تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

قالت : فبقرت لي الحديث (١) ، فقلت : وقد كان هذا؟ قالت : نعم والله ، فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا ، ووعكت وقلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسلني إلى بيت أبي ، فأرسل معي الغلام ، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت أم رومان : ما جاء بك بنية ، فأخبرتها وذكرت لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، فقالت : يا بنية خففي عليك الشأن فإنه والله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها ، وقيل فيها ، فقلت : وقد علم به أبي؟ قالت : نعم. قلت : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟. قالت : نعم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فاستعبرت وبكيت ، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها؟ قالت : بلغها الذي ذكر من شأنها ، ففاضت عيناه رضي الله عنه وقال : أقسمت عليك ـ أي بنية ـ إلا رجعت إلى بيتك ، فرجعت ، ولقد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيتي فسأل عني خادمتي فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسقطوا لها به. فقالت : سبحان الله ، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ عن تبر الذهب الأحمر ، وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له ، فقال : سبحان الله ، والله ما كشفت كنف أنثى قط.

قالت عائشة رضي الله عنها : فقتل شهيدا في سبيل الله وقالت : وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد صلى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده» قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت : ألا تستحيي من هذه المرأة أن تذكر شيئا؟ فوعظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالتفت إلى أبي فقلت له : أجبه قال : فماذا أقول؟ فالتفت إلى أمي فقلت : أجيبيه قالت : ماذا أقول؟ فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد فو الله إن لئن قلت لكم إني لم أفعل والله عزوجل يشهد أني لصادقة ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم ، وإن قلت لكم إني قد فعلت ، والله يعلم أني لم أفعل ، لتقولن قد باءت به على نفسها ، وإنني والله ما أجد لي ولكم مثلا ، والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) وأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ساعته ، فسكتنا فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول «أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» قالت : وكنت أشد ما كنت غضبا فقال لي أبواي : قومي إليه ، فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه فما

__________________

(١) بقرت لي الحديث : أي فتحته وكشفته.

٢١

أنكرتموه ولا غيرتموه.

وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا ، وأما أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك ، وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت وأما المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول ، وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة ، قالت : وحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا ، فأنزل الله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) يعني أبا بكر (وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ) يعني مسطحا إلى قوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٢٢] فقال أبو بكر : بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا ، وعاد له بما كان يصنع.

هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقا بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة أحد الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير (١) في تفسيره عن سفيان بن وكيع عن أبي أسامة به مطولا مثله أو نحوه. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ببعضه.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هشيم ، أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل عذري من السماء جاءني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نحمد الله لا نحمدك. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثني ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أيضا عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم (٤) ، وأخرجه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ، فهذه طرق متعددة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها.

وقد روي من حديث أمها أم رومان رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان ، قالت بينا أنا عند عائشة إذ دخلت علينا امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل ، فقالت عائشة : ولم؟ قالت : إنه كان فيمن حدث الحديث ، قالت : وأي الحديث؟ قالت : كذا وكذا ، قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : نعم ، قالت : وبلغ أبا بكر؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض ، فقمت فدثرتها ، قالت : فجاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٢٨١ ، ٢٨٢.

(٢) المسند ٦ / ٣٠.

(٣) المسند ٦ / ٣٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الحدود باب ٣٤ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٤ ، باب ٥.

(٥) المسند ٦ / ٣٦٧ ، ٣٦٨.

٢٢

«فما شأن هذه؟» فقلت : يا رسول الله أخذتها حمى بنافض (١) ، قال «فلعله في حديث تحدث به» قالت : فاستوت له عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨] قالت : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر ، فدخل فقال : يا عائشة «إن الله تعالى قد أنزل عذرك» فقالت : بحمد الله لا بحمدك ، فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : نعم. قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر فحلف أن لا يصله ، فأنزل الله (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) إلى آخر الآية ، فقال أبو بكر : بلى فوصله. تفرد به البخاري (٢) دون مسلم من طريق حصين.

وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به : وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان ، وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : سئلت أم رومان ويسوقه فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الراوي أنها سألت فظنه متصلا ، قال الخطيب : وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته كذا قال ، والله أعلم.

فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) أي بالكذب والبهت والافتراء (عُصْبَةٌ) أي جماعة منكم (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) أي يا آل أبي بكر (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي في الدنيا والآخرة لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] الآية ، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يحبك ولم يتزوج بكرا غيرك ، وأنزل براءتك من السماء.

