تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

أول من سن القتل» (١).

وقوله تعالى : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون ويختلقون من البهتان ، وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية ، حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ ما أرسل به ، ثم قال : «إياكم والظلم ، فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول : وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول : أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال ، فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عزوجل ، ثم يأمر المنادي فينادي : من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم ، فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن ، فيقول الرحمن : اقضوا عن عبدي ، فيقولون : كيف نقضي عنه؟

فيقول : خذوا لهم من حسناته ، فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة ، وقد بقي من أصحاب الظلامات ، فيقول : اقضوا عن عبدي ، فيقولون : لم يبق له حسنة ، فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه» ثم نزع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية الكريمة (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [النساء : ٤٠]. وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا ، وأخذ من مال هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا لم تبق له حسنة ، أخذ من سيئاتهم فطرح عليه». وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعين ، فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك».

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (١٥)

هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يخبره عن نوح عليه‌السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ومع هذا ما زادهم ذلك إلا

__________________

ـ العلم باب ١٥ ، والنسائي في الإمامة باب ٥٢ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٤ ، ١٥ ، والتجارات باب ٥٦ ، ومالك في القرآن حديث ٤١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٨٠ ، ٣٩٧ ، ٥٠٥ ، ٥٢١ ، ٦ / ٤٤.

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٣ ، والديات باب ٢ ، والاعتصام باب ١٥ ، ومسلم في القسامة حديث ٢٧ ، والترمذي في العلم باب ١٤ ، والنسائي في التحريم باب ١ ، وابن ماجة في الديات باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٣ ، ٤٣٠ ، ٤٣٣.

٢٤١

فرارا عن الحق وإعراضا عنه وتكذيبا له ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، ولهذا قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار ، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم ، فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وبيده الأمر ، وإليه ترجع الأمور (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية ، واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوك ويكبتهم ، ويجعلهم أسفل السافلين.

قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : بعث نوح وهو لأربعين سنة ، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. وقال قتادة : يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاما لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة ، ودعاهم ثلاثمائة سنة ، ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين عاما ، وهذا قول غريب ، وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما. وقال عون بن أبي شداد : إن الله تعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة ، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة ، وهذا أيضا غريب ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقول ابن عباس أقرب ، والله أعلم.

وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال : قال لي ابن عمر : كم لبث نوح في قومه؟ قال : قلت ألف سنة إلا خمسين عاما ، قال : فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي الذين آمنوا بنوح عليه‌السلام ، وقد تقدم ذكر ذلك مفصلا في سورة هود ، وتقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها ، كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ـ إلى قوله ـ وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [يس : ٤١ ـ ٤٤] وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١١ ـ ١٢] وقال هاهنا : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥٥] أي وجعلنا نوعها رجوما فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ

٢٤٢

مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٣] ولهذا نظائر كثيرة. وقال ابن جرير (١) : لو قيل إن الضمير في قوله : (وَجَعَلْناها) عائد إلى العقوبة لكان وجها ، والله أعلم.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٨)

يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ، أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له والإخلاص له في التقوى وطلب الرزق منه وحده لا شريك له ، وتوحيده في الشكر ، فإنه المشكور على النعم لا مسدي لها غيره ، فقال لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي أخلصوا له العبادة والخوف (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة ، واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة ، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع ، وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم ، هكذا رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد والسدي ، وروى الوالبي عن ابن عباس : وتصنعون إفكا أي تنحتونها أصناما ، وبه قال مجاهد في رواية ، وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم ، واختاره ابن جرير رحمه‌الله. وهي لا تملك لكم رزقا (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) وهذا أبلغ في الحصر كقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) [مريم : ١١] ولهذا قال : (فَابْتَغُوا) أي فاطلبوا (عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي لا عند غيره ، فإن غيره لا يملك شيئا (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده ، واشكروا له على ما أنعم به عليكم (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة ، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء. وقال قتادة في قوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : يعزي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول واعترض بهذا إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضا. والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١٢٨.

