تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ولهذا أغرقهم الله جميعا ولم يبق منهم أحدا ، ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي عبرة يعتبرون بها ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١١ ـ ١٢] أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق ، وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره.

وقوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة ، كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة. وأما أصحاب الرس ، فقال ابن جريج عن ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود. وقال ابن جريج : قال عكرمة : أصحاب الرس بفلج ، وهم أصحاب يس. وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله (وَأَصْحابَ الرَّسِ) قال : بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكير ، عن عكرمة : الرس بئر رسوا فيها نبيهم (١) ، أي دفنوه بها.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود ، وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود ، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم ، قال : فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة ، ويعينه الله تعالى عليها ، فيدلي إليه طعامه وشرابه ، ثم يردها كما كانت ، قال : فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ، ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع ، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة ، فاضطجع فنام ، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ، ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى ، ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ، ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه ، فالتمسه فلم يجده ، وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ، قال : فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل ، فيقولون له : لا ندري ، حتى قبض الله النبي ، أهب الأسود من نومته بعد ذلك» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة.

وهكذا رواه ابن جرير (٢) عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٩٠.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٣٩٠ ، ٣٩١.

١٠١

مرسلا ، وفيه غرابة ونكارة ، ولعل فيه إدراجا ، والله أعلم. وقال ابن جرير : لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن ، لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم ، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم ، والله أعلم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج ، فالله أعلم.

وقوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة ، ولهذا قال (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة ، كما قال قتادة : وأزحنا الأعذار عنهم (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي أهلكنا إهلاكا ، كقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧] والقرن هو الأمة من الناس ، كقوله (ثُمَّ أَنْشَأْنا)

(مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) [المؤمنون : ٣١] وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة. وقيل بمائة. وقيل بثمانين ، وقيل أربعين ، وقيل غير ذلك ، والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن آخر ، كما ثبت في الصحيحين «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» (١) الحديث.

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) يعني قرية قوم لوط ، وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء : ١٧٣] وقال (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ـ ١٣٨] وقال تعالى : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر : ٧٦] وقال (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [الحجر : ٧٩] ولهذا قال (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشورا ، أي معادا يوم القيامة.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)

يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأوه كما قال تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الأنبياء : ٣٦] الآية ، يعنونه بالعيب والنقص. وقال هاهنا (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)؟ أي على سبيل التنقيص والازدراء

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٩ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢١٠.

١٠٢

فقبحهم الله ، كما قال (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) [الرعد : ٣٢] الآية. وقوله تعالى: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لو لا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) الآية.

ثم قال تعالى لنبيه منبها أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال ، فإنه لا يهديه أحد إلا الله عزوجل (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه ، كما قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨] الآية ، ولهذا قال هاهنا (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. ثم قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) الآية ، أي هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة ، فإن تلك تعقل ما خلقت له ، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له ، وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧)

من هاهنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة ، فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغيرهم : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما لا يزول ، كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) [القصص : ٧١ ـ ٧٢] الآيات. وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي لو لا أن الشمس تطلع عليه لما عرف ، فإن الضد لا يعرف إلا بضده ، وقال قتادة والسدي : دليلا تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله.

وقوله تعالى : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي الظل. وقيل الشمس (يَسِيراً) أي سهلا ، قال ابن عباس : سريعا. وقال مجاهد : خفيا. وقال السدي : قبضا خفيا حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة ، وقد أظلت الشمس ما فوقه. وقال أيوب بن موسى في الآية (قَبْضاً يَسِيراً) قليلا قليلا. وقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي يلبس الوجود ويغشاه ، كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الشمس : ٤] (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي قاطعا للحركة لراحة الأبدان ، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش ، فإذا جاء الليل وسكن ، سكنت الحركات فاستراحت ، فحصل النوم الذي فيه راحة

١٠٣

البدن والروح معا (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم ، كما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] الآية.

