تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

تفسير سورة النمل

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦)

قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ) أي هذه آيات (الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) أي بين واضح (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه ، وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة المفروضة ، وأيقن بالدار الآخرة ، والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال : خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) [فصلت : ٤٤] الآية. وقال تعالى : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم : ٩٧].

ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أي حسنا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم ، وكان هذا جزاء على ما كذبوا من الدار الآخرة ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] الآية. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي في الدنيا والآخرة (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر.

وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي (وَإِنَّكَ) يا محمد قال قتادة : (لَتُلَقَّى) أي لتأخذ (الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي من عند حكيم عليم ، أي حكيم في أمره ونهيه ، عليم بالأمور : جليلها وحقيرها ، فخبره هو الصدق المحض ، وحكمه هو العدل التام ، كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥].

١٦١

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكرا له ما كان من أمر موسى عليه‌السلام ، كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى فرعون وملئه ، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له ، فقال تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق ، وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور نارا ، أي رأى نارا تتأجج وتضطرم ، فقال (لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي عن الطريق.

(أَوْ آتِيكُمْ) منها (بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نورا عظيما ، ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي فلما أتاها ورأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقدا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه ، فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارا ، وإنما كانت نورا يتوهج ، وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين ، فوقف موسى متعجبا مما رأى ف (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ). قال ابن عباس : تقدس (وَمَنْ حَوْلَها) أي من الملائكة ، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود هو الطيالسي ، حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة ، سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل» ، زاد المسعودي «وحجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» (١). ثم قرأ أبو عبيدة (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٠١ ، ٤٠٥.

١٦٢

حَوْلَها) وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به. وقوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا تكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.

وقوله تعالى : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء ، فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك ، ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطرابا. وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت (١) ، فلما عاين موسى ذلك (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يلتفت من شدة فرقه (٢) (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف مما ترى ، فإني أريد أن أصطفيك رسولا وأجعلك نبيا وجيها.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على عمل سيئ ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ١٠٢] وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] الآية ، والآيات في هذا كثيرة جدا. وقوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار ، وصدق من جعل له معجزة ، وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه ، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.

وقوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي بينة واضحة ظاهرة (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) وأرادوا معارضته بسحرهم ، فغلبوا وانقلبوا صاغرين (وَجَحَدُوا بِها) في ظاهر أمرهم (وَاسْتَيْقَنَتْها

__________________

(١) لفظ الحديث : «لا تقتلوا الجنّان إلا كل أبتر ذي طفيتين». أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٥ ، والمغازي باب ١٢ ، ومسلم في السلام حديث ١٣١ ، ١٣٤ ، ١٣٦ ، وأبو داود في الأدب باب ١٦٢ ، والنسائي في الحج باب ٨٧ ، ومالك في الاستئذان حديث ٣١ ، ٣٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٤٦ ، ٣ / ٤٣٠ ، ٦ / ٨٣. والجنان ، بكسر الجيم : جمع جان ، وهي الحية الصغيرة.

(٢) من شدة فرقه : أي من شدة خوفه.

١٦٣

أَنْفُسُهُمْ) أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها.

(ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي ظلما من أنفسهم سجية ملعونة ، وعلوا أي استكبارا من اتباع الحق ، ولهذا قال تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم ، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة ، وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون لمحمد ، الجاحدون لما جاء به من ربه ، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ، فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف وأعظم من موسى ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله ، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به ، وأخذ المواثيق له ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩)

يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه : داود وابنه سليمان عليهما‌السلام ، من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة في الدين ، ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام ، أخبرني أبي عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما‌السلام.

وقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائة امرأة ، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة ، فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه فهو صدقة» (١) وقال :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٣ ، والاعتصام باب ٥ ، ومسلم في الجهاد حديث ٤٩ ، ٥٢ ، ٥٤ ، ٥٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٤ ، ٦ ، ٩ ، ١٠ ، ٢٥ ، ٤٧ ، ٤٨ ، ٤٩ ، ٦٠ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٧٩ ، ١٩١ ، ـ

١٦٤

(يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم ، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير ، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا ، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله ، ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود ، كما قد يتفوه به كثير من الناس ، فهو قول بلا علم ، ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ، إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ، ولهذا قال تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي مما يحتاج إليه الملك (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي الظاهر البين لله علينا.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان داود عليه‌السلام فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب ، فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود عليه‌السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت؟ فقال : الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب ، فقال داود : أنت إذا والله ملك الموت مرحبا بأمر الله ، فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان عليه‌السلام للطير : أظلي على داود ، فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض ، فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا» قال أبو هريرة : يا رسول الله كيف فعلت الطير؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية. قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية هن النسور الحمراء.

وقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ، يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه ، والجن وهم بعدهم في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.

__________________

ـ ٢٠٨ ، ٢ / ٤٦٣ ، ٦ / ١٤٥ ، ٢٦٢.

(١) المسند ٢ / ٤١٩ ، ولفظه : المصرحية بدل المضرحية.

١٦٥

وقوله : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي حتى إذا مر سليمان عليه‌السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب ، أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها ، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم ، ففهم ذلك سليمان عليه‌السلام منها.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليمي منطق الطير والحيوان. وعلى والدي بالإسلام لك ، والإيمان بك (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي عملا تحبه وترضاه (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك ، والرفيق الأعلى من أوليائك ، ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره ، وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل ، فلا حاصل لها.

وعن نوف البكالي أنه قال : كان نمل سليمان أمثال الذئاب ، هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت ، وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف ، والله أعلم. والغرض أن سليمان عليه‌السلام فهم قولها وتبسم ضاحكا من ذلك ، وهذا أمر عظيم جدا. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود عليهما‌السلام يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق ، عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قرصت نبيا من الأنبياء نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه ، أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة؟» (١).

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١)

قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا يدل سليمان عليه‌السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه ، فنظر له الماء في تخوم الأرض ، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض ، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض ، فإذا

__________________

(١) أخرجه مسلم في السلام حديث ١٤٨.

١٦٦

دلهم عليه ، أمر سليمان عليه‌السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره ، فنزل سليمان عليه‌السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا ، وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس ، فقال له : قف يا ابن عباس غلبت اليوم ، قال : ولم؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ ترابا ، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي ، فقال ابن عباس ، لو لا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته ، ثم قال له: ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر ، فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة في غوطة دمشق ، وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس ، وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره ، فامتنع عليه ، فألح عليه شهورا ، فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة ، وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه ، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورا كثيرا حتى عجعج الوادي بالدخان ، فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما ، فلا يلتفتان إلى شيء منها ، حتى أقبلت حية نحو الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار ، فاستبشرا بها عظيما ، وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة ، وكسرا المجامر ، وأخذا الحية ، فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به ، فسألتهما أن يكحلاني فأبيا ، فألححت عليهما وقلت : لا بد من ذلك وتوعدتهما بالدولة ، فكحلا عيني الواحدة اليمنى ، فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة أنظر ما تحتها كما ترى المرآة ، ثم قالا لي : سر معنا قليلا ، فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدت عن القرية أخذاني فكتفاني ، وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا ، فلم أزل كذلك ملقى مكتوفا حتى مربي نفر ففك وثاقي ، فهذا ما كان من خبر عيني.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن عمرو الغساني ، حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عليه‌السلام عنبر ، وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان عليه‌السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أخطأه بصري من الطير ، أم غاب فلم يحضر.

وقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن

١٦٧

عباس : يعني نتف ريشه (١) ، وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه ، وكذا قال غير واحد من السلف أنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل. وقوله : (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) يعني قتله (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بعذر بيّن واضح ، وقال سفيان بن عيينة وعبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قالت له الطير : ما خلفك؟ فقد نذر سليمان دمك ، فقال : هل استثنى؟ قالوا : نعم. قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال : نجوت إذا ، قال مجاهد : إنما دفع الله عنه ببره بأمه.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦)

يقول تعالى : (فَمَكَثَ) الهدهد (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي غاب زمانا يسيرا ، ثم جاء فقال لسليمان : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي بخبر صدق حق يقين ، وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن ، ثم قال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ ، وقال قتادة : كانت أمها جنية ، وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة ، وقال زهير بن محمد : هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، وأمها فارعة الجنية ، وقال ابن جريج : بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتقة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال : كان مع صاحبة سليمان ألف قيل ، تحت كل قيل مائة ألف مقاتل ، وقال الأعمش : عن مجاهد كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) كانت من بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا ، كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل ، وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء ، وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن ، والله أعلم.

وقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللئالئ. قال زهير بن محمد : كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٠٧.

١٦٨

وعرضه أربعون ذراعا ، وقال محمد بن إسحاق : كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبر جد واللؤلؤ ، وكان إنما يخدمها النساء ، ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة ، قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم ، وكان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه ، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة ، وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحا ومساء ، ولهذا قال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن طريق الحق (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).

وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) معناه (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها ، كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت : ٣٧] وقرأ بعض القراء ألا يا اسجدوا لله جعلها ألا الاستفتاحية ، ويا للنداء ، وحذف المنادى تقديره عنده ألا يا قوم اسجدوا لله.

وقوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض ، وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد ، وقال سعيد بن المسيب : الخبء الماء ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : خبء السموات والأرض ما جعل فيهما من الأرزاق ، المطر من السماء والنبات من الأرض (١). وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها.

وقوله : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال ، وهذا كقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو المدعو وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه. ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير ، وعبادة الله وحده والسجود له نهي عن قتله ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد (٢) ، وإسناده صحيح.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥١١.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٦٤ ، وابن ماجة في الصيد باب ١٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٣٢ ، ٣٤٧.

١٦٩

ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١)

يقول تعالى مخبرا عن قيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي صدقت في إخبارك هذا (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في مقالتك لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟ (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) وذلك أن سليمان عليه‌السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه ذلك الهدهد فحمله ، قيل في جناحه كما هي عادة الطير ، وقيل بمنقاره ، وجاء إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها ، ثم تولى ناحية أدبا ورئاسة ، فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته ، فإذا فيه (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها.

ثم قالت لهم (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر أتى به فألقاه إليها ، ثم تولى عنها أدبا ، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، ثم قرأته عليهم (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه‌السلام ، وأنه لا قبل لهم به ، وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة ، فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء : لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه‌السلام.

وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا في تفسيره حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الحنّاط. حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود» قلت : يا نبي الله أي آية؟ قال «سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد» قال : فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه ، فقلت نسي ثم التفت إلي وقال : «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» هذا حديث غريب ، وإسناده ضعيف. وقال ميمون بن مهران : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية. فكتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقوله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) قال قتادة : يقول لا تجبروا علي (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني مسلمين. قال ابن عباس : موحدين ، وقال غيره : مخلصين ، وقال سفيان بن عيينة : طائعين.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها

١٧٠

أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥)

لما قرأت عليهم كتاب سليمان ، استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها ، ولهذا قالت (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي حتى تحضرون وتشيرون (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم ، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه ، فما لنا عاقة عنه. وبعد هذا فالأمر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه.

قال الحسن البصري رحمه‌الله : فوضوا أمرهم إلى علجة (١) تضطرب ثدياها ، فلما قالوا لها ما قالوا ، كانت هي أحزم رأيا منهم وأعلم بأمر سليمان ، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير. وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرا عجيبا بديعا ، فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلي وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا. ولهذا قالت (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه أي خربوه (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر.

قال ابن عباس : قالت بلقيس (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) قال الرب عزوجل : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة ، فقالت (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا ، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادةرحمه‌الله : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها ، علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧)

ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك. وقال بعضهم : أرسلت بلبنة من ذهب ، والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب. قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما : أرسلت جواري في زي الغلمان ،

__________________

(١) العلج : هو الرجل من كفار العجم ، والعلجة : مؤنث علج.

١٧١

وغلمان في زي الجواري فقالت : إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي ، قالوا : فأمرهم سليمان فتوضؤوا ، فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك ، وقيل بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس ، وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن ، والغلمان من مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله ، والله أعلم.

وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ولا من الأرض ، فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك ، وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان ذلك أم لا ، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات ، والظاهر أن سليمان عليه‌السلام ، لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ، ولا اعتنى به ، بل أعرض عنه. وقال منكرا عليهم (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ؟) أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف.

قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة ، فلما رأت رسلها ذلك ، قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا ، وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي بهديتهم (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم بقتالهم (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً) أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي مهانون مدحورون. فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها ، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة ، معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام ، ولما تحقق سليمان عليه‌السلام قدومهم عليه ، ووفودهم إليه فرح بذلك وسره.

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠)

قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : فلما رجعت إليها الرسل بما قال سلميان قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة وما نصنع بمكابرته شيئا ، وبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك ، ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه. وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ ، فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ، ثم أقفلت عليه الأبواب ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما

١٧٢

قبلك وسرير ملكي ، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ، ولا يرينه أحد حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جاثية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه. وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر. وكان مسترا بالديباج والحرير ، وكانت عليه تسعة مغاليق ، فكره أن يأخذ بعد إسلامهم. وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم ، فقال (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي وزهير بن محمد (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فتحرم علي أموالهم بإسلامهم (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) قال مجاهد : أي مارد من الجن ، قال شعيب الجبائي : وكان اسمه كوزن ، وكذا قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان (١) ، وكذا قال أيضا وهب بن منبه. قال أبو صالح وكان كأنه جبل (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال ابن عباس رضي الله عنه : يعني قبل أن تقوم من مجلسك.

وقال مجاهد : مقعدك ، وقال السدي وغيره : كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام ، من أول النهار إلى أن تزول الشمس (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) قال ابن عباس : أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجوهر ، فقال سليمان عليه الصلاة والسلام أريد أعجل من ذلك ، ومن هاهنا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك ، وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من بعده ، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه ، هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة. فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) قال ابن عباس وهو آصف كاتب سليمان ، وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء. وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم

وقال قتادة : كان مؤمنا من الإنس واسمه آصف ، وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة أنه كان من الإنس ، زاد قتادة من بني إسرائيل. وقال مجاهد كان اسمه أسطوم. وقال قتادة في رواية عنه كان اسمه بليخا ، وقال زهير بن محمد هو رجل من الإنس يقال له ذو النور. وزعم عبد الله بن لهيعة أنه الخضر ، وهو غريب جدا.

وقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي ارفع بصرك وانظر ، مد بصرك مما تقدر

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٢٢.

١٧٣

عليه ، فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك ، وقال وهب بن منبه : امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به ، فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى. قال مجاهد : قال يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري قال : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قال : فمثل بين يديه ، قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم : لما دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس وكان في اليمن وسليمان عليه‌السلام ببيت المقدس غاب السرير وغاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه ، قال وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقرا عنده (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي هذا من نعم الله عليّ (لِيَبْلُوَنِي) أي ليختبرني (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] وكقوله : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم : ٤٤].

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي هو غني عن العباد وعبادتهم كريم أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد ، وهذا كما قال موسى (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم : ٨].

وفي صحيح مسلم «يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (١).

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

لما جيء سليمان عليه‌السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه ، وقال

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥.

١٧٤

مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر ، وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل ، ولها لب ودهاء وحزم ، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت (كَأَنَّهُ هُوَ) أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم.

وقوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) قال مجاهد يقوله سليمان (١) ، وقوله تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) هذا من تمام كلام سليمان عليه‌السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما‌الله أي قال سليمان (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد : حسن وقاله ابن جرير أيضا ، ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله (وَصَدَّها) ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عزوجل تقديره ومنعها (ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي صدها عن عبادة غير الله (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (قلت) : ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي.

وقوله : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) وذلك أن سليمان عليه‌السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه‌السلام إلى اتخاذه فقيل : إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه ، ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب (٢) عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا؟ هذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره. فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقا وأحسنهم قدما ولكن رأى على رجليها شعرا لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن : اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة. وكان أول من اتخذت له النورة (٣) ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم.

وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها : ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٢٧.

(٢) هلب : أي شعر.

(٣) النورة : حجر يحلق به شعر العانة.

١٧٥

من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير ، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله ، وقال الحسن البصري : لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها ، وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم من سلطانها (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ).

فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عزوجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت؟ قالت أنسيت ما قلت؟ فقالت (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فأسلمت وحسن إسلامها (١).

وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس فقال : حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان عليه‌السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهر ، قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال : وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض.

قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [النمل : ٢٢] ـ فقرأ حتى انتهى إلى قوله ـ (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) [النمل : ٢٧ ـ ٢٨] وكتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، إلى بلقيس (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولو قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون ، فلما جاءت الهدية سليمان قال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٣٨ ، ٥٣٩.

١٧٦

أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد.

قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال سليمان أريد أعجل من ذلك ، فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير ، قال فلما رأى سليمان عرشها قال (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) الآية (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها).

فلما جاءت قيل أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء. وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال : فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الآنية. قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية ، قال وسألت عن لون الله عزوجل ، قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجدا فقال : يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك ، فقال : ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء ، قال ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته ، قال فجعلوا صرحا ممردا من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء. فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة. قال فهو أول من جعلت له النورة (١) ، ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة من أحسنه من حديث (قلت) : بل هو منكر غريب جدا ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.

والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. أصل الصرح في كلام العرب هو

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٢٠٦ ، ٢٠٧.

١٧٧

القصر وكل بناء مرتفع ، قال الله سبحانه وتعالى إخبارا عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) [غافر : ٣٦ ـ ٣٧] الآية. والصرح قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد المبنى بناء محكما أملس (مِنْ قَوارِيرَ) أي زجاج ، وتمريد البناء تمليسه ، ومارد : حصن بدومة الجندل ، والغرض أن سليمان عليه‌السلام اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، وأسلمت لله عزوجل وقالت (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧)

يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه‌السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) قال مجاهد : مؤمن وكافر (١) كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ)؟ (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٧٥ ـ ٧٦] (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته ولهذا قال : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا ، وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحدا منهم سوء إلا قال هذا من قبل صالح وأصحابه.

قال مجاهد : تشاءموا بهم وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] الآية. وقال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] أي بقضائه وقدره ، وقال تعالى مخبرا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٨ ـ ١٩] الآية ، وقال هؤلاء (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي الله يجازيكم على ذلك (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) قال قتادة : تبتلون بالطاعة والمعصية والظاهر أن المراد بقوله : (تُفْتَنُونَ) أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٣١.

١٧٨

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣)

يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح ، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضا ، بأن يبيتوه في أهله ليلا فيقتلوه غيلة ، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه : إنهم ما علموا بشيء من أمره ، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك فقال تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) أي مدينة ثمود (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي تسعة نفر (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود ، لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم. قال العوفي عن ابن عباس : هؤلاء هم الذين عقروا الناقة (١) ، أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم ، وقد فعل ذلك. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : كان أسماء هؤلاء التسعة : دعمي ، ودعيم ، وهرما ، وهريم ، وداب ،. وصواب ، ورئاب ، ومسطع ، وقدار بن سالف عاقر الناقة ، أي الذي باشر ذلك بيده ، قال الله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] وقال تعالى : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) [الشمس : ١٢].

وقال عبد الرزاق : أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني ، سمعت عطاء ـ هو ابن أبي رباح ـ يقول (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) قال : كانوا يقرضون الدراهم ، يعني أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددا كما كان العرب يتعاملون. وقال الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض (٢). وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس (٣). والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض ، بكل طريق يقدرون عليها ، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك.

وقوله تعالى : (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أي تحالفوا وتابعوا على قتل نبي الله صالح عليه‌السلام من لقيه ليلا غيلة ، فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم ، قال مجاهد : تقاسموا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٥٣٢.

(٢) أخرجه مالك في البيوع حديث ٣٧.

(٣) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٤٨ ، وابن ماجة في التجارات باب ٥٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٩.

١٧٩

وتحالفوا على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين ، وقال قتادة : تواثقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم ، قال العوفي عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : لنبيتن صالحا وأهله فنقتلهم ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم فدمرهم الله أجمعين.

وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون ، فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة قال لهم صالح (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث ، وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم ، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم فخشوا أن تشدخهم فتبادروا ، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم ، فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحا ومن معه ثم قرأ (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) أي فارغة ليس فيها أحد (بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ(٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨)

يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه‌السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم ، وهي إتيان الذكور دون الإناث ، وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء فقال : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي

١٨٠