تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

يرى بعضكم بعضا ، وتأتون في ناديكم المنكر (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أي لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا كما قال في الآية الأخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : ١٦٥ ـ ١٦٦].

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتحرجون من فعل ما تفعلون ، ومن إقراركم على صنيعكم فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم فعزموا على ذلك ، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، قال الله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي من الهالكين مع قومها ، لأنها كانت ردءا لهم على دينهم وعلى طريقتهم ، في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم ، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا كرامة لها. وقوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ولهذا قال : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي الذين قامت عليهم الحجة ، ووصل إليهم الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام ، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام ، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره : إن المراد بعباده الذين اصطفى ، هم الأنبياء ، قال : وهو كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢].

وقال الثوري والسدي : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم أجمعين ، وروي نحوه عن ابن عباس أيضا ، ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ذكره لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر ، أن يحمدوه على جميع أفعاله ، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار.

وقد قال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى)

١٨١

قال : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم ، وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى. ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ، فقال تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) أي خلق تلك السموات في ارتفاعها وصفائها. وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة. وخلق الأرض في استفالها وكثافتها وما جعل فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار ، والفيافي والقفار ، والزروع والأشجار ، والثمار والبحار ، والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك.

وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي جعله رزقا للعباد (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي منظر حسن وشكل بهي (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها. وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بذلك المتفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركون كما قال تعالى في الآية الأخرى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٦٣] أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة ، من هو المتفرد بالخلق والرزق ولهذا قال تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) أي أإله مع الله يعبد ، وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضا أنه الخالق الرازق.

ومن المفسرين من يقول معنى قوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) فعل هذا وهو يرجع إلى معنى الأول لأن تقدير الجواب أنهم يقولون ليس ثم أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] الآية. وقوله تعالى هاهنا : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَمَّنْ) في هذه الآيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك. وقد قال الله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثم قال في الآية الأخرى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يجعلون لله عدلا ونظيرا. وهكذا قال تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩] أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ٩] (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الزمر : ٢٢] وقال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] أي أمن هو شهيد على أفعال الخلق

١٨٢

حركاتهم وسكناتهم يعلم الغيب جليله وحقيره كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله؟ ولهذا قال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١)

يقول تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة بل جعلها من فضله ورحمته مهادا بساطا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك كما قال تعالى في الآية الأخرى (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) [غافر : ٦٤] (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك ، وسيرها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بهم (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا ، أي مانعا يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد هذا بهذا ، وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منها على صفته المقصودة منه ، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس ، والمقصود منها أن تكون عذبة زلالا يسقي الحيوان والنبات والثمار منها.

والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب ، والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحا أجاجا لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٥٣] ولهذا قال تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) أي فعل هذا ، أو يعبد على القول الأول والآخر؟. وكلاهما متلازم صحيح (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي في عبادتهم غيره.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢)

ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد ، المرجو عند النوازل ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] وقال تعالى : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣] وهكذا قال هاهنا (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه.

١٨٣

قال الإمام أحمد (١) : أنبأنا عفان : أنبأنا وهيب ، أنبأنا خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي ، عن رجل من بلهجيم قال : قلت يا رسول الله إلام تدعو؟ قال : «أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك ، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك» قال : قلت أوصني ، قال : «لا تسبن أحدا ولا تزهدن في المعروف ، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة».

وقد رواه الإمام أحمد (٢) من وجه آخر ، فذكر اسم الصحابي فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا يونس هو ابن عبيد ، حدثنا عبيدة الهجيمي ، عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو محتب بشملة ، وقد وقع هدبها على قدميه فقلت : أيكم محمد رسول الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه ، فقلت : يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيّ جفاؤهم فأوصني ، قال : «لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك ، فلا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره ، وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، ولا تسبن أحدا» قال : فما سببت بعده أحدا ولا شاة ولا بعيرا (٣). وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا وعندهما طرف صالح منه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم ، حدثنا عبدة بن نوح عن عمر بن الحجاج ، عن عبيد الله بن أبي صالح قال : دخل علي طاوس يعودني فقلت له : ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن ، فقال : ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.

وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن ، والأرض بمن فيهن ، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه.

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل : كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي : خذ في هذه فإنها أقرب ، فقلت : لا خبرة لي فيها ، فقال : بل هي أقرب ، فسلكناها فانتهينا إلى مكان

__________________

(١) المسند ٥ / ٦٤.

(٢) المسند ٥ / ٦٣ ، ٦٤.

(٣) أخرجه أبو داود في اللباس باب ١٩.

١٨٤

وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل ، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينا معه وقصدني ، ففررت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه ، فقال هو لي : وإنما أريد قتلك ، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال : عجل ، فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفا متحيرا وهو يقول : هيه افرغ ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعا ، فتعلقت بالفارس وقلت : بالله من أنت؟ فقال : أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما.

وذكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجيلة قالت : هزم الكفار يوما المسلمين في غزوة فوقف جواد جيد بصاحبه وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء ، فقال للجواد : ما لك؟ ويلك إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم ، فقال له الجواد : وما لي لا أقصر وأنت تكل العلوفة إلى السواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال : لك علي عهد الله أن لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري ، فجرى الجواد عند ذلك ونجى صاحبه وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره.

واشتهر أمره بين الناس وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك وبلغ ملك الروم أمره ، فقال : ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها ، واحتال ليحصله في بلده فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده ، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الإسلام وقومه حتى استوثق ، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل ، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره ، فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت. قال : فخرج سبعان فأخذاهما ورجع الرجل سالما.

وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي يخلف قرنا لقرن قبلهم وخلفا لسلف كما قال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [الأنعام : ١٣٣] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥] وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] أي قوما يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره ، وهكذا هذه الآية (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل ، وقوما بعد قوم ، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض ، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق آدم من تراب ، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ، ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد ، فكانت تضيق عليهم الأرض ، وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ،

١٨٥

ويتضرر بعضهم ببعض ، ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ، ويذرأهم في الأرض ، ويجعلهم قرونا بعد قرون ، وأمما بعد أمم ، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية ، كما قدر ذلك تبارك وتعالى ، وكما أحصاهم وعدهم عدا ، ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله ، ولهذا قال تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي يقدر على ذلك أو أإله مع الله يعبد؟ وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣)

يقول تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية كما قال تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧] الآية (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين الأزلين القنطين (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤)

أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [بروج : ١٢] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض كما قال تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) [الحديد : ٤] فهو تبارك وتعالى ينزل من السماء ماء مباركا فيسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به منها أنواع الزروع والثمار والأزاهير وغير ذلك من ألوان شتى (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) [طه : ٥٤] ولهذا قال تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي فعل هذا وعلى القول الآخر بعد هذا (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ذلك وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧].

١٨٦

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول معلما لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. وقوله تعالى : (إِلَّا اللهُ) استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عزوجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له كما قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] الآية ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [لقمان : ٣٤] إلى آخر السورة ، والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة كما قال تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من زعم أنه يعلم ـ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية لأن الله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوما للشياطين ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به. وإن أناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة ، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم ، وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب ، وقضى الله تعالى أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون. رواه ابن أبي حاتم بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح.

وقوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها ، وقرأ آخرون بل أدرك علمهم أي تساوى علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل وقد سأله عن وقت الساعة : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» (١) أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي غاب (٢) ، وقال قتادة (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧ ، وتفسير سورة ٣١ ، باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١ ، ٥ ، ٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في الإيمان باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٥ ، ٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ٢٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٨.

١٨٧

الْآخِرَةِ) يعني بجهلهم بربهم ، يقول لم ينفذ لهم علم في الآخرة ، هذا قول ، وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني والسدي أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [مريم : ٣٨] وقال سفيان عن عمرو بن عبيد عن الحسن ، أنه كان يقرأ بل أدرك علمهم قال : اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة.

وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما قال تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [الكهف : ٤٨] أي الكافرون منكم. وهكذا قال هاهنا : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي شاكون في وجودها ووقوعها (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠)

يقول تعالى مخبرا عن منكري البعث من المشركين أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا ، ثم قال : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا وقوعا ، وقولهم (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعنون ما هذا الوعد بإعادة الأبدان (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أخذه قوم عمن قبلهم من كتب يتلقاه بعض عن بعض وليس له حقيقة ، قال الله تعالى مجيبا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي المكذبين بالرسل وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره كيف حلت بهم نقمة الله وعذابه ونكاله ونجى الله من بينهم رسله الكرام ومن اتبعهم من المؤمنين ، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته ، ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي في كيدك ، ورد ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥)

١٨٨

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال الله تعالى مجيبا لهم : (قُلْ) يا محمد (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) قال ابن عباس : أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون ، وهكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] وقال تعالى : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٤] وإنما دخلت اللام في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) لأنه ضمن معنى عجل لكم ، كما قال مجاهد في رواية عنه (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) عجل لكم.

ثم قال الله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) [الرعد : ١٠] (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [هود : ٥] ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة ، وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه ، فقال تعالى : (وَما مِنْ غائِبَةٍ) قال ابن عباس : يعني وما من شيء (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهذه كقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحج : ٧٠].

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١)

يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من الهدى والبيان والفرقان أنه يقص على بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه فاليهود افتروا والنصارى غلوا فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [مريم : ٣٤] ، وقوله (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم في العمليات.

ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي يوم القيامة (بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي في انتقامه (الْعَلِيمُ) بأفعال عباده وأقوالهم (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي في جميع أمورك وبلغ رسالة

١٨٩

ربك (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليه الشقاوة وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي لا تسمعهم شيئا ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير ، السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة ، الخاضع لله ولما جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم‌السلام.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢)

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض ، قيل : من مكة ، وقيل : من غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فتكلم الناس على ذلك ، قال ابن عباس والحسن وقتادة ويروى عن علي رضي الله عنه : تكلمهم كلاما ، أي تخاطبهم مخاطبة ، وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير (١) وفي هذا القول نظر لا يخفى ، والله أعلم. وقال ابن عباس في رواية : تجرحهم ، وعنه رواية قال : كلّا تفعل هذا وهذا ، وهو قول حسن ولا منافاة ، والله أعلم.

وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان عن فرات ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة ، فقال : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان والدابة! وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس ، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» (٣) وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من طرق عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة موقوفا. وقال الترمذي : حسن صحيح. ورواه مسلم أيضا من حديث عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عنه مرفوعا ، فالله أعلم.

[طريق أخرى] قال أبو داود الطيالسي عن طلحة بن عمرو وجرير بن حازم ، فأما طلحة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٦.

(٢) المسند ٤ / ٦ ، ٧.

(٣) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٣٩ ، ٤٠ ، وأبو داود في الملاحم باب ١٢ ، والترمذي في الفتن باب ٢١ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٨.

١٩٠

فقال : أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي : أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سريحة ، وأما جرير فقال : عن عبد الله بن عبيد عن رجل من آل عبد الله بن مسعود. وحديث طلحة أتم وأحسن قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة فقال : «لها ثلاث خرجات من الدهر : فتخرج خرجة من أقصى البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم تكمن زمنا طويلا ، ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك ، فيعلو ذكرها في أهل البادية ويدخل ذكرها القرية» يعني مكة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي تدنو بين الركن والمقام ، تنفض عن رأسها التراب ، فارفض الناس عنها شتى ومعا ، وبقيت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ، ولا ينجو منها هارب ، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي ، فيقبل عليها فتسمه في وجهه ، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطحبون في الأمصار ، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن المؤمن ليقول : يا كافر اقضني حقي ، وحتى إن الكافر ليقول : يا مؤمن اقضني حقي» ورواه ابن جرير (١) من طريقين عن حذيفة بن أسيد موقوفا ، والله أعلم. ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعا ، وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم ، وهو يطوف بالبيت ولكن إسناده لا يصح.

