تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا شعبة عن قتادة ، سمعت زرارة بن أبي أوفى يحدث عن أبي مالك القشيري قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ، فأبعده الله وأسحقه» ، ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به ، وفيه زيادات أخر.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة» صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجوه ، سوى مسلم (٣) من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا ربعي بن إبراهيم ، قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان يفضل على أخيه ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر ، فلم يدخلاه الجنة» قال ربعي : ولا أعلمه إلا قال «أو أحدهما». ورواه الترمذي (٥) عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال : غريب من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد ، عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي قال : بينما أنا جالس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال : «نعم خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» (٧) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٨) : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٤٤ ، ٥ / ٢٩.

(٢) المسند ٢ / ٣٤٦.

(٣) كتاب البر حديث ٨.

(٤) المسند ٢ / ٢٥٤.

(٥) كتاب الدعوات باب ١٠٠.

(٦) المسند ٣ / ٤٩٧ ، ٤٩٨.

(٧) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٢٠ ، وابن ماجة في الأدب باب ٢.

(٨) المسند ٣ / ٤٢٩.

٦١

طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال : «فهل لك من أم» قال نعم قال : «فألزمها فإن الجنة عند رجليها» ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول (١) ، ورواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج به.

[حديث آخر] ـ قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب» وأخرجه ابن ماجة (٣) من حديث عبد الله بن عياش به.

[حديث آخر] قال أحمد (٤) : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : «يد المعطي العليا ، أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك».

[حديث آخر] قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أديت حقها؟ قال «لا ولا بزفرة واحدة» أو كما قال ، ثم قال البزار : لا نعلمه يروي إلا من هذا الوجه. قلت : والحسن بن أبي جعفر ضعيف ، والله أعلم.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)

قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه ، وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به ، وفي رواية : لا يريد إلا الخير بذلك ، فقال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) (٥). وقوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) قال قتادة : للمطيعين أهل الصلاة ، وعن ابن عباس : المسبحين ، وفي رواية عنه : المطيعين المحسنين ، وقال بعضهم : هم الذين يصلون بين العشاءين وقال بعضهم : هم الذين يصلون الضحى. وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) قال : الذين يصيبون الذنب ثم

__________________

(١) أخرجه النسائي في الجهاد باب ٦.

(٢) المسند ٤ / ١٣٢.

(٣) كتاب الأدب باب ١.

(٤) المسند ٤ / ٦٤ ، ٦٥.

(٥) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٣.

٦٢

يتوبون ، ويصيبون الذنب ثم يتوبون (١) ، وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب بنحوه ، وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به.

وقال عطاء بن يسار بن جبير ومجاهد : هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الآية : هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها ، ووافقه مجاهد في ذلك. وقال عبد الرزاق : حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) قال : كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال : هو التائب من الذنب ، الراجع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه ، وهذا الذي قاله هو الصواب ، لأن الأواب مشتق من الأوب ، وهو الرجوع ، يقال : آب فلان إذا رجع ، قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رجع من سفر قال : «آئبون تائبون ، عابدون لربنا حامدون» (٢).

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) (٢٨)

لما ذكر تعالى بر الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، وفي الحديث «أمك وأباك ثم أدناك أدناك» وفي رواية «ثم الأقرب فالأقرب» (٣) ، وفي الحديث «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله ، فليصل رحمه» (٤) وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا أبو يحيى التميمي ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة فأعطاها فدك ، ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار ، وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده ، لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة ، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو إذا حديث منكر ، والأشبه أنه من وضع الرافضة ، والله أعلم ، وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) لما أمر بالإنفاق ، نهى عن الإسراف فيه ، بل يكون وسطا كما قال في الآية الأخرى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧] الآية ، ثم قال منفرا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٥.

(٢) أخرجه البخاري في العمرة باب ١٢ ، ومسلم في الحج حديث ٤٢٥ ، ٤٢٨ ، ٤٢٩ ، وأبو داود في الجهاد باب ٧٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٥٦.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٦٤ ، ٦٥.

(٤) أخرجه البخاري في البيوع باب ١٣ ، ومسلم في البر حديث ٢٠ ، ٢١.

٦٣

عن التبذير والسرف (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود : التبذير الإنفاق في غير حق ، وكذا قال ابن عباس ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا. وقال قتادة : التبذير النفقة في معصية الله تعالى ، وفي غير الحق والفساد.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إني ذو مال كثير ، وذو أهل وولد وحاضرة ، فأخبرني كيف أنفق ، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخرج الزكاة من مالك إن كان ، فإنها طهرة تطهرك ، وتصل أقرباءك ، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال : يا رسول الله أقلل لي؟ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) فقال : حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها ، وإثمها على من بدلها».

وقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ، ولهذا قال (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي جحودا ، لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته ، بل أقبل على معصيته ومخالفته. وقوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) الآية ، أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء ، أعرضت عنهم لفقد النفقة (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي عدهم وعدا بسهولة ولين ، إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله ، هكذا فسر قوله : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) بالوعد ، مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ، ذاما للبخل ، ناهيا عن السرف (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تكن بخيلا منوعا ، لا تعطي أحدا شيئا ، كما قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] أي نسبوه إلى البخل ، تعالى وتقدس الكريم الوهاب ، وقوله (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي ولا تسرف في الإنفاق ، فتعطي فوق طاقتك ، وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا ، وهذا من باب اللف والنشر ، أي فتقعد إن بخلت ملوما يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك ، كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة : [الطويل]

__________________

(١) المسند ٣ / ١٣٦.

٦٤

ومن كان ذا مال فيبخل بماله

على قومه يستغن عنه ويذمم (١)

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهو الدابة التي عجزت عن السير فوقفت ضعفا وعجزا ، فإنها تسمى الحسير ، وهو مأخوذ من الكلال ، كما قال (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] أي كليل عن أن يرى عيبا ، هكذا فسر هذه الآية بأن المراد هنا البخل والسرف : ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.

وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة منها مكانها ، فهو يوسعها فلا تتسع» (٢). هذا لفظ البخاري في الزكاة.

وفي الصحيحين من طريق هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر ، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ولا توعي فيوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك» (٣). وفي لفظ «ولا تحصي فيحصي الله عليك» (٤). وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله قال لي : أنفق ، أنفق عليك» (٥) وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» (٦).

وروى مسلم عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا «ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله» (٧) وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «إياكم والشحّ فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم

__________________

(١) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٢٨ ، ومسلم في الزكاة حديث ٧٦ ، ٧٧.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في الزكاة باب ٢١ ، وأبو داود في الزكاة باب ٤٦ ، والترمذي في البر باب ٤٠ ، والنسائي في الزكاة باب ٦٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢١٤ ، ٢٥٤.

(٤) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في الزكاة باب ٢١ ، والهبة باب ١٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ٨٨ ، ٨٩.

(٥) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٣٦ ، ٣٧.

(٦) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٢٧ ، ومسلم في الزكاة حديث ٥٧.

(٧) أخرجه مسلم في البر حديث ٦٩.

٦٥

بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا» (١). وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر عن أبي معاوية عن الأعمش ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطانا».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سكين بن عبد العزيز ، حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما عال من اقتصد».

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إخبارا أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء ، فيغني من يشاء ، ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة ، ولهذا قال : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي خبيرا بصيرا بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر ، كما جاء في الحديث «إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا ، والفقر عقوبة ، عياذا بالله من هذا وهذا.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١)

هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده ، لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته ، فنهى الله تعالى عن ذلك وقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أي خوف أن تفتقروا في ثاني حال ، ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وفي الأنعام (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي من فقر (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام : ١٥١]. وقوله (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي ذنبا عظيما ، وقرأ بعضهم : كان خطأ كبيرا وهو بمعناه ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم : قال «إن تجعل لله ندا وهو خلقك ـ قلت : ثم أي؟ ـ قال : إن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ـ قلت : ثم أي؟ ـ قال : إن تزاني بحليلة جارك» (٣).

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) (٣٢)

يقول تعالى ناهيا عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٦.

(٢) المسند ١ / ٤٤٧.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ باب ٣ ، وسورة ٢٥ ، باب ٢ ، والأدب باب ٢٠ ، والحدود باب ٢٠ ، والديات باب ١ ، والتوحيد باب ٤٠ ، ٤٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢.

٦٦

كانَ فاحِشَةً) أي ذنبا عظيما (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس طريقا ومسلكا.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا جرير حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ، فقال «ادنه» فدنا منه قريبا ، فقال «اجلس» فجلس ، فقال «أتحبه لأمك»؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال : «أفتحبه لابنتك؟» قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال : «أفتحبه لأختك؟» قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال «أفتحبه لعمتك؟» قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال «أفتحبه لخالتك؟» قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، قال فوضع يده عليه ، وقال «اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وأحصن فرجه» قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له».

