تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٥٩)

يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه‌السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عزوجل أنهم (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال مجاهد وقتادة : يعنون من المسحورين. وروى أبو صالح عن ابن عباس (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) يعني من المخلوقين (١) ، واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر [الطويل] :

فإن تسألينا : فيم نحن؟ فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحّر (٢)

يعني الذين لهم سحور ، والسحر هو الرئة. والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون: إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك ، ثم قالوا (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يعني فكيف أوحي إليك دوننا؟ كما قالوا في الآية الأخرى (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [البقرة : ٢٥ ـ ٢٦] ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم ، وقد اجتمع ملؤهم ، وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء إلى صخرة عندهم ـ من صفتها كذا وكذا ، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه ، فأعطوه ذلك ، فقام نبي الله صالح عليه‌السلام فصلى ، ثم دعا الله عزوجل أن يجيبهم إلى سؤالهم ، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها ، فآمن بعضهم وكفر أكثرهم.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعني ترد ماءكم يوما ، ويوما تردونه أنتم (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء ، فمكثت الناقة بين أظهرهم حينا من الدهر ، ترد الماء وتأكل الورق والمرعى ـ وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شربا وريا ، فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم ، تمالئوا على قتلها وعقرها (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا ، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها ، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون ، وأصبحوا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٦٨.

(٢) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٥٦ ، ولسان العرب (سحر) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٩٢ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٥٣ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥١١ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٣٨ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٢٣ ، وكتاب العين ٣ / ١٣٥ ، والمخصص ١ / ٢٧.

١٤١

في ديارهم جاثمين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٤)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه‌السلام ، وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما‌السلام ، وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها ، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة ، وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس ، بينها وبين بلاد الكرك والشوبك ، فدعاهم إلى الله عزوجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ، ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله ، من إتيان الذكور دون الإناث ، ولهذا قال تعالى :

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥)

لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش ، وغشيانهم الذكور ، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ، ما كان جوابهم له إلا أن قالوا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) أي عما جئتنا به (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي ننفيك من بين أظهرنا ، كما قال تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف : ٨٢] فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم ، تبرأ منهم وقال (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي المبغضين ، لا أحبه ولا أرضى به ، وإني بريء منكم ، ثم دعا الله عليهم فقال (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) قال الله تعالى : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أي كلهم.

(إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) وهي امرأته ، وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها ، وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود ، وكذا في الحجر حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته ، وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه ، فصبروا لأمر الله واستمروا ، وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ـ إلى قوله ـ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ

١٤٢

وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٠)

هؤلاء ـ يعني أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل هاهنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة ، وهي شجرة ، وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها ، فلهذا لما قال : كذب أصحاب الآية المرسلين لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب ، وإنما قال (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه ، وإن كان أخاهم نسبا. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة ، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين ، فزعم أن شعيبا عليه‌السلام بعثه الله إلى أمتين ، ومنهم من قال : ثلاث أمم.

وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي ـ وهو ضعيف ـ حدثني ابن السدي عن أبيه ، وزكريا بن عمر عن خصيف عن عكرمة ، قالا : ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا ، مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة ، فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة ، وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى : (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) قوم شعيب.

وقوله (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قوم شعيب ، وقاله إسحاق بن بشر. وقال غير جويبر : أصحاب الأيكة ومدين هما واحد ، والله أعلم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان ، بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه‌السلام» وهذا غريب ، وفي رفعه نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في قصة مدين سواء بسواء ، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (١٨٤)

يأمرهم الله تعالى بإيفاء المكيال والميزان ، وينهاهم عن التطفيف فيهما ، فقال (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم ، ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصا ، وتأخذوه إذا كان لكم تاما وافيا ، ولكن خذوا كما تعطون ، وأعطوا كما تأخذون (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) والقسطاس هو الميزان ، وقيل هو القبان. قال بعضهم : هو معرب من الرومية. قال مجاهد : القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية. وقال قتادة القسطاس العدل. وقوله (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوهم أموالهم (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ

١٤٣

مُفْسِدِينَ) يعني قطع الطريق ، كما قال في الآية الأخرى (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) [الأعراف : ٨٦].

