تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم.

وقال قتادة (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) إذ والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك.

ثم قال منكرا على الكافرين من قريش : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أفهم لا يعرفون محمدا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه ، ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا ، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) يحكي قول المشركين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنونا لا يدري ما يقول ، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ولهذا قال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.

وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي رجلا فقال له «أسلم» فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره ، فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن كنت كارها». وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له «أسلم» فتصعده ذلك ، وكبر عليه ، فقال له نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت تتبعه؟» قال : نعم. قال «فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقي رجلا فقال له «أسلم» فتصعده ذلك ، فقال له نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا ائتمنته أدى إليك ، أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك؟» قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي ، فقال نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «كذاكم أنتم عند ربكم» (١).

وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قال مجاهد وأبو

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٢٥.

٤٢١

صالح والسدي : الحق هو الله عزوجل ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها ، كما أخبر عنهم في قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ثم قال : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣١ ـ ٣٢] وقال تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء : ١٠٠] الآية. وقال تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه ، تعالى وتقدس ، فلا إله غيره ولا رب سواه ، ولهذا قال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي القرآن (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).

وقوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) قال الحسن : أجرا. وقال قتادة : جعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] وقال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] وقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] وقال : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) [يس : ٢٠ ـ ٢١].

وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته ، فقال : إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم ، قال : فانطلق بهم وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني ، قال : فقالت طائفة : صدق والله لنتبعنه ، وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا يعقوب بن

__________________

(١) المسند ١ / ٢٦٢.

٤٢٢

عبد الله الأشعري ، حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار ، وتغلبونني وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض ، فتردون علي معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم ، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله ، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي ، فيقال : يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم ، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد يا محمد.

فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت» وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول ، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق ، وقال فيه يحيى بن معين : صالح ، ووثقه النسائي وابن حبان.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي لعادلون جائرون منحرفون ، تقول العرب : نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] وقال: (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ـ إلى قوله ـ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٩] فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون ، قال الضحاك عن ابن عباس : كل ما فيه (لَوْ) فهو مما لا يكون أبدا.

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ

٤٢٣

وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على غيهم وضلالهم (فَمَا اسْتَكانُوا) ، أي ما خشعوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ما دعوا ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام : ٤٣] الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبي عن يزيد ـ يعني النحوي ـ عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ـ يعني الوبر والدم ـ فأنزل الله (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا) الآية ، وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به ، وأصله في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على قريش حين استعصوا ، فقال : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان ، حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ، والله يقول : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله؟ قال : أحدث لنا فأحدثنا ، يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة.

وقوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة ، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا (٢) من كل خير وأيسوا من كل راحة ، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم ، ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.

وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه (٣) الخليقة وذرئه (٤) لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٨.

(٢) أبلسوا : أي يئسوا.

(٣) البرء : الخلق.

(٤) الذرء : الخلق ، وذرأ الشيء : كثّره ومنه الذّريّة.

٤٢٤

ولغاتهم وصفاتهم ، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم ، فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا ، ولا ذكرا ولا أنثى ، ولا جليلا ولا حقيرا ، إلا أعاده كما بدأه ، ولهذا قال : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيي الرمم ويميت الأمم ، (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وعن أمره تسخير الليل والنهار ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما ، كقوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] الآية.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء ، وعز كل شيء وخضع له كل شيء ، ثم قال مخبرا عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعنون الإعادة محال ، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخبارا عنهم (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١١ ـ ١٤] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩] الآيات.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٩٠)

يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو ، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، ولهذا قال لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية ، وأنه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا ولا يستبون بشيء ، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فقال : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له ، فإذا كان ذلك (قُلْ أَفَلا

٤٢٥

تَذَكَّرُونَ) أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر الإفطار منها والجهات ، ومن هو رب العرش العظيم ، يعني الذي هو سقف المخلوقات ، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة (١) ، وفي الحديث الآخر «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة ، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة ، وقال الضحاك عن ابن عباس : إنما سمي عرشا لارتفاعه.

