تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣)

يقول تعالى مخبرا عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغا ، أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة ، والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد ، وتخبر بحالها لو لا أن الله ثبتها وصبرها ، قال الله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها ، فقالت لها : (قُصِّيهِ) أي اتبعي أثره ، وخذي خبره ، وتطلبي شأنه من نواحي البلد ، فخرجت لذلك (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قال ابن عباس : عن جانب. وقال مجاهد : بصرت به عن جنب عن بعد.

وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده ، وذلك أنه لما استقر موسى عليه‌السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك واستطلقته منه ، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثديا ، وأبى أن يقبل شيئا من ذلك ، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته ، فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها. قال الله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي تحريما قدريا ، وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه ، ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه لترضعه ، وهي آمنة بعد ما كانت خائفة ، فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه قالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ).

قال ابن عباس : فلما قالت ذلك ، أخذوها وشكوا في أمرها ، وقالوا لها : وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته ، فأرسلوها ، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وذهب البشير إلى امرأة الملك ، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلا ، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه وافق ثديها ، ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه ، فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت.

فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل ، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا ، في عز وجاه

٢٠١

ورزق دارّ. ولهذا جاء في الحديث «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه ، والله أعلم ، فسبحان من بيده الأمر ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجا وبعد كل ضيق مخرجا ، ولهذا قال تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي به (وَلا تَحْزَنَ) أي عليه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين ، فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين ، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة ، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر ، كما قال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] وقال تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : ١٩].

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧)

لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه‌السلام ، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى ، آتاه الله حكما وعلما. قال مجاهد : يعني النبوة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين ، فقال تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء.

وقال ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار (١) ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي يتضاربان ويتنازعان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي إسرائيلي (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي قبطي ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق ، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه‌السلام ، فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس ، فعمد إلى القبطي (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) قال مجاهد : فوكزه أي طعنه بجمع كفه. وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه ، فقضى عليه ، أي كان فيها حتفه فمات (قالَ) موسى (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣.

٢٠٢

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) أي معينا (لِلْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين بك ، المخالفين لأمرك.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩)

يقول تعالى مخبرا عن موسى عليه‌السلام لما قتل ذلك القبطي أنه أصبح (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) أي من معرة ما فعل (يَتَرَقَّبُ) أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر فمر في بعض الطرق ، فإذا ذلك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر ، فلما مر عليه موسى استصرخه على الآخر ، فقال له موسى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر الغواية كثير الشر ، ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي ، فاعتقد الإسرائيلي لخوره وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك ، فقال يدفع عن نفسه (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه‌السلام ، فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه ، ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده ، فعلم فرعون بذلك ، فاشتد حنقه ، وعزم على قتل موسى ، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠)

قال تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ) وصفه بالرجولية ، لأنه خالف الطريق ، فسلك طريقا أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه ، فسبق إلى موسى ، فقال له : يا موسى (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي يتشاورون فيك (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) أي من البلد (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤)

لما أخبره ذلك الرجل بما تملأ عليه فرعون ودولته في أمره ، خرج من مصر وحده ، ولم يألف ذلك قبله بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي يتلفت (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من فرعون وملئه ، فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكا على فرس ، فأرشده إلى الطريق ، فالله أعلم (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي أخذ طريقا سالكا مهيعا ، فرح بذلك (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي الطريق الأقوم ،

٢٠٣

ففعل الله به ذلك وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ، فجعله هاديا مهديا.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي لما وصل إلى مدين وورد ماءها ، وكان لها بئر يرده رعاء الشاء (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أي جماعة يسقون ، (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا ، فلما رآهما موسى عليه‌السلام رق لهما ورحمهما (قالَ ما خَطْبُكُما)؟ أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى ، قال الله تعالى : (فَسَقى لَهُما).

قال أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عبد الله ، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن موسى عليه‌السلام لما ورد ماء مدين ، وجد عليه أمة من الناس يسقون قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال ، فإذا هو بامرأتين تذودان قال : ما خطبكما؟ فحدثتاه ، فأتى الحجر فرفعه ، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم ، إسناد صحيح.

وقوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر ، وكان حافيا ، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه ، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة ، وقوله (إِلَى الظِّلِ) قال ابن عباس وابن مسعود والسدي : جلس تحت شجرة.