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) (٣٣)

يقول تعالى ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (٢). وفي السنن «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم» (٣).

وقوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي سلطة على القاتل ، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا ، وإن شاء عفا عنه على الدية ، وإن شاء عفا عنه مجانا ، كما ثبتت السنة بذلك ، وقد أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك لأنه كان ولي عثمان ، وقد قتل مظلوما رضي الله عنه ، وكان معاوية يطالب عليا رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم ، لأنه أموي ، وكان علي رضي الله عنه يستمهله

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٥٦ ، ٣٥٧.

(٢) أخرجه البخاري في الديات باب ٦ ، ومسلم في القسامة حديث ٢٥ ، ٢٦ ، وأبو داود في الحدود باب ١ ، والترمذي في الديات باب ١٠ ، ١٥ ، والنسائي في القسامة باب ٦ ، ٨ ، وابن ماجة في الحدود باب ١ ، والدارمي في السير باب ١١.

(٣) أخرجه الترمذي في الديات باب ٧ ، وابن ماجة في الديات باب ١ ، والنسائي في التحريم باب ٢.

٦٧

في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك ، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك ، حتى يسلمه القتلة ، وأبى أن يبايع عليا هو وأهل الشام ، ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه ، كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة ، وهذا من الأمر العجب.

وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال : حدثنا يحيى بن عبد الباقي ، حدثنا أبو عمير بن النحاس ، حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب عن مطر الوراق ، عن زهدم الجرمي قال : كنا في سمر ابن عباس فقال : إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية ، إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان يعني عثمان ، قلت لعلي : اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج فعصاني ، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية ، وذلك أن الله يقول : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الآية ، وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم ، وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس ، فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا ، ومن ترك ـ وأنتم تاركون ـ كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) قالوا : معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل. وقوله : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي إن الولي منصور على القاتل شرعا وغالبا قدرا.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣٥)

يقول تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] وقد جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي ذر : «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال اليتيم» (١) وقوله (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها ، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي عنه.

وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ) قرئ بضم القاف وكسرها ، كالقرطاس ، وهو الميزان. وقال مجاهد : هو العدل بالرومية (٢). وقوله : (الْمُسْتَقِيمِ) أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب (ذلِكَ خَيْرٌ) أي لكم في معاشكم ومعادكم ، ولهذا قال (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مآلا ومنقلبا في آخرتكم ، قال سعيد عن قتادة (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي خير ثوابا وأحسن عاقبة. وابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٧٩.

٦٨

وهذا الميزان ، قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يقول «لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك».

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : لا تقل. وقال العوفي : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وقال محمد ابن الحنفية : يعني شهادة الزور. وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم ، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله (١) ، ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] وفي الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (٢). وفي سنن أبي داود «بئس مطية الرجل زعموا» (٣) وفي الحديث الآخر «إن أفرى الفري أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا» (٤). وفي الصحيح «من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل» (٥).

وقوله : (كُلُّ أُولئِكَ) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتسأل عنه عما عمل فيها ، ويصح استعمال أولئك مكان تلك ، كما قال الشاعر : [الكامل]

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٦)

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣٨)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٨٠.

(٢) أخرجه البخاري في النكاح باب ٤٥ ، والوصايا باب ٨ ، والفرائض باب ٢ ، والأدب باب ٥٧ ، ومسلم في البر حديث ٢٨.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٧٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ١١٩ ، ٥ / ٤٠١.

(٤) أخرجه البخاري في التعبير باب ٤٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٦ ، ١١٩.

(٥) أخرجه البخاري في التعبير باب ٤٥ ، وأبو داود في الأدب باب ٨٨ ، والترمذي في الرؤيا باب ٨ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢١٦ ، ٢٤٦ ، ٣٥٩ ، ٢ / ٥٠٤.

(٦) البيت لجرير في ديوانه ص ٩٩٠ ، وفيه «الأقوام» بدل «الأيام» ، وتخليص الشواهد ص ١٢٣ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٣٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٦٧ ، وشرح المفصل ٩ / ١٢٩ ، ولسان العرب (أولى) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٨ ، وتفسير الطبري ٨ / ٨١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٣٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٧٢ ، والمقتضب ١ / ١٨٥.

٦٩

يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تقطع بمشيك ، قاله ابن جرير(١) ، واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج : [رجز]

وقاتم الأعماق خاوي المخترق (٢)

وقوله : (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك ، بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده ، كما ثبت في الصحيح «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما ، إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» (٣) وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته ، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض ، وفي الحديث «من تواضع لله رفعه الله ، فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ، ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير ، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير» (٤).