وقال الأعمش عن كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض. وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدّهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر قدره أحد ، وفي رواية : إلا الله عزوجل ، وقال بعض السلف : العرش من ياقوتة حمراء ، ولهذا قال هاهنا : (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي الكبير. وقال في آخر السورة (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي الحسن البهي ، فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو والحسن الباهر ، ولهذا قال من قال إنه من ياقوتة حمراء. وقال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه.

وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم ، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل معها ابن لها يرعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه من خلقك؟ قالت : الله. قال فمن خلق أبي. قالت : الله. قال : فمن خلقني؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السموات؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الأرض؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم؟ قالت : الله. قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يحدثنا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٨.

٤٢٦

هذا الحديث ، قال عبد الله بن دينار : كان ابن عمر كثيرا ما يحدثنا بهذا الحديث ، قلت : في إسناده عبد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني ، وقد تكلموا فيه ، فالله أعلم.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيده الملك (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي متصرف فيها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا والذي نفسي بيده» وكان إذا اجتهد في اليمين قال «لا ومقلب القلوب» فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدا لا يحفر في جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه ، الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وقال الله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله ، فالخلق كلهم يسألون عن أعمالهم ، كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣].

وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك ، ثم قال تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله ، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك ، كما قال في آخر السورة (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال ، وإنما يفعلون ذلك اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال ، كما قال الله عنهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢)

ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة ، فقال تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود ، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه ، فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى ، وعبروا عنه بدليل التمانع ، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه ، فإن لم يحصل مراد كل واحد

٤٢٧

منهما كانا عاجزين ، والواجب لا يكون عاجزا ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد ، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد ، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان الغالب هو الواجب والآخر المغلوب ممكنا ، لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا ، ولهذا قال تعالى: (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس وتنزه وتعالى وعزوجل عما يقول الظالمون والجاحدون.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ(٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨)

يقول تعالى آمرا نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك ، فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّني إليك غير مفتون» (١). وقوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن. ثم قال تعالى مرشدا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه ، ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة ، فقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وهذا كما قال في الآية الأخرى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت : ٣٤ ـ ٣٥] الآية ، اي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي في الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أمره الله أن يستعيذ من الشياطين. لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف ، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» (٢).

وقوله تعالى : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي في شيء من أمري ، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور ، ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الهدم

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٨ ، باب ٢ ، ٤ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٤٣.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١١٩ ، والترمذي في المواقيت باب ٦٥ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، ٣ / ٥٠ ، ٥ / ٢٥٣ ، ٦ / ٢٥٦.

٤٢٨

ومن الغرق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع : «باسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه (٣). ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق. وقال الترمذي : حسن غريب.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠)

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ، ولهذا قال : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) كما قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المنافقون : ١٠ ـ ١١] وقال تعالى (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ـ إلى قوله ـ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ـ إلى قوله ـ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام: ٢٧ ـ ٢٨] وقال تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤] وقال تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١١ ـ ١٢] والآية بعدها. وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم.

وقوله هاهنا : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) كلا حرف ردع وزجر ، أي لا نجيبه إلى ما طلب

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٣٢.

(٢) المسند ٢ / ١٨١.

(٣) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٩ ، والترمذي في الدعوات باب ٩٣.

٤٢٩

ولا نقبل منه. وقوله تعالى : (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم ، ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله كلا ، أي لأنها كلمة ، أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) قال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عزوجل ، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار.

وقال محمد بن كعب القرظي (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) قال : فيقول الجبار : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ، يقول الله تعالى : كلا كذبت. وقال قتادة في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة طلا بالله ، وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.

وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل ـ يعني ابن عياض ـ عن ليث عن طلحة بن مصرف ، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : إذا وضع ـ يعني الكافر ـ في قبره فيرى مقعده من النار ، قال : فيقول : رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا ، قال :

فيقال قد عمرت ما كنت معمرا ، قال : فيضيق عليه قبره ويلتئم ، فهو كالمنهوش ينام ويفزع ، تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها (١).

وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم ، حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) يعني أمامهم. وقال مجاهد : البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم. وقال أبو صخر : البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون ، وفي قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٢٨.