وقوله (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل ، كما قال موسى عليه‌السلام (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) يقول : خلق الأولين وقرأ ابن زيد (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) [يس : ٦٢].

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١)

يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها ، تشابهت قلوبهم حيث قالوا (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) يعنون من المسحورين كما تقدم (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) قال الضحاك : جانبا من السماء. وقال قتادة : قطعا من السماء. وقال السدي : عذابا من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى أن قالوا (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] وقوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] الآية ، وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) الآية ، (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) يقول : الله أعلم بكم ، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به ، وهو غير ظالم لكم ، وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقا.

ولهذا قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم ، فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام ، لا يكنهم منه شيء ، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم ، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر ، فلما اجتمعوا كلهم تحتها ، أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن ، كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وذلك لأنهم قالوا

١٤٤

(لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨] فأرجفوا بنبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة ، وفي سورة هود قال (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [الحجر: ٧٣ ـ ٨٣] وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء ، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم ، فقال (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) الآية ، وهاهنا قالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) الآية ، على وجه التعنت والعناد ، فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء ، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة ، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها بردا وراحة ، فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارا ، وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى (١).

وقال محمد بن كعب القرظي : إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب : أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها ، فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد ، ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم ، فأرسل الله عليهم الظلة ، فدخل تحتها رجل فقال : ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا ، هلموا أيها الناس ، فدخلوا جميعا تحت الظلة ، فصاح بهم صيحة واحدة ، فماتوا جميعا ، ثم تلا محمد بن كعب (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

وقال محمد بن جرير (٢) : حدثني الحارث ، حدثني الحسن ، حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد ، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، حدثني يزيد الباهلي ، سألت ابن عباس عن هذه الآية (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) الآية ، قال : بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابا إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردا ولذة ، فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا. قال ابن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي العزيز في انتقامه من الكافرين ، الرحيم بعباده المؤمنين.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٧٤.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٤٧٤.

١٤٥

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥)

يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّهُ) أي القرآن ذكره في أول السورة في قوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) الآية (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) وهو جبريلعليه‌السلام ، قاله غير واحد من السلف : ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج ، وهذا مما لا نزاع فيه.

قال الزهري : وهذه كقوله (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [البقرة : ٩٧] وقال مجاهد : من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى (عَلى قَلْبِكَ) يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له.

وقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك ، أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل ، ليكون بينا واضحا ظاهرا ، قاطعا للعذر ، مقيما للحجة دليلا إلى المحجة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي ، حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم «كيف ترون بواسقها؟» قالوا : ما أحسنها وأشد تراكمها. قال «فكيف ترون قواعدها؟» قالوا : ما أحسنها وأشد تمكنها. قال «فكيف ترون جونها؟» قالوا : ما أحسنه وأشد سواده. قال «فكيف ترون رحاها استدارت» قالوا : ما أحسنها وأشد استدارتها. قال «فكيف ترون برقها : أو ميض أم خفو أم يشق شقا؟» قالوا : بل يشق شقا. قال «الحياء الحياء إن شاء الله». قال : فقال رجل : يا رسول الله ، بأبي وأمي ، ما أفصحك ، ما رأيت الذي هو أعرب منك. قال : فقال «حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلا بالعربية ، ثم ترجم كل نبي لقومه ، واللسان يوم القيامة بالسريانية ، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية ، رواه ابن أبي حاتم.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩)

يقول تعالى : وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه ، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم

١٤٦

خطيبا في ملئه بالبشارة بأحمد (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف : ٦] والزبر هاهنا هي الكتب ، وهي جمع زبور ، وكذلك الزبور وهو كتاب داود ، وقال الله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة ، ثم قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها ، والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه وأمته ، كما أخبر بذلك من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم ، وقال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) [الأعراف : ١٥٧] الآية.