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (٥٠)

وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات ، أي بمجيء السحاب بعدها ، والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير ، فمنها ما يثير السحاب ، ومنها ما يحمله ، ومنها ما يسوقه ، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا ، ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض ، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) أي آلة يتطهر بها كالسحور والوقود وما جرى مجراهما ، فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل ، أو إنه مبني للمبالغة والتعدي ، فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم (١) ، ليس هذا موضع بسطها ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن أبي جعفر الرازي إلى حميد الطويل عن ثابت البناني قال : دخلت مع أبي العالية في يوم مطير ، وطرق البصرة قذرة ، فصلى فقلت له ، فقال (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) قال : طهره ماء السماء ، وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : أنزله الله طهورا لا ينجسه شيء. وعن أبي سعيد قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب؟ فقال «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» (٢) رواه الشافعي وأحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي.

وروى ابن أبي حاتم بإسناده : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشعث حدثنا معتمر ، سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال : كان عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء ، فقال خالد بن يزيد : منه من السماء ، ومنه يسقيه الغيم من البحر فيغذ به الرعد والبرق ، فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات ، فأما النبات فمما كان من السماء. وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره : في البر بر وفي البحر در.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٩٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٣٤ ، والترمذي في الطهارة باب ٤٩ ، والنسائي في المياه باب ١ ، ٢ ، وابن ماجة في الطهارة باب ٧٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٥ ـ ١٦ ، ٣١ ، ٨٦.

١٠٤

وقوله تعالى : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا قد طال انتظارها للغيث ، فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان ، كما قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥] الآية ، (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وليشرب منه الحيوان من أنعام ، وأناسيّ محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] الآية ، وقال تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الروم : ٥٠] الآية.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى ، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا ، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : ليس عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم قرأ هذه الآية (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات ، أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه.

وقال عمر مولى غفرة : كان جبريل عليه‌السلام في موضع الجنائز ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب» قال : فقال له جبريل : يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله ، فقال : تأتينا صكاك مختمة ، اسق بلاد كذا وكذا ، كذا وكذا قطرة. رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل.

وقوله تعالى : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) قال عكرمة : يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي ، كافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن بالكواكب» (١).

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً(٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (٥٤)

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٢٥.

١٠٥

يقول تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) يدعوهم إلى الله عزوجل ، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغهم القرآن (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٣] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨]. وفي الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) ، وفيهما «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ) يعني القرآن ، قاله ابن عباس ، (جِهاداً كَبِيراً) كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] الآية.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي خلق الماءين : الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار ، وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال ، قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وهذا المعنى لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ، والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس ، فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض ، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأرضيهم.

وقوله تعالى : (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي مالح مر زعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب : البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق ، وبحر القلزم ، وبحر اليمن ، وبحر البصرة ، وبحر فارس ، وبحر الصين والهند ، وبحر الروم ، وبحر الخزر ، وما شاكلها وما شابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ، ثم تشرع في النقص ، فأجرى الله سبحانه وتعالى ـ وهو ذو القدرة التامة ـ العادة بذلك ، فكل هذه البحار الساكنة ، خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ، ولما كان ماؤها مالحا ، كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به؟ فقال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (٢) رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد.

وقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً) أي بين العذب والمالح (بَرْزَخاً) أي حاجزا

__________________

(١) تقدم الحديثان مع تخريجهما عند الآية الأولى من هذه السورة.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه عند تفسير الآية الثالثة من سورة المائدة. الجزء الثالث.

١٠٦

وهو اليبس من الأرض ، (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كقوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن: ١٩ ـ ٢١] وقوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النمل : ٦١] وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) الآية ، أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكرا وأنثى ، كما يشاء ، (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهرا ، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات ، وكل ذلك من ماء مهين ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٦٠)

يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضرا ولا نفعا ، بلا دليل قادهم إلى ذلك ، ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء والتشهي والأهواء ، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ، ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي عونا في سبيل الشيطان على حزب الله وحزب الله هم الغالبون ، كما قال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) [يس : ٧٤ ـ ٧٥] أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرا ، وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم ، ويذبون عن حوزتهم ، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والآخرة.

قال مجاهد (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) قال : يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه (١). وقال سعيد بن جبير : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) يقول : عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك وقال زيد بن أسلم (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) قال : مواليا ، ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين ، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله ونذيرا بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٨] (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٠١.

١٠٧

يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي طريقا ومسلكا ومنهجا يقتدي فيها بما جئت به.