وقال ابن جرير (١) : حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، حدثنا أبي ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال : حثثت على جمل ليلتين حتى صبحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى ، فإذا هي شجرة خضراء ترف ، فأهوى إليها جملي وكان جائعا فأخذها جملي فعالجها ساعة ثم لفظها ، فدعوت الله لموسى عليه‌السلام ثم انصرفت. وفي رواية عن ابن مسعود أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى ، كما سيأتي إن شاء الله ، فالله أعلم. وقال السدي ، كانت الشجرة من شجر السمر. وقال عطاء بن السائب لما قال موسى (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أسمع المرأة (٢).

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٦ ، ٥٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٥٧.

٢٠٤

تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما ، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه‌السلام ، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، قال الله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي مشي الحرائر ، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال : كانت مستترة بكم درعها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : قال عمر رضي الله عنه : جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هذا إسناد صحيح.

قال الجوهري : السلفع من الرجال الجسور ، ومن النساء الجارية السليطة ، ومن النوق الشديدة. (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة ، بل قالت : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ، يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يقول : طب نفسا وقر عينا ، فقد خرجت من مملكتهم ، فلا حكم لهم في بلادنا ، ولهذا قال : (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه‌السلام الذي أرسل إلى أهل مدين ، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء ، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد ، ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأوسي ، حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص ، قال (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له «مرحبا بقوم شعيب وأختان موسى هديت» وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب.

وقال آخرون. كان شعيب قبل زمان موسى عليه‌السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه‌السلام بنص القرآن ، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما‌السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة ، كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيبا عاش مدة طويلة ، إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الأشكال ، ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في

٢٠٥

القرآن هاهنا ، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ، كما سنذكره قريبا إن شاء الله ، ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون ، والله أعلم. قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه‌السلام ، وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين ، رواه ابن جرير (١) به ، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك.

وقوله تعالى : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل ، قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه‌السلام ، قالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي لرعية هذه الغنم. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد : لما قالت (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال لها أبوها : وما علمك بذلك؟ قالت له : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه.

وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عمر ، وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه ، وصاحبة موسى حين قالت (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين ، قال شعيب الجبائي : وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق: صفوريا وشرفا ، ويقال ليا ، وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة ، فقال : اشتريت ، أنه يصح ، والله أعلم.

وقوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك ، وإلا ففي الثمان كفاية (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك ، وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال : بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة أنه يصح ، ويختار المشتري بأيهما أخذه صح ، وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» (٢) على هذا المذهب ، وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله ، والله أعلم.

ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦١.

(٢) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٥٣.

٢٠٦

والكسوة ، بهذه الآية ، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة (١) في كتابه السنن حيث قال : باب استئجار الأجير على طعام بطنه ، حدثنا محمد بن المصفي الحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال : سمعت عتبة بن المنذر السلمي يقول : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال : «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه» وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف ، لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة ، ولكن قد روي من وجه آخر ، وفيه نظر أيضا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر السلمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن موسى عليه‌السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه».

وقوله تعالى إخبارا عن موسى عليه‌السلام (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) يقول : إن موسى قال لصهره : الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشرا فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط ، ولهذا قال (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أي فلا حرج علي ، مع أن الكامل وإن كان مباحا لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج ، كما قال تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه ، وكان كثير الصيام ، وسأله عن الصوم في السفر ، فقال : «إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر» (٢) مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر ، هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه‌السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما.

وقال البخاري (٣) : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله ، فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل ، هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير ، ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير : أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية

__________________

(١) كتاب الرهون باب ٥.

(٢) أخرجه النسائي في الصيام باب ٥٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٩٤.

(٣) كتاب الشهادات باب ٢٨.

٢٠٧

والأول أشبه ، والله أعلم ، وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعا.

قال ابن جرير (١) : حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت جبريل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أتمهما وأكملهما» ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة : حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب ، وإبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة ، عن ابن عباس عن النبي فذكره ، ثم قال : لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه.

ثم قال ابن أبي حاتم : قرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح أن رسول الله سئل : أي الأجلين قضي موسى؟ قال : «لا علم لي» فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل ، فقال جبريل : لا علم لي ، فسأل جبريل ملكا فوقه ، فقال : لا علم لي ، فسأل ذلك الملك ربه عزوجل عما سأله عنه جبريل ، عما سأله عنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الرب عزوجل : قضى أبرهما وأبقاهما ، أو قال أزكاهما ، وهذا مرسل ، وقد جاء مرسلا من وجه آخر ، وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : قال مجاهد : إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سأل جبريل ، أي الأجلين قضى موسى؟ فقال : سوف أسأل إسرافيل فسأله ، فقال: سوف أسأل الرب عزوجل ، فسأله فقال : أبرهما وأوفاهما.

