تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وقوله تعالى : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي حسنت منظرا وطابت مقيلا ومنزلا ، ثم قال تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه ، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا. قال مجاهد وعمرو بن شعيب (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) يقول : ما يفعل بكم ربي (١). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) الآية ، يقول : لو لا إيمانكم. وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين.

وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكافرون (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم ، يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة ، ويدخل في ذلك يوم بدر ، كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي يوم القيامة ، ولا منافاة بينهما.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٢٧.

١٢١

سورة الشعراء

وهي مكية

(ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٩)

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات القرآن المبين ، أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل ، والغي والرشاد. وقوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ) أي مهلك (نَفْسَكَ) أي مما تحرص وتحزن عليهم (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذه تسلية من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] كقوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] الآية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي قاتل نفسك. قال الشاعر [الطويل] :

ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادر (١)

ثم قال تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ، ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩]. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً)

__________________

(١) البيت لذي الرمة في ديوانه ص ١٠٣٧ ، وشرح المفصل ٢ / ٧ ، ولسان العرب (بخع) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢١٧ ، وتفسير الطبري ٩ / ٤٣٠ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٤٧٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٥٣ ، ولسان العرب (نحا) ، والمقتضب ٤ / ٢٥٩.

١٢٢

[هود : ١١٨ ـ ١١٩] الآية ، فنفذ قدره ، ومضت حكمته ، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم.

ثم قال تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ، كما قال تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقال تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس : ٣٠] وقال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) [المؤمنون : ٤٤] الآية ، ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق ، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه ، الذين اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه ، وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان.

قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه ، وخالفوا أمره ، وارتكبوا نهيه. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه (الرَّحِيمُ) أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير : الرحيم بمن تاب إليه وأناب.

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ(١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ(١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢)

يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه‌السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن ، وكلمه وناجاه ، وأرسله واصطفاه ، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه ، ولهذا قال تعالى : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه ، كما قال في سورة طه (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي

١٢٣

أَمْرِي ـ إلى قوله ـ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٢٥ ـ ٢٦].

وقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر (قالَ كَلَّا) أي قال الله له : لا تخف من شيء من ذلك كقوله (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ـ أي برهانا ـ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] (فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) كقوله (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) كقوله في الآية الأخرى (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أي كل منا أرسل إليك (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك ، فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون ، وهم معك في العذاب المهين ، فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنا لك بالكلية ، ونظر إليه بعين الازدراء والغمص ، فقال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) الآية ، أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا ، وأنعمنا عليه مدة من السنين ، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلا ، وجحدت نعمتنا عليك ، ولهذا قال (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي الجاحدين. قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير (١) ، (قالَ فَعَلْتُها إِذاً) أي في تلك الحال (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين. قال ابن جريج : وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآية ، أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر ، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت ، وإن خالفته عطبت ، ثم قال موسى (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك ، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم ، أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨)

يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٤٣٧.

١٢٤

وذلك أنه كان يقول لقومه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) [الزخرف : ٥٤] وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا ، ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون فلما قال له موسى : إني رسول رب العالمين. قال له فرعون : ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف ، حتى قال السدي : هذه الآية كقوله تعالى : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٤٩].

ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط ، فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر ، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه ، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه ، وإلهه لا شريك له ، هو الذي خلق الأشياء كلها ، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات ، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار ، وما بين ذلك من الهواء والطير ، وما يحتوي عليه الجو ، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة ، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله (أَلا تَسْتَمِعُونَ) أي ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين ، الذين كانوا قبل فرعون وزمانه.

(قالَ) أي فرعون لقومه (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري. (قالَ) أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة ، فأجاب موسى بقوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب : ثوابتها وسياراتها ، مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها ، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا ، فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا ، كما قال تعالى عن (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] الآية. ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته ، عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه ، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه‌السلام ، فقال ما أخبر الله تعالى عنه :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ

١٢٥

كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧)

لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل ، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه ، وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال ، فقال (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) فعند ذلك قال موسى (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي ببرهان قاطع واضح (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ، ذات قوائم ، وفم كبير ، وشكل هائل مزعج (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي تتلألأ كقطعة من القمر ، فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد ، ف (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي فاضل بارع في السحر ، فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة ، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به.