٢٤٣

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٣)

يقول تعالى مخبرا عن الخليل عليه‌السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين ، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته ، فإنه سهل عليه يسير لديه ، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء : السموات وما فيها من الكواكب النيرة الثوابت والسيارات ، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال ، وأودية وبراري وقفار ، وأشجار وأنهار ، وثمار وبحار ، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها ، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار ، الذي يقول للشيء كن فيكون.

ولهذا قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ثم قال تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أي يوم القيامة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] وكقوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٦].

وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل ، لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة ، كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» (١) ولهذا قال تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي ترجعون يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه ، بل هو القاهر فوق عباده ، فكل شيء خائف منه فقير إليه ، وهو الغني عما سواه (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) أي جحدوها

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٦.

٢٤٤

وكفروا بالمعاد (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أي لا نصيب لهم فيها (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع شديد في الدنيا والآخرة.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥)

يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل ، أنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) وذلك لأنهم قام عليهم البرهان وتوجهت عليهم الحجة ، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم ف (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) [الصافات : ٩٧ ـ ٩٨] وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة ، وحوطوا حولها ، ثم أضرموا فيها النار ، فارتفع لها لهب إلى عنان السماء ، ولم توقد نار قط أعظم منها ، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق ، ثم قذفوه فيها ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما ، ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما ، فإنه بذل نفسه للرحمن ، وجسده للنيران ، وسخا بولده للقربان ، وجعل ماله للضيفان ، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان.

وقوله تعالى : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) أي سلمه منها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يقول لقومه مقرعا لهم وموبخا على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان : إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا ، وهذا على قراءة من نصب مودة بينكم على أنه مفعول له ، وأما على قراءة الرفع ، فمعناه إنما اتخاذكم هذا لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ينعكس هذا الحال ، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا ثم (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أي تتجاحدون ما كان بينكم (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون الأتباع (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] وقال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] وقال هاهنا : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ) الآية ، أي ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار وما لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله ، وهذا حال الكافرين ، وأما المؤمنون فبخلاف ذلك.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا أبو عاصم الثقفي ، حدثنا

٢٤٥

الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هبيرة المخزومي عن أبيه عن جده ، عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت : قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبرك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد ، فمن يدري أين الطرفان؟ ـ قالت : الله ورسوله أعلم ـ ثم ينادي مناد من تحت العرش : يا أهل التوحيد ، فيشرئبون ـ قال أبو عاصم يرفعون رؤوسهم ـ ثم ينادي : يا أهل التوحيد ، ثم ينادي الثالثة : يا أهل التوحيد ، إن الله قد عفا عنكم ـ قال ـ فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلمات الدنيا ـ يعني المظالم ـ ثم ينادي : يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض ، وعلى الله الثواب».

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه آمن له لوط ، يقال إنه ابن أخي إبراهيم ، يقولون هو لوط بن هاران بن آزر ، يعني ولم يؤمن به ، من قومه سواه وسارة امرأة إبراهيم الخليل ، لكن يقال كيف الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الوارد في الصحيح أن إبراهيم حين مر على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه ، فقال : أختي ، ثم جاء إليها فقال لها : إني قد قلت له إنك أختي فلا تكذبيني ، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا ـ والله أعلم ـ أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك ، فإن لوطاعليه‌السلام آمن به من قومه ، وهاجر معه إلى بلاد الشام ، ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها ، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي.

وقوله تعالى : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) يحتمل عود الضمير في قوله (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) على لوط. لأنه هو أقرب المذكورين ، ويحتمل عوده إلى إبراهيم ، قال ابن عباس والضحاك ، وهو المكنى عنه بقوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي من قومه ، ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك ولهذا قال : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به ، الحكيم في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية.

وقال قتادة : هاجروا جميعا من كوثى ، وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم ، وتقذرهم روح الله عزوجل ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تبيت معهم إذا باتوا ، وتقيل معهم إذا قالوا ، وتأكل ما سقط منهم».

وقد أسند الإمام أحمد (١) هذا الحديث فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

__________________

(١) المسند ٢ / ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٩.