[طريق أخرى مرسلة أيضا] قال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الأجلين قضى موسى؟ قال :

«أوفاهما وأتمهما» فهذه طرق متعاضدة ، ثم قد روي هذا مرفوعا من رواية أبي ذر رضي الله عنه. قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عويذ بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ ـ قال ـ «أوفاهما وأبرهما ـ قال ـ وإن سئلت : أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما» ثم قال البزار : لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويذ بن أبي عمران ، وهو ضعيف.

ثم قد روي أيضا نحوه من حديث عتبة بن النّدر بزيادة غريبة جدا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦٦.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٦٦.

٢٠٨

الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر يقول : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : «أبرهما وأوفاهما» ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن موسى عليه‌السلام لما أراد فراق شعيب عليه‌السلام ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون ، قال : فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه ، فولدت قوالب ألوان كلها ، وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية» هكذا أورده البزار.

وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة (ح) وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، أنبأنا الوليد ، أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن النّدر السلمي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن موسى عليه‌السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه ، فلما وفي الأجل قيل : يا رسول الله أي الأجلين؟ ـ قال : أبرهما وأوفاهما ، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء حسناء ، فانطلق موسى عليه‌السلام ، إلى عصاه ، فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة ، قال : فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش ، قال يحيى : ولا ضبون ، وقال صفوان : ولا ضبوب ، قال أبو زرعة : الصواب ضبوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية».

وحدثنا أبو زرعة ، أنبأنا صفوان قال : سمعت الوليد قال : سألت ابن لهيعة ما الفشوش؟ قال : التي تفش بلبنها واسعة الشخب ، قلت : فما الضبوب؟ قال : الطويلة الضرع تجره ، قلت: فما العزوز؟ قال : ضيقة الشخب. قلت : فما الثعول؟ قال : التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين ، قلت : فما الكميشة؟ قال : التي تفوت الكف كميشة الضرع صغير لا يدركه الكف. مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري ، وفي حفظه سوء ، وأخشى أن يكون رفعه خطأ ، والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة ، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة.

وقد روى ابن جرير (١) من كلام أنس بن مالك موقوفا عليه ما يقارب بعضه بإسناد جيد ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦٦.

٢٠٩

فقال : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : لما دعا نبي الله موسى عليه‌السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها ، فلك ولدها ، فعمد موسى فرفع حبالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت ، فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢)

قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه‌السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأبقاهما ، وقد يستفاد هذا أيضا من الآية الكريمة حيث قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي الأكمل منهما ، والله أعلم. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قضى عشر سنين وبعدها عشرا أخر ، وهذا القول لم أره لغيره ، وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير ، فالله أعلم.

وقوله : (وَسارَ بِأَهْلِهِ) قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله ، فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه ، فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره ، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة ، فنزل منزلا ، فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئا ، فتعجب من ذلك ، فبينما هو كذلك (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أي رأى نارا تضيء على بعد (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي حتى أذهب إليها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) وذلك لأنه قد أضل الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي قطعة منها (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون بها من البرد.

قال الله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة ، والجبل الغربي عن يمينه ، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي ، فوقف باهتا في أمرها ، فناداه ربه (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ).

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦٩.

٢١٠

أبي عبيدة عن عبد الله قال : رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه‌السلام سمرة خضراء ترف ، إسناده مقارب. وقال محمد بن إسحاق عن بعض من لا يتهم عن وهب بن منبه قال : شجرة من العليق ، وبعض أهل الكتاب يقول إنها من العوسج. وقال قتادة : هي من العوسج ، وعصاه من العوسج.

وقوله تعالى : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه ، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه.

وقوله : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) أي التي في يدك كما قرره على ذلك في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٧ ـ ١٨] والمعنى أما هذه عصاك التي تعرفها ألقها (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) فعرف وتحقق أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء : كن فيكون ، كما تقدم بيان ذلك في سوره طه ، وقال هاهنا : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي تضطرب (كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً) أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها ، واتساع فمها واصطكاك أنيابها وأضراسها ، بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها ، تنحدر في فيها تتقعقع كأنها حادرة في واد فعند ذلك (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي ولم يكن يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك ، فلما قال الله له : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) رجع فوقف في مقامه الأول ، ثم قال الله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها ، فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ، ولهذا قال : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص.

وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قال مجاهد : من الفزع ، وقال قتادة : من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية ، والظاهر أن المراد أعم من هذا ، وهو أنه أمر عليه‌السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف ، وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ صالح ، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم عن مجاهد قال : كان موسى عليه‌السلام قد ملئ قلبه رعبا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه‌السلام ، وجعله في قلب فرعون ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار.

وقوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) يعني إلقاء العصا وجعلها حية تسعى وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء ، دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار ،

٢١١

وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه ، ولهذا قال تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله ، مخالفين لأمره ودينه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥)

لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون الذي إنما خرج من ديار مصر فرارا منه وخوفا من سطوته (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) يعني ذلك القبطي (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي إذا رأوني (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) وذلك أن موسى عليه‌السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، فحصل فيه شدة في التعبير ، ولهذا قال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٢٧ ـ ٣٢] أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم ، وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد ، ولهذا قال : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي وزيرا ومعينا ومقويا لأمري ، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عزوجل ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد ، ولهذا قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ).

وقال محمد بن إسحاق (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) أي يبين لهم عني ما أكلمهم به ، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون ، فلما سأل ذلك موسى قال الله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي سنقوي أمرك ، ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبيا معك ، كما قال في الآية الأخرى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥١] ولهذا قال بعض السلف : ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون عليهما‌السلام ، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه ، ولهذا قال تعالى في حق موسى (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩].

وقوله تعالى : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي حجة قاهرة (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وقال تعالى : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ـ إلى قوله ـ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب : ٣٩] أي وكفى بالله ناصرا ومعينا ومؤيدا ، ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا

٢١٢

وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [غافر : ٥١ ـ ٥٢] إلى آخر الآية ، ووجه ابن جرير على أن المعنى : ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما ، ثم يبتدئ فيقول : (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) تقديره أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا ، ولا شك أن هذا المعنى صحيح ، وهو حاصل من التوجيه الأول ، فلا حاجة إلى هذا ، والله أعلم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧)

يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة ، والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عزوجل من توحيده واتباع أوامره ، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه ، وأيقنوا أنه من عند الله ، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي مفتعل مصنوع ، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك.

وقوله : (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) يعنون عبادة الله وحده لا شريك له ، يقولون : ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ، ولم نر الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى ، فقال موسى عليه‌السلام مجيبا لهم (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) يعني مني ومنكم ، وسيفصل بيني وبينكم ، ولهذا قال : (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي من النصرة والظفر والتأييد (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي المشركون بالله عزوجل.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢)

يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله ، كما قال الله تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزخرف : ٥٤] الآية ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ، ولهذا قال : (يا أَيُّهَا

٢١٣

الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وقال تعالى إخبارا عنه : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢٣ ـ ٢٦] يعني أنه جمع قومه ، ونادى فيهم بصوته العالي مصرحا لهم بذلك ، فأجابوه سامعين مطيعين ، ولهذا انتقم الله تعالى منه ، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة ، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك ، فقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

وقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين ، يعني يتخذ له آجرا لبناء الصرح وهو القصر المنيف الرفيع العالي ، كما قال في الآية الأخرى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه ، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ، ولهذا قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي في قوله : إن ثم ربا غيري ، لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا ، فإنه قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] وقال (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وهذا قول ابن جرير.

وقوله تعالى : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) أي طغوا وتجبروا ، وأكثروا في الأرض الفساد ، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٣ ـ ١٤] ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة ، فلم يبق منهم أحد (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة ، كما قال تعالى : (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣]. وقوله تعالى : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله ، كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) قال قتادة : وهذه الآية كقوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (١) [هود : ٩٩].

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٧٦.

٢١٤

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣)

يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم ، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، من إنزال التوراة عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين ، كما قال تعالى : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ٩ ـ ١٠].

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا : حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى ، ثم قرأ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الآية.

ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه ، وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد موقوفا ، ثم رواه عن نصر بن علي عن عبد الأعلى عن عوف ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى» ثم قرأ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الآية. وقوله : (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي من العمى والغي ، وهدى إلى الحق ورحمة ، أي إرشادا إلى العمل الصالح (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لعل الناس يتذكرون به ويهتدون بسببه.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم ، وهو رجل أمي لا يقرأ شيئا من الكتب ، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك ، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] الآية ، أي وما كنت

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٧٦.

٢١٥

حاضرا لذلك ، ولكن الله أوحاه إليك ، وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه ، وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ، ثم قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩] الآية ، وقال في آخر السورة (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) [هود : ١٠٠] وقال بعد ذكر قصة يوسف (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف : ١٠٢] الآية ، وقال في سورة طه : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) [طه : ٩٩] الآية.

وقال هاهنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها ، وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطئ الوادي (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ، ليكون حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ، ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين.

وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولا (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) قال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه : أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا عيسى بن يونس عن حمزة الزيات عن الأعمش ، عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) قال : نودوا أن : يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وأجبتكم قبل أن تدعوني ، وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة وهو ابن حبيب الزيات ، عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش ، عن علي بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه ، والله أعلم.

