تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظما ، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم.

وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، وقال تعالى (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) وقال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، رواه البخاري (١) ، وقال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] والبصر من آلات الذات لا الروح ، وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه ، والله أعلم.

وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بروحه لا بجسده ، قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان ، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن أسري بروحه.

قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الآية نزلت (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] ولقول الله في الخبر عن إبراهيم (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الصافات : ١٠٢] قال : ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تنام عيناي وقلبي يقظان» والله أعلم ، أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظانا ، كل ذاك حق وصدق ، انتهى كلام ابن إسحاق (٢). وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن ، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم ، والله أعلم.

[فائدة حسنة جليلة]

روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر ، فذكر وروده عليه وقدومه إليه ، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي

__________________

(١) كتاب التفسير تفسير سورة ١٧ ، باب ٩.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣٩٩ ، ٤٠٠.

٤١

بيانه ، وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان : والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟

قال : وما هو؟ قال : قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا ، أرض الحرم ، في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال ، وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر إليه قيصر وقال : وما علمك بهذا؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته ، فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا ، فدعوت إليه النجاجرة ، فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ، ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى.

قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما ، فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط دابة ، قال : فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلى الليلة في مسجدنا ، وذكر تمام الحديث.

[فائدة] قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه [التنوير في مولد السراج المنير] وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد ، ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس ، وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين ، وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة ، وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي وأم هانئ ، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف : ٨].

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٣)

لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضا ، فإنه تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام ، وبين ذكر

٤٢

التوراة والقرآن ، ولهذا قال بعد ذكر الإسراء (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي هاديا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي لئلا تتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي وليا ولا نصيرا ولا معبودا دوني ، لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.

ثم قال : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح ، فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحا عليه‌السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله ، فلهذا سمي عبدا شكورا. قال الطبراني : حدثني علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن أبي حصين ، عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبدا شكورا ، لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها» (٢) وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به. وقال مالك عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري (٣) هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ـ بطوله ، وفيه ـ فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك» وذكر الحديث بكامله.

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، ويعلون علوا كبيرا ، أي يتجبرون ويطغون

__________________

(١) المسند ٣ / ١١٧.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٨٩ ، والترمذي في الأطعمة باب ١٨.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣ ، وتفسير سورة ١٧ ، باب ٩.

٤٣

ويفجرون على الناس ، كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦] أي تقدمنا إليه ، وأخبرناه بذلك ، وأعلمناه به. وقوله (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي أولى الإفسادتين (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد ؛ أي قوة وعدة وسلطنة شديدة ، (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ، أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي بينها ووسطها ، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا وكان وعدا مفعولا.

وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت ، ولهذا قال (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) (١) الآية ، وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد ، وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل ، وقد روى ابن جرير (٢) في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا ، وهو حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ، والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته ، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه‌الله بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.

وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع ومن وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ، ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا ، سلط الله عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم ، وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.

وقد روى ابن جرير (٣) : حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ، ما هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٩.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٢١.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢٨.

٤٤

سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن ، وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور ، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ منهم خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته ، والله أعلم.

ثم قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي فعليها ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦]. وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي الكرة الآخرة ، أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي يهينوكم ويقهروكم ، (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في التي جاسوا فيها خلال الديار ، (وَلِيُتَبِّرُوا) أي يدمروا ويخربوا (ما عَلَوْا) أي ما ظهروا عليه (تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي فيصرفهم عنكم ، (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي متى عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ، ولهذا قال : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس : حصيرا أي سجنا. وقال مجاهد : يحصرون فيها ، وكذا قال غيره ، وقال الحسن : فراشا ومهادا. وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل ، فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون (١).

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل ، ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه ، (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ، أي يوم القيامة ، (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا أليما ، أي يوم القيامة ، كما قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١)

يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] الآية ، وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقد تقدم في الحديث «لا تدعوا على أنفسكم ، ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة

__________________

(١) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٨ / ٤٢ ، ٤٣.

٤٥

يستجيب فيها» (١) وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس هاهنا قصة آدم عليه‌السلام حين همّ بالنهوض قائما قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله ، فقال الله : يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده ، جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع ، وقال : يا رب عجل قبل الليل (٢).