٤٣٠

تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠] وقال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم : ١٧]. وقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث «فلا يزال معذبا فيها» (١) أي في الأرض.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤)

يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور ، وقام الناس من القبور (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرثي والد لولده ولا يلوي عليه ، قال الله تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١] أي لا يسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره ، وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة ، قال الله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧] الآية ، وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ، ثم نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ، ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ـ هو ابن مخرمة ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة بضعة مني ، يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها ، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري» وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فاطمة بضعة مني ، يريبني ما يريبها ، ويؤذيني ما آذاها» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على هذا المنبر : «ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنفع قومه؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنائز باب ٧٠.

(٢) المسند ٤ / ٣٢٣.

(٣) أخرجه البخاري في النكاح باب ١٠٩ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٩٣.

(٤) المسند ٣ / ١٨.

٤٣١

وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم» قال رجل : يا رسول الله أنا فلان بن فلان ، فأقول لهم : أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى» وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي ، والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفا إعظاما وإكراما رضي الله عنه.

فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «سألت ربي عزوجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك» ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو.

وقوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ، قاله ابن عباس ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة ، وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي ثقلت سيئاته على حسناته (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال : إن الله ملكا موكلا بالميزان ، فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ، إسناده ضعيف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك ، ولهذا قال تعالى : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كما قال تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠] وقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) [الأنبياء : ٣٩] الآية.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ، ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط

٤٣٢

على العرقوب» وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز ، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان ، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان ، حدثنا سعيد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) قال : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.

وقوله تعالى : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني عابسون (١). وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه (٢). وقال الإمام أحمد (٣) : أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه‌الله ، أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) ـ قال ـ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» (٤) ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به ، وقال : حسن غريب.

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧)

هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك ، فقال تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل ، وأنزلت عليكم الكتب ، وأزلت شبهكم ، ولم يبق لكم حجة ، كما قال تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ـ إلى قوله ـ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ٨ ـ ١١] ولهذا قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قد قامت علينا الحجة ، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها ، فضللنا عنها ولم نرزقها. ثم قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي ارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة ، كما قال : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ـ إلى قوله ـ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر : ١١ ـ ١٢] أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٤٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٤٦.

(٣) المسند ٣ / ٨٨.

(٤) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٥ ، وتفسير سورة ٢٣ ، باب ٤.

٤٣٣

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١)

هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار. يقول (اخْسَؤُا فِيها) أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء ، (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال العوفي عن ابن عباس (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان المروزي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ، قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك ، ثم يدعون ربهم فيقولون (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبو الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحدا يعني من جهنم ، غير وجوههم وألوانهم ، فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول : يا رب ، فيقول الله : من عرف أحدا فليخرجه ، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحدا ، فيناديه الرجل : يا فلان أنا فلان ، فيقول ما أعرفك ، قال : فعند ذلك يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فعند ذلك يقول الله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد.

ثم قال تعالى مذكرا لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه ، فقال تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) [المطففين : ٢٩ ـ ٣٠] أي يلمزونهم استهزاء : ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين ، فقال تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي على أذاكم لهم

٤٣٤

واستهزائكم بهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦)

يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ، ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) أي كم كانت إقامتكم في الدنيا (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي الحاسبين (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي مدة يسيرة على كل تقدير (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيئ ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ـ قال ـ لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ، ثم قال : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين».

وقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا ، وقيل : للعبث ، أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزوجل (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) أي لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) [القيامة : ٣٦] يعني هملا. وقوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تقدس أن يخلق شيئا عبثا ، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات ، ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل ، كما قال تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [ق : ٧].

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ من أهل العراق ، أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال : كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما

٤٣٥

بعد ، أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه ، وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان ، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيكون من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عزوجل ، قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، قد فارق الأحباب وباشر التراب ، ووجه الحساب ، مرتهن بعمله ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم ، ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن نصير الخولاني ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن حنش بن عبد الله أن رجلا مصابا مر به عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الآية (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) حتى ختم السورة فبرأ ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بما ذا قرأت في أذنه؟» فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال».