وقال ابن جرير (٣) في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون عن المعلى بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال : تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما فقالت زينب : أنا التي نزل تزويجي من السماء ، وقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة ، فقالت لها زينب : يا عائشة ما قلت حين ركبتيها؟ قالت : قلت حسبي الله ونعم الوكيل ، قالت : قلت كلمة المؤمنين.

__________________

(١) عليها حمى بنافض : أي عليها حمى أصابتها برعدة شديدة ، كأنها نفضتها ، أي حركتها.

(٢) كتاب الأنبياء باب ١٩ ، والمغازي باب ٣٤.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ٢٧٧.

٢٣

وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) قيل ابتدأ به ، وقيل الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي على ذلك ، ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول قبحه الله تعالى ولعنه ، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد ، وقيل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولو لا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك ، لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشعره ، وهو الذي قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هاجهم وجبريل معك».

وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال : كنت عند عائشة رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك ، وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وكان قد ذهب بصره ، لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ثم قالت إنه كان ينافح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي رواية أنه أنشدها عند ما دخل عليها شعرا يمتدحها به ، فقال [الطويل] :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (١)

فقالت : أما أنت فلست كذلك ، وفي رواية ، لكنك لست كذلك ، وقال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن بن قزعة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب [الوافر] :

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء (٣)

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٢٢٨ ، والإنصاف ٢ / ٧٥٩ ، ولسان العرب (حصن) ، وتاج العروس (حصن) ، (رزن) ، وتفسير الطبري ٩ / ٢٧٧ (الشطر الثاني فقط) ، وبلا نسبة في إصلاح المنطق ص ٢٨٩ ، ولسان العرب (غرث)

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٢٧٦.

(٣) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص ٧٦ ، والبيت الأول في مقاييس اللغة ٤ / ٢٧٤ ، والبيت الثاني في لسان العرب (عرض) ، وأمالي المرتضى ١ / ٦٣٢ ، وتاج العروس (عرض) ويروى صدر البيت الثالث :

أتهجوه ولست له بندّ

وهو في خزانة الأدب ٩ / ٢٣٢ ، ٢٣٦ ، ٢٣٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٣٨٨ ، ولسان العرب (ندد) ، (عرش)

٢٤

أتشتمه ولست له بكفء؟

فشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدره الدلاء

فقيل : يا أم المؤمنين أليس هذا لغوا؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء ، قيل : أليس الله يقول (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم؟ أليس قد ذهب بصره ، وكنع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ(١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣)

هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيئ ، وما ذكر من شأن الإفك فقال تعالى : (لَوْ لا) يعني هلا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم ، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأخرى.

وقد قيل : إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما ، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار : إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال : نعم وذلك الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله ، قال : فعائشة والله خير منك ، قال : فلما نزل القرآن ذكر عزوجل من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) [النور : ١١] وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) الآية ، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته (١).

وقال محمد بن عمر الواقدي : حدثني ابن أبي حبيب عن داود بن الحصين عن أبي سفيان مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال : بلى وذلك الكذب أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ قالت : لا والله. قال : فعائشة والله خير منك ، فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عزوجل (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال ، ويقال إنما قالها أبيّ بن كعب.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٤٨.

٢٥

وقوله تعالى : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) إلخ أي هلا ظنوا الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به. هذا ما يتعلق بالباطن ، وقوله (وَقالُوا) أي بألسنتهم (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها ، فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة ، والجيش بكماله يشاهدون ذلك ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد ، بل كان يكون هذا لو قدر خفية مستورا ، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت ، والقول الزور ، والرعونة الفاحشة الفاجرة ، والصفقة الخاسرة ، قال الله تعالى : (لَوْ لا) أي هلا (جاؤُ عَلَيْهِ) أي على ما قالوه (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون على صحة ما جاءوا به (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي في حكم الله كذبة فاجرون.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥)

يقول تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) من قضية الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه ، كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينت بنت جحش ، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية ، لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه ، وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه.

ثم قال تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) قال مجاهد وسعيد بن جبير : أي يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا ، وقرأ آخرون (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) وفي صحيح البخاري (١) عن عائشة أنها كانت تقرؤها كذلك ، وتقول : هو من ولق اللسان يعني الكذب الذي يستمر صاحبه عليه ، تقول العرب : ولق فلان في السير إذا استمر فيه ، والقراءة الأولى أشهر وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها كانت تقرأ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) وتقول : إنما هو ولق القول ـ والولق الكذب ـ. قال ابن أبي مليكة : هي أعلم به من غيرها.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٤ ، باب ٧ ، ٨.