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا حجاج بن محمد عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم يريد المنصور ، وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه ، وانفرج عنها قباؤه ، وهو يمشي ويتبختر ، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال : أف أف ، شامخ بأنفه ، ثاني عطفه ، مصعر خده ، ينظر في عطفيه ، أي حميق ينظر في عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة ، غير المأخوذ بأمر الله فيها ، ولا المؤدي حق الله منها ، والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة ، وللشيطان به لعنة ، فسمعه ابن الأهيم فرجع يعتذر إليه ، فقال : لا تعتذر إلي وتب إلى ربك ، أما سمعت قول الله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً).

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٨١.

(٢) بعده :

مشتبه الأعلام لمّاع الخفف

والرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٠٤ ، والأغاني ١٠ / ١٥٨ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥ ، والخصائص ٢ / ٢٢٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥٣ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٧٢ ، ٥ / ٨٥ ، ولسان العرب (خفّف) ، (عمق) ، (غلا) ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٢٦٠ ، ٣٢٠ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٣ ، ٥٠٢ ، ٦٣٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧٢ ، والعقد الفريد ٥ / ٥٠٦ ، والكتاب ٤ / ١١٠ ، وكتاب العين ١ / ١٨٨.

(٣) أخرجه مسلم في اللباس حديث ٤٩ ، ٥٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٢٢ ، ٢٦٧ ، ٣١٥.

(٤) أخرجه القسم الأول من الحديث مسلم في البر حديث ٦٩ ، والترمذي في البر باب ٨٢ ، والدارمي في الزكاة باب ٣٤ ، ومالك في الصدقة حديث ١٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٨٦.

٧٠

ورأى البختري العابد رجلا من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته ، فقال له : يا هذا ، إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته ، قال : فتركها ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته ، فقال : إن للشياطين إخوانا. وقال خالد بن معدان : إياكم والخطر ، فإن الرجل يده من سائر جسده ، رواهما ابن أبي الدنيا ، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن سعيد عن محسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مشيت أمتي المطيطاء ، وخدمتهم فارس والروم ، سلط بعضهم على بعض».

وقوله : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أما من قرأ سيئة ، أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهيناه عنه من قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] إلى هنا فهو سيئة مؤاخذ عليها مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه ، وأما من قرأ سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه عند الله ، هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه‌الله.

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٣٩)

يقول تعالى : هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة ، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس ، (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق ، (مَدْحُوراً) أي مبعدا من كل خير ، قال ابن عباس وقتادة : مطرودا (١) ، والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠)

يقول تعالى رادا على المشركين الكاذبين الزاعمين ، عليهم لعائن الله : أن الملائكة بنات الله ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، ثم ادعوا أنهم بنات الله ، ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيما ، فقال تعالى منكرا عليهم (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي خصصكم بالذكور (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) أي واختار لنفسه على زعمكم البنات ، ثم شدد الإنكار عليهم فقال : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) أي في زعمكم أن لله ولدا ، ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد ، فتلك إدا قسمة ضيزى ، وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٨٣.

٧١

فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٥].

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (٤١)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ ، فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك ، (وَما يَزِيدُهُمْ) أي الظالمين منهم (إِلَّا نُفُوراً) أي عن الحق وبعدا منه.

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣)

يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه ، العابدين معه غيره ، ليقربهم إليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون ، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه ، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون وساطة بينكم وبينه ، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه ، بل يكرهه ويأباه ، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه ، ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ) أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى (عُلُوًّا كَبِيراً) أي تعاليا كبيرا ، بل هو الله الأحد (الصَّمَدُ) الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤)

يقول تعالى : تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن ، أي من المخلوقات ، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته : [المتقارب]

ففي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد (١).

كما قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠] وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة ، حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى ، كان بين المقام وزمزم ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطارا حتى بلغ السموات السبع. فلما رجع قال : «سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى ، من ذي

__________________

(١) البيت لأبي العتاهية في ديوانه ص ١٠٤ ، وتاج العروس (عته)

٧٢

المهابة مشفقات لذي العلو بما علا ، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى».

وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس ، لأنها بخلاف لغاتكم ، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، وهذا أشهر القولين ، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل (١). وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل ، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زيان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس ، عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل ، فقال لهم «اركبوها سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة خير من راكبها ، وأكثر ذكرا لله منه».

وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل الضفدع ، وقال «نقيقها تسبيح». وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها ، وإذا قال : الحمد لله ، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها ، وإذا قال : الله أكبر ، فهي تملأ ما بين السماء والأرض ، وإذا قال : سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدا من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت مصعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج ، أو مزورة بديباج ، فقال : إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع ويضع كل رأس ابن رأس ، فقام إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا ، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال : «لا أرى عليك ثياب من لا يعقل» ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس ، فقال : «إن نوحاعليه‌السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال : إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين ، وأنهاكما عن اثنتين ، أنهاكما عن الشرك بالله والكبر ، وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليهما ، لقصمتهما أو لفصمتهما ، وآمركما بسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء» ورواه الإمام

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والدارمي في المقدمة باب ٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٦٠.

(٢) المسند ٣ / ٤٣٩.

(٣) المسند ٢ / ٢٢٥.

٧٣

أحمد (١) أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بشيء امر به نوح ابنه؟ إن نوحا عليه‌السلام قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول : سبحان الله ، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق» قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) إسناده فيه ضعف ، فإن الأودي ضعيف عند الأكثرين. وقال عكرمة في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح ـ الأسطوانة ـ السارية وقال بعض السلف : صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : الطعام يسبح ، ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج ، وقال آخرون : إنما يسبح ما كان فيه روح ، يعنون من حيوان ونبات.

قال قتادة في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال : كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه ، وقال الحسن والضحاك في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قالا : كل شيء فيه الروح. وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب ، قالا : حدثنا جرير أبو الخطاب ، قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ، فقدموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد ، يسبح هذا الخوان؟ فقال : كان يسبح مرة.

قلت : الخوان هو المائدة من الخشب ـ فكأن الحسن رحمه‌الله ، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة كان يسبح ، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه ، وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبرين فقال «إنهما لعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ، ثم غرز في كل قبر واحدة ، ثم قال «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» (٤) أخرجاه في الصحيحين ، قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء : إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ، والله أعلم.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٩ ، ١٧٠.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٨٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٨٤ ، ٨٥.

(٤) أخرجه بلفظ «يستنزه من البول» مسلم في الطهارة حديث ١١١ ، وأخرجه بلفظ «يستتر من بوله» البخاري في الوضوء باب ٥٥ ، والجنائز باب ٨١ ، وأخرجه بلفظ «يستبرئ من بوله» البخاري في الوضوء باب ـ

٧٤

وقوله (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) أي إنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره ، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر ، كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢] الآية ، وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٨] الآية ، وقال (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٥] الآيتين ، ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ، ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عليه ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) [النساء : ١١٠] الآية ، وقال هاهنا (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) كما قال في آخر فاطر (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] إلى أن قال (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) [فاطر : ٤٥] إلى آخر السورة.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن ، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا. قال قتادة وابن زيد : هو الأكنة على قلوبهم ، كما قال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء. وقوله (حِجاباً مَسْتُوراً) بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم ، لأنهم من يمنهم وشؤمهم ، وقيل : مستورا عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى ، ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمه‌الله.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا سفيان عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول : مذمما أتينا ـ أو أبينا ـ قال أبو موسى : الشك مني ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به منها (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) قال : فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ، قال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، قال : فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أني بنت سيدها.

وقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) وهي جمع كنان الذي يغشى القلب (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفهموا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعا ينفعهم

٧٥

ويهتدون به. وقوله تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي إذا وحدت الله في تلاوتك ، وقلت لا إله إلا الله ، (وَلَّوْا) أي أدبروا راجعين (عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) ونفور جمع نافر ، وكقعود جمع قاعد ، ويجوز أن يكون مصدرا من غير الفعل ، والله أعلم.

كما قال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥] الآية ، قال قتادة في قوله (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ) الآية ، إن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله ، أنكر ذلك المشركون ، كبرت عليهم وضاقها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيزة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها (١).

[قول آخر في الآية]

روى ابن جرير (٢) : حدثني الحسين بن محمد الذراع ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) هم الشياطين ، وهذا غريب جدا في تفسيرها ، وإلا فالشياطين إذا قرئ القرآن أو نودي بالأذان أو ذكر الله انصرفوا.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٤٨)

يخبر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاءوا يستمعون قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرا من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على المشهور ، أو من السحر وهو الرئة ، أي إن تتبعون إن اتبعتم محمدا إلا بشرا يأكل ، كما قال الشاعر : [الطويل]

فإن تسألينا فيم نحن فإننا

عصافير من هذا الأنام المسحّر (٣)

وقال الراجز : [الوافر]

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٨٦.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٨٧.

