تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧] وفي الشورى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] ولا خلاف أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى ثم عيسى عليهم‌السلام على المشهور ، وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع ، والله الموفق. وقوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) تنبيه على فضله وشرفه. قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته فتسرج ، فكان يقرؤه قبل أن يفرغ» (١) يعني القرآن.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧)

يقول تعالى : (قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون (كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) أي بالكلية (وَلا تَحْوِيلاً) أي بأن يحولوه إلى غيركم ، والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الآية ، قال : كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا ، وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيرا (٢).

وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية ، روى البخاري (٣) من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال : ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا ، وفي رواية : قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم ، وقال قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية ، قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن ، فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم ، لا يشعرون بإسلامهم ، فنزلت هذه الآية ، وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن فذكره.

وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ ، باب ٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٩٤.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٧ ، باب ٦.

٨١

الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) قال : عيسى وأمه وعزير ، وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول في هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد : عيسى والعزير والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) وهذا لا يعبر به عن الماضي ، فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة ، وقال والوسيلة هي القربة ، كما قال قتادة ، ولهذا قال : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). وقوله تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهي ، وبالرجاء يكثر من الطاعات. وقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله ، عياذا بالله منه.

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٥٨)

هذا إخبار من الله عزوجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ : أنه ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم (عَذاباً شَدِيداً) إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال تعالى عن الأمم الماضين (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] وقال تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) [الطلاق : ٩] وقال (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) [الطلاق : ٨] الآيات.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) (٥٩)

قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : قال المشركون : يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك ، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا ، فأوحى الله إليه : إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة ، وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم. قال : «يا رب استأن بهم» (١) وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما.

وروى الإمام أحمد (٢) : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٩٨.

(٢) المسند ١ / ٢٥٨.

٨٢

الذي سألوا فإن كفروا هلكوا ، كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. وقال «لا ، بل استأن بهم» وأنزل الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية ، ورواه النسائي وابن جرير به.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم ، عن ابن عباس ، قال : قالت قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال «وتفعلون؟» قالوا : نعم. قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» ، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال : «بل باب التوبة والرحمة».

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري ، حدثنا خلف بن تميم المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الأيلي ، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت : سمعت الزبير يقول لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] صاح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي قبيس «يا آل عبد مناف إني نذير» فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم ، فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وإن سليمان سخر له الريح والجبال ، وإن موسى سخر له البحر ، وإن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا ، فنتخذها محارث فنزرع ونأكل ، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا ، وإلا فادع الله أن يصيّر لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم.

وقال : فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي ، فلما سرّي عنه ، قال : «والذي نفسي بيده ، لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ، فلا يؤمن منكم أحد ، فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أن يعذبكم عذابا لا يعذبه أحد من العالمين» ونزلت (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وقرأ ثلاث آيات ونزلت (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١] الآية.

ولهذا قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) أي نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك فإنه سهل علينا يسير لدينا إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها ، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها ، كما قال الله تعالى في المائدة

__________________

(١) المسند ١ / ٢٤٢.

٨٣

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥] وقال تعالى عن ثمود حين سألوا آية ناقة تخرج من صخرة عينوها ، فدعا صالح عليه‌السلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوه ، فلما ظلموا بها أي كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله وعقروها ، فقال (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥]. ولهذا قال تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها (فَظَلَمُوا بِها) أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها ، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) قال قتادة : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ، ذكر لنا أن الكوفة وجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه (١) ، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات ، فقال عمر : أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عزوجل يخوف بهما عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ـ ثم قال ـ يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»(٢).

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محرضا على إبلاغ رسالته مخبرا له بأنه قد عصمه من الناس ، فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته. وقال مجاهد وعروة بن الزبير والحسن وقتادة وغيرهم في قوله : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي عصمك منهم ، وقوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الآية ، قال البخاري (٣) : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٩٩ ، ١٠٠.

(٢) أخرجه البخاري في الكسوف باب ١ ، ٦ ، ١٣ ، ١٥ ، ومسلم في الكسوف حديث ٦ ، ١٠ ، ١٧ ، ٢١ ، ٢٢ ، ٢٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨٧ ، ١٦٨.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٧ ، باب ٩.

٨٤

الْقُرْآنِ) شجرة الزقوم ، وكذا رواه أحمد (١) وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة به. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس.

وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد ، وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستوفاة ولله الحمد والمنة. وتقدم أن ناسا رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا على الحق ، لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا لآخرين ، ولهذا قال (إِلَّا فِتْنَةً) أي اختبارا وامتحانا ، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله : هاتوا لنا تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ، ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا (٢) ، حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك والحسن البصري وغير واحد ، وكل من قال إنها ليلة الإسراء ، فسره كذلك بشجرة الزقوم. وقيل : المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية ، وهو غريب ضعيف.

وقال ابن جرير (٣) : حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكا حتى مات ، قال : وأنزل الله في ذلك (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الآية ، وهذا السند ضعيف جدا فإن محمد بن الحسن بن زبالة متروك ، وشيخه أيضا ضعيف بالكلية ، ولهذا اختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة الإسراء ، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك أي في الرؤيا والشجرة ، وقوله : (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي الكفار بالوعيد والعذاب والنكال ، (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال ، وذلك من خذلان الله لهم.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً(٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) (٦٢)

يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبي أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) كما قال في الآية الأخرى (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ

__________________

(١) المسند ١ / ٢٢١ ، ٣٧٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٧٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ١٠٣.

٨٥

نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين) [الأعراف : ١٢] وقال أيضا أرأيتك يقول للرب جراءة وكفرا والرب يحلم وينظر (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الآية ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لأستولين على ذريته إلا قليلا وقال مجاهد لأحتوينّ وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة والمعنى أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لأن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلا منهم.

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥)

لما سأل إبليس النظرة قال الله له (اذْهَبْ) فقد أنظرتك كما قال في الآية الأخرى قال: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر : ٣٧ ـ ٣٨] ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أي على أعمالكم (جَزاءً مَوْفُوراً) قال مجاهد وافرا ، وقال قتادة موفورا عليكم لا ينقص لكم منه. وقوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك وقال ابن عباس في قوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال كل داع دعا إلى معصية الله عزوجل وقال قتادة واختاره ابن جرير (١).

وقوله تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم فإن الرجل جمع راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه وهذا أمر قدري كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وتسوقهم إليها سوقا وقال ابن عباس ومجاهد في قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال كل راكب وماش في معصية الله وقال قتادة : إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع الأصوات.

وقوله تعالى : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله ، وقال عطاء : هو الربا ، وقال الحسن : هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام ، وكذا قال قتادة ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير (٢) والأولى أن يقال إن الآية تعم ذلك كله.

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٠٨.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ١١١.

٨٦

وقوله (وَالْأَوْلادِ) قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفها بغير علم ، وقال قتادة والحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام ، وجزءوا أموالهم جزءا للشيطان ، وكذا قال قتادة سواء ، وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارس وعبد الشمس وعبد فلان قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) معنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة.

وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم‌الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال «يقول الله عزوجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» (١) وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا» (٢).

وقوله تعالى : (وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [الإسراء : ٦٤] كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذ حصحص الحق يوم يقضى بالحق (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] الآية وقوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال تعالى (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي حافظا ومؤيدا ونصيرا ، وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر» ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٦٦)

ويخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي إنما فعل هذا بكم في فضله عليكم ورحمته بكم.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١١ ، ومسلم في الطلاق حديث ٦.

(٣) المسند ٢ / ٣٨٠.

٨٧

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (٦٧)

يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فتح مكة فذهب هاربا فركب في البحر يدخل الحبشة فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده فقال عكرمة في نفسه والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد لأن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفا رحيما ، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] أي نسيتم ما عرفتم من توحيده وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) (٦٨)

يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [القمر : ٣٤] وقد قال في الآية الأخرى (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢] وقال (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] وقوله (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) أي ناصرا يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩)

يقول تبارك وتعالى (أَمْ أَمِنْتُمْ) أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفوا بتوحيدنا في البحر وخرجوا إلى البر (أَنْ يُعِيدَكُمْ) في البحر مرة ثانية (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال ابن عباس وغيره : القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله : (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) قال ابن عباس نصيرا وقال مجاهد نصيرا ثائرا أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة ولا نخاف أحدا يتبعنا بشيء من ذلك.

٨٨

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠)

ويخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] أي يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضا على السفن الكبار والصغار (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من زروع ثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة. قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الآخرة فقال الله تعالى «وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان» وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه ، وقد روي من وجه آخر متصلا.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان».

وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن عن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال «إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويتزوجون النساء ويركبون الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئا فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله عزوجل : «لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان».

