تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

منكم ، أو كما قالوا لهم فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا. قال : ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران ، فالله أعلم أي ذلك كان. قال : ويقال ـ والله أعلم ـ أن فيهم نزلت هذه الآيات (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ـ إلى قوله ـ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) قال : وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والآيات اللاتي في سورة المائدة (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ـ إلى قوله ـ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (١) [آل عمران : ٥٣].

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنك يا محمد (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ ، والله يهدي من يشاء ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] وقال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وهذه الآية أخص من هذا كله ، فإنه قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.

وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا ، فلما حضرته الوفاة وحان أجله ، دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختطف من يده ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، ولله الحكمة التامة.

قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه ، وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم قل لا إله إلا الله ، كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبي أن يقول لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة : ١١٣] وأنزل في أبي طالب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣٩٢.

٢٢١

أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) أخرجاه من حديث الزهري ، وهكذا رواه مسلم في صحيحه ، والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عماه قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة» فقال : لو لا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت ، لأقررت بها عينك ، لا أقولها إلا لأقر بها عينك ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان ، ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان : حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه ، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لا إله إلا الله ، فأبى عليه ذلك ، وقال : أي ابن أخي ملة الأشياخ ، وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن أبي راشد قال : كان رسول قيصر جاء إلي ، قال : كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا ، فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ، ثم قال : «ممن الرجل؟» قلت : من تنوخ. قال : «هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية؟» قلت : إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونظر إلى أصحابه ، وقال : «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء».

وقوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) يقول تعالى مخبرا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين ، أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ، ويتخطفونا أينما كنا ، قال الله تعالى مجيبا لهم :

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع ، فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم ، ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره ، وكذلك المتاجر والأمتعة (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولهذا قالوا ما قالوا.

وقد قال النسائي : أنبأنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج ، أخبرني ابن أبي مليكة قال : قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس ، ولم يسمعه منه ، إن الحارث بن عامر بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٤٠ ، وتفسير سورة ٢٨ ، باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٩ ، ٤١ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٨ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٣٤.

٢٢٢

نوفل الذي قال (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا).

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩)

يقول تعالى معرضا بأهل مكة في قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق ، كما قال في الآية الأخرى (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ـ إلى قوله ـ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [النحل : ١١٢ ـ ١١٣] ولهذا قال تعالى : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم. وقوله تعالى : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي رجعت خرابا ليس فيها أحد.

وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا عن ابن مسعود أنه سمع كعبا يقول لعمر : إن سليمان عليه‌السلام قال للهامة ـ يعني البومة ـ : ما لك لا تأكلين الزرع؟ قالت : لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه ، قال : فما لك لا تشربين الماء؟ قالت : لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به. قال : فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى ، ثم تلا (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) ثم قال تعالى مخبرا عن عدله وأنه لا يهلك أحدا ظالما له ، وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم.

ولهذا قال : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) وهي مكة (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام ، كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى : ٧] وقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقال: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وقال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٠] وتمام الدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) [الإسراء : ٥٨] الآية ، فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة.

وقد قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى ، لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) ولهذا ختم به النبوة والرسالة ، فلا نبي من بعده ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة ، وقيل

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣ ، والدارمي في السير باب ٢٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢.

٢٢٣

المراد بقوله : (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم ، حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما ، وليس ببعيد.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ(٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا ، وما فيها من الزينة الدنيئة ، والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم ، كما قال تعالى :

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] وقال : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٨] وقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) [الرعد : ٢٦] وقال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) الأعلى : ١٦ ـ ١٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر ماذا يرجع إليه» (١).

وقوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا يعقل من يقدم الدنيا على الآخرة. وقوله تعالى: (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) يقول تعالى : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح الأعمال من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة ، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده ، فهو ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) قال مجاهد وقتادة : من المعذبين. ثم قد قيل : إنها نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي أبي جهل. وقيل في حمزة وعلي وأبي جهل ، وكلاهما عن مجاهد ، الظاهر أنها عامة ، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات ، وذاك في الدركات ، فقال : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] وقال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٥٨].

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧)

يقول تعالى مخبرا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) يعني أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

٢٢٤

والأنداد ، هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤].

وقوله : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) فشهدوا عليهم أنه أغووهم فاتبعوهم ثم تبرءوا من عبادتهم ، كما قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦].

وقال الخليل عليه‌السلام لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] الآية ، وقال الله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ـ إلى قوله ـ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ـ ١٦٧] ولهذا قال : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ) أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة.