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل ، وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع ، والأعمال والأسفار ، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فإنه لو كان الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا لما عرف شيء من ذلك.

كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧١ ـ ٧٣] وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦١ ـ ٦٢] وقال تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [المؤمنون : ٨٠] وقال : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر: ٥] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦] وقال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٧ ـ ٣٨].

ثم إنه تعالى جعل لليل آية ، أي علامة يعرف بها ، وهي الظلام وظهور القمر فيه ، وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٧٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٥.

٤٦

من هذا ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ـ إلى قوله ـ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] الآية.

قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) قال : ظلمة الليلة وسدف النهار (١). وقال ابن جرير عن مجاهد : الشمس آية النهار والقمر آية الليل ، (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك خلقه الله تعالى. وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار ، فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فقال : يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن؟ فقال : فمحونا آية الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم ، وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) قال ليلا ونهارا ، كذلك خلقهما اللهعزوجل (٢).

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤)

يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وطائره هو ما طار عنه من عمله ، كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ـ ١٨] وقال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٤] وقال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٦] وقال (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] الآية ، والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لطائر كل إنسان في عنقه» قال ابن لهيعة : يعني الطيرة ، وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جدا ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٦.

(٢) انظر هذا الأثر والآثار التي قبله في تفسير الطبري ٨ / ٤٥ ، ٤٦ ، ٤٧.

(٣) المسند ٣ / ٣٦٠.

٤٧

وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا ، منشورا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ١٣ ـ ١٥] ولهذا قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي إنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت ، لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي. وقوله : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال الشاعر. [مجزوء الكامل]

اذهب بها اذهب بها

طوقتها طوق الحمامه (١).

قال قتادة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا عدوى ولا طيرة ، وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» كذا رواه ابن جرير (٢) ، وقد رواه الإمام عبد بن حميد في مسنده متصلا ، فقال : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «طير كل عبد في عنقه».

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه ، يحدث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا عبدك فلان قد حبسته ، فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت» إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه.

وقال معمر عن قتادة : (أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال عمله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال : نخرج ذلك العمل (كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) قال معمر ، وتلا الحسن البصري (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ، اقرأ كتابك الآية ، فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك (٤) ، هذا من أحسن كلام الحسن ، رحمه‌الله.

__________________

(١) البيت لأبي أحمد بن جحش في سيرة ابن هشام ١ / ٥٠٠.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٤٧.

(٣) المسند ٤ / ١٤٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٩.

٤٨

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

يخبر تعالى أن (مَنِ اهْتَدى) واتبع الحق ، واقتفى أثر النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ، (وَمَنْ ضَلَ) أي عن الحق ، وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما يجني على نفسه ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، ثم قال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يجني جان إلا على نفسه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) [فاطر : ١٨] ولا منافاة بين هذا وبين وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وقوله : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحمل عنهم شيئا ، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.

وكذا قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ، كقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٨ ـ ٩] وكذا قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحد النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.

ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] حدثنا عبد الله بن سعد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اختصمت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال «وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا ، وإنه ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها ، فتقول هل من مزيد؟ ثلاثا» (١) وذكر تمام الحديث.

فهذا إنما جاء في الجنة ، لأنها دار فضل ، وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة ، وقالوا : لعله

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٥.

٤٩

انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين ، واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال : «فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه ، فتقول : قط قط ، فهناك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا» (١).

بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم‌الله تعالى فيها قديما وحديثا ، وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار : ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوة؟ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه ، ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان.

[فالحديث الأول] عن الأسود بن سريع. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن قتادة عن الأحنف بن قيس. عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يقذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فو الذي نفس محمد بيده ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما». وبالإسناد عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله ، غير أنه قال في آخره : «فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها».

وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام ، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به ، وقال : هذا إسناد صحيح ، وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أربعة كلهم يدلي على الله بحجة» فذكر نحوه ، ورواه ابن جرير (٣) من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة ، فذكره موقوفا ، ثم قال أبو هريرة : فاقرؤوا إن شئتم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا.

[الحديث الثاني] عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الربيع عن يزيد بن أبان قال : قلنا لأنس : يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين؟ فقال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٠ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٦.

(٢) المسند ٤ / ٢٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٥٠ ، ٥١.