ثم قال تعالى مخبرا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن : أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به ، ولهذا قال (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) كما أخبر عنهم في الآية الأخرى (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [الحجر : ١٤ ـ ١٥] الآية ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [الأنعام : ١١١] الآية ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٠٩)

يقول تعالى : كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد ، أي أدخلناه في قلوب المجرمين (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالحق (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي عذاب الله بغتة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلا ليعملوا في زعمهم بطاعة الله ، كما قال الله تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ـ إلى قوله ـ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندما شديدا ، هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ـ إلى قوله ـ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) [يونس : ٨٨ ـ ٨٩] فأثرت هذه الدعوة في فرعون ، فما آمن حتى رأى العذاب الأليم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا

١٤٧

إِسْرائِيلَ ـ إلى قوله ـ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٩٠ ـ ٩١] وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] الآيات.

وقوله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) إنكار عليهم وتهديد لهم ، فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبا واستبعادا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩] ، كما قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [العنكبوت : ٥٣] الآيات ، ثم قال (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحينا من الزمان وإن طال ، ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] وقال تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة : ٩٦] وقال تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [الليل : ١١] ولهذا قال تعالى: (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ).

وفي الحديث الصحيح «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول : لا والله يا رب» (١) أي ما كأن شيئا كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت :

كأنك لم تؤثر من الدهر ليلة

إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب

ثم قال تعالى مخبرا عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم ، والإنذار لهم ، وبعثة الرسل إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، ولهذا قال تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ـ إلى قوله ـ وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩].

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢)

يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ما ينبغي لهم ، أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم ، لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد ، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونور وهدى وبرهان عظيم ، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ، ولهذا قال تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ).

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٢٠٣ ، ٢٥٣.

١٤٨

وقوله تعالى : (وَما يَسْتَطِيعُونَ) أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك ، قال الله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته ، لما وصلوا إلى ذلك ، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله ، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله ، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر ، وهذا من رحمة الله بعباده ، وحفظه لشرعه ، وتأييده لكتابه ولرسوله ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) كما قال تعالى مخبرا عن الجن (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ـ إلى قوله ـ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ٨ ـ ١٠].

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٢٢٠)

يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ، ومخبرا أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين ، أي الأدنين إليه ، وأنه لا يخلص أحدا منهم إلا إيمانه بربه عزوجل ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين ، ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه ، ولهذا قال تعالى : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها ، كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) [يس : ٦] ، وقال تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٢] وقال تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٥١] ، وقال تعالى : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم : ٩٧] ، وقال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [هود : ١٩] ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧]. وفي صحيح مسلم «والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (١) وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة فلنذكرها :

[الحديث الأول] قال الإمام أحمد (٢) رحمه‌الله : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما أنزل الله عزوجل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا ، فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا بني

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٤٠.

(٢) المسند ١ / ٣٠٧.

١٤٩

عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا : نعم. قال «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) [المسد : ١] ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به.

[الحديث الثاني] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم» انفرد بإخراجه مسلم (٣).

[الحديث الثالث] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ، فعم وخص فقال «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها» (٥). ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا ، ولم يذكر فيه أبا هريرة ، والموصول هو الصحيح ، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد يعني ابن إسحاق ، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله ، فإني لا أغني عنكما من الله شيئا ، سلاني من مالي ما شئتما» تفرد به من هذا الوجه ، وتفرد به

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٦ ، باب ٢ ، وسورة ٣٤ ، باب ٢ ، وسورة ١١١ ، باب ١ ، ٢ ، ومسلم في حديث ٣٥١ ، والترمذي في تفسير سورة ١١١.

(٢) المسند ٦ / ١٨٧.

(٣) كتاب الإيمان حديث ٣٥٠.

(٤) المسند ٢ / ٣٦٠.

(٥) أخرجه البخاري في الأدب باب ١٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٤٨ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٦ ، باب ٢ ، والنسائي في الوصايا باب ٦.

(٦) المسند ٢ / ٣٥٠ ، ٣٩٨ ، ٤٤٨ ، ٤٤٩.

١٥٠

أيضا عن معاوية عن زائدة ، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ورواه أيضا عن حسن حدثنا ابن لهيعة : عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا ، وقال أبو يعلى : حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا بني قصي ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، أنا النذير ، والموت المغير ، والساعة الموعد».