[حديث آخر] قال مسلم بن الحجاج (٢) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر عن أبي حيان عن أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو قال : حفظت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا».

[حديث آخر] روى مسلم (٣) في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بادروا بالأعمال ستا ، طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، والدابة ، وخاصة أحدكم ، وأمر العامة» تفرد به ، وله من حديث قتادة عن الحسن عن زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بادروا بالأعمال ستا : الدجال ، والدخان ، ودابة الأرض ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة ، وخويصة أحدكم» (٤).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٥ ، ١٦.

(٢) كتاب الفتن حديث ٣٩ ، ٤٠.

(٣) كتاب الفتن حديث ١١٨.

(٤) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٢٨.

١٩١

[حديث آخر] قال ابن ماجة (١) : حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، والدجال ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة» تفرد به.

[حديث آخر] قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما‌السلام ، فتخطم أنف الكافر بالعصا ، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم ، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» ورواه الإمام أحمد (٢) عن بهز وعفان ويزيد بن هارون ثلاثتهم عن حماد بن سلمة بن ، وقال : «فتخطم أنف الكافر بالخاتم ، وتجلو وجه المؤمن بالعصا ، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول : هذا يا مؤمن ، ويقول : هذا يا كافر» ورواه ابن ماجة (٣) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد المؤدب عن حماد بن سلمة به.

[حديث آخر] قال ابن ماجة (٤) : حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو ، حدثنا أبو نميلة ، حدثنا خالد بن عبيد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : ذهب بي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى موضع بالبادية قريب من مكة ، فإذا أرض يابسة حولها رمل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج الدابة من هذا الموضع» فإذا فتر في شبر ، قال ابن بريدة : فحججت بعد ذلك بسنين فأرانا عصا له ، فإذا هو بعصاي هذه كذا وكذا ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة أن ابن عباس قال : هي دابة ذات زغب لها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية قال : قال عبد الله : تخرج الدابة من صدع من الصفا ، كجري الفرس ثلاثة أيام لم يخرج ثلثها ، وقال محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح قال : سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة فقال : الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد ، والله لو كنت معهم أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها. قيل : فتصنع ماذا يا عبد الله بن عمرو ، فقال : تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان ، قيل ثم ماذا؟ قال لا أعلم ، وعن عبد الله بن عمر أنه قال : تخرج الدابة ليلة جمع. رواه ابن أبي حاتم ، وفي إسناده ابن البيلمان.

__________________

(١) كتاب الفتن باب ٢٥.

(٢) المسند ٢ / ٢٥٩ ، ٤٩١.

(٣) كتاب الفتن باب ٢٨.

(٤) كتاب الفتن باب ٢٨.

١٩٢

وعن وهب بن منبه : أنه حكى من كلام عزيز عليه‌السلام أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب أجاجا ، ويتعادى الأخلاء وتحرق الحكمة ، ويرفع العلم ، وتكلم الأرض التي تليها ، وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ، ويعملون فيما لا يأكلون ، رواه ابن أبي حاتم عنه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : إن الدابة فيها من كل لون ، ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وقال ابن عباس : هي مثل الحربة الضخمة ، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنها دابة لها ريش ، وزغب ، وحافر ، وما لها ذنب ، ولها لحية ، وإنها لتخرج حضر الفرس الجواد ثلاثا ، وما خرج ثلثها ، رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جريج عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا ، تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان ، فتفشوا تلك النكتة السوداء حتى يسود بها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق بكم ذا يا مؤمن ، بكم ذا يا كافر؟ وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم فيعرفون مؤمنهم من كافرهم ، ثم تقول لهم الدابة : يا فلان أبشر أنت من أهل الجنة ، ويا فلان أنت من أهل النار. فذلك قول الله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦)

يقول تعالى مخبرا عن يوم القيامة وحشر الظالمين من المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله عزوجل ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا ، تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا فقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أي من كل قوم وقرن فوجا أي جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقال تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] وقوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يدفعون (١). وقال قتادة : وزعة يرد أولهم على آخرهم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ١٧.