٢٦

وقوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي تقولون ما لا تعلمون ، ثم قال تعالى : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيرا سهلا ولو لم تكن زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان هينا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟ فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى لا يقدّر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك حاشا وكلا ، ولما لم يكن ذلك ، فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة؟ ولهذا قال تعالى : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) وفي الصحيحين «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض». وفي رواية «لا يلقي لها بالا» (١).

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ(١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٨)

هذا تأديب آخر بعد الأول الآمر بظن الخير ، أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا ، وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك ، ثم إن علق بنفسه شيء من ذلك وسوسة أو خيالا ، فلا ينبغي أن يتكلم به ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» (٢) أخرجاه في الصحيحين. وقال الله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله.

ثم قال تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا أي فيما يستقبل ، فلهذا قال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه ، وتعظمون رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك حكم آخر ، ثم قال تعالى: (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بما يصلح عباده ، حكيم في شرعه وقدره.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩)

هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ ، فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣ ، ومسلم في الزهد حديث ٥٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٠١ ، ٢٠٢.

٢٧

منه ولا يشيعه ويذيعه ، فقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) أي بالحد ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فردوا الأمور إليه ترشدوا. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن بكير ، حدثنا ميمون بن موسى المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته».

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢١)

يقول الله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي لو لا هذا لكان أمر آخر ، ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم ، فتاب على من تاب إليه من هذه القضية ، وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم ، ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) عمله.

وقال عكرمة : نزغاته. وقال قتادة : كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان. وقال مسروق : سأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعاما وسماه ، فقال : هذا من نزغات الشيطان ، كفّر عن يمينك وكل وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده : هذا من نزغات الشيطان ، وأفتاه أن يذبح كبشا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا السري بن يحيى عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال : غضبت علي امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك ، فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان ، وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة ، وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي لو لا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ويزكي النفوس من شركها ، وفجورها ودنسها ، وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه ، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٧٩.

٢٨

من خلقه ، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي. وقوله (وَاللهُ سَمِيعٌ) أي سميع لأقوال عباده (عَلِيمٌ) بمن يستحق منهم الهدى والضلال.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢)

يقول تعالى : (وَلا يَأْتَلِ) من الألية وهي الحلف ، أي لا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي الطّول والصدقة والإحسان (وَالسَّعَةِ) أي الجدة (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ، ولهذا قال تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى؟ وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم ، وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعد ما قال في عائشة ما قال ، كما تقدم في الحديث.

فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك ، وأقيم الحد على من أقيم عليه ـ شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنة ، يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة ، فإنه كان ابن خالة الصديق ، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وكان من المهاجرين في سبيل الله ، وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها ، وكان الصديق رضي الله عنه معروفا بالمعروف ، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب ، فلما نزلت هذه الآية إلى قوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) الآية ، فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك ، وكما تصفح نصفح عنك ، فعند ذلك قال الصديق : بلى والله إنا نحب ـ يا ربنا ـ أن تغفر لنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا ، في مقابلة ما كان ، قال والله لا أنفعه بنافعة أبدا. فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)

هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ـ خرج مخرج الغالب ـ المؤمنات فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما ، وقد أجمع العلماء رحمهم‌الله قاطبة على

٢٩

أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن ، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الآية ، كقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] الآية. وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) قال : نزلت في عائشة خاصة ، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير (١) عن عائشة فقال : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قالت عائشة : رميت بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس عندي إذ أوحي إليه ، قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح وجهه ، وقال «يا عائشة أبشري» قالت : فقلت بحمد الله لا بحمدك ، فقرأ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ـ حتى قرأ ـ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هكذا أورده وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ، وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم. وقال الضحاك وأبو الجوزاء وسلمة بن نبيط : المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء.

وقال العوفي عن ابن عباس في الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، يعني أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم نزل بعد ذلك (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ـ إلى قوله ـ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل والشهادة ترد (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم ، أخبرنا العوام بن حوشب عن شيخ من بني أسد عن ابن عباس قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، قال : في شأن عائشة وأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي مبهمة وليست لهم توبة ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ـ إلى قوله ـ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٢٩٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٩١.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢٩١.

٣٠

ما فسر به سورة النور. فقوله وهي مبهمة أي عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنته في الدنيا والآخرة ، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ومن صنع مثل هذا أيضا اليوم في المسلمات فله ما قال الله تعالى ولكن عائشة كانت إمام في ذلك.

