تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فعرفت أنه سيكون قتال.

وقال الإمام أحمد (١) عن إسحاق بن يوسف الأزرق به ، وزاد : قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال (٢). ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف ، زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي : حديث حسن ، وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس.

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته ، كما قال : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٦] وقال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ١٤ ـ ١٥] وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٦] وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] وقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] والآيات في هذا كثيرة.

ولهذا قال ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وقد فعل ، وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به ، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم ، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانوا نيفا وثمانين ، قالوا : يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي ، يعنون أهل منى ، ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لم أومر بهذا» فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله ، وشردوا أصحابه شذر مذر ، فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة ، فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجتمعوا عليه ، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه ، شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك ، فقال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ).

قال العوفي عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني محمدا وأصحابه

__________________

(١) المسند ١ / ٢١٦.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢٢ ، باب ٤ ، ٥ ، والنسائي في الجهاد باب ١.

٣٨١

(إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له ، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ١٥] ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون : [رجز]

اللهم لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا (١)

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

فيوافقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا :

إذا أرادوا فتنة أبينا

يقول : أبينا يمد بها صوته ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي لو لا أنه يدفع بقوم عن قوم ، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة : هي معابد الصابئين ، وفي رواية عنه : صوامع المجوس ، وقال مقاتل بن حيان : هي البيوت التي على الطرق (وَبِيَعٌ) وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها ، وهي للنصارى أيضا ، قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود ، وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم.

وقوله : (وَصَلَواتٌ) قال العوفي عن ابن عباس : الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة : إنها كنائس اليهود ، وهم يسمونها صلوتا (٢). وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية وغيره : الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق ، وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) فقد قيل : الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا. وقال

__________________

(١) الرجز لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص ١٠٨ ، ولعامر بن الأكوع في المقاصد النحوية ٤ / ٤٥١ ، وله أو لعبد الله في الدرر ٤ / ٢٣٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٨٧ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ١٦٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٥٩٣ ، وشرح المفصل ٣ / ١١٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٦٥.

٣٨٢

ابن جرير (١) : الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ، لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء : هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح.

وقوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٧ ـ ٨]. وقوله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وصف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه ، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١].

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا : ربنا الله ثم مكنا في الأرض ، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) الآية ، ثم قال : ألا إنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم ، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ، ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥] وقوله : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣]. وقال زيد بن أسلم (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) وعند الله ثواب ما صنعوا.

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٦٦.

٣٨٣

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ(٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦)

يقول تعالى مسليا لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من خالفه من قومه : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ـ إلى أن قال ـ وَكُذِّبَ مُوسى) أي مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أنظرتهم وأخرتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : أنا ربكم الأعلى ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١) ثم قال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كم من قرية أهلكتها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي مكذبة لرسلها (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) قال الضحاك : سقوفها ، أي قد خربت وتعطلت حواضرها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي لا يستقي منها ، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال عكرمة يعني المبيض بالجص ، وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون : هو المنيف المرتفع. وقال آخرون : المشيد المنيع الحصين ، وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها ، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [هود : ١٠٢].

وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي بأبدانهم وبفكرهم أيضا ، وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر ، حدثنا مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه‌السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا ، ثم سح في الأرض ، ثم اطلب الآثار والعبر ، حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء : أحي قلبك بالمواعظ ، ونوره بالتفكر ، وموته بالزهد ، وقوّه باليقين ، وذلله بالموت ، وقرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره ما أصاب من

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٢.

٣٨٤

كان قبله ، وسيره في ديارهم وآثارهم ، وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا ، أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال.

(فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي فيعتبرون بها (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصرة ، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر ، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى ، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني ، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :

يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد

نادى به الناعيان الشيب والكبر

إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى

في رأسك الواعيان السمع والبصر

ليس الأصمّ ولا الأعمى سوى رجل

لم يهده الهاديان العين والأثر

لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك

الأعلى ولا النيّران الشمس والقمر

ليرحلن عن الدنيا وإن كرها

فراقها الثاويان البدو والحضر

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨)

يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦]. وقوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي الذي قد وعد من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه. قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [الطويل]

ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي

ولا أنثنى عن سطوة المتهدّد (١)

فإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي هو تعالى لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه ، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه

__________________

(١) البيتان لعامر بن الطفيل في ديوانه ص ٥٨ ، ولسان العرب (ختأ) ، (وعد) ، (ختا) ، وتاج العروس (ختأ) ، وبلا نسبة في إنباه الرواة ٤ / ١٣٩ ، ومراتب النحويين ص ٣٨ ، وتاج العروس (وحد)

٣٨٥

لا يفوته شيء وإن أجل وأنظر وأملى ، ولهذا قال بعد هذا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام» (١) ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير (٢) عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم ، قلت : وما مقدار نصف يوم؟ قال أوما تقرأ القرآن؟ قلت ، بلى ، قال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

وقال أبو داود (٣) في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد : وما نصف يوم؟ قال : خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن المهدي ، وبه قال مجاهد وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية ، وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارم محمد بن الفضل ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين ، عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال : إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وجعل أجل الدنيا ستة أيام ، وجعل الساعة في اليوم السابع (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). فقد مضف الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ففي أية لحظة ولدت كان تماما (٤).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٣٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٦.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ١٧١.

(٣) كتاب الملاحم باب ١٨ ، وأخرجه أحمد في المسند ١ / ١٧٠.

(٤) انظر الدر المنثور ٤ / ٦٥٩.

٣٨٦

وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم ، بين يدي عذاب شديد ، وليس إلي من حسابكم من شيء ، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة ، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤١] و (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي : إذا سمعت الله تعالى يقول : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فهو الجنة.

وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) قال مجاهد : يثبطون الناس عن متابعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين. وقال ابن عباس : معاجزين مراغمين (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) وهي النار الحارة الموجعة ، الشديد عذابها ونكالها ، أجارنا الله منها. قال الله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨].

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤)

قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق (١) ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة النجم ، فلما بلغ هذا الموضع (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] قال : فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى ، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى

__________________

(١) الغرانيق : في الأصل الذكور في طيور الماء ، واحدها : غرنوق ، سمي الطائر به لبياضه ، وكان العرب يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم ، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.

٣٨٧

أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

رواه ابن جرير (١) عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه ، وهو مرسل ، وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) وذكر بقيته ، ثم قال البزار : لا نعلمه يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور ، وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلا ، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلا أيضا.

وقال قتادة : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عند المقام إذ نعس ، فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى ، وإنها لمع الغرانيق العلى ، فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قرأها : فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية ، فدحر الله الشيطان.

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم ، فكان يتمنى هداهم ، فلما أنزل الله سورة النجم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت ، فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى ، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر النجم سجد ، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.

غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع على كفه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين ، فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٧٤ ، ١٧٥.

٣٨٨

الناس ، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه ، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية ، وقال الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم ، وهذا أيضا مرسل.

وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه ، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة ، فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه ، قال : وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.

(قلت) وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ، والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه‌الله في كتاب الشفاء لهذا ، وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها. وقوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ، أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.

قال البخاري (١) : قال ابن عباس (فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد (إِذا تَمَنَّى) يعني إذا قال ، ويقال (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته (إِلَّا أَمانِيَ) يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : (تَمَنَّى) أي تلا وقرأ كتاب الله و (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل : [الطويل]

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر (٢)

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، في الترجمة.

(٢) البيت لحسان بن ثابت في تفسير البحر المحيط ٦ / ٣٨٢ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب ـ

٣٨٩

وقال الضحاك : (إِذا تَمَنَّى) إذا تلا. قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام. وقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية (حَكِيمٌ) أي في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ، ولهذا قال : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله ، وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج : (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون ، (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم المشركون.

وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد ، أي من الحق والصواب ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه ، وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

وقوله : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يصدقوه وينقادوا له ، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تخضع وتذل له قلوبهم ، (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية ، أي في شك من هذا القرآن ، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير (١). وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه ، أي مما ألقى الشيطان (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) قال مجاهد : فجأة ، وقال قتادة (بَغْتَةً) بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.

__________________

ـ (من) ، ومقاييس اللغة ٥ / ٢٢٧ ، وكتاب العين ٨ / ٣٩٠ ، وتاج العروس (من).

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٨٠.

٣٩٠

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قال مجاهد : قال أبي بن كعب : هو يوم بدر ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما : هو يوم القيامة ، لا ليل له ، وكذا قال الضحاك والحسن البصري ، وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد ، ولهذا قال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) كقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].

وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦] (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا ، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به ، وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦] أي صاغرين.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

يخبر تعالى عمن خرج مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلبا لما عنده ، وترك الأوطان والأهلين والخلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ، ونصرة لدين الله ثم قتلوا ، أي في الجهاد ، أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠]. وقوله : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) أي الجنة كما قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٨٩] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم ، كما قال هاهنا : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ثم قال (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك (حَلِيمٌ) أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ، ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه.

فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩]

٣٩١

والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم ، وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح ، حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن ابن الحارث ـ يعني عبد الكريم ـ عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال : قال حدثنا شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتانين ، واقرءوا إن شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ).

وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زيد بن بشر ، أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمر بجنازتين إحداهما قتيل ، والأخرى متوفى ، فمال الناس على القتيل ، فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا : هذا القتيل في سبيل الله ، فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؟ اسمعوا كتاب الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) حتى بلغ آخر الآية.

وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن لهيعة ، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق ، والآخر توفي ، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) الآيتين. فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ، ورزقت رزقا حسنا ، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.

ورواه ابن جرير (١) عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل والآخر متوفى ، فذكر نحو ما تقدم. وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) الآية ، ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم ، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبى المشركون إلا قتالهم ، وبغوا عليهم ، فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٨٢.

٣٩٢

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢)

يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، كما قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٢٧] ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع بأقوال عباده. بصير بهم ، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، ولما بين أنه المتصرف في الوجود ، الحاكم الذي لا معقب لحكمه قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء فقير إليه ، ذليل لديه (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي من الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل ، لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) كما قال (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] وقال : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه ، تعالى وتقدس وتنزه عزوجل عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (٦٦)

وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥]. وقوله : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) [المؤمنون : ١٤] الآية ، وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوما (١) ، ومع هذا هو معقب

__________________

(١) انظر الحديث بلفظه مع تخريجه عند تفسير الآية الخامسة من سورة الحج.

٣٩٣

بالفاء ، وهكذا هاهنا قال (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي خضراء بعد يباسها ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر ، ولا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به ، كما قال لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] وقال : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النمل : ٢٥] وقال تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وقال : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته : [الطويل]

وقولا له من ينبت الحب في الثرى؟

فيصبح منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رؤوسه

ففي ذاك آيات لمن كان واعيا

وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ملكه جميع الأشياء ، وهو غني عما سواه وكل شيء فقير إليه عبد لديه ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي من حيوان وجماد وزروع وثمار ، كما قال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] أي من إحسانه وفضله وامتنانه (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره وتسييره ، أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر ، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء ، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها ، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ولهذا قال : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي مع ظلمهم ، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦].

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨]. وقوله : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية: ٢٦]. وقوله : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ومعنى الكلام : كيف تجعلون لله أندادا وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر ، فأوجدكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي يوم القيامة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي جحود.

٣٩٤

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩)

يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا ، قال ابن جرير (١) : يعني لكل أمة نبي منسكا ، قال: وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر ، قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها ، فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكا ، فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي هؤلاء المشركين ، وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا كما قال : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] ولهذا قال هاهنا : (هُمْ ناسِكُوهُ) أي فاعلوه ، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ، ولهذا قال : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود ، وهذا كقوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) [القصص : ٨٧].

وقوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ). كقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١]. وقوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد ، كقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأحقاف : ٨] ولهذا قال : (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهذه كقوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) [الشورى : ١٥]. الآية.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧٠)

يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٨٥.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٦. ولفظه : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض».

٣٩٥

وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن بكير ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى : اكتب ، فقال القلم : وما أكتب؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة ، فذلك قوله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها ، وقدرها وكتبها أيضا ، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علما ، وهو سهل عليه يسير لديه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، يعني حجة وبرهانا ، كقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧] ولهذا قال هاهنا : (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) و (ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه ، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة ، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم.

ولهذا توعدهم تعالى بقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال ، ثم قال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن رسله الكرام حق وصدق (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء (قُلْ) أي يا محمد لهؤلاء (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي النار وعذابها

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في القدر باب ١٧ ، وتفسير سورة ٦٨ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣١٧.

٣٩٦

ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار مقيلا ومنزلا ومرجعا وموئلا ومقاما (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)

يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي أنصتوا وتفهموا (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.

كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة مرفوعا قال : «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة». وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة» (٢).

ثم قال تعالى أيضا : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك ، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ، ولهذا قال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس : الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق.

وقال السدي وغيره : الطالب العابد ، والمطلوب الصنم ، ثم قال : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج : ١٢ ـ ١٣] (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨]. وقوله : (عَزِيزٌ) أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه ، وهو الواحد القهار.

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٩١.

(٢) أخرجه البخاري في اللباس باب ٩٠ ، والتوحيد باب ٥٦ ، ومسلم في اللباس حديث ١٠١.

٣٩٧

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٧٦)

يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع لأقوال عباده ، بصير بهم ، عليم بمن يستحق ذلك منهم ، كما قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به ، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ـ إلى قوله ـ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] فهو سبحانه رقيب عليهم ، شهيد على ما يقال لهم ، حافظ لهم ، ناصر لجنابهم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨)

اختلف الأئمة رحمهم‌الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج : هل هي مشروع السجود فيها ، أم لا؟ على قولين ، وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» (١). وقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢].

وقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعا ، وفي السفر تقصر إلى اثنتين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتصلى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط لعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ، ولهذا قال عليه‌السلام : «بعثت

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجمعة باب ٥٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٥١ ، ١٥٢.

٣٩٨

بالحنيفية السمحة» (١) وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن «بشّرا ولا تنفّرا ويسّرا ولا تعسرا» (٢) ، والأحاديث في هذا كثيرة ، ولهذا قال ابن عباس في قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يعني من ضيق.

وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قال ابن جرير (٣) : نصب على تقدير (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم ، قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. (قلت) وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام : ١٦١] الآية ، وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) قال : الله عزوجل ، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يعني إبراهيم ، وذلك قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ، لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، (وَفِي هذا) يعني القرآن ، وكذا قال غيره.

(قلت) وهذا هو الصواب ، لأنه تعالى قال : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا القرآن (وَفِي هذا) روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره ، قال : أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم» قال رجل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن صام وصلى؟ قال «نعم وإن صام وصلى» فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله ، وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٣٣.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٦٤ ، والمغازي باب ٦٠ ، والأدب باب ٨٠ ، والأحكام باب ٢٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٧١ ، وأبو داود في الأدب باب ١٧ ، والدارمي في المقدمة باب ٢٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣١ ، ٢٠٩ ، ٤ / ٣٩٩ ، ٤١٢ ، ٤١٧.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ١٩٣.

٣٩٩

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] من سورة البقرة ، ولهذا قال (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها ، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك ، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.

وقوله (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) [الحج : ٧٨] أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى : ابن آدم اذكرني إذا غضبت ، أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم ، والله اعلم.

آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.

٤٠٠