٢٤٦

قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب قال : لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية ، قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي ، فجئته إذ جاء رجل فانتبذ (١) الناس وعليه خميصة (٢) ، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث ، فقال عبد الله : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ، فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم ، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها ، فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن ، تحشرهم النار مع القردة والخنازير ، فتبيت معهم إذا باتوا ، وتقيل معهم إذا قالوا ، وتأكل من تخلف منهم» قال : وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم (٣) ، كلما خرج منهم قرن قطع كلما خرج منهم قرن قطع ـ حتى عدها زيادة على عشرين مرة ـ كلما خرج منهم قرن قطع (٤) حتى يخرج الدجال في بقيتهم» ورواه الإمام أحمد عن أبي داود وعبد الصمد كلاهما عن هشام الدستوائي عن قتادة به.

وقد رواه أبو داود (٥) في سننه فقال في كتاب الجهاد باب ما جاء في سكنى الشام حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ستكون هجرة بعد هجرة ، وينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ، ويبقى في الأرض شرار أهلها ، تلفظهم أرضهم ، وتقذرهم نفس الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير».

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يزيد ، أخبرنا أبو جناب يحيى بن أبي حية عن شهر بن حوشب قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم ، ثم لقد رأيتنا بآخرة الآن والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ، ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر ، وتبايعتم بالعينة ، وتركتم الجهاد في سبيل الله ، ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه ، وتتوبوا إلى الله تعالى» وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها ، وتلفظهم أرضوهم ، وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تقيل معهم إذا قالوا ، وتبيت معهم حيث

__________________

(١) انتبذ : تنحى ، وانتبذ فلان : أي ذهب ناحية ، وانتبذ عن قومه : تحنى عنهم.

(٢) الخميصة : كساء أسود مربع.

(٣) التراقي : جمع ترقوة ، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ، وهما ترقوتان ، والمعنى أن قراءتهم لا يرفعها الله ، ولا يقبلها ، فكأنها لم تتجاوز حلوقهم.

(٤) أي لا يأتي قرن آخر على شاكلته.

(٥) كتاب الجهاد باب ٣.

(٦) المسند ٢ / ٨٤.

٢٤٧

يبيتون ، وما سقط منهم فلها» ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يخرج قوم من أمتي يسيئون الأعمال ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ـ قال يزيد : لا أعلمه إلا قال ـ يحقر أحدكم علمه مع علمهم ، يقتلون أهل الإسلام ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، فطوبى لمن قتلهم ، وطوبى لمن قتلوه ، كلما طلع منهم قرن قتله الله» فردد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين مرة وأكثر ، وأنا أسمع.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : حدثنا أبو الحسن بن الفضل ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا : حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا الأوزاعي عن نافع ، وقال أبو النضر عمن حدثه عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم ، حتى لا يبقى إلا شرار أهلها ، تلفظهم الأرضون ، وتقذرهم روح الرحمن ، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، لها ما سقط منهم» غريب من حديث نافع ، والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء ، والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ.

وقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) كقوله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم : ٤٩] أي أنه لما فارق قومه ، أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي ، وولد له ولد صالح نبي في حياة جده ، وكذلك قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) [الأنبياء : ٧٢] أي زيادة ، كما قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي ويولد لهذا الولد ولد في حياتكما ، تقر به أعينكما ، وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن وثبتت به السنة النبوية ، قال الله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) [البقرة : ١٣٣] الآية ، وفي الصحيحين «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام» (١) فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) قال : هما ولدا إبراهيم ، فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد ، فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلا ، وجعله للناس إماما أن جعل في ذريته النبوة والكتاب ، فلم يوجد نبي بعد إبراهيمعليه‌السلام إلا وهو من سلالته ، فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه عند تفسير الآية الرابعة من سورة يوسف.

٢٤٨

إبراهيم ، حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم ، فقام في ملئهم مبشرا بالنبي العربي القرشي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه ، عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة ، فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني ، والمنزل الرحب ، والمورد العذب ، والزوجة الحسنة الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن ، وكل أحد يحبه ويتولاه ، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه ، كما قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٢] أي قام بجميع ما أمر به وكمل طاعة ربه ، ولهذا قال تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وكما قال تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ إلى قوله ـ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [النحل : ١٢٠ ـ ١٢٢].