ثم قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي في أمورك كلها كن متوكلا على الله الحي الذي. لا يموت أبدا ، الذي هو (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد : ٣] الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه اجعله ذخرك وملجأك ، وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه ، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال : قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله ، عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب قال : لقي سلمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض فجاج المدينة فسجد له ، فقال «لا تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت» وهذا مرسل حسن. وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي اقرن بين حمده وتسبيحه ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» أي أخلص له العبادة والتوكل ، كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] وقال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ٢٣] وقال تعالى : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩].

وقوله تعالى : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة. وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، أي هو الحي الذي لا يموت ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه ، الذي خلق بقدرته السموات السبع في ارتفاعها واتساعها ، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي يدبر الأمر ، ويقضي الحق ، وهو خير الفاصلين.

وقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به ، فاتبعه واقتد به ، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ، سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فما قاله فهو الحق ، وما أخبر به فهو الصدق ، وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه ، فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق ، وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) [النساء : ٥٩] الآية ، وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) [الشورى : ١٠] وقال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ، ولهذا قال تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً).

١٠٨

قال مجاهد : في قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) قال : ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك وكذا قال ابن جريج. وقال شمر بن عطية في قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) هذا القرآن خبير به. ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أي لا نعرف الرحمن ، وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن ، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكاتب «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم ، ولهذا أنزل الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠] أي هو الله وهو الرحمن وقال في هذه الآية (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) أي لا نعرفه ولا نقر به (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي لمجرد قولك (وَزادَهُمْ نُفُوراً) فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ، ويفردونه بالإلهية ، ويسجدون له ، وقد اتفق العلماء رحمهم‌الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها ، كما هو مقرر في موضعه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (٦٢)

يقول تعالى ممجدا نفسه ومعظما على جميل ما خلق في السماوات من البروج ، وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة. وقيل : هي قصور في السماء للحرس ، يروى هذا عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش ، وهو رواية عن أبي صالح أيضا ، والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس ، فيجتمع القولان ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] الآية ، ولهذا قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) [النبأ : ١٣].

(وَقَمَراً مُنِيراً) أي مشرقا مضيئا بنور آخر من غير نور الشمس ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] وقال مخبرا عن نوح عليه‌السلام ، أنه قال لقومه (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٥ ـ ١٦] ثم قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف كل واحد منهما صاحبه ، يتعاقبان لا يفتران ، إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب ذاك ، كما قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣] الآية ، وقال (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤] الآية ، وقال (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس :

١٠٩

٤٠] الآية.

وقوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عزوجل ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل ، وقد جاء في الحديث الصحيح «إن الله عزوجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» (١).

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو حره عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ، فقال : إنه بقي علي من وردي شيء ، فأحببت أن أتمه ، أو قال أقضيه ، وتلا هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية : يقول من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن ، وقال مجاهد وقتادة : خلفة ، أي مختلفين ، أي هذا بسواده وهذا بضيائه.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً(٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧)

هذه صفات عباد الله المؤمنين (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار ، كقوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء : ٣٧] الآية ، فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ، ولا أشر ولا بطر ، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوى له ، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا ، فقال : ما بالك أأنت مريض؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة ، وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا ، وما فاتكم فأتموا» (٢).

وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) الآية ، قال : إن المؤمنين قوم ذلل ، ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، وإنهم والله أصحاء ، ولكنهم دخلهم

__________________

(١) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٣١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٥ ، ٤٠٤.

(٢) أخرجه البخاري في الجمعة باب ١٨ ، ومسلم في المساجد حديث ١٥١ ـ ١٥٥.

١١٠

من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس ، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ، ولكن أبكاهم الخوف من النار ، إنه من لم يتعز بعزاء الله ، تقطع نفسه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب ، فقد قل علمه وحضر عذابه (١).

وقوله تعالى : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا ، كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما ، وكما قال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص : ٥٥] الآية.

وروى الإمام أحمد (٢) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي ، عن النعمان بن مقرن المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسب رجل رجلا عنده ، فجعل قال : المسبوب يقول : عليك السلام ، الرجل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما إن ملكا بينكما يذب عنك ، كلما شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به ، وإذا قلت له وعليك السلام ، قال : لا بل عليك وأنت أحق به». إسناده حسن ، ولم يخرجوه.