وقوله : (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا ، وهذا كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٢ ـ ٥٣]. وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) النداء الأول عن سؤال التوحيد ، وهذا فيه إثبات النبوات ، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم ، وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره : من ربك ، ومن نبيك ، وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأما الكافر فيقول : هاه هاه لا أدري ، ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت ، لأن من كان في هذه أعمى ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، ولهذا قال تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) قال مجاهد : فعميت عليهم الحجج ، فهم لا يتساءلون بالأنساب. وقوله (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي في الدنيا (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أي يوم القيامة وعسى من الله موجبة ، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)

٢٢٥

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠)

يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب ، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) أي ما يشاء ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ، ومرجعها إليه ، وقوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٢٦٠] وقد اختار ابن جرير أن (ما) هاهنا بمعنى الذي تقديره : ويختار الذي لهم فيه خيرة ، وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح ، والصحيح أنها نافية ، كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره أيضا. فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار ، وأنه لا نظير له في ذلك ، ولهذا قال (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا.

ثم قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي يعلم ما تكن الضمائر ، وما تنطوي عليه السرائر ، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠]. وقوله (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو المنفرد بالإلهية ، فلا معبود سواه ، كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته (وَلَهُ الْحُكْمُ) أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي جميعكم يوم القيامة ، فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر ، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣)

يقول تعالى ممتنا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما وبيّن أنه لو جعل الليل دائما عليهم سرمدا إلى يوم القيامة ، لأضر ذلك بهم ، ولسئمته النفوس وانحصرت منه ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) أي تبصرون به وتستأنسون بسببه (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمدا ، أي دائما مستمرا إلى يوم القيامة ، لأضر ذلك بهم ، ولتعبت الأبدان وكلت من كثرة الحركات والأشغال ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم

٢٢٦

(أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ) أي بكم (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي خلق هذا وهذا (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في النهار بالأسفار والترحال ، والحركات والأشغال ، وهذا من باب اللف والنشر. وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار ، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار ، أو بالنهار استدركه بالليل ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦٢] والآيات في هذا كثيرة.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

وهذا أيضا نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلها آخر ، يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي في دار الدنيا (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) قال مجاهد : يعني رسولا (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أي لا إله غيره ، فلم ينطقوا ولم يحيروا جوابا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ذهبوا فلم ينفعوهم.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧)

قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) قال : كان ابن عمه (١) ، وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه‌السلام. قال ابن جريج : هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عرمان بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه‌السلام ، قال ابن جريج : وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه ، والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة : كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى ، وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب : زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على قومه.

وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) أي الأموال (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٠٠.

٢٢٧

ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح مثل الإصبع ، كل مفتاح على خزانة على حدته ، فإذا ركب حملت على ستين بغلا أغر محجلا (١) ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه ، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد : لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) قال ابن عباس : يعني المرحين. وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.

وقوله : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات ، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ، فآت كل ذي حق حقه (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أحسن إلى خلقه ، كما أحسن هو إليك (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض ، وتسيء إلى خلق الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨)

يقول تعالى مخبرا عن جواب قارون لقومه حين نصحوه ، وأرشدوه إلى الخير (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي لا أفتقر إلى ما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي ، فتقديره إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له ، وهذا كقوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الزمر : ٤٩] أي على علم من الله بي ، وكقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) [فصلت : ٥٠] أي هذا أستحقه.

وقد روي عن بعضهم أنه أراد (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي أنه كان يعاني علم الكيمياء ، وهذا القول ضعيف ، لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل ، لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عزوجل ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣]. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٠١.

٢٢٨

فليخلقوا شعيرة» (١).

وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل ، فكيف بمن يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى؟ هذا زور ومحال ، وجهل وضلال ، وإنما يقدرون على الصبغ في الصور الظاهرة ، وهي كذب وزغل وتمويه وترويج أنه صحيح في نفس الأمر وليس كذلك قطعا لا محالة ، ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون.

فأما ما يجريه الله سبحانه من خرق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبا أو فضة أو نحو ذلك ، فهذا أمر لا ينكره مسلم ، ولا يرده مؤمن ، ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات ، وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات واختياره وفعله ، كما روي عن حيوة بن شريح المصري رحمه‌الله تعالى أنه سأله سائل ، فلم يكن عنده ما يعطيه ، ورأى ضرورته ، فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه ، ثم ألقاها إلى ذلك السائل ، فإذا هي ذهب أحمر ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا يطول ذكرها.