فقال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) الآية ، أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا ، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ، ويغلبكم على دولتكم ، فيأخذ البلاد منكم ، فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به؟ (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه ، ويأتون بنظير ما جاء به ، فتغلبه أنت ، وتكون لك النصرة والتأييد ، فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد ، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ(٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨)

ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه‌السلام والقبط في سورة الأعراف ، وفي سورة طه ، وفي هذه السورة ، وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء : ١٨] (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] الآية ، ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ، وكانوا إذ ذاك من أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك ، وكان

١٢٦

السحرة جمعا كثيرا وجما غفيرا ، قيل : كانوا اثني عشر ألفا ، وقيل خمسة عشر ألفا ، وقيل سبعة عشر ألفا ، وقيل تسعة عشر ألفا ، وقيل بضعة وثلاثين ألفا ، وقيل ثمانين ألفا ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم بعدتهم.

قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم ، وهم : سابور ، وعاذور ، وحطحط ، ويصفى ، واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم ، وقال قائلهم (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى ، بل الرعية على دين ملكهم (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) أي إلى مجلس فرعون ، وقد ضربوا له وطاقا(١) ، وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته ، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا ، أي هذا الذي جمعتنا من أجله ، فقالوا (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي ، فعادوا إلى مقام المناظرة (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا) [طه : ٦٥ ـ ٦٦] وقد اختصر هذا هاهنا ، فقال لهم موسى (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا هذ بثواب فلان ، وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦]. وقال في سورة طه (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ـ إلى قوله ـ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٦ ـ ٦٩] وقال هاهنا (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا. قال الله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ـ إلى قوله ـ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الأعراف : ١١٨ ـ ١٢٢] فكان هذا أمرا عظيما جدا ، وبرهانا قاطعا للعذر ، وحجة دامغة ، وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا ، غلبوا وخضعوا ، وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة ، وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة ، فغلب فرعون غلبا لم يشاهد العالم مثله ، وكان وقحا جريئا ، عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل ، فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] وقال (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) [الأعراف : ١٢٣] الآية.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ

__________________

(١) الوطاق : في التركية أوتاق وأوتاغ ، والأطاق في التركية اسم للخيمة الكبيرة المزخرفة تعد للعظماء ، والوطاق في العربية : الخيمة والمعسكر المكون من خيام. (انظر تأصيل الدخيل لما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل ص ١٩٨)

١٢٧

مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١)

تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم ، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما ، وذلك إنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر ، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به ، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ، ولهذا لما قال لهم فرعون (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ، ولا تفتاتوا علي في ذلك ، فإن أذنت لكم فعلتم ، وإن منعتكم امتنعتم فإذني أنا الحاكم المطاع (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل.

ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا (لا ضَيْرَ) أي لا حرج ، ولا يضرنا ذلك ، ولا نبالي به (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي المرجع إلى الله عزوجل ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا ، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ، ولهذا قالوا (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) أي ما قارفناه من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ(٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩)

لما طال مقام موسى عليه‌السلام ببلاد مصر ، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه ، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون ، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال ، فأمر الله تعالى موسى عليه‌السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر ، وأن يمضي بهم حيث يؤمر ، ففعل موسى عليه‌السلام ما أمره به ربه عزوجل ، خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا ، وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر ، وذكر مجاهد رحمه‌الله أنه كسف القمر تلك الليلة ، فالله أعلم ، وأن موسى عليه‌السلام سأل عن قبر يوسف عليه‌السلام ، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه ، فاحتمل تابوته معهم ، ويقال : إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما‌السلام ، وكان يوسف عليه‌السلام قد أوصى بذلك ، إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم.

وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه‌الله فقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح ، حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق ، عن ابن

١٢٨

أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأعرابي فأكرمه ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعاهدنا؟» فأتاه الأعرابي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما حاجتك؟» قال : ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي ، فقال «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟» فقال له أصحابه : وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال «إن موسى عليه‌السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق ، فقال لبني إسرائيل : ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل : نحن نحدثك أن يوسف عليه‌السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا ، فقال لهم موسى : فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا : ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل.