وقال مجاهد (قالُوا سَلاماً) يعني قالوا سدادا. وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفا من القول. وقال الحسن البصري : (قالُوا سَلاماً) حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا ، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل (٣).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي في طاعته وعبادته ، كما قال تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات : ١٧ ـ ١٨] وقوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦] الآية ، وقال تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر : ٩] الآية ، ولهذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي ملازما دائما ، كما قال الشاعر [الخفيف] :

إن يعذب يكن غراما ، وإن يعط

جزيلا ، فإنه لا يبالي (٤)

ولهذا قال الحسن في قوله (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٠٩.

(٢) المسند ٥ / ٤٤٥.

(٣) انظر الدر المنثور ٥ / ١٤١.

(٤) البيت للأعشى في ديوانه ص ٥٩ ، ولسان العرب (عزم) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤١٩ ، وتاج العروس (غرم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٨ / ١٣١ ، والمخصص ٤ / ٦٢ ، ١٢ / ٩٨ ، ويروى «إن يعاقب» بدل «إن يعذب».

١١١

فليس بغرام ، وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض ، وكذا قال سليمان التيمي. وقال محمد بن كعب (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) يعني ما نعموا في الدنيا ، إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه ، فأغرمهم فأدخلهم النار (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي بئس المنزل منظرا ، وبئس المقيل مقاما.

وقال ابن أبي حاتم عند قوله (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال : إذا طرح الرجل في النار هوى فيها ، فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له : مكانك حتى تتحف ، قال : فيسقى كأسا من سم الأساود والعقارب ، قال : فيميز الجلد على حدة ، والشعر على حدة ، والعصب على حدة ، والعروق على حدة. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد ، عن عبيد بن عمير قال : إن في النار لجبابا فيها حيات أمثال البخت ، وعقارب أمثال البغال الدلم ، فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها ، فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم ، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم ، فإذا وجدت حر النار رجعت.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا سلام يعني ابن مسكين ، عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان يا منان ، فيقول الله عزوجل لجبريل : اذهب فأتني بعبدي هذا ، فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون ، فيرجع إلى ربه عزوجل فيخبره ، فيقول الله عزوجل ، ائتني به ، فإنه في مكان كذا وكذا ، فيجيء به فيوقفه على ربه عزوجل ، فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول : يا رب شر مكان وشر مقيل ، فيقول الله عزوجل ، ردوا عبدي ، فيقول : يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها ، فيقول الله عزوجل ، دعوا عبدي».

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الآية ، أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم ، فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) كما قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] الآية.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عصام بن خالد ، حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني ، عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من فقه الرجل رفقه في معيشته». ولم

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٣٠.

(٢) المسند ٥ / ١٩٤.

١١٢

يخرجوه. وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سكين بن عبد العزيز العبدي ، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما عال من اقتصد» لم يخرجوه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون ، حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أحسن القصد في الغنى ، وأحسن القصد في الفقر ، وأحسن القصد في العبادة» ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى ، فهو سرف. وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله عزوجل.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) (٧١)

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الذنب أكبر؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال : ثم أي؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قال : ثم أي؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٣) الآية ، وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به ، وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به ، فالله أعلم ، ولفظهما عن ابن مسعود قال : قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ الحديث ، طريق غريب.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا عامر بن مدرك ، حدثنا السري

__________________

(١) المسند ١ / ٤٤٧.

(٢) المسند ١ / ٣٨٠ ، ٤٣١ ، ٤٣٤ ، ٤٦٢ ، ٤٦٤.

(٣) أخرجه بلفظ : «أي الذنب أعظم» : البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٣ ، وسورة ٢٥ باب ٢ ، والأدب باب ٢٠ ، والديات باب ١ ، والحدود باب ١٩ ، والتوحيد باب ٤٠ ، ٤٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢ ، وأبو داود في الطلاق باب ٥٠ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٥ ، باب ١ ، ٢ ، والنسائي في التحريم باب ٤٤.

(٤) تفسير الطبري ٩ / ٤١٥.