وقال بعضهم : إن قارون كان يعرف الاسم الأعظم ، فدعا الله به فتمول بسببه. والصحيح المعنى الأول ، ولهذا قال الله تعالى رادا عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي قد كان من هو أكثر منه مالا ، وما كان ذلك عن محبة منّا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ، ولهذا قال : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي لكثرة ذنوبهم قال قتادة (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) على خير عندي. وقال السدي : على علم أني أهل لذلك.

وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) قال : لو لا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) الآية ، وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه لو لا أن يستحق ذلك لما أعطي.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ) (٨٠)

يقول تعالى مخبرا عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة ، وتجمل باهر ، من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه ، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في اللباس باب ٩٠ ، والتوحيد باب ٥٦ ، ومسلم في اللباس حديث ١٠١.

٢٢٩

زخارفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو حظ وافر من الدنيا ، فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) [السجدة : ١٧]. وقوله : (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) قال السدي : ولا يلقى الجنة إلا الصابرون ، كأنه جعل ذلك من تمام الكلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير : ولا يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون ، عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الآخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعا من كلام أولئك ، وجعله من كلام الله عزوجل وإخباره بذلك.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢)

لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح عند البخاري من حديث الزهري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (٢). ثم رواه من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص ، حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما ، أمر الله الأرض فأخذته ، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة» تفرد به أحمد ، وإسناده حسن.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا أبو يعلى بن منصور ، أخبرني محمد بن مسلم ، سمعت زياد النميري يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما ، فأمر الله الأرض فأخذته ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال : رأيت شابا في مسجد نجران ، فجعلت أنظر

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣١٢.

(٢) أخرجه البخاري في اللباس باب ٥.

(٣) المسند ٣ / ٤٠.

٢٣٠

إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله ، فقال : ما لك تنظر إلي؟ فقلت : أعجب من جمالك وكمالك. فقال : إن الله ليعجب مني ، قال فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر ، فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب به.

وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه‌السلام ، واختلف في سببه فعن ابن عباس والسدي أن قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله تعالى ، فتقول يا موسى إنك فعلت بي كذا وكذا ، فلما قالت ذلك في الملأ لموسى عليه‌السلام أرعد من الفرق ، وأقبل عليها بعد ما صلى ركعتين ثم قال : أنشدك بالله الذي فرق البحر وأنجاكم من فرعون ، وفعل كذا وكذا لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت؟ فقالت : أما إذ نشدتني فإن قارون أعطاني كذا وكذا على أن أقول ذلك لك ، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه ، فعند ذلك خر موسى لله عزوجل ساجدا ، وسأل الله في قارون ، فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه ، فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره ، فكان ذلك.

وقيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب ، وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة ، فمر في محفله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه‌السلام وهو يذكرهم بأيام الله ، فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه ، فدعاه موسى عليه‌السلام وقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا ، ولئن شئت لنخرجن فلتدعون علي وأدعو عليك ، فخرج موسى وخرج قارون في قومه ، فقال موسى عليه‌السلام : تدعو أو أدعو أنا ، فقال : بل أدعو أنا ، فدعا قارون فلم يجب له ، ثم قال موسى : أدعو؟ قال : نعم ، فقال موسى : اللهم مر الأرض أن تطيعني اليوم ، فأوحى الله إليه أني قد فعلت ، فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى ركبهم ، ثم إلى مناكبهم ، ثم قال : أقبلي بكنوزهم وأموالهم. قال : فأقبلت بها حتى نظروا إليها ، ثم أشار موسى بيده ، ثم قال : اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض.

وعن ابن عباس قال : خسف بهم إلى الأرض السابعة. وقال قتادة : ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة ، فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة ، وقد ذكر هاهنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صفحا. وقوله تعالى : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه ، ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله ، ولا كان هو في نفسه منتصرا لنفسه ، فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره.

وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) أي الذين لما رأوه في زينته قالوا (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فلما خسف به أصبحو يقولون (وَيْكَأَنَّ اللهَ

٢٣١

يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) ، أي ليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطي ويمنع ويضيق ويوسع ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة ، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» (١).