فأرسل إليها فقال لها : دليني على قبر يوسف ، فقالت : والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي ، فقال لها : وما حكمك؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة ، فكأنه ثقل عليه ذلك ، فقيل له : أعطها حكمها ـ قال ـ فانطلقت معهم إلى بحيرة ـ مستنقع ماء ـ فقالت لهم : انضبوا هذا الماء ، فلما أنضبوه قالت : احفروا ، فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف ، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار» وهذا حديث غريب جدا ، والأقرب أنه موقوف ، والله أعلم.

فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب ، غاظ ذلك فرعون ، واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار ، فأرسل سريعا في بلاده حاشرين ، أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ، ونادى فيهم (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني بني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) أي لطائفة قليلة (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم ، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم ، وأبيد خضراءهم ، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم ، قال الله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم ، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق ، والملك والجاه الوافر في الدنيا (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف : ١٣٧] الآية ، وقال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص : ٥ ـ ٦] الآيتين.

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٦٨)

ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير ، هو عبارة عن

١٢٩

مملكة الديار المصرية في زمانه ، أولي الحل والعقد والدول من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ، فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس ، منها مائة ألف على خير دهم ، وقال كعب الأحبار : فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم ، وفي ذلك نظر ، والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، والذي أخبر به القرآن هو النافع ، ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته ، إلا أنهم خرجوا بأجمعهم.

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس ، وهو طلوعها ، (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي رأى كل من الفريقين صاحبه ، فعند ذلك (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر ، وهو بحر القلزم ، فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده ، فلهذا قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون ، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم ، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد ، وكان هارون عليه‌السلام في المقدمة ، ومعه يوشع بن نون ، ومؤمن آل فرعون ، وموسى عليه‌السلام في الساقة ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون ، وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون ، يقول لموسى عليه‌السلام : يا نبي الله هاهنا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول ، نعم ، فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل ، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه‌السلام أن يضرب بعصاه البحر ، فضربه وقال : انفلق بإذن الله.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد ، حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه‌السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء ، والمكون لكل شيء ، والكائن بعد كل شيء ، اجعل لنا مخرجا ، فأوحى الله إليه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ). وقال قتادة : أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع ، فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب ، ولا يدري من أي جانب يضربه موسى ، فلما انتهى إليه موسى ، قال له فتاه يوشع بن نون : يا نبي الله أين أمرك ربك عزوجل؟ قال : أمرني أن أضرب البحر ، قال : فاضربه. وقال محمد بن إسحاق ، أوحى الله ـ فيما ذكر لي ـ إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضا فرقا من الله تعالى ، وانتظارا لما أمره الله ، وأوحى الله إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه بها ، ففيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق ، ذكر غير واحد أنه جاء فكناه ، فقال : انفلق عليّ أبا خالد بحول الله.

قال الله تعالى : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كالجبل الكبير ، قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال عطاء الخراساني : هو

١٣٠

الفج بين الجبلين. وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقا لكل سبط طريق ، وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض ، وقام الماء على حيلة كالحيطان. وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته ، فصار يبسا كوجه الأرض ، قال الله تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧]. وقال في هذه القصة (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي هنا لك. قال ابن عباس وعطاء الخراساني وقتادة والسدي (وَأَزْلَفْنا) أي قربنا من البحر فرعون وجنوده ، وأدنيناهم إليه (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم ، فلم يهلك منهم احد ، وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا شبابة ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود أن موسى عليه‌السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك ، فأمر بشاة فذبحت ، وقال : لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط ، فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر ، فقال له : انفرق ، فقال له البحر : قد استكبرت يا موسى ، وهل انفرقت لأحد من ولد آدم ، فأنفرق لك؟ قال ، ومع موسى رجل على حصان له ، فقال له ذلك الرجل ، أين أمرت يا نبي الله؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه ، قال : والله ما كذب ولا كذبت ، ثم اقتحم الثانية فسبح ثم خرج ، فقال : أين أمرت يا نبي الله؟ قال : ما أمرت إلا بهذا الوجه. قال : والله ما كذب ولا كذبت ، قال : فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه موسى بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون ، فلما خرج أصحاب موسى ، وتتام أصحاب فرعون ، التقى البحر عليهم فأغرقهم.

وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : فلما خرج آخر أصحاب موسى ، وتكامل أصحاب فرعون ، انطم عليهم البحر ، فما رئي سواد أكثر من يومئذ ، وغرق فرعون لعنه الله ، ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين ، لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم تفسيره.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧)

هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه‌السلام إمام الحنفاء ، أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل ، وعبادة الله وحده

١٣١

لا شريك له ، والتبري من الشرك وأهله ، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل ، أي من صغره إلى كبره ، فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عزوجل (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي مقيمين على عبادتها ودعائها (قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك ، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون ، فهم على آثارهم يهرعون ، فعند ذلك قال لهم إبراهيم (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير ، فلتخلص إلي بالمساءة ، فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها.

وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه‌السلام : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس : ٧١] الآية ، وقال هود عليه‌السلام (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٤ ـ ٥٦] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) [الأنعام : ٨١] الآية. وقال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ـ إلى قوله ـ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] وقال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني لا إله إلا الله.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢)

يعني لا. أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق الذي قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، فكل يجري على ما قدر له ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية ، فساق المزن ، وأنزل الماء وأحيا به الأرض ، وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد ، وأنزل الماء عذبا زلالا (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً).

وقوله (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض إلى نفسه ، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه ، ولكن أضافه إلى نفسه أدبا ، كما قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة ، فأسند الأنعام والهداية إلى الله تعالى ، والغضب حذف فاعله أدبا ، وأسند الضلال إلى العبيد ، كما قالت الجن (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ١٠] وكذا قال إبراهيم (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي إذا وقعت في

١٣٢

مرض ، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه ، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، وهو الفعال لما يشاء.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٨٩)

وهذا سؤال من إبراهيم عليه‌السلام أن يؤتيه ربه حكما. قال ابن عباس : وهو العلم. وقال عكرمة : هو اللب ، وقال مجاهد : هو القرآن. وقال السدي : هو النبوة. وقوله (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى» (١) قالها ثلاثا. وفي الحديث في الدعاء «اللهم أحينا مسلمين ، وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين» (٢) وقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير ، كما قال تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ١٠٨ ـ ١١٠].

قال مجاهد وقتادة (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) يعني الثناء الحسن. قال مجاهد : كقوله تعالى (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [النحل : ١٢٢] الآية ، وكقوله (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) [العنكبوت : ٢٧] الآية ، قال ليث بن أبي سليم : كل ملة تحبه وتتولاه ، وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى : (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي نعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي ، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. وقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) الآية ، كقوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [إبراهيم : ٤١] وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه‌السلام ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ـ إلى قوله ـ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ إلى قوله ـ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤].

وقوله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الآية : قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٢ ، ومسلم في السلام حديث ٤٦.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤٢٣.

١٣٣

سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة» (١). وفي رواية أخرى : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون ، فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين» (٢) هكذا رواه عند هذه الآية. وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفردا به ، ولفظه «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصيني ، فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين ، ثم يقال : يا إبراهيم انظر تحت رجلك ، فينظر ، فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» وقال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير.

وقوله (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله ، حدثني أبي ، حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ، وقال له : قد نهيتك عن هذا فعصيتني ، قال : لكني اليوم لا أعصيك واحدة ، قال : يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال : يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال : يا إبراهيم أين أبوك؟ قال : أنت أخذته مني ، قال : انظر أسفل منك ، فنظر ، فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه ، فأخذ بقوائمه فألقي في النار» وهذا إسناد غريب ، وفيه نكارة ، والذيخ هو الذكر من الضباع ، كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك ، وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه غرابة ، ورواه أيضا من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه.