٨٩

وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال «ولا الملائكة ، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر» وهذا حديث غريب جدا.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢)

يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة أي نبيهم وهذا كقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [يونس : ٤٧] الآية وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ابن زيد بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : بكتبهم (١) فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢] وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [الكهف : ٤٩] الآية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم‌السلام وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم كما قال (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] وفي الصحيحين «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع ما كان يعبد الطواغيت» (٢) الحديث.

وقال تعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٨ ـ ٢٩] وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهدا على أمته بأعمالها كقوله تعالى (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩] وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولذا قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب قراءته كقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ـ إلى قوله ـ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقة : ١٩ ـ ٢٦] الآيات ، وقوله تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١١٦.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، والرقاق باب ٥٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٧٥ ، ٢٩٣ ، ٥٣٤.

٩٠

قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة.

وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال : «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم آخره فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا» ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) الآية ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الحياة الدنيا (أَعْمى) أي عن حجة الله وآياته وبيناته (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أي كذلك يكون (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذا بالله من ذلك.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥)

يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً(٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) (٧٧)

قيل : نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة ، وهذا القول ضعيف ، لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك ، وقيل : إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام ، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء ، فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد

٩١

إلا الشام ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ـ إلى قوله ـ تَحْوِيلاً) فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ومنه تبعث.

وفي هذا الإسناد نظر ، والأظهر أن هذا ليس بصحيح ، فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود ، وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] ولقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه ، والله أعلم.

ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان ، عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام» قال الوليد : يعني بيت المقدس ، وتفسير الشام بتبوك أحسن ، مما قال الوليد إنه بيت المقدس ، والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا ، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطة عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ، ولهذا قال تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) الآية ، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، ولهذا قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] الآية.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩)

يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمرا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قيل لغروبها ، قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد. وقال هشيم عن مغيرة ، عن الشعبي عن ابن عباس : دلوكها زوالها ، ورواه نافع عن ابن عمر ، ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر ، وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضا عن ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة ، واختاره ابن جرير ، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير : حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت

٩٢

الشمس» (١).

ثم رواه عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه ، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وهو ظلامه ، وقيل غروب الشمس ، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني صلاة الفجر ، وقد بينت السنة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفا من سلف وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه ، ولله الحمد. (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود ، وعن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.

وقال البخاري (٢) : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» (٤). ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به ، وقال الترمذي : حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون» (٥) وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء ، وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٢٥.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٧ ، باب ١٠.

(٣) المسند ٢ / ٤٧٤.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٧ ، باب ٥ ، وابن ماجة في الصلاة باب ٢ ، والجنائز باب ٦٥.

(٥) أخرجه البخاري في المواقيت باب ١٦ ، ومسلم في المساجد حديث ٢١٠.

٩٣

وأما الحديث الذي رواه ابن جرير (١) هاهنا من حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر حديث النزول ، وأنه تعالى يقول : من يستغفرني أغفر له ، من يسألني أعطيه ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر ، فلذلك يقول : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار ، فإنه تفرد به زيادة ، وله بهذا حديث في سنن أبي داود.

وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم (٢) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال «صلاة الليل» ، ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد ما كان بعد النوم. قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد ، وهو المعروف في لغة العرب ، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه ، عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في موضعه ، ولله الحمد والمنة.

وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان بعد النوم ، واختلف في معنى قوله تعالى : (نافِلَةً لَكَ) فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجبا في حقه دون الأمة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي رحمه‌الله ، واختاره ابن جرير ، وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قاله مجاهد : وهو في المسند (٣) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.

وقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا ، يحمدك في الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.

[ذكر من قال ذلك]

حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٢٧.

(٢) كتاب الصيام حديث ٢٠١.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ٢٥٥ ، ٢٥٦.

٩٤

خلقوا ، قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادي : يا محمد ، فيقول : «لبيك وسعديك ، والخير في يديك والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود الذي ذكره اللهعزوجل (١).

ثم رواه عن بندار ، عن غندر عن شعبة ، عن أبي إسحاق به ، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق به ، وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة ، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وقال الحسن البصري.

وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ، فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعد ما تسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : لست لها ، حتى يأتوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول «أنا لها أنا لها» كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها ، وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته ، وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم.

وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته ، وهو أول داخل إليها ، وأمته قبل الأمم كلهم ، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له ، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة ، شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى ، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك ، وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص ، ولله الحمد والمنة.

ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان. قال البخاري (٢) : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي ، سمعت ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا. ورواه حمزة بن عبد الله عن أبيه ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٣١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٧ ، باب ١١.

٩٥

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا شعيب بن الليث ، ثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا». وهكذا رواه البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة عن عبد الله بن صالح ، كلاهما عن الليث بن سعد به ، وزاد. فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم (٢).

قال البخاري (٣) : حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة» انفرد به دون مسلم.

[حديث أبي بن كعب]

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» (٥) ، وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به ، وقد قدمنا في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخره : «فقلت اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه‌السلام» (٦).

[حديث أنس بن مالك]

قال الإمام أحمد (٧) : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، حدثنا قتادة عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٣٣.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٢.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٧ ، باب ١١.

(٤) المسند ٥ / ١٣٧ ، ١٣٨.

(٥) أخرجه الترمذي في المناقب باب ١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.

(٦) المسند ٥ / ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٢٩.

(٧) المسند ٣ / ١١٦.

٩٦

أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك ، فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول لهم آدم : لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصاب فيستحيي ربه عزوجل من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن ، فيأتونه فيقول : لست هناكم ، لكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة.

فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ـ قال الحسن هذا الحرف ـ فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين ـ قال أنس ـ حتى أستأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ـ قال ـ ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، قال : ثم أعود إليه ثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة.

قال : ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن» ، فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» (١) ، أخرجاه من حديث سعيد به.

وهكذا رواه الإمام أحمد (٢) عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٣ ، والتوحيد باب ١٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢٦.

(٢) المسند ٣ / ٢٤٤.

(٣) المسند ٣ / ١٧٨.

٩٧

الأنصاري عن النضر بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى عليه‌السلام فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ـ أو قال : يجتمعون إليك ـ ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزحمة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك ، فذهب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل ، فأوحى الله عزوجل إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع ، فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا ، فما زلت أتردد إلى ربي عزوجل ، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت حتى أعطاني الله عزوجل ، من ذلك أن قال : يا محمد أدخل من أمتك من خلق الله عزوجل من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك».

[حديث بريدة رضي الله عنه]

قال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن حصيرة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ، فقال بريدة : يا معاوية تأذن لي في الكلام؟ فقال : نعم ، وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الآخر ، فقال بريدة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة» ، قال : فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه».

[حديث ابن مسعود] ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد ، قال : وذكرا الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ، فقال «أمكما في النار» قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما ، فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون قد حدث شيء ، فقال «أمي مع أمكما» فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه شيئا ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار : ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه يا رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟ قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال : «ما سألته ربي وما أطمعني فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة».

فقال الأنصاري : يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود؟ قال : ذاك إذا جيء بكم حفاة

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٤٧.

(٢) المسند ١ / ٣٩٨ ، ٣٩٩.

٩٨

عراة غرلا ، فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه‌السلام ، فيقول : اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ، ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون» قال : ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض ، فقال المنافق : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حاله المسك ، ورضراضه اللؤلؤ» فقال المنافق : لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت؟ فقال الأنصاري ، يا رسول الله هل له نبت؟ فقال : «نعم قضبان الذهب» قال المنافق لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق وإلا كان له ثمر ، وقال الأنصاري : يا رسول الله هل له ثمرة؟ قال : «نعم ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، من شرب منه شربا لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يرو بعده».

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه عن أبي الزعراء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله عزوجل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله ثم يقوم عيسى أو موسى ، قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما ، قال : ثم يقوم نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم رابعا فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام المحمود الذي قال الله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

[حديث كعب بن مالك رضي الله عنه]

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي عزوجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود».

[حديث أبي الدرداء رضي الله عنه]

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك» فقال رجل : يا رسول الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : «هم غر

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٥٦.

(٢) المسند ٥ / ١٩٩.

٩٩

محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم».

[حديث أبي هريرة رضي الله عنه]

قال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حيان ، حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ، ثم قال : «أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب ما لا يطيقون ، ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم ، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ، فيأتون آدم عليه‌السلام فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا شكورا ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله قط ، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليه‌السلام فيقولون : يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى ، إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكلمت الناس في المهد صبيا ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟

__________________

(١) المسند ٢ / ٤٣٥ ، ٤٣٦.

١٠٠