١١٣

يعني ابن إسماعيل ، حدثنا الشعبي عن مسروق قال : قال عبد الله ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فاتبعته ، فجلس على نشز من الأرض ، وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه ، واغتنمت خلوته وقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أي الذنب أكبر؟ قال «أن تدعو لله ندا وهو خلقك» قلت : ثم مه؟ قال «أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك» قلت : ثم مه؟ قال «أن تزاني حليلة جارك» ثم قرأ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ) الآية ، وقال النسائي : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع «ألا إنما هي أربع» فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن المديني رحمه‌الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا طيبة الكلاعي ، سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «ما تقولون في الزنا؟» قالوا : حرمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». قال «فما تقولون في السرقة؟» قالوا : حرمها الله ورسوله ، فهي حرام ، قال «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره». وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له».

وقال ابن جريج : أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية ، ونزلت (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق ، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك ، وينهاك أن تزني بحليلة جارك». قال سفيان : وهو قوله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : أثاما : واد في جهنم. وقال عكرمة (يَلْقَ أَثاماً) أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد. وقال قتادة (يَلْقَ أَثاماً) نكالا ، كنا نحدث أنه واد في جهنم.

وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول : يا بني ، إياك والزنا ، فإن أوله مخافة وآخره ندامة ، وقد

__________________

(١) المسند ٦ / ٨.

١١٤

ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير (١) وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا : أن غيا وآثاما بئران في قعر جهنم ، أجارنا الله منهما بمنه وكرمه. وقال السدي (يَلْقَ أَثاماً) جزاء ، وهذا أشبه بظاهر الآية ، وبهذا فسره بما بعده مبدلا منه ، وهو قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي يكرر عليه ويغلظ (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي حقيرا ذليلا.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر (إِلَّا مَنْ تابَ) أي في الدنيا إلى الله عزوجل من جميع ذلك ، فإن الله يتوب عليه ، وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] الآية ، فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة ، فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة ، ثم قد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] الآية. قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصحة توبة القاتل ، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب ، فقبل الله توبته ، وغير ذلك من الأحاديث.

وقوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) في معنى قوله (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قولان [أحدهما] أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، قال : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك ، فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات (٢) ، وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية [رجز] :

بدلن بعد حره خريفا

وبعد طول النفس الوجيفا (٣)

يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها ، وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا ، يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا. وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما ، وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين.

[والقول الثاني] أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٤١٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤١٨.

(٣) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري ٩ / ٤١٩.

١١٥

الاعتبار ، فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه ، فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته ، كما ثبتت السنة بذلك ، وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم ، وهذا سياق الحديث.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار ، وآخر أهل الجنة دخولا إلى الجنة ، يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال : فيقال له : عملت يوم كذا ، كذا وكذا ، وعملت يوم كذا ، كذا وكذا ، فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا ، فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة ، فيقول : يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا» قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه ، انفرد بإخراجه مسلم (٢).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثني هاشم بن يزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان : أعطني صحيفتك ، فيعطيه إياها ، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات ، فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ، ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ، ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة» (٣).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة وعارم ، قالا : حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد ، حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال : يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها ، فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ، ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود ، حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عزوجل بأناس الزهري أبو داود ، حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عزوجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات ، قيل : من هم يا أبا هريرة؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات. وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر ، حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف ـ قلت : وكان من أصحاب معاذ بن جبل ـ قال. يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت : لم سموا أصحاب اليمين؟ قال : لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات ، فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا ، وقالوا : يا ربنا هذه سيئاتنا ، فأين حسناتنا؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات ، فعند ذلك قالوا : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) فهم أكثر أهل الجنة.

__________________

(١) المسند ٥ / ١٧٠.

(٢) كتاب الإيمان حديث ٣٠٨ ، ٣٠٩.

(٣) انظر الدر المنثور ٥ / ١٤٧.

١١٦

وقال علي بن الحسين زين العابدين (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قال : في الآخرة ، وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات ، رواهما ابن أبي حاتم ، وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو جابر ، أنه سمع مكحولا يحدث قال : جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه ، فقال : يا رسول الله ، رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم ، فهل له من توبة؟ فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «أأسلمت؟» فقال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فقال النبي «فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ، ومبدل سيئاتك حسنات» فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال «وغدراتك وفجراتك» فولى الرجل يهلل ويكبر.

وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة ، فهل له من توبة؟ فقال «أسلمت؟» فقال : نعم ، قال : «فافعل الخيرات واترك السيئات ، فيجعلها الله لك خيرات كلها» قال : وغدراتي وفجراتي؟ قال «نعم» فما زال يكبر حتى توارى.

ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات ، عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعا. وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءتني امرأة فقالت : هل لي من توبة؟ إني زنيت ، وولدت وقتلته ، فقلت : لا ، ولا نعمت العين ولا كرامة ، فقامت وهي تدعو بالحسرة ، ثم صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بئسما قلت ، أما كنت تقرأ هذه الآية؟» (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ـ إلى قوله ـ إِلَّا مَنْ تابَ) الآية ، فقرأتها عليها ، فخرت ساجدة وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجا ، هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي رجاله من لا يعرف ، والله أعلم.

وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه ، وعنده : فخرجت تدعو بالحسرة وتقول : يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تطلّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها ، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته ، فأخبرها بما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرت ساجدة وقالت : الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت ، وأعتقت جارية كانت معها وابنتها ، وتابت إلى الله عزوجل.

ثم قال تعالى مخبرا عن عموم رحمته بعباده ، وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب

١١٧

كان جليلا أو حقيرا ، كبيرا أو صغيرا ، فقال تعالى : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي فإن الله يقبل توبته ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] الآية ، وقال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤] الآية ، وقال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] الآية ، أي لمن تاب إليه.

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤)

وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور ، قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام ، وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل ، وقال محمد ابن الحنفية : هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم : هي أعياد المشركين .. وقال عمرو بن قيس ، هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري : شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه ، كما جاء في الحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر».

وقيل المراد بقوله تعالى : (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي شهادة الزور ، وهي الكذب متعمدا على غيره ، كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا ، قلنا : بلى يا رسول الله. قال «الشرك بالله وعقوق الوالدين» وكان متكئا ، فجلس فقال «ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت (١). والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه ، ولهذا قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي لا يحضرون الزور ، وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ، ولهذا قال (مَرُّوا كِراماً).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم ، أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما» وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي ، ثنا حبان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد بن مسلم ، أخبرني ميسرة قال : بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما». ثم تلا إبراهيم بن ميسرة (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه في تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

١١٨

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) وهذه أيضا من صفات المؤمنين (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال : ٢] بخلاف الكافر ، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

فقوله (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه ، فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.

قال مجاهد قوله (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) قال : لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئا. وقال الحسن البصري رضي الله عنه : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) يقول : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه ، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن حمران ، حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت : الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا ، أيسجد معهم؟ قال: فتلا هذه الآية : يعني أنه لا يسجد معهم ، لأنه لم يتدبر أمر السجود ، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالا ، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال : أن يرى الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله ، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولدا أو أخا أو حميما مطيعا لله عزوجل. قال ابن جريج في قوله (هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعمر بن بشر ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن عمرو ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما ، فمر به رجل فقال : طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت

__________________

(١) المسند ٦ / ٢ ، ٣.

١١٩

وشهدنا ما شهدت ، فاستغضب المقداد ، فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيرا ، ثم أقبل إليه فقال : ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه ، والله لقد حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه ، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أشد حال بعث عليها نبيا من الأنبياء في فترة جاهلية ، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل ، وفرق بين الوالد وولده ، إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار ، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وأنها التي قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجوه.

وقوله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس : أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم : هداة مهتدين دعاة إلى الخير ، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم ، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع ، وذلك أكثر ثوابا ، وأحسن مآبا ، ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو صدقة جارية» (١).

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة ، والأقوال والأفعال الجليلة ، قال بعد ذلك كله (أُوْلئِكَ) أي المتصفون بهذه (يُجْزَوْنَ) يوم القيامة (الْغُرْفَةَ) وهي الجنة ، قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي : سميت بذلك لارتفاعها (بِما صَبَرُوا) أي على القيام بذلك (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) أي في الجنة (تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام ، ويلقون التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم‌السلام ، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٨] الآية.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤.

١٢٠