(٣) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٥٦ ، ولسان العرب (سحر) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٢٩٢ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٥٣ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٥١١ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٣٨ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٢٣ ، وكتاب العين ٣ / ١٣٥ ، والمخصص ١ / ٢٧.

٧٦

ونسحر بالطعام وبالشراب (١)

أي يغذي ، وقد صوب هذا القول ابن جرير ، وفيه نظر لأنهم أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ، ومنهم من قال : شاعر. ومنهم من قال : كاهن. ومنهم من قال : مجنون ومنهم من قال : ساحر ، ولهذا قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا.

قال محمد بن إسحاق في السيرة : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ما ذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال : فقام عنه الأخنس وتركه (٢).

__________________

(١) صدره :

أرانا موضعين لأمر غيب

والبيت من الوافر وليس من الرجز كما قال المؤلف وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٩٧ ، ولسان العرب (سحر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٣١ ، وكتاب العين ٣ / ١٣٥ ، وجمهرة اللغة ص ٥١١ ، وتاج العروس (سحر) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٤ / ٢٩٣.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣١٥ ، ٣١٦.

٧٧

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً(٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً) (٥٢)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا ، قاله مجاهد (١). وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : غبارا ، (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر ، كما أخبر عنهم في الموضع الآخر (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [النازعات : ١٠ ـ ١٢]. وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩] الآيتين ، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم فقال : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) إذ هما أشد امتناعا من العظام والرفات (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك ، فقال : هو الموت ، وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية : لو كنتم موتى لأحييتكم ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ، ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة ، لأحياكم الله إذا شاء ، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.

وقد ذكر ابن جرير (٢) هاهنا حديثا «يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، ثم يقال : يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت» وقال مجاهد (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) يعني السماء والأرض والجبال ، وفي رواية : ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم ، وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في قوله : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال مالك ويقولون هو الموت.

وقوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا تنتشرون ، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] الآية ، وقوله تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال ابن عباس

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٨٨.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٩٠.

٧٨

وقتادة : يحركونها استهزاء ، وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها ، لأن الانغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل ، ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة نغضا ، لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه ، ويقال : نغضت سنّه إذا تحركت وارتفعت من منبتها وقال الراجز : [مشطور الرجز]

ونغضت من هرم أسنانها (١)

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك ، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك : ٢٥] وقال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨]. وقوله : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) أي احذروا ذلك ، فإنه قريب سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو آت آت. وقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) أي الرب تبارك وتعالى : (إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] أي إذا أمركم بالخروج منها ، فإنه لا يخالف ولا يمانع ، بل كما قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠]. وقوله (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤] أي إنما هو أمر واحد بانتهار ، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فتستجيبون بحمده ، أي بأمره ، وكذا قال ابن جريج : وقال قتادة بمعرفته وطاعته.

وقال بعضهم (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله» وفي رواية يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] وسيأتي في سورة فاطر. وقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ) أي يوم تقومون من قبوركم (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي في الدار الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) ، وكقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] ، وقال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٢ ـ ١٠٤] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) [الروم : ٥٥] ، وقال تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٤].

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري ٨ / ٩١ ، وتفسير البحر المحيط ٦ / ٤٣ ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٠ / ٢٧٥.

٧٩

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (٥٣)

يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة ، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ، نزع الشيطان بينهم ، وأخرج الكلام إلى الفعال ، وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم ، وعداوته ظاهرة بينة ، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزع في يده أي فربما أصابه بها.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» (٢) أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد عن الحسن قال : حدثني رجل من بني سليط قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في أزفلة من الناس فسمعته يقول «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله التقوى هاهنا» قال حماد : وقال بيده إلى صدره «وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما ، المحدث شر والمحدث شر والمحدث شر».

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥)

يقول تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ ـ يا محمد ـ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي إنما أرسلناك نذيرا ، فمن أطاعك دخل الجنة ، ومن عصاك دخل النار. وقوله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وكما قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣] وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوا بين الأنبياء» (٤) فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه.

ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة

__________________

(١) المسند ٢ / ٣١٧.

(٢) أخرجه البخاري في الفتن باب ٧ ، ومسلم في البر حديث ١٢٦.

(٣) المسند ٥ / ٧١.

(٤) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٥ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٩.

٨٠