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣٠)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه‌السلام ، أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم ، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال في إتيانهم الذكران من العالمين ، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم ، وكانوا مع هذا يكفرون بالله ويكذبون رسله ، ويخالفون ويقطعون السبيل ، أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، لا ينكر بعضهم على بعض شيئا من ذلك ، فمن قائل كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ ، قاله مجاهد ، ومن قائل كانوا يتضارطون ويتضاحكون ، قالته عائشة رضي الله عنها والقاسم ، ومن قائل كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك ، وكل ذلك يصدر عنهم وكانوا شرا من ذلك.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرني حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا سماك بن حرب عن أبي صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى: (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال «يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم ، وذلك

__________________

(١) المسند ٦ / ٣٤١.

٢٤٩

المنكر الذي كانوا يأتونه» (١) ورواه الترمذي وابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة ، عن أبي يونس القشيري عن حاتم بن أبي صغيرة به ، ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير عن عمرو بن قيس عن الحكم عن مجاهد (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسؤال في المجلس ، وحل أزرار القباء. وقوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم ، ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ).

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥)

لما استنصر لوط عليه‌السلام بالله عزوجل عليهم ، بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم عليه‌السلام في هيئة أضياف ، فجاءهم بما ينبغي للضيف ، فلما رآهم أنه لا همة لهم إلى الطعام ، نكرهم وأوجس منهم خيفة ، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة ، وكانت حاضرة ، فتعجبت من ذلك كما تقدم بيانه في سورة هود والحجر ، فلما جاءت إبراهيم البشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط ، أخذ يدافع لعلهم ينظرون لعل الله أن يهديهم ، ولما قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الهالكين ، لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم.

ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شبان حسان ، فلما رآهم كذلك (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧] أي اغتم بأمرهم إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة (قالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) وذلك أن جبريل عليه‌السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ، ثم رفعها إلى

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢٩ ، باب ٢.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ١٣٦.

٢٥٠

عنان السماء ، ثم قلبها عليهم ، وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك ، وما هي من الظالمين ببعيد ، وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة ، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد ، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد. ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً) أي واضحة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كما قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨].

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧)

يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه‌السلام ، أنه أنذر قومه أهل مدين ، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة ، فقال : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) قال ابن جرير (١) : قال بعضهم معناه واخشوا اليوم الآخر ، وهذا كقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الممتحنة : ٦] وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد وهو السعي فيها والبغي على أهلها ، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان ويقطعون الطريق على الناس ، هذا مع كفرهم بالله ورسوله ، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم ، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها ، وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء. وقوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) قال قتادة : ميتين ، وقال غيره : قد ألقى بعضهم على بعض.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠)

يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم ، وأخذهم بالانتقام منهم ، فعاد قوم هود عليه‌السلام كانوا يسكنون الأحقاف ، وهي قريبة من حضر موت بلاد اليمن ، وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى ، وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدا ، وتمر عليها كثيرا ، وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة ، وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١٣٩.

٢٥١

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي كانت عقوبته بما يناسبه (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا : من أشد منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد ، عاتية الهبوب جدا ، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض ، فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه ، فيبقى بدنا بلا رأس ، كأنهم أعجاز نخل منقعر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم ثمود ، قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوه سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم ، وتهددوا نبي الله صالحا ومن آمن معه وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم ، فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا ، وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحا ، وفرح ومرح وتاه بنفسه ، واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي فيما فعل بهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم ، وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الآية ، وهو من باب اللف والنشر ، وهو أنه ذكر الأمم المكذبة ، ثم قال (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) أي من هؤلاء المذكورين ، وإنما نبهت على هذا لأنه قد روى ابن جريج قال : قال ابن عباس في قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) قال قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) قال : قوم نوح ، وهذا منقطع عن ابن عباس : فإن ابن جريج لم يدركه. ثم قد ذكر الله في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء ، وأطال السياق والفصل بين ذلك وبين هذا السياق ، وقال قتادة (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) قال : قوم لوط ، (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) قوم شعيب ، وهذا بعيد أيضا لما تقدم ، والله أعلم.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) (٤٣)

هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم ، ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه ، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم ، إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه شيئا ، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله وهو مع ذلك يحسن

٢٥٢

العمل في اتباع الشرع ، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها.