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) أي لو لا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) يعنون أنه كان كافرا ، ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد اختلف النحاة في معنى قوله هاهنا ويكأن ، فقال بعضهم : معناه ويلك اعلم أن ، ولكن خفف فقيل ويك ودل فتح أن على حذف اعلم ، وهذا القول ضعفه ابن جرير ، والظاهر أنه قوي ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن ، والكتابة أمر وضعي اصطلاحي ، والمرجع إلى اللفظ العربي ، والله أعلم ، وقيل معناها ويكأن أي ألم تر أن ، قاله قتادة. وقيل معناها وي كأن ففصلها وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه ، وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قال ابن جرير (٢) : وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة إنها بمعنى ألم تر أن ، واستشهد بقول الشاعر [الخفيف] :

سألتاني الطلاق إذ رأتاني

قلّ مالي قد جئتماني بنكر (٣)

ويكأن من يكن له نشب يحبب

ومن يفتقر يعش عيش ضر

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوا في الأرض أي ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم ولا فسادا فيهم ، كما قال عكرمة العلو : التجبر. وقال سعيد بن جبير : العلو البغي. وقال سفيان بن سعيد الثوري عن منصور عن مسلم البطين : العلو في الأرض التكبر

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٨٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ١١٣.

(٣) البيت الأول لزيد بن عمرو بن نفيل في الكتاب ٢ / ١٥٥ ، ٣ / ٥٥٥ ، وله أو لسعيد ابنه أو لنبيه بن الحجاج في خزانة الأدب ٦ / ٤١٠ ، ٤١٢ ، أو لنبيه بن الحجاج في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١١ ، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٤٨ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٧٦ ، والبيت الثاني لزيد بن عمرو بن نفيل في خزانة الأدب ٦ / ٤٠٤ ، ٤٠٨ ، ٤١٠ ، والدرر ٥ / ٣٠٥ ، وذيل سمط اللآلي ص ١٠٣ ، والكتاب ٢ / ١٥٥ ، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني ١٧ / ٢٠٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١ ، ولسان العرب (وا) ، (ويا) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٥٣ ، والخصائص ٣ / ٤١ ، ١٦٩ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٨٦ ، وشرح المفصل ٤ / ٧٦ ، ومجالس ثعلب ١ / ٣٨٩ ، والمحتسب ٢ / ١٥٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٠٦.

٢٣٢

بغير حق ، والفساد أخذ المال بغير حق. وقال ابن جريج (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) تعظما وتجبرا (وَلا فَساداً) عملا بالمعاصي.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي عن أشعث السمان عن أبي سلام الأعرج عن علي قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره ، فإن ذلك مذموم ، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنه أوحي إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» (٢) وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل ، فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسنا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك؟ فقال : «لا ، إن الله جميل يحب الجمال» (٣). وقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي يوم القيامة (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي ثواب الله خير من حسنة العبد ، فكيف والله يضاعفه أضعافا كثيرة ، وهذا مقام الفضل ثم قال : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قال في الآية الأخرى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا مقام الفضل والعدل.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

يقول تعالى آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ، ومخبرا له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة ، فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي افترض عليك أداءه إلى الناس (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك ، كما قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] وقال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] وقال : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩].

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ١١٥.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٤ ، وأبو داود في الأدب باب ٤٠ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٦ ، ٢٣.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٧ ، وابن ماجة في الدعاء باب ١٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٣٣ ، ١٣٤ ، ١٥١.

٢٣٣

وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) يقول لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن. قاله السدي ، وقال أبو سعيد مثلها ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : إلى يوم القيامة ، ورواه مالك عن الزهري ، وقال الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إلى الموت ، ولهذا طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وفي بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة. وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة ، وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح. وقال الحسن البصري : أي والله إن له لمعادا فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة. وقد روي عن ابن عباس غير ذلك.

كما قال البخاري (١) في التفسير من صحيحه : حدثنا محمد بن مقاتل ، أنبأنا يعلى ، حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : إلى مكة ، وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه ، وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به ، وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إلى مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجزاز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك.

وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال : لما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فبلغ الجحفة ، اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إلى مكة ، وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكيا ، والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال : هذه مما كان ابن عباس يكتمها.

وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القارئ أنه قال في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) قال إلى بيت المقدس ، وهذا ـ والله أعلم ـ يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة ، لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب. ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة ، وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما فسر ابن عباس سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [الفتح : ١] إلى آخر السورة ، أنه أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعي إليه ، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ، ووافقه عمر على ذلك وقال : لا أعلم منها غير الذي تعلم ، ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) بالموت ، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت ، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين : الإنس والجن ، ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٨ ، باب ١.

٢٣٤

وأشرف خلق الله على الإطلاق.

وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني ، وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار ، ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى مذكرا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك ، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) أي معينا (لِلْكافِرِينَ) ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله ، فإن الله معل كلمتك ومؤيد دينك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان ، ولهذا قال : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تليق العبادة إلا له ، ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم ، الذي تموت الخلائق ولا يموت ، كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧] فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله هاهنا : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا إياه. وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد [الطويل] :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (١)

وقال مجاهد والثوري في قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا ما أريد به وجهه ، وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له ، قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر [البسيط] :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل (٢)

__________________

(١) عجزه :

وكل نعيم لا محالة زائل

والبيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٦ ، والحديث أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٢٦ ، ومسلم في البر حديث ٢ ـ ٦ ، والترمذي في الأدب باب ٧٠ ، وابن ماجة في الأدب باب ٤١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٨ ، ٣٩١ ، ٣٩٣ ، ٤٤٤ ، ٤٥٨ ، ٤٧٠ ، ٤٨١.

(٢) البيت بلا نسبة في أدب الكاتب ص ٥٢٤ ، والأشباه والنظائر ٤ / ١٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢٠ ، ـ

٢٣٥

وهذا القول لا ينافي القول الأول ، فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة ، والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس ، فإنه الأول الآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا عمر بن سليم الباهلي ، حدثنا أبو الوليد قال : كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة ، فيقف على بابها فينادي بصوت حزين ، فيقول أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقوله : (لَهُ الْحُكْمُ) أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوم معادكم ، فيجزيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

آخر تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.

__________________

ـ والكتاب ١ / ٣٧ ، ولسان العرب (غفر) ، وتفسير الطبري ١٠ / ١١٩.

٢٣٦

سورة العنكبوت

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤)

أما الكلام على الحروف المقطعة ، فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) استفهام إنكار ، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان ، كما جاء في الحديث الصحيح «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» (١) وهذه الآية كقوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [براءة : ١٦] ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤] ولهذا قال هاهنا (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه ، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة ، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) [البقرة : ١٤٣] إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود ، والعلم أعم من الرؤية ، فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.

وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان ، فإن من

__________________

(١) أخرجه البخاري في المرضى باب ٣ ، والترمذي في الزهد باب ٥٧ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٨٠ ، ١٨٥.

٢٣٧

ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم ، ولهذا قال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أي يفوتونا (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما يظنون.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧)

يقول تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي في الدار الآخرة ، وعمل الصالحات ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل ، فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا موفرا ، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) [الجاثية : ١٥] أي من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على نفسه ، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد ، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

قال الحسن البصري : إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوما من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ، ومع بره وإحسانه بهم ، يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء ، وهو أن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون ، فيقبل القليل من الحسنات ، ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] وقال هاهنا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ).

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩)

يقول تعالى آمرا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان ، ولهما عليه غاية الإحسان ، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق ، ولهذا قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِن ْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤] ومع هذه

٢٣٨

الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم ، قال : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي وإن حرصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فإياك وإياهما ، فلا تطعهما في ذلك ، فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة ، فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك ، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك ، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا ، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب أي حبا دينيا ، ولهذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ).

وقال الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال : نزلت فيّ أربع آيات ، فذكر قصته وقال : قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها ، فنزلت (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (١) الآية ، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا. وقال الترمذي حسن صحيح.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) (١١)

يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم ، بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم ، فارتدوا عن الإسلام ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) قال ابن عباس : يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أو ذي في الله (٢) ، وكذا قال غيره من علماء السلف ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ـ إلى قوله ـ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) [الحج : ١١].

ثم قال عزوجل : (لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد ، وفتح ومغانم ، ليقولن هؤلاء لكم : إنا كنا معكم ، أي إخوانكم في الدين ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٤٤ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٩ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ١٨١ ، ١٨٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٢٤.

٢٣٩

لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤١] ، وقال تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [المائدة : ٥٢] وقال تعالى مخبرا عنهم هاهنا : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ثم قال الله تعالى : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم ، وإن أظهروا لكم الموافقة.

وقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) أي وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء ، ليتميز هؤلاء من هؤلاء ، من يطيع الله في الضراء والسراء ، ومن إنما يطيعه في حظ نفسه ، كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] ، وقال تعالى بعد وقعة أحد التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] الآية.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى : ارجعوا عن دينكم إلى ديننا ، واتبعوا سبيلنا (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) أي وآثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا وفي رقابنا ، كما يقول القائل : افعل هذا وخطيئتك في رقبتي ، قال الله تعالى تكذيبا لهم (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي : فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم ، فإنه لا يحمل أحد وزر أحد ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] وقال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١].

وقوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة ، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخر بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا ، كما قال تعالى ، (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] الآية ، وفي الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» (١). وفي الصحيح «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه

__________________

(١) أخرجه مسلم في العلم حديث ١٥ ، ١٦ ، وأبو داود في الصلاة باب ٥١ ، والسنة باب ٦ ، والترمذي في ـ

٢٤٠