدق. قالوا : هل لك أن نقامرك؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ، فمضت السبع ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، وشق على المسلمين ، فذكر ذلك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما بضع سنين عندكم؟» قالوا : دون العشر. قال «اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين في الأجل» قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك ، وأنزل الله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ـ إلى قوله تعالى ـ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ).

[حديث آخر] قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي ، حدثنا مؤمن عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما نزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) قال المشركون لأبي بكر : ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس؟ قال : صدق صاحبي. قالوا : هل لك أن نخاطرك؟ فجعل بينه وبينهم أجلا ، فحل الأجل قبل أن تغلب الروم فارس ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فساءه ذلك وكرهه ، وقال لأبي بكر «ما دعاك إلى هذا؟» قال : تصديقا لله ولرسوله. قال «تعرض لهم وأعظم الخطر واجعله إلى بضع سنين» فأتاهم أبو بكر فقال لهم : هل لكم في العود ، فإن العود أحمد؟ قالوا : نعم ، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية ، فجاء أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هذا السحت ، قال «تصدق به» (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٥ ، باب ٤ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤١.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ١٦٥ ، ١٦٦.

(٤) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٢٨٩.

٢٦٨

[حديث آخر] قال أبو عيسى الترمذي (١) : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم ، لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وفي ذلك قوله الله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وكانت قريش تحب ظهور فارس ، لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ، ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية ، خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) قال ناس من قريش لأبي بكر : فذاك بيننا وبينكم ، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال : بلى ، ودلك قبل تحريم الرهان.

فارتهن أبو بكر والمشركون ، وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه؟ قال : فسموا بينهم ست سنين ، قال : فمضت ست السنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس : فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، قال : لأن الله قال في بضع سنين ، قال : فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.

وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم ، ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال : حدثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن عكرمة قال : كان في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك ، فأشيري علي أيهم أستعمل؟! فقالت : هذا فلان وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر ، وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا ، تعني أولادها الثلاثة ، فاستعمل أيهم شئت ، قال : فإني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس ، فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم ، وقطع زيتونهم.

قال أبو بكر بن عبد الله : فحدثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام؟ قلت : لا ، قال أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني : حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٠ ، باب ٤.

٢٦٩

إليكم ، فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس ، ففرحت بذلك كفار قريش ، وكرهه المسلمون.

قال عكرمة : ولقي المشركون أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخواننا من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم ، فو الله ليظهرن الله الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه أبي بن خلف فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : أناحبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال «ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادة في الأجل» فخرج أبو بكر فلقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت؟ فقال : لا ، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك ، فغلبهم المسلمون.

قال عكرمة : لما أن ظهرت فارس على الروم ، جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز ، فقال : لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كسرى ، فكتب كسرى إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلى برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان له نكاية وصوت في العدو ، فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل إلي برأسه. فراجعه ، فغضب كسرى فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان ، ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة ، فقال : إذا ولي فرخان الملك وانقاد إليه أخوه ، فأعطه هذه.

فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ، ودفع إليه الصحيفة قال : ائتوني بشهريراز ، وقدمه ليضرب عنقه ، قال ، لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه الصحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فرد الملك إلى أخيه شهريراز ، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تحملها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق.

وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، مع كل واحد منهما سكين فدعيا ترجمانا بينهما ، فقال

٢٧٠

شهريراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني وقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك. قال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا ، قال : أجل ، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما ، فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ، ففرح والمسلمون معه (١). فهذا سياق غريب وبناء عجيب.

ولنتكلم عن كلمات هذه الآيات الكريمة ، فقوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة ، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم بنو الأصفر ، وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك ، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهو الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة.

وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له قيصر ، فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك. قسطنطين بن قسطس وأمه مريم الهيلانية الشدقانية من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا فتابعها ، يقال تقية ، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغيروا دين المسيح عليه‌السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه ، فصلوا إلى المشرق ، واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير ، واتخذوا أعيادا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب ، وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة ، وابتدعوا الرهبانية ، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك.

ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة» (٢)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٦٤ ، ١٦٥.

(٢) أخرجه أبو داود في السنة باب ١ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٧.

٢٧١

والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل ، وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا ، وأقصاهم رأيا ، فتملك عليهم في رئاسة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف ، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رئاسة العجم ، وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار.

فتقدم عن عكرمة أنه : بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده ، فقهره وكسره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية ، فحاصره بها مدة طويلة ، حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر ، ونصفها الآخر من ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك ، فلما طال الأمر ، دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء ، فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة ، فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره ، وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه.

فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينة فجمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول ، فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها ، فأنتم بالخيار : إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري ، فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام ، فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا ، وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة أولا فأولا.

ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده وركبه على حماره ، وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخذه ، فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد في حصارها بكل ممكن ، فلم يقدر على ذلك ، فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك ، احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في

٢٧٢

بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث ، فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا.

ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ، ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية ، فكان ذلك يوما مشهودا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون ، لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادهم قد خربتها الروم ، وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ، ونساءهم ، فكان هذا من غلب الروم لفارس ، وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم ، وكانت الوقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز ، وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله أعلم.

ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع ، فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع ، وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر في مناحبة (١) (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) الآية «ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع؟» (٢) ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو أنه قال ذلك ،.

وقوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) أي من قبل ذلك ومن بعده ، فبني على الضم لما قطع المضاف ، وهو قوله قبل عن الإضافة ونويت (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى ، وهم المجوس ، وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قوله طائفة كثيرة من العلماء ، كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي (٣) وابن جرير (٤) وابن أبي حاتم والبزار من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به ، وأنزل الله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وقال الآخرون : بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. قاله عكرمة والزهري وقتادة

__________________

(١) المناحبة : المراهنة.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، ٣.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٠ ، باب ١.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ١٦٦.

٢٧٣

وغير واحد. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس ، شكرا لله تعالى ففعل ، فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة ، فأعطاه دحية لعظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز ، فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كبار قريش ، وكانوا بغزة ، فجيء بهم إليه فجلسوا بين يديه. فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان : أنا ، فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه : إني سائل هذا عن هذا الرجل ، فإن كذب فكذبوه ، فقال أبو سفيان ، فو الله لو لا أن يأثروا علي الكذب لكذبت ، فسأله هرقل عن نسبه وصفته ، فكان فيما سأله أن قال : فهل يغدر؟ قال : قلت لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ، يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية ، لأن قيصر إنما وفي بنذره بعد الحديبية ، والله أعلم.

ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت ، فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده ، ثم بعد أربع سنين من نصرته وفي بنذره ، والله أعلم ، والأمر في هذا سهل قريب ، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين ، فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب في الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ـ إلى قوله ـ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٢ ـ ٨٣]. وقال تعالى هاهنا (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثني أسيد الكلابي قال : سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال : رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس ، والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين. وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق ، وخبر صدق لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه ، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق ، ويجعل لها العاقبة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بحكم الله في كونه ، وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل.

وقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها ، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه

٢٧٤

مكاسبها ، وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة ، قال الحسن البصري : والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره ، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا ، وهم في أمر الدين جهال (١).

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠)

يقول تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، فقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي وما بينهما من المخلوقات المتنوعة والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلا بل بالحق ، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحات من إهلاك من كفر بهم ونجاة من صدقهم ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين.

ولهذا قال (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم أيها المبعوث إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر أموالا وأولادا ، وما أوتيتم معشار ما أوتوا ، ومكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه وعمروا فيها أعمارا طوالا ، فعمروها أكثر منكم ، واستغلوها أكثر من استغلالكم ، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا ، أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ، ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله ، ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة ، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها ، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام: ١١٠] وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] وقال تعالى : (فَإِنْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٦٨.

٢٧٥

تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [المائدة : ٤٩] وعلى هذا تكون السوأى منصوبة مفعولا لأساؤوا ، وقيل بل المعنى في ذلك (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوأى منصوبة خبر كان ، هذا توجيه ابن جرير ، ونقله عن ابن عباس وقتادة ، ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن الضحاك بن مزاحم ، وهو الظاهر ـ والله أعلم ـ لقوله (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ).

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (١٦)

يقول تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوم القيامة ، فيجازي كل عامل بعمله. ثم قال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) قال ابن عباس : ييأس المجرمون ، وقال مجاهد : يفتضح المجرمون ، وفي رواية يكتئب المجرمون (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ) أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم. ثم قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) قال قتادة : هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها ، يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين ، فذلك آخر العهد بينهما ، ولهذا قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال مجاهد وقتادة : ينعمون. وقال يحيى بن أبي كثير : يعني سماع الغناء والحبرة أعم من هذا كله ، قال العجاج [رجز] :

فالحمد لله الذي أعطى الحبر

موالي الحقّ إن الموالي شكر (١)

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١٩)

هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة ، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند السماء ، وهو إقبال الليل بظلامه ، وعند الصباح وهو إسفار النهار عن ضيائه. ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد ، فقال تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو المحمود على ما خلق في السموات

__________________

(١) الرجز للعجاج في ديوانه ١ / ٢٤ ، ولسان العرب (ثبت) ، (حبر) ، (شبر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٣٧ ، وديوان الأدب ١ / ٢١٢ ، وإصلاح المنطق ص ٩٧ ، وتاج العروس (بثر) وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣١١ ، والمخصص ١٥ / ٨٠ ، ويروى «الشّبر» بدل «الحبر».