ثم قال تعالى متوعدا لمن عبد غيره وأشرك به ، إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم ، إنه حكيم عليم ، ثم قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثني ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : عقلت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألف مثل ، وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن سنان عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني ، لأني سمعت الله تعالى يقول : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥)

يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه خلق السموات والأرض بالحق ، يعني لا على وجه العبث واللعب (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) [طه : ١٥] (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣ پ]. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية ، ثم قال تعالى آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن ، وهو قراءته وإبلاغه للناس (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات ، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعا «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم تزده من الله إلا بعدا».

[ذكر الآثار الواردة في ذلك]

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس ، حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد ، حدثنا عمر بن أبي عثمان ، حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال : سئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٠٣.

٢٥٣

والمنكر فلا صلاة له». وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي ، حدثنا أبو معاوية عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا» ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال : فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا ، فهذا موقوف. قال ابن جرير (٢) : وحدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة» وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر. قال : قال سفيان (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) قال : فقال سفيان : أي والله تأمره وتنهاه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد عن جويبر عن الضحاك عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال أبو خالد مرة عن عبد الله ـ : «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر» والموقوف أصح ، كما رواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال : قيل لعبد الله : إن فلانا يطيل الصلاة ، قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا علي ، حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد بها من الله إلا بعدا» والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، أنبأنا جرير ـ يعني ابن عبد الحميد ـ عن الأعمش عن أبي صالح قال : أراه عن جابر ، شك الأعمش ، قال : قال رجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فلانا يصلي بالليل ، فإذا أصبح سرق. قال : «سينهاه ما تقول». وحدثنا محمد بن موسى الجرشي ، أخبرنا زياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ولم يشك ، ثم قال : وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد ، واختلفوا في إسناده ، فرواه غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو غيره. وقال قيس عن الأعمش عن أبي سفيان ، عن جابر قال جرير وزياد عن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١٤٤.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ١٤٥.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ١٤٥.

٢٥٤

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، أخبرنا الأعمش قال : أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل ، فإذا أصبح سرق ، فقال : «إنه سينهاه ما تقول». وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر ، ولهذا قال تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي أعظم من الأول (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال : إن الصلاة فيها ثلاث خصال ، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله ، فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر الله القرآن يأمره وينهاه وقال ابن عون الأنصاري : إذا كنت في صلاة ، فأنت في معروف ، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر ، والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر.

وقال حماد بن أبي سليمان (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) يعني ما دمت فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يقول : ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه (٢) ، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغيره ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : ذكر الله عند طعامك وعند منامك ، قلت : فإن صاحبا لي في المنزل يقول غير الذي تقول ، قال : وأي شيء يقول؟ قلت : يقول الله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه ، قال : صدق ، قال : وحدثنا أبي ، حدثنا النفيلي ، حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : لها وجهان ، قال : ذكر الله عند ما حرمه ، قال : وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.

قال ابن جرير (٣) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال : قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)؟ قال : قلت نعم ، قال : فما هو؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك. قال : لقد قلت قولا عجيبا وما هو كذلك ولكنه إنما يقول ذكر الله إياكم عند ما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه ، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس ، وروي أيضا عن ابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم ، واختاره ابن جرير.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ

__________________

(١) المسند ٢ / ٤٤٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٤٦.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ١٤٥ ، ١٤٦.

٢٥٥

إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦)

قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون : بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين ، فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه ، كما قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥] الآية ، وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] وهذا القول اختاره ابن جرير ، وحكاه عن ابن زيد.

وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي حادوا عن وجه الحق ، وعموا عن واضح المحجة ، وعاندوا وكابروا ، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم ، قال الله عزوجل : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ـ إلى قوله ـ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥] قال جابر : أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف ، قال مجاهد (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يعني أهل الحرب ، ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه ، فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ، ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا ، ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا.