وقد اختار ابن جرير عمومها وهو الصحيح ، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال «الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (١) أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال به.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحذاء الحراني ، حدثني أبي وحدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب ، حدثني موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة». وقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو بن أبي قيس ، عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنهم يعني المشركين إذ رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا : تعالوا حتى نجحد فيجحدون ، فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا.

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير (٢) أيضا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فيجحد ويخاصم ، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك ، فيقول كذبوا ، فيقال أهلك وعشيرتك ، فيقول كذبوا ، فيقال احلفوا فيحلفون ، ثم يصمتهم الله فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار».

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي ، حدثنا منجاب بن الحارث التميمي ، حدثنا أبو عامر الأسدي ، حدثنا سفيان بن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيمي عن الشعبي عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال : «أتدرون مم أضحك؟» قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال «من مجادلة العبد لربه يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : لا أجيز عليّ إلا شاهدا من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوصايا باب ٢٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٤.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٢٩٢.

٣١

نفسي ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام عليك شهودا ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» (١) وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبيه ، عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به ، ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله أعلم ، هكذا قال ، وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لشهودا غير متهمة في بدنك ، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، الظلمة عنده ضوء ، والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) قال ابن عباس (دِينَهُمُ) أي حسابهم وكل ما في القرآن دينهم أي حسابهم ، وكذا قال غير واحد ، ثم إن قراءة الجمهور بنصب الحق على أنه صفة لدينهم ، وقرأ مجاهد بالرفع على أنه نعت الجلالة ، وقرأها بعض السلف في مصحف أبيّ بن كعب : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، وقوله (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي وعده ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من القول ـ قال ـ ونزلت في عائشة وأهل الإفك ، وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن بن أبي الحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس ، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس ، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) (٢) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، وهذا أيضا يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم ، أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرا ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٩٣.

٣٢

بسبب ما قيل فيهم من الكذب ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي عند الله في جنات النعيم ، وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم إلى يحيى بن الجزار قال : جاء أسير بن جابر إلى عبد الله ، فقال : لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم اليوم بكلام أعجبني ، فقال عبد الله : إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل عنده يتلها فيضمها إليه وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه ثم قرأ عبد الله (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) الآية ، ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا «مثل هذا الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشرّ ما سمع كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال اجزرني شاة ، فقال : اذهب فخذ بأذن أيها شئت ، فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم» (١) وفي الحديث الآخر «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩)

هذه آداب شرعية ، أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك في الاستئذان أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي يستأذنوا قبل الدخول ، ويسلموا بعده ، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات ، فإن أذن له وإلا انصرف ، كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له ، فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما رجعك؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف» فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربا ، فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال : ألهاني عنه الصفق بالأسواق (٣).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ١٥ وأحمد في المسند ٢ / ٣٥٣ ، ٤٠٥ ، ٤٠٨.

(٢) أخرجه الترمذي في العلم باب ١٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٥.

(٣) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٣ ، ومسلم في الآداب حديث ٣٢ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٧.

٣٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت عن أنس أو غيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سلم ثلاثا ، ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني ، ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل نبي الله ، فلما فرغ قال «أكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون».

وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال : زارنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزلنا فقال «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا ، قال قيس : فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام. قال فانصرف معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل ، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس ، فاشتمل بها ثم رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه وهو يقول «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة». قال : ثم أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطعام ، فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حمارا قد وطئ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سعد : يا قيس اصحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قيس : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اركب» فأبيت ، فقال «إما أن تركب وإما أن تنصرف» قال : فانصرفت (٢) ، وقد روي هذا من وجوه أخر ، فهو حديث جيد قوي ، والله أعلم.

ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا : حدثنا بقية ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بسر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول «السلام عليكم ، السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ، تفرد به أبو داود (٣).

وقال أبو داود (٤) أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ـ (ح) ـ حينئذ ، قال أبو

__________________

(١) المسند ٣ / ١٣٨.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٢٨.

(٣) كتاب الأدب باب ١٢٨.

(٤) كتاب الأدب باب ١٢٧.