٥٠

يكن لهم سيئات فيعذبوا بها ، فيكونوا من أهل النار ، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها ، فيكونوا من أهل الجنة».

[الحديث الثالث] عن أنس أيضا. قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير عن ليث عن عبد الوارث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يؤتى بأربعة يوم القيامة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، والشيخ الفاني الهرم كلهم يتكلم بحجته» فيقول الرب تبارك وتعالى : لعنق من النار ابرز ، ويقول لهم : إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه ، قال : فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال : ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا ، فقال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار ، وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد بإسناده مثله.

[الحديث الرابع] عن البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضا : حدثنا قاسم بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله يعني ابن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن أمية ، عن البراء قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أطفال المسلمين ، قال : «هم مع آبائهم» وسئل عن أولاد المشركين ، فقال : «هم مع آبائهم» فقيل : يا رسول الله ما يعملون؟ قال : «الله أعلم بهم» ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء عن عائشة ، فذكره.

[الحديث الخامس] عن ثوبان. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد بن منصور عن أيوب ، عن أبي قلابة عن أبي أسماء ، عن ثوبان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظم شأن المسألة قال «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم ، فيسألهم ربهم ، فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ، ولم يأتنا لك أمر ، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك ، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا ، فرجعوا إلى ربهم ، فيقولون : ربنا أخرجنا أو أجرنا منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا وقالوا : ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها ، فيقول : ادخلوها داخرين «فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما» ثم قال البزار : ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه ، لم يروه عن أيوب إلا عباد ، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد.

قلت : وقد ذكره ابن حيان في ثقاته ، وقال يحيى بن معين والنسائي : لا بأس به ، ولم يرو عنه أبو داود ، وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.

٥١

[الحديث السادس] عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري. قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الهالك في الفترة والمعتوه والمولود ، يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا شرا ، ويقول المولود : رب لم أدرك العقل ، فترفع لهم نار ، فيقال لهم : ردوها ، قال : فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم ، فكيف لو أن رسلي أتتكم؟!» وكذا رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق به ، ثم قال : لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه ، وقال في آخره «فيقول الله إياي عصيتم ، فكيف برسلي بالغيب؟».

[الحديث السابع] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري : حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني ، عن معاذ بن جبل عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا ، فيقول الممسوخ : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني» وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك «فيقول الرب عزوجل : إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون : نعم ، فيقول: اذهبوا فادخلوا النار ، قال : ولو دخلوها ما ضرتهم ، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا ، ثم يأمرهم ثانية ، فيرجعون كذلك ، فيقول الرب عزوجل : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، وإلى علمي تصيرون ، ضميهم ، فتأخذهم النار».

[الحديث الثامن] عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع رضي الله عنه وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟» (١) وفي رواية قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أعلم ـ شك موسى ـ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٩ ، ٩٢ ، وتفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، والقدر باب ٣ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٤ ، وأبو داود في السنة باب ١٧ ، ومالك في الجنائز حديث ٥٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٣ ، ٢٧٥ ، ٣١٥ ، ٣٤٧ ، ٣٩٢.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٣.

(٣) المسند ٢ / ٣٢٦.

٥٢

قال : «ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه‌السلام» وفي صحيح مسلم (١) عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل أنه قال «إني خلقت عبادي حنفاء» ، وفي رواية لغيره «مسلمين».

[الحديث التاسع] عن سمرة رضي الله عنه. رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على البخاري من حديث عوف الأعرابي. عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة» فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال : «وأولاد المشركين». وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب ، عن عباد بن منصور عن أبي رجاء ، عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أطفال المشركين ، فقال : «هم خدم أهل الجنة».

[الحديث العاشر] عن عم حسناء قال أحمد (٢) : حدثنا روح ، حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية ، من بني صريم قالت : حدثني عمي قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة؟ قال «النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة». فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه‌السلام ، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال : «نعم وأولاد المشركين» ومنهم من جزم لهم بالنار لقوله عليه‌السلام : «هم مع آبائهم» ومنهم من ذهب إلى أنهم [يمتحنون يوم القيامة في العرصات] ، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف على الله فيهم بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخرا وانكشف علم الله به بسابق الشقاوة.

وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض ، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد ، وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان ، ثم قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة ، وأهل العلم ينكرونها ، لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء ، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها؟.

[والجواب] عما قال إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير

__________________

(١) كتاب الجنة حديث ٦٣ ، وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٦٢.

(٢) المسند ٥ / ٥٨.

٥٣

من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله إن الدار الآخرة دار جزاء ، فلا شك أنها دار جزاء ، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٢] الآية.

وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا كلما أراد السجود خرّ لقفاه (١). وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مرارا ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ، ثم يأذن له في دخول الجنة (٢) ، وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم ، فليس هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط ، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبوا ومنهم المكدوش على وجهه في النار (٣) ، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.

وأيضا فقد أثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون عليه بردا وسلاما ، فهذا نظير ذاك ، وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا ، يقتل الرجل أباه وأخاه ، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم.

[فصل] إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال [أحدها] أنهم في الجنة. واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه‌السلام رأى مع إبراهيم عليه‌السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، وبما تقدم في رواية أحمد عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والمولود في الجنة» وهذا استدلال صحيح ، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله

__________________

(١) أخرجه بنحو ، البخاري في تفسير سورة ٦٨ ، باب ٢ ، والتوحيد باب ٢٤.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٢٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

(٣) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، ويروى المكدوس بدل المكدوش.

٥٤

منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ، ومن علم منه أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار ، كما دلت عليه أحاديث الامتحان ، ونقله الأشعري عن أهل السنة ، ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها ، ومنهم من جعلهم خدما لهم ، كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف ، والله أعلم.

[والقول الثاني] أنهم مع آبائهم في النار. واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل (١) عن أبي المغيرة : حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار ، فقالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم تبع لآبائهم» فقلت: يا رسول الله بلا أعمال؟ فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» وأخرجه أبو داود (٢) من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني ، سمعت عبد الله بن أبي قيس ، سمعت عائشة تقول : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذراري المؤمنين ، قال : «هم مع آبائهم» قلت : فذراري المشركين؟ قال : «هم مع آبائهم» فقلت بلا عمل؟ قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» ورواه أحمد (٣) أيضا عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل وهو متروك عن مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن شئت أسمعتك تضاغيهم (٤) في النار».

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال : سألت خديجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال : «هما في النار» قال : فلما رأى الكراهية في وجهها فقال لها : «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت : فولدي منك؟ قال : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار ـ ثم قرأ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٥) [الطور : ٢١] وهذا حديث غريب ، فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال ، وشيخه زاذان لم يدرك عليا ، والله أعلم.

وروى أبو داود (٦) من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الوائدة والموؤودة في النار» ثم قال الشعبي : حدثني به علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود ، وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي

__________________

(١) المسند ٦ / ٨٤.

(٢) كتاب السنة باب ١٧.

(٣) المسند ٦ / ٢٠٨.

(٤) تضاغيهم : أي صياحهم وبكاءهم.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٣٤ ، ١٣٥.

(٦) كتاب السنة باب ١٧.

٥٥

قال : أتيت أنا وأخي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ، وتصل الرحم ، وإنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث. فقال : «الوائدة الموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم» وهذا إسناد حسن.

[والقول الثالث] التوقف فيهم. واعتمدوا على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم بما كانوا عاملين» وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أولاد المشركين ، قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد ، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف ، وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة ، لأن الأعراف ليس دار قرار ومآل أهلها الجنة ، كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف ، والله أعلم.

[فصل] وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة ، وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله عزوجل ، فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة ، قال أبو عمر : ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث ، منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، قالوا : وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر ، وما أورده من الأحاديث في ذلك ، وعلى ذلك أكثر أصحابه ، وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة ، انتهى كلامه ، وهو غريب جدا ، وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضا ، والله أعلم.

وقد ذكروا في ذلك أيضا حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال : «أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» (١) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع ، كره جماعة من العلماء الكلام فيها ، روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٣١ ، وأبو داود في السنة باب ١٧ ، والنسائي في الجنائز باب ٥٨ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤١ ، ٢٠٨.