قال البخاري رحمه‌الله : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عثمان بن عمر ، أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون» وهذا الحديث تفرد به البخاري (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عثمان بن عمرو ، أخبرنا يونس عن الزهري ، أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه رجل من اليهود ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم» قال اليهودي : أنا أشهد أنها تتكلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان حقا لم تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم تصدقوهم».

(قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة. وقيل عمار ، وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري

__________________

(١) كتاب الشهادات باب ٢٩ ، وتفسير سورة ٢ ، باب ١ ، والاعتصام باب ٢٥ ، والتوحيد باب ٥١.

(٢) المسند ٤ / ١٣٦.

٢٥٦

رضي الله عنه ، ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان ، لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل ، وما أقل الصدق فيه ، ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا.

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.

وقال البخاري (٢) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدث تقرؤونه محضا لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

وقال البخاري (٣) : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة ، وذكر كعب الأحبار ، فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

(قلت) معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد ، لأنه يحدث عن صحف يحسن بها الظن ، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة ، لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ، ومع ذلك وقرب العهد ، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عزوجل ، ومن منحه الله تعالى علما بذلك كل بحسبه ، ولله الحمد والمنة.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ) (٤٩)

قال ابن جرير (٤) : يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل ، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب ، وهذا الذي قاله حسن ومناسبته وارتباطه جيد. وقوله تعالى :

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١٥١.

(٢) كتاب الاعتصام باب ٢٥ ، والتوحيد باب ٤٢.

(٣) كتاب الاعتصام باب ٢٥.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ١٥١.

٢٥٧

(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما. وقوله تعالى : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يعني العرب من قريش وغيرهم (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل ، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات.

ثم قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ، وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما إلى يوم الدين ، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم.

ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه‌السلام كتب يوم الحديبية : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى : ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي ، وتبرؤوا منه ، وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم ، وإنما أراد الرجل ـ أعني الباجي ـ فيما يظهر عنه ، أنه كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إخبارا عن الدجال : «مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية «ك ف ر ، يقرؤها كل مؤمن» (١) وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمتصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تعلم الكتابة ، فضعيف لا أصل له ، قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) أي تقرأ (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) لتأكيد النفي ولا تخطه بيمينك ، تأكيد أيضا ، وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

وقوله تعالى : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس ، فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: ٥] قال الله تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٦] الآية ، وقال هاهنا : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمرا ونهيا وخبرا ، يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ٤٠] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٧ ، والفتن باب ٢٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٧٠ ، والفتن حديث ٤٥ ، ٩٥ ، ١٠١ ، ١٠٥.

٢٥٨

«ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» (١) وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى : «إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظانا» (٢) أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل ، لأنه قد جاء من الحديث الآخر «لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار» (٣) ولأنه محفوظ في الصدور ميسر على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظا ومعنى ، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم.

واختار ابن جرير (٤) : أن المعنى في قوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا ، ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ، ونقله عن قتادة وابن جريج ، وحكى الأول عن الحسن البصري فقط ، قلت وهو الذي رواه العوفي عن ابن عباس ، وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون ، أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات ، يعنون ترشدهم إلى أن محمدا رسول الله كما أتى صالح بناقته ، قال الله تعالى : (قُلْ) يا محمد (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي إنما أمر ذلك إلى الله ، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم ، لأن هذا سهل عليه يسير لديه ، ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان ، فلا يجيبكم إلى ذلك ، كما قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء : ٥٩].

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١ ، وفضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٦٢.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٥١ ، ١٥٥.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ١٥٣.

٢٥٩

وقوله : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت نذيرا لكم بين النذارة ، فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاءهم ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله ، بل عن معارضة سورة منه ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ، ونبأ ما بعدهم ، وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب ، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه : ١٣٣].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢) أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بيانا للحق وإزاحة للباطل ، وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.

ثم قال تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني ، فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧] وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به ، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا تخفى عليه خافية (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل ، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم ، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل ، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم.

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٤١ ، ٤٥١.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، والاعتصام باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

٢٦٠