٣٤

داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل ، قال عثمان : سعد فوقف على باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأذن فقام على الباب قال عثمان : مستقبل الباب ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر» وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه أبو داود من حديثه.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح» (١) وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب ، فقال «من ذا؟» فقلت : أنا ، قال «أنا أنا» كأنه كرهه (٢) ، وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها ، وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا ، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية ، وقال العوفي عن ابن عباس : الاستئناس الاستئذان ، وكذا قال غير واحد ،

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) قال : إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا ، وهكذا رواه هشيم عن أبي بشر ـ وهو جعفر بن إياس ـ به عن سعيد عن ابن عباس بمثله ، وزاد : كان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا وتسلموا وكان يقرأ على قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه ، وهذا غريب جدا عن ابن عباس ، وقال هشيم : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال : في مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ، وهذا أيضا رواية عن ابن عباس وهو اختيار ابن جرير.

وقد قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ (٥) وجداية (٦) وضغابيس (٧) ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعلى الوادي ، قال : فدخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارجع فقل السلام عليكم أأدخل؟» وذلك بعد ما أسلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الديات باب ١٥ ، ومسلم في الأدب حديث ٤٤.

(٢) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٧ ، وأبو داود في الأدب باب ١٢٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٦٣.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ٢٩٦.

(٤) المسند ٤ / ٤١٤.

(٥) اللبأ : أول ما يحلب عند الولادة.

(٦) الجداية : من أولاد الضباء ما بلغ ستة أشهر أو سبعة ، ذكرا كان أو أنثى.

(٧) الضغابيس ، جمع ضغبوس : صغار القثاء.

٣٥

صفوان (١) ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به. وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال : أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيته ، فقال : أألج؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخادمه «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : قل السلام عليكم أأدخل؟» فسمعه الرجل ، فقال : السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل.

وقال هشيم : أخبرنا منصور عن ابن سيرين ، وأخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أألج أو أنلج؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمة له يقال لها روضة «قومي إلى هذا فعلميه ، فإنه لا يحسن يستأذن ، فقولي له : يقول السلام عليكم أأدخل؟» فسمعها الرجل فقالها فقال «ادخل». وقال الترمذي : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السلام قبل الكلام» (٢) ثم قال الترمذي : عنبسة ضعيف الحديث ذاهب ، ومحمد بن زاذان منكر الحديث. وقال هشيم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء ، فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل؟ قالت : ادخل بسلام ، فأعاد فأعادت وهو يراوح بين قدميه ، قال : قولي ادخل. قالت : ادخل فدخل (٣).

ولابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم الأحوال ، حدثني خالد بن إياس ، حدثتني جدتي أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة ، فقلت : ندخل؟ فقالت : لا قلن لصاحبتكن تستأذن ، فقالت : السلام عليكم أندخل قالت : ادخلوا ، ثم قالت: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) الآية. وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم ، قال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ، قال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً) الآية.

وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ثلاث آيات جحدهن الناس. قال الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قال : ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتا ، قال والأذن كله قد جحده الناس قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٢٧ ، والترمذي في الاستئذان باب ١٨.

(٢) أخرجه الترمذي في الاستئذان باب ١١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٩٧.

٣٦

في حجري معي في بيت واحد؟ قال : نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن قال : فراجعته أيضا. فقال : أتحب أن تطيع الله؟ قلت نعم ، قال : فاستأذن. قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عريتها من ذات محرم ، قال : وكان يشدد في ذلك.

وقال ابن جريج عن الزهري. سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته قال : لا وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب ـ امرأة عبد الله بن مسعود ـ عن زينب رضي الله عنها ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، إسناده صحيح.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي هبيرة. قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس وتكلم ورفع صوته ، وقال مجاهد : حتى تستأنسوا ، قال : تنحنحوا أو تنخموا. وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله أنه قال : إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه ، ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا ـ وفي رواية ـ ليلا يتخونهم (٢) ، وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة نهارا ، فأناخ بظاهرها ، وقال «انتظروا حتى ندخل عشاء ـ يعني آخر النهار ـ حتى تمشط الشعثة وتستحد المغيبة» (٣).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن واصل بن السائب ، حدثني أبو ثورة ابن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال : قلت :

يا رسول الله هذا السلام ، فما الاستئناس؟ قال «يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت» (٤) هذا حديث غريب. وقال قتادة في قوله (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) هو الاستئذان ثلاثا ، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع ، أما الأولى فليسمع الحي ، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا ، ولا تقفن على باب قوم ردوك

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٢٩٧.

(٢) أخرجه البخاري في العمرة باب ١٦ ، والنكاح باب ١٢٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٨٠ ، ١٨٤ ، والترمذي في الاستئذان باب ١٩.

(٣) أخرجه البخاري في النكاح باب ١٢١ ، ١٢٢ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٨١ ، ١٨٢.