[الحديث الرابع] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن سعيد التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو ، قالا : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : «يا بني عبد مناف ، إنما أنا نذير ، وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله يخشى أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه» (٢) ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن بن سهل النهدي ، عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به.

[الحديث الخامس] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا ، قال : وقال لهم «من يضمن عني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي؟» فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله أنت كنت بحرا من يقوم بهذا ، قال : ثم قال الآخر ـ ثلاثا ـ قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال علي : أنا.

[طريق أخرى بأبسط من هذا السياق] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي رضي الله عنه قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو دعا رسول الله ـ بني عبد المطلب وهم رهط ، وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب ، وقال «يا بني عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، فقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي» قال : فلم يقم إليه أحد ، قال : فقمت إليه وكنت أصغر القوم ، قال : فقال «اجلس» ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي «اجلس» حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.

__________________

(١) المسند ٥ / ٦٠.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٥٣ ، ٣٥٥.

(٣) المسند ١ / ١١١.

(٤) المسند ١ / ١٥٩.

١٥١

[طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر] قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل ، واستكتمني اسمه ، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت ، فجاءني جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك» قال علي رضي الله عنه فدعاني ، فقال : يا علي «إن الله تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فصمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك ، فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعد لنا عس (١) لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب».

ففعلت فاجتمعوا إليه ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا ، فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث ، فقدمت إليهم تلك الجفنة ، فأخذ منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذبة فشقها بأسنانه ، ثم رمى بها في نواحيها ، وقال «كلوا بسم الله» فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسقهم يا علي» فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم صاحبكم ، فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما كان من الغد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اسقهم يا علي» فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام ، فقال : لهد ما سحركم صاحبكم ، فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما كان من الغد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب ، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك

__________________

(١) العس : القدح الكبير.

١٥٢

القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ، ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة» قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال عن عمرو عن عبد الله بن الحارث.

وقد رواه أبو جعفر بن جرير (١) عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله ، وزاد بعد قوله «إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا؟» قال : فأحجم القوم عنها جميعا وقلت ـ وإني لأحدثهم سنا ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا ـ : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال «إن هذا أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا» قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعفه الأئمة رحمهم‌الله.

[طريق. أخرى] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي أخبرنا الحسين عن عيسى بن ميسرة الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا» قال : ففعلت ، ثم قال «ادع بني هاشم» قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ أربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها ، قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذروتها ثم قال «فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها لم يزرؤوا منها إلا اليسير ، قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رووا ، قال : وفضل فضل ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتكلم فبدروه الكلام ، فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر.

فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام» فصنعت ، قال : فدعاهم فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال لي «اصنع لي رجل شاة بصاع طعام» فصنعت ، قال : فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكلام ، فقال «أيكم يقضي عني ديني ، ويكون خليفتي في أهلي؟» قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكت أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٤٨٣ ، ٤٨٤.

١٥٣

فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله. قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، خمش الساقين ، فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه ، ومعنى سؤاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل.

فلما أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فعند ذلك أمن ، وكان أو لا يحرس حتى نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من علي رضي الله عنه ، ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم كان بعد هذا ـ والله أعلم ـ دعاؤه الناس جهرة على الصفا ، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي ـ غير منسوب ـ من طريق عمرو بن سمرة ، عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أزهد الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون» وذلك فيما أنزل الله عزوجل ، قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ـ إلى قوله ـ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

وقوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي في جميع أمورك ، فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك. وقوله تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي هو معتن بك كما قال تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] قال ابن عباس (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) يعني إلى الصلاة. وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده. وقال الحسن (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) إذا صليت وحدك ، وقال الضحاك (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة (الَّذِي يَراكَ) قائما وجالسا وعلى حالاتك.

وقوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال قتادة (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال : في الصلاة يراك وحدك ، ويراك في الجمع ، وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري. وقال مجاهد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه ، ويشهد لهذا ما صح في الحديث «سووا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» (١) وروى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ٧٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ١٢٤.

١٥٤

البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبيا. وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وسكناتهم ، كما قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] الآية.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

يقول تعالى مخاطبا لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بحق ، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه ، أو أنه أتاه به رئي (١) من الجان ، فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم ، ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله ، وأنه تنزيله ووحيه ، نزل به ملك كريم أمين عظيم ، وأنه ليس من قبل الشياطين ، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة ، ولهذا قال الله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي كذوب في قوله وهو الأفاك (أَثِيمٍ) وهو الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان ، وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة ، فإن الشياطين أيضا كذبة فسقة (يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي يسترقون السمع من السماء ، فيسمعون الكلمة من علم الغيب ، فيزيدون معها مائة كذبة ، ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس ، فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء ، كما صح بذلك الحديث.

كما رواه البخاري من حديث الزهري : أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول : قالت عائشة رضي الله عنها : سأل ناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان ، فقال «إنهم ليسوا بشيء» قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج ، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة»(٢).

وروى البخاري أيضا : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة

__________________

(١) الرئي : التابع من الجن ، الذي يتراءى لمتبوعه.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٧.

١٥٥

بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنها سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ [قالوا للذي قال] : الحق ، وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ـ وصف سفيان بيده ، فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» تفرد به البخاري (١). وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس ، عن رجال من الأنصار قريبا من هذا ، وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) [سبأ : ٢٣] الآية.

وقال البخاري : وقال الليث : حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الملائكة تحدث في العنان ـ والعنان : الغمام ـ بالأمر في الأرض ، فتسمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة» (٢). ورواه البخاري في موضع آخر في كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم ، عن الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة عن عائشة بنحوه.

وقوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن ، وكذا قال مجاهد رحمه‌الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما. وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس (٣) ، ولهذا فئام من الناس ، فأنزل الله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ). وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث عن ابن الهاد عن يحنّس مولى مصعب بن الزبير ، عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذوا الشيطان ـ أو أمسكوا الشيطان ـ لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا».

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : في كل لغو يخوضون (٥). وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام ، وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري : قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها مرة في شتمه فلان،

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، وسورة ٣٤ ، باب ١.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٦ ، ١١.

(٣) فئام من الناس : أي جماعات من الناس.

(٤) المسند ٣ / ٨ ، ٤١.

(٥) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٩٠.

١٥٦

ومرة في مدحة فلان. وقال قتادة : الشاعر يمدح قوما بباطل ويذم قوما بباطل.

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) قال العوفي عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وإنهما تهاجيا ، فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء ، فقال الله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) (١). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر. فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، فيتكثرون بما ليس لهم ، ولهذا اختلف العلماء رحمهم‌الله : فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا : هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ، لأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات ، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة ، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة ، وكان يقول الشعر ، فقال [الطويل] :

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها

بميسان يسقى في زجاج وحنتم (٢)

إذا شئت غنتني دهاقين قرية

ورقاصة تجذو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني

ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل أمير المؤمنين يسوؤه

تنادمنا بالجوسق المتهدّم

فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إي والله إنه ليسوؤني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ـ أما بعد ـ قد بلغني قولك :

لعل أمير المؤمنين يسوؤه

تنادمنا بالجوسق المتهدم

وايم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر ، فقال : والله يا أمير

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٨٩.

(٢) البيت الأول للنعمان بن نضلة العدوي في لسان العرب (جذا) ، وللنعمان بن عدي في لسان العرب (ختم) ، وتاج العروس (خثم) والمخصص ٩ / ١٠٠ ، والبيت الثاني ، ويروى البيت الثاني :

إذا شئت غنّتني دهاقين قرية

وصنّاجه تحدو على كل منسم

وهو للنعمان بن نضلة العدوي في لسان العرب (جذ) وتاج العروس (جذا) ، وبلا نسبة في لسان العرب (صنج) ، (دهق) ، (دهقن) ، وتاج العروس (صنج) ، (دهقن) ، ومجمل اللغة ١ / ٤١٨ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٣٩ ، ٥١١ ، والمخصص ١٢ / ٨٦ ، ٢٦٢ ، والبيتان الثالث والرابع للنعمان بن نضلة العدوي في الأزهية ص ٢١٨ ، ولسان العرب (جسق) (ندم) ، (جدا) ، وبلا نسبة في لسان العرب (دهق).