وقال مقاتل بن حيان (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت. وقال قتادة (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء ، كما قال تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) [الشعراء : ١٠] وقال تعالى : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦] وقال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].

وقوله تعالى : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ما كنت مشاهدا لشيء من ذلك ، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد وبإرسالك إليهم (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ

٢١٦

نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عزوجل (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) الآية ، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة ، ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم ، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير ، كما قال تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٦ ـ ١٥٧] وقال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] وقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩] الآية ، والآيات في هذا كثيرة.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١)

يقول تعالى مخبرا عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم ، لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) الآية ، يعنون ـ والله أعلم ـ من الآيات كثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار ، مما يضيق على أعداء الله ، وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة ، والحجج القاهرة ، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه‌السلام حجة وبرهانا له على فرعون وملئه وبني إسرائيل.

ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه ، بل كفروا بموسى وأخيه هارون ، كما قالوا لهما (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٧٨] وقال تعالى : (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) [المؤمنون : ٤٨] ولهذا قال هاهنا : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) أي تعاونا (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي بكل منهما كافرون ، ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون ، دل ذكر أحدهما على الآخر ، كما قال الشاعر [الوافر] :

٢١٧

فما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيهما يليني (١)

أي فما أدري يليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر : أمرت اليهود قريشا أن يقولوا لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فقال الله : أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا قال يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم (تَظاهَرا) أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر؟ وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله ساحران يعنون موسى وهارون ، وهذا قول جيد قوي ، والله أعلم. وقال مسلم بن يسار عن ابن عباس قالوا ساحران تظاهرا قال : يعنون موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ، وهذه رواية الحسن البصري. وقال الحسن وقتادة : يعني عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم ، وهذا فيه بعد ، لأن عيسى لم يجر له ذكر هاهنا ، والله أعلم.

وأما من قرأ (سِحْرانِ تَظاهَرا) فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : يعنون التوراة والقرآن ، وكذا قال عاصم الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال السدي : يعني صدق كل واحد منهما الآخر. وقال عكرمة : يعنون التوراة والإنجيل ، وهو رواية عن أبي زرعة ، واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة : الإنجيل والقرآن ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

والظاهر على قراءة (سِحْرانِ) أنهم يعنون التوراة والقرآن ، لأنه قال بعده : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) وكثيرا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن ، كما في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ـ إلى أن قال ـ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩١ ـ ٩٢] وقال في آخر السورة : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) الآية ، وقال : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام : ١٥٥] وقال الجن (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأحقاف : ٣٠].

وقال ورقة بن نوفل : هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتابا من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن ، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه‌السلام ، وهو الكتاب الذي قال الله فيه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا

__________________

(١) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٨٠ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٩١ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٧.

٢١٨

لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [المائدة : ٤٤] والإنجيل إنما أنزل متمما للتوراة ، ومحلا لبعض ما حرم على بني إسرائيل ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل ، قال الله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ، ولم يتبعوا الحق (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي بلا دليل ولا حجة (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) قال مجاهد : فصلنا لهم القول. وقال السدي : بينا لهم القول. وقال قتادة : يقول تعالى : أخبرهم كيف صنع بمن مضى ، وكيف هو صانع (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) قال مجاهد وغيره (وَصَّلْنا لَهُمُ) يعني قريشا ، وهذا هو الظاهر ، لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة ، رفاعة هذا هو ابن قرظة القرظي ، وجعله ابن مندة : رفاعة بن سموأل خال صفية بنت حيي وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا ، كذا ذكره ابن الأثير ـ قال : نزلت (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) في عشرة أنا أحدهم ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥)

يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] وقال تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٩٩] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٨] وقال تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ـ إلى قوله ـ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٢ ـ ٨٣].

قال سعيد بن جبير : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فلما قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ عليهم (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) حتى ختمها ، فجعلوا يبكون وأسلموا ، ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين ، أي

٢١٩

موحدين مخلصين لله مستجيبين له.

قال الله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني ، ولهذا قال : (بِما صَبَرُوا) أي على اتباع الحق ، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس ، وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة ، فأدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها فتزوجها» (١). وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال : إني لتحت راحلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح ، فقال قولا حسنا جميلا ، وقال فيما قال : «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا».

وقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي لا يقابلون السيئ بمثله ، ولكن يعفون ويصفحون (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم ، والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. وقوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم ، بل كما قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه ، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب ، ولهذا قال عنهم إنهم قالوا (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها.

قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أرادوا ، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال : قال : ما نعلم ركبا أحمق

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ٣١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤١.

(٢) المسند ٥ / ٢٥٩.

٢٢٠