(٤) انظر الدر المنثور ٥ / ٦٩.

٣٧

عن بابهم ، فإن للناس حاجات ولهم أشغال ، والله أولى بالعذر.

وقال مقاتل بن حيان في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه ويقول : حييت صباحا وحييت مساء ، وكان ذلك تحية القوم بينهم ، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول : قد دخلت ، ونحو ذلك ، فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله فغير الله ذلك كله في ستر وعفة ، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) الآية ، وهذا الذي قاله مقاتل : حسن ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) يعني الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، فإن شاء أذن ، وإن شاء لم يأذن ، (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده (فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقال قتادة : قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية ، فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع ، فأرجع وأنا مغتبط (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقال سعيد بن جبير (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) الآية أي لا تقفوا على أبواب الناس.

وقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) الآية ، هذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن ، كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى. قال ابن جريج : قال ابن عباس (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) ثم نسخ واستثنى ، فقال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) وكذا روي عن عكرمة والحسن البصري ، وقال آخرون : هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك ، واختار ذلك ابن جرير وحكاه عن جماعة ، والأول أظهر ، والله أعلم. وقال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشعر.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠)

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم ، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم ، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد ، فليصرف بصره عنه سريعا ، كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله

٣٨

البجلي رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظرة الفجأة ، فأمرني أن أصرف بصري (١). وكذا رواه الإمام أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد به. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضا. وقال الترمذي حسن صحيح ، وفي رواية لبعضهم فقال «أطرق بصرك» يعني أنظر إلى الأرض ، والصرف أعم ، فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى ، والله أعلم.

وقال أبو داود : حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، حدثنا شريك عن أبي ربيعة الإيادي ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي «يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (٢) ورواه الترمذي من حديث شريك وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وفي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إياكم والجلوس على الطرقات» قالوا : يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه» قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟ فقال «غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ؛ والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر» (٣).

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضل بن جبير ، سمعت أبا أمامة ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اكفلوا لي ستا أكفل لكم بالجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، وإذا وعد فلا يخلف ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيدكم ، واحفظوا فروجكم» وفي صحيح البخاري «من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه ، أكفل له الجنة» (٤) وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، وقد ذكر الطرفين فقال (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب ، كما قال بعض السلف : النظر سهام سم إلى القلب ، ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك ، فقال تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا ، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) [المعارج : ٢٩ ـ ٣٠] الآية ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» (٥) (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، كما قيل من حفظ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الأدب حديث ٤٥ ، وأبو داود في النكاح باب ٤٣ ، والترمذي في الأدب باب ٢٨ ، والدارمي في الاستئذان باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٥٨ ، ٣٦١.

(٢) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٤٣ ، والترمذي في الأدب باب ٢٨.

(٣) أخرجه البخاري في المظالم باب ٢٢ ، والاستئذان باب ٢ ، ومسلم في اللباس حديث ١١٤.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣.

(٥) أخرجه أبو داود في الحمام باب ٢ ، والأدب باب ٢٢ ، والترمذي في الأدب باب ٢٢ ، ٣٩ ، وابن ماجة في النكاح باب ٢٨ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣ ، ٤.

٣٩

بصره أورثه الله نورا في بصيرته ، ويروى في قلبه.

وروى الإمام أحمد (١) : حدثنا عتاب ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة (أول مرة) ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ، ولكن في إسنادها ضعف إلا أنها في الترغيب ، ومثله يتسامح فيه. وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا «لتغضن أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، ولتقيمن وجوهكم ، أو لتكسفن وجوهكم».

وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن زهير التستري قال : قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرئ ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا هريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه». وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) كما قال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [النور : ٣٠].

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، وزنا الأذنين الاستماع ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين الخطى ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» (٢) رواه البخاري تعليقا ، ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما تقدم ، وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره إلى الأمرد ، وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك ، وحرمه طائفة من أهل العلم لما فيه من الافتتان ، وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا.

وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو سعيد المدني ، حدثنا عمر بن سهل المازني ، حدثني عمر بن محمد بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله ، وعينا سهرت في سبيل الله ، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عزوجل» (٣).

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٦٤.

(٢) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٢ ، والقدر باب ٩ ، ومسلم في القدر حديث ٢٠ ، ٢١ ، وأبو داود في النكاح باب ٤٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٧٦ ، ٣٤٣ ، ٣٧٩ ، ٤٣١ ، ٥٤٦.

(٣) انظر الدر المنثور ٥ / ٧٤.

٤٠