وقوله (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا (وَلا بَنُونَ) أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعا ، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له ، والتبري من الشرك وأهله ، ولهذا قال (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور. وقال ابن عباس (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) حيي أن يشهد أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد والحسن وغيرهما (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يعني من الشرك. وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٦ ، في الترجمة.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨.

١٣٤

قلب المنافق مريض ، قال الله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). قال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب السالم من البدعة ، المطمئن إلى السنة.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ(٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

(أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها ، وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا ، وعملوا لها في الدنيا (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي أظهرت وكشف عنها ، وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر ، وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ، ولا تدفع عن أنفسها ، فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون.

وقوله (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها. وقال غيره : كبّبوا فيها ، والكاف مكررة ، كما يقال صرصر ، والمراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي ألقوا فيها عن آخرهم (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي يقول الضعفاء للذين استكبروا : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) [غافر : ٤٧] ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين ، وعبدناكم مع رب العالمين (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) قال بعضهم : يعني من الملائكة كما يقولون (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] وكذا قالوا (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي قريب.

قال قتادة : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع ، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع (١) (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون ، والله تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة (ص) ثم قال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٥٦.

١٣٥

أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لآية ، أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) (١١٠)

هذا إخبار من الله عزوجل عن عبده ورسوله نوح عليه‌السلام ، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد ، فبعثه الله ناهيا عن ذلك ومحذرا من وبيل عقابه ، فكذبه قومه ، فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى : ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل ، فلهذا قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي إني رسول من الله إليكم ، أمين فيما بعثني الله به ، أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) الآية ، أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم ، بل أدّخر ثواب ذلك عند الله (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (١١٥)

يقولون : لا نؤمن لك ، ولا نتبعك ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل ، الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ، ولهذا (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي؟ ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه ، لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص ، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي ، وأكل سرائرهم إلى الله عزوجل (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه ، فأبى عليهم ذلك وقال (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما بعثت نذيرا ، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه ، سواء كان شريفا أو وضيعا ، أو جليلا أو حقيرا.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ(١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢)

لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم ، يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ،

١٣٦

وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد ، وقالوا في الآخر (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك ، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) أي لنرجمنك ، فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه ، فقال (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) الآية ، كما قال في الآية الأخرى (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] إلى آخر الآية. وقال هاهنا (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي أنجينا نوحا ومن اتبعه كلهم ، وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥)

وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه‌السلام ، أنه دعا قومه عادا ، وكان قومه يسكنون الأحقاف ، وهي جبال الرمل قريبا من حضرموت ، من جهة بلاد اليمن ، وكان زمانهم بعد قوم نوح ، كما قال في سورة الأعراف (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) [الأعراف : ٦٩] وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد ، والطول المديد ، والأرزاق الدارة ، والأموال والجنات والأنهار ، والأبناء والزروع والثمار ، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه ، فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا ، فدعاهم إلى الله وحده ، وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه.

فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة ، يبنون هناك بنيانا محكما هائلا باهرا ، ولهذا قال (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) أي معلما بناء مشهورا (تَعْبَثُونَ) أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ، ولهذا أنكر عليه نبيهم عليهم‌السلام ذلك ، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة ، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قال مجاهد : والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد ، وفي رواية عنه : بروج الحمام. وقال قتادة : هي مأخذ الماء.

قال قتادة : وقرأ بعض الكوفيين وتتخذون مصانع كأنكم خالدون. وفي القراءة المشهورة (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي لكي تقيموا فيها أبدا وذلك ليس بحاصل

١٣٧

لكم بل زائل عنكم ، كما زال عمن كان قبلكم. وروى ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا أبي ، حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر ، قام في مسجدهم فنادى : يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ألا تستحيون ، ألا تستحيون ، تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأملون ما لا تدركون ، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ، ويبنون فيوثقون ، ويأملون فيطيلون ، فأصبح أملهم غرورا ، وأصبح جمعهم بورا ، وأصبحت مساكنهم قبورا ، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا ، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟.