٥٦

محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد ابن الحنفية وغيرهم ، وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم : سمعت أبا رجاء العطاردي ، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا ما لم يتكلموا في الوالدان والقدر» قال ابن حبان : يعني أطفال المشركين ، وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم ، ثم قال : وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس موقوفا.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦)

اختلف القراء في قراءة قوله (أَمَرْنا) فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف المفسرون في معناها ، فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا ، كقوله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤] فإن الله لا يأمر بالفحشاء ، قالوا : معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش ، فاستحقوا العذاب ، وقيل : معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش ، فاستحقوا العقوبة ، رواه ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضا. وقال ابن جرير (١) : يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، قلت إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) ، قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب ، وهو قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] الآية ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس.

وقال العوفي عن ابن عباس (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول ، أكثرنا عددهم (٢) ، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك ، عن الزهري (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا ، وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) ، حيث قال : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل ، عن إياس بن زهير ، عن سويد بن هبيرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خير مال امرئ له مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة» قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه‌الله في كتابه الغريب : «المأمورة كثيرة النسل ، والسكة الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة من التأبير» وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبا كقوله «مأزورات غير مأجورات».

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

يقول تعالى منذرا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنه قد أهلك من المكذبين

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٥١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٥٢.

(٣) المسند ٥ / ١٧٠.

٥٧

للرسل من بعد نوح ، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي هو عالم جميع أعمالهم : خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩)

يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل عليه ، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء ، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات ، فإنه قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي في الدار الآخرة (يَصْلاها) أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه (مَذْمُوماً) أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه ، إذ اختار الفاني على الباقي (مَدْحُوراً) مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا.

روى الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين ، حدثنا رويد عن أبي إسحاق ، عن زرعة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له». وقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) أي أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي قلبه مؤمن ، أي مصدق بالثواب والجزاء (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)

يقول تعالى : (كُلًّا) أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نمدهم فيما فيه (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجوز ، فيعطي كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة ، فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد ، ولهذا قال (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي لا يمنعه أحد ، ولا يرده راد. قال قتادة (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي منقوصا (٢) ، وقال الحسن وغيره : أي ممنوعا.

ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي في الدنيا ، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيرا ، ومن يعمر حتى يبقى شيخا

__________________

(١) المسند ٦ / ٧١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٥٦.

٥٨

كبيرا ، وبين ذلك (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العليا ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاتون في ما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» (١) ولهذا قال تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعا «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع ، إلا وضعه الله في الآخرة أكبر منها» ثم قرأ (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢)

يقول تعالى ، والمراد المكلفون من الأمة : لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً) أي على إشراكك به (مَخْذُولاً) لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه ، وهو لا يملك لك ضرا ولا نفعا ، لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له ، وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلا وإما غنى عاجلا» (٣) رواه أبو داود والترمذي من حديث بشير بن سلمان به ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤)

يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ، فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر ، قال مجاهد (وَقَضى) يعني وصى ، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين ، فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأمر بالوالدين إحسانا ، كقوله في الآية الأخرى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤].

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، والرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الجنة حديث ١١.

(٢) المسند ١ / ٤٠٧.

(٣) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٨ ، والترمذي في الزهد باب ١٨.

٥٩

وقوله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ (وَلا تَنْهَرْهُما) أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء بن رباح في قوله (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تنفض يدك عليهما (١) ، ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول والفعل الحسن ، فقال : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم ، (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي تواضع لهما بفعلك (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي في كبرهما وعند وفاتهما ، قال ابن عباس : ثم أنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية (٢).

وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صعد المنبر قال : «آمين آمين آمين» قيل يا رسول الله علام أمنت؟ قال : «أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك ، قل : آمين ، فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له ، قل : آمين ، فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين ، فقلت آمين»(٣).

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا هشيم ، حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث ، عن رجل منهم أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه ، وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ مسلما ، كان فكاكه من النار يجزي بكل عضو منه عضوا منه» ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد فذكر معناه ، إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك ، وزاد «ومن أدرك والديه أو أحدهما ، فدخل النار فأبعده الله».

[حديث آخر] وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان عن حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أبي أوفى عن مالك بن عمرو القشيري ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عزوجل ، ومن ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة».

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٦٣.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١٠٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٤ ، ٣٤٦.

(٤) المسند ٤ / ٣٤٤ ، ٥ / ٢٩.

(٥) المسند ٤ / ٣٤٤.

٦٠