وروى أبو نعيم من طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي ، حدثنا أبو المسيب سلمة بن سلام ، حدثنا بكر بن حنيس عن نهشل بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة باسم الله الملك الحق ، وما قدروا الله حق قدره ، والأرض جميعا فقبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم».

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨)

يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره وعبد معه سواه ، ومخبرا أن من أشرك بالله لا برهان له ، أي لا دليل له على قوله ، فقال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط في قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي الله يحاسبه على ذلك ،

٤٣٦

ثم أخبر (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة. قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : «ما تعبد؟» قال : أعبد الله وكذا وكذا حتى عد أصناما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟» قال : الله عزوجل. قال «فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟». قال : الله عزوجل ، قال : «فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه ، أم حسبت أن تغلب عليه؟» قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعلمون ولا يعلمون» فقال الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني ، هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندا عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك. وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء ، فاغفر إذا أطلق ومعناه محو الذنب وستره عن الناس ، والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.

آخر تفسير سورة المؤمنون.

٤٣٧
٤٣٨

فهرس المحتويات

سورة الإسراء

الآية : ١....................................................................... ٣

الآيتان : ٢ و ٣............................................................... ٤٢

الآيات : ٤ ـ ٨................................................................ ٤٣

الآيات : ٩ ـ ١١.............................................................. ٤٥

الآية : ١٢.................................................................... ٤٦

الآيتان : ١٣ و ١٤............................................................ ٤٧

الآية : ١٥.................................................................... ٤٩

الآيتان : ١٦ و ١٧............................................................ ٥٧

الآيات : ١٨ ـ ٢١............................................................. ٥٨

الآيات : ٢٢ ـ ٤.............................................................. ٥٩

الآية : ٢٥.................................................................... ٦٢

الآيات : ٢٦ ـ ٢٨............................................................. ٦٣

الآيتان : ٢٩ و ٣٠............................................................ ٦٤

الآيتان : ٣١ و ٣٢............................................................ ٦٦

الآية : ٣٣.................................................................... ٦٧

الآيتان : ٣٤ و ٣٥............................................................ ٦٨

الآيات : ٣٦ ـ ٣٨............................................................. ٦٩

الآيتان : ٣٩ و ٤٠............................................................ ٧١

الآيات : ٤١ ـ ٤٤............................................................. ٧٢

الآيتان : ٤٥ و ٤٦............................................................ ٧٥

الآيتان : ٤٧ و ٤٨............................................................ ٧٦

٤٣٩

الآيات : ٤٩ ـ ٥٢............................................................. ٧٨

الآيات : ٥٣ ـ ٥٥............................................................. ٨٠

الآيتان : ٥٦ و ٥٧............................................................ ٨١

الآيتان : ٥٨ و ٥٩............................................................ ٨٢

الآية : ٦٠.................................................................... ٨٤

الآيتان : ٦١ و ٦٢............................................................ ٨٥

الآيات : ٦٣ ـ ٦٥............................................................. ٨٦

الآية : ٦٦.................................................................... ٨٧

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩............................................................. ٨٨

الآية : ٧٠.................................................................... ٨٩

الآيتان : ٧١ و ٧٢............................................................ ٩٠

الآيات : ٧٣ ـ ٧٧............................................................. ٩١

الآيتان : ٧٨ و ٧٩............................................................ ٩٢

الآيتان : ٨٠ و ٨١.......................................................... ١٠٢

الآيات : ٨٢ ـ ٨٤........................................................... ١٠٣

الآية : ٨٥.................................................................. ١٠٤

الآيات : ٨٦ ـ ٨٩........................................................... ١٠٧

الآيات : ٩٠ ـ ٩٣........................................................... ١٠٨

الآيتان : ٩٤ و ٩٥.......................................................... ١١١

الآيتان : ٩٦ و ٩٧.......................................................... ١١٢

الآيات : ٩٨ ـ ١٠٠......................................................... ١١٣

الآيات : ١٠١ ـ ١٠٤........................................................ ١١٤

الآيتان : ١٠٥ و ١٠٦....................................................... ١١٦

الآيات : ١٠٧ ـ ١١١........................................................ ١١٧

٤٤٠