وقوله (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم ، ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم ، فقال (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن كذبتم وخالفتم ، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب ، فما نفع فيهم.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ(١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٤٠)

يقول تعالى مخبرا عن جواب قوم هود له بعد ما حذرهم وأنذرهم ، ورغبهم ورهبهم ، وبين لهم الحق ووضحه (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي لا نرجع عما نحن عليه (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [هود : ٥٣] وهكذا الأمر ، فإن الله تعالى قال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: ٦] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية ، وقولهم (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قرأ بعضهم (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بفتح الخاء وتسكين اللام. قال ابن مسعود والعوفي عن عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد : يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين ، كما قال المشركون من قريش (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] وقال (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الفرقان : ٤] وقال (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤].

وقرأ آخرون (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بضم الخاء واللام ، يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد ، ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم ، نعيش كما عاشوا ، ونموت كما ماتوا ، ولا بعث ولا معاد ، ولهذا قالوا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) يقول : دين الأولين. وقاله عكرمة وعطاء

١٣٨

الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير.

وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده ، فأهلكهم الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية ، أي ريحا شديدة الهبوب ، ذات برد شديد جدا ، فكان سبب إهلاكهم من جنسهم ، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره ، فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) [الفجر : ٦ ـ ٧] وهم عاد الأولى ، كما قال تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] وهم من نسل إرم بن سام بن نوح (ذاتِ الْعِمادِ) الذين كانوا يسكنون العمد ، ومن زعم أن إرم مدينة ، فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب ، وليس لذلك أصل أصيل.

ولهذا قال (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ، ولو كان المراد بذلك مدينة لقال : التي لم يبن مثلها في البلاد ، وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) [فصلت : ١٥] وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور ، عتت على الخزنة ، فأذن الله لها في ذلك ، فسلكت فحصبت بلادهم ، فحصبت كل شيء لهم ، كما قال تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥] الآية ، وقال تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ـ إلى قوله ـ حُسُوماً ـ أي كاملة ـ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] أي بقوا أبدانا بلا رؤوس ، وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ، ثم تنكسه على أم رأسه ، فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه ، كأنهم أعجاز نخل منقعر ، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات ، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم ، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٧١] ولهذا قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) الآية.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٤٥)

وهذا إخبار من الله عزوجل عن عبده ورسوله صالح عليه‌السلام ، أنه بعثه إلى قومه ثمود ، وكانوا عربا يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى وبلاد الشام ، ومساكنهم معروفة مشهورة ، وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم حين أراد غزو الشام ، فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك ، وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه‌السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عزوجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن

١٣٩

يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة ، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه ، وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم ، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عزوجل ، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم ، فقال :

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢)

يقول لهم واعظا لهم ، ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم ، ومذكرا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات ، وأنبت لهم من الجنات ، وفجر لهم من العيون الجاريات ، وأخرج لهم من الزروع والثمرات ، ولهذا قال (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ). قال العوفي عن ابن عباس : أينع وبلغ ، فهو هضيم (١). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) يقول : معشبة. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن أبي عمرو ـ وقد أدرك الصحابة ـ عن ابن عباس في قوله (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) قال : إذا رطب واسترخى ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن أبي صالح نحو هذا.

وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) قال : هو المذنب من الرطب ، وقال مجاهد : هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر ، وقال ابن جريج : سمعت عبد الكريم ، وأبا أمية ، سمعت مجاهدا يقول (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) قال : حين يطلع تقبض عليه فتهضمه ، فهو من الرطب الهضيم ، ومن اليابس الهشيم ، تقبض عليه فتهشمه. وقال عكرمة وقتادة : الهضيم الرطب اللين. وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضا ، فهو هضيم. وقال مرة : هو الطلع حين يتفرق ويخضر. وقال الحسن البصري : هو الذي لا نوى له ، وقال أبو صخر : ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم؟ فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض ، فهو الهضيم.

وقوله (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) قال ابن عباس وغير واحد : يعني حاذقين. وفي رواية عنه : شرهين أشرين ، وهو اختيار مجاهد وجماعة ، ولا منافاة بينهما ، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها ، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها ، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم ، ولهذا قال (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) يعني رؤساءهم وكبراءهم ، الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالقة الحق.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٦٥.

١٤٠