٢٧٦

والأرض ، ثم قال تعالى : (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) فالعشاء هو شدة الظلام ، والإظهار قوة الضياء ، فسبحان خالق هذا وهذا ، فالق الإصباح ، وجاعل الليل سكنا ، كما قال تعالى : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ٣ ـ ٤] وقال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ـ ٢] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبّان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفي؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون» وقال الطبراني : حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه ، عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ومن قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون ، الآية بكمالها أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» إسناد جيد ورواه أبو داود (٢) في سننه.

وقوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة ، وهذه الآيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط ، فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها ، ليدل خلقه على كمال قدرته ، فمن ذلك إخراج النبات من الحب والحب من النبات ، والبيض من الدجاج والدجاج من البيض ، والإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وقوله تعالى : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ـ إلى قوله ـ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) [يس : ٣٣ ـ ٣٤] وقال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ـ إلى قوله ـ وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج : ٥ ـ ٧] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف : ٥٧] ولهذا قال هاهنا (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ).

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٣٩.

(٢) كتاب الأدب باب ١٠١.

٢٧٧

يقول تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظمته وكمال قدرته ، أنه خلق أباكم آدم من تراب (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين ، ثم تصور فكان علقة ثم مضغة ، ثم صار عظاما شكله على شكل الإنسان ، ثم كسا الله تلك العظام لحما ، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير ، ثم خرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة ، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ، ويسافر في أقطار الأقاليم ، ويركب متن البحور ، ويدور أقطار الأرض ، ويتكسب ويجمع الأموال ، وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه ، فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب ، وفاوت بينهم في العلوم والفكر ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ).

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن سعيد وغندر قالا : حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، والسهل والحزن وبين ذلك» (٢) ورواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي خلق لكم من جنسكم إناثا يكن لكم أزواجا (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩] يعني بذلك حواء ، خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر ، ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر إما من جان أو حيوان ، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج ، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس ، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم ، وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة ، ورحمة وهي الرأفة ، فإن الرجل يمسك المرأة إنما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد ، أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣)

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٠٠ ، ٤٠٦.

(٢) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في تفسير سورة ٢ باب ١.

٢٧٨

يقول تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته العظيمة (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها ، وسقوف أجرامها ، وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات ، والأرض في انخفاضها وكثافتها ، وما فيها من جبال وأودية وبحار ، وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) يعني اللغات ، فهؤلاء بلغة العرب ، وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى ، وهؤلاء كرج ، وهؤلاء روم ، وهؤلاء افرنج وهؤلاء بربر ، وهؤلاء تكرور ، وهؤلاء حبشة ، وهؤلاء هنود ، وهؤلاء عجم ، وهؤلاء صقالبة ، وهؤلاء خزر ، وهؤلاء أرمن ، وهؤلاء أكراد ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم.

فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان ، وليس يشبه واحد منهم الآخر ، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر عند التأمل ، كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى ، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار ، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب. وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يعون.

قال الطبراني : حدثنا حجاج بن عمران السدوسي ، حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة ، حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان ، سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : أصابني أرق من الليل ، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «قل اللهم غارت النجوم ، وهدأت العيون ، وأنت حي قيوم يا حي يا قيوم ، أنم عيني وأهدئ ليلي» فقلتها ، فذهب عني.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥)

يقول تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظمته أنه (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة ، وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه ، ولهذا قال تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، فلما جاءها الماء (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة ، ولهذا قال

٢٧٩

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ثم قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) كقوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] وقوله (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١]. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين يقول : لا والذي تقوم السماء والأرض بأمره ، أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها ، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات ، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) كما قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] وقال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤] وقال تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٥٣].

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

يقول تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ملكه وعبيده (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون خاشعون طوعا وكرها. وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة» (١) وقوله (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني أيسر عليه ، وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البداءة ، والبداءة عليه هينة ، وكذا قال عكرمة وغيره.

وروى البخاري (٢) : حدثنا أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» انفرد بإخراجه البخاري ، كما انفرد بروايته أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به. وقد رواه الإمام أحمد منفردا به عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو يونس سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه أو مثله.

وقال آخرون : كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء. وقال العوفي عن ابن عباس : كل عليه هين ، وكذا قاله الربيع بن خثيم ، ومال إليه ابن جرير وذكر عليه شواهد كثيرة ، قال : ويحتمل أن يعود الضمير في قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) إلى الخلق ، أي وهو أهون على الخلق.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧٥.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١١٢ ، باب ١ ، ٢ ، وأخرجه أيضا أحمد في المسند ٢ / ٣٥٠.

٢٨٠