١٩٣

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يساقون (حَتَّى إِذا جاؤُ) ووقفوا بين يدي الله عزوجل في مقام المساءلة (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيسألون عن اعتقادهم وأعمالهم! فلما لم يكونوا من أهل السعادة وكانوا كما قال الله عنهم : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فحينئذ قامت عليهم الحجة ، ولم يكن لهم عذر يعتذرون به ، كما قال الله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٧] الآية ، وهكذا قال هاهنا : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي بهتوا فلم يكن لهم جواب لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم ، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.

ثم قال تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم وشأنه الرفيع الذي تجب طاعته والانقياد لأوامره وتصديق أنبيائه فيما جاءوا به من الحق الذي لا محيد عنه ، فقال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وتهدأ أنفاسهم ، ويستريحون من نصب التعب في نهارهم (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي منيرا مشرقا ، فبسبب ذلك يتصرفون في المعاش والمكاسب والأسفار والتجارات وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠)

يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور ، وهو كما جاء في الحديث «قرن ينفخ فيه» (١). وفي حديث الصور : إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى ، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء فيفزع من في السموات ومن في الأرض (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهم الشهداء ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.

قال الإمام مسلم بن الحجاج (٢) : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم ، سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي ، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، وجاءه رجل فقال : ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٨ ، وتفسير سورة ٣٩ ، باب ٨ ، والدارمي في الرقاق باب ٧٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢.

(٢) كتاب الفتن حديث ١١٦.

١٩٤

تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال : سبحان الله ، أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما ، لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت أنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يخرب البيت ويكون ويكون ـ ثم قال ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما ـ فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه».

قال : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون؟ فيقولون : فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارّ رزقهم حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ـ قال ـ وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ويصعق الناس ، ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطرا كأنه الطل ـ أو قال : الظل ، نعمان الشاك ، فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون ، ثم يقال : أخرجوا بعث النار ، فيقال : كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيبا ، وذلك يوم يكشف عن ساق».

وقوله ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا. الليت هو صفحة العنق ، أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدا ، فهذه نفخة الفزع ، ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت ، ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق ، ولهذا قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) قرئ بالمد وبغيره على الفعل ، وكل بمعنى واحد ، وداخرين أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٥٢] وقال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].

وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور ، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعد ما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها ، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج أرواح المؤمنين نورا ، وأرواح الكافرين ظلمة ، فيقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها. فتجيء الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ ، ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم ، قال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج : ٤٣].

وقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) أي تراها كأنها ثابتة

١٩٥

باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [الطور : ٩ ـ ١٠] قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧] وقال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] وقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أتقن كل ما خلق ، وأودع فيه من الحكمة ما أودع ، (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر ، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء.

ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ ، فقال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قال قتادة : بالإخلاص ، وقال زين العابدين : هي لا إله إلا الله ، وقد بين تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كما قال في الآية الأخرى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] وقال تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت : ٤٠] وقال تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ : ٣٧] وقوله تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) أي من لقي الله مسيئا لا حسنة له ، أو قد رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه ، ولهذا قال تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وقال ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم ، وأنس بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي ، وأبو وائل وأبو صالح ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم ، والزهري والسدي والضحاك والحسن وقتادة وابن زيد في قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) يعني بالشرك.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

يقول تعالى مخبرا رسوله وآمرا له أن يقول : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) كما قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) [يونس : ١٠٤] وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها ، كما قال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٣ ـ ٤] ، وقوله تعالى : (الَّذِي حَرَّمَها) أي الذي إنما صارت حراما شرعا وقدرا بتحريمه لها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها

١٩٦

ولا يختلى خلاها» (١) الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع ، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) من باب عطف العام على الخاص ، أي هو رب هذه البلدة ورب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له. وقوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي على الناس أبلغهم إياه كقوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] وكقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : ٣] الآية ، أي أنا مبلغ ومنذر ، (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي لي أسوة بالرسل الذين أنذروا قومهم ، وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم ، وخلصوا من عهدتهم وحساب أممهم على الله تعالى ، كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد: ٤٠] وقال (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : ١٢] (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) أي لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، والإنذار إليه ، ولهذا قال تعالى : (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣].

وقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي بل هو شهيد على كل شيء. قال ابن أبي حاتم : ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر ، حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس لا يغترن أحدكم بالله ، فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة» وقال أيضا : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا نصر بن علي قال أبي أخبرني خالد بن قيس عن مطر عن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم ، وقد ذكر عن الإمام أحمد رحمه‌الله تعالى أنه كان ينشد هذين البيتين إما له وإما لغيره :

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما يخفى عليه يغيب

آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٧ ، ومسلم في الحج حديث ٤٤٥ ، ٤٤٧ ، ٤٦٤ ، وأبو داود في المناسك باب ٨٩ ، ٩٥ ، والنسائي في الحج باب ١١٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٣ ، ٢٥٩ ، ٣١٥ ، ٣١٦.

١٩٧

سورة القصص

قال الإمام أحمد (١) بن حنبل رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا وكيع عن أبهى عن أبي إسحاق عن معد يكرب قال : أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين ، فقال : ما هي معي ، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خباب بن الأرت ، قال : فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦)

فقد تقدم الكلام على الحروف المقطعة ، وقوله : (تِلْكَ) أي هذه (آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور ، وعلم ما قد كان وما هو كائن. وقوله : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) الآية ، كما قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر ، ثم قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تكبر وتجبر وطغى (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي أصنافا قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.

وقوله تعالى : (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) يعني بني إسرائيل ، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم ، هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد يستعملهم في أخس الأعمال ، ويكدهم ليلا ونهارا في أشغاله وأشغال رعيته ، ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إهانة. لهم واحتقارا وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام ، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، حين ورد الديار

__________________

(١) المسند ١ / ٤١٩.

١٩٨

المصرية ، وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية ، فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه ، فبشر إبراهيم عليه‌السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه.

فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون ، فاحترز فرعون من ذلك ، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر ، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، ولكل أجل كتاب ، ولهذا قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ـ إلى قوله ـ يَحْذَرُونَ) وقد فعل تعالى ذلك بهم ، كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ـ إلى قوله ـ يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧]. وقال تعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى ، فما نفعه ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب ، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه ، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفا من الولدان ، إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك ، وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله وتتفداه ، وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه ، لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩)

ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يفني بني إسرائيل ، فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة ، فقالوا لفرعون : إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال ، فيخلص إلينا ذلك ، فأمر بقتل الولدان عاما وتركهم عاما ، فولد هارون عليه‌السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون ناس موكلون بذلك ، وقوابل يدرن على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلا نساء القبط ، فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلاما دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا ، قبحهم الله تعالى.

فلما حملت أم موسى به عليه‌السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ، ولم تفطن لها الدايات ولكن لما وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا ، وخافت عليه خوفا شديدا ، وأحبته حبا زائدا ، وكان موسى عليه‌السلام لا يراه أحد إلا أحبه ، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعا ، قال الله تعالى :

١٩٩

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] فلما ضاقت به ذرعا ، ألهمت في سرها ، وألقي في خلدها ، ونفث في روعها ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتا ومهدت فيه مهدا ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها.

فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر ، وذهلت عن أن تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون ، فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ، ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها ، فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه ، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها ، ولهذا قال : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) الآية ، قال محمد بن إسحاق وغيره : اللام هنا لام العاقبة ، لا لام التعليل ، لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك ، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه ، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق ، فإنه تبقى اللام للتعليل ، لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدوا لهم وحزنا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).

وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتابا إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن ، قال الله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليا وناصرا ، والله تعالى يقول : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) الآية.

وقوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الآية ، يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفا من أن يكون من بني إسرائيل ، فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون ، فقالت : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فقال فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك ، وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه ، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعا عند النسائي وغيره. وقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) وقد حصل لها ذلك ، وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه. وقوله : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي أرادت أن تتخذه ولدا وتتبناه ، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.

٢٠٠