١٥٧

المؤمنين ما شربتها قط ، وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت ، فلم يذكر أنه حده على الشراب ، وقد ضمنه شعره ، لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به ، ولهذا جاء في الحديث «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا» (١).

والمراد من هذا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ، لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس : ٦٩] وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الحاقة : ٤٠ ـ ٤٣] وهكذا قال هاهنا : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٤] إلى أن قال (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) إلى أن قال (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ).

وقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال : لما نزلت (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال «أنتم» (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قال «أنتم» (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال «أنتم» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (٢) من رواية ابن إسحاق ، وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ، عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عبد الله ، عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، أتيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزلت هذه الآية (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) يبكيان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرؤها عليهما (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) حتى بلغ (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال «أنتم».

وقال أيضا حدثنا أبي ، حدثنا أبو مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال : لما نزلت (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى قوله (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) قال

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في الأدب باب ٧١ ، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب باب ٩٢ ، ومسلم في الشعر حديث ٧ ـ ٩ ، وأبو داود في الأدب باب ٨٧ ، وابن ماجة في الأدب باب ٤٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٨ ، ٣٩١ ، ٤٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٤٩٠ ، ٤٩١.

١٥٨

عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم ، فأنزل الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية.

وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد : أن هذا استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء ، ولكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر ، ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها ، والله أعلم ، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحا ، وذكر الله كثيرا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه ، كما قال عبد الله بن الزبعرى حين أسلم [الخفيف] :

يا رسول المليك إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (١)

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي

ومن مال ميله مثبور

وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا ، فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان يمدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما كان يهجوه ، ويتولاه بعد ما كان قد عاداه ، وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : يا رسول الله ثلاث أعطنيهن ، قال «نعم» قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك؟ قال «نعم» قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين؟ قال «نعم» وذكر الثالثة (٢) ، ولهذا قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قيل : معناه ذكروا الله كثيرا في كلامهم ، وقيل في شعرهم. وكلاهما صحيح مكفر لما سبق.

وقوله تعالى : (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين ، وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد ، وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحسان : «اهجهم ـ أو قال ـ هاجهم وجبريل معك» (٣). وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله عزوجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل ، فقال «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نضح النبل».

__________________

(١) تقدم البيتان مع تخريجهما في تفسير الآية ١٩ ، من سورة الفرقان.

(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ١٦٨.

(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٦ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٥٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨٦ ، ٢٩٨ ، ٢٩٩ ، ٣٠١ ، ٣٠٢ ، ٣٠٣.

(٤) المسند ٦ / ٣٨٧.

١٥٩

وقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ، كقوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) الآية ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (١) ، قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) يعني من الشعراء وغيرهم ، وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة قال : حضرت الحسن ومر عليه بجنازة نصراني ، فقال : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). وقال عبد الله بن أبي رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى ، حتى أقول قد اندق قضيب زوره ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

وقال ابن وهب : أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم ، فبينما هم ليلة على نار يشتوون عليها أو يصطلون ، إذا بركاب قد أقبلوا فقاموا إليهم ، فإذا فضالة بن عبيد فيهم ، فأنزلوه فجلس معهم ـ قال ـ وصاحب لنا قائم يصلي حتى مر بهذه الآية (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت. وقيل : المراد بهم أهل مكة ، وقيل الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم.

كما قال ابن أبي حاتم : ذكر عن زكريا بن يحيى الواسطي ، حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجبر ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : كتب أبي في وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب ، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه ، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ). آخر تفسير سورة الشعراء ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٦ ، ٥٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٢ ، ١٠٦ ، ٣ / ٣٢٣.

١٦٠