تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

قال : وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال : ينزلون حيث شاؤوا ، وروى الدار قطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا «من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا» وتوسط الإمام أحمد فقال : تملك وتورث ولا تؤجر جمعا بين الأدلة ، والله أعلم. وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي تنبت الدهن ، وكذا قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) تقديره إلحادا ، وكما قال الأعشى : [الكامل]

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

بين المراجل والصريح الأجرد (١)

وقال الآخر : [الطويل]

بواد يمان ينبت الشّثّ صدره

وأسفله بالمرخ والشّبهان (٢)

والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى يهم ، ولهذا عداه بالباء فقال : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار : وقوله : (بِظُلْمٍ) أي عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو التعمد.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : بظلم بشرك ، وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله ، وكذا قال قتادة وغير واحد. وقال العوفي عن ابن عباس : بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم ، وقال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملا سيئا ، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره ، حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين ، لأذاقه الله من العذاب الأليم ، قال شعبة : هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به.

قلت : هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ، ولهذا صمم شعبة

__________________

(١) يروى البيت :

ضمنت لنا أعجازه أرماحنا

ملء المراجل والصريح الأجردا

وهو للأعشى في ديوانه ص ٣٤ ، ولسان العرب (جرد) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٦٤٠ ، وتاج العروس (جرد) ، وتفسير الطبري برواية ابن كثير ٩ / ١٣٠.

(٢) البيت للأحول اليشكري في لسان العرب (شبه) وبلا نسبة في لسان العرب (شئث) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٩٣ ، وتاج العروس (شئث) ، وجمهرة اللغة ص ٨٣ ، ١٢٣٦ ، وكتاب العين ٣ / ٤٠٤ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٩٦ ، وديوان الأدب ٢ / ٢١ ، وتفسير الطبري ٩ / ١٣٠.

٣٦١

على وقفه من كلام ابن مسعود ، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم.

وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعدن أبين همّ أن يقتل رجلا بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم ، وكذا قال الضحاك بن مزاحم ، وقال سفيان الثوري عن منصور ، عن مجاهد : إلحاد فيه لا والله وبلى والله ، وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو مثله ، وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه ، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : تجارة الأمير فيه. وعن ابن عمر : بيع الطعام بمكة إلحاد.

وقال حبيب بن أبي ثابت : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : المحتكر بمكة ، وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «احتكار الطعام بمكة إلحاد» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله الله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه مع رجلين : أحدهما مهاجر ، والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد ، يعني بميل عن الإسلام.

وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ، (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٤ ـ ٥] ، أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ، ولذلك ثبت في الحديث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» (١) الحديث.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن كناسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال : يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه سيلحد فيه رجل من قريش ، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت»

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع باب ٤٩ ، ومسلم في الفتن حديث ٦ ـ ٨.

(٢) المسند ٢ / ١٣٦.

٣٦٢

فانظر لا تكن هو ، وقال (١) أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في الحرم ، فاني أشهد لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يحلها ويحل به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها» قال : فانظر لا تكن هو ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧)

هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت ، أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه ، واستدل به كثير ممن قال : إن إبراهيم عليه‌السلام هو أول من بنى البيت العتيق ، وأنه لم يبن قبله ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال «المسجد الحرام». قلت : ثم أي؟ قال : «بيت المقدس». قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» (٢).

وقد قال الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧] الآيتين ، وقال تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ٢١٥] وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقال تعالى هاهنا (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) أي ابنه على اسمي وحدي (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) قال قتادة ومجاهد : من الشرك (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ، فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها (وَالْقائِمِينَ) أي في الصلاة ، ولهذا قال : (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ، فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال ، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي ناد في الناس بالحج ، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال : يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي

__________________

(١) المسند ٢ / ٢١٩.

(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ١ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٥٠ ، ١٥٦ ، ١٥٧ ، ١٦٠.

٣٦٣

قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة ، لبيك اللهم لبيك ، وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف ، والله أعلم ، أوردها ابن جرير(١) وابن أبي حاتم مطولة.

وقوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الآية ، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ، لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، وقال وكيع عن أبي العميس ، عن أبي حلحلة ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس قال : ما أساء علي شيء إلا أن وددت أني كنت حججت ماشيا ، لأن الله يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً) والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ، اقتداء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه حج راكبا مع كمال قوته عليه‌السلام. وقوله : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍ) يعني طريق ، كما قال : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) [الأنبياء : ٣١] وقوله : (عَمِيقٍ) أي بعيد ، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد ، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩)

قال ابن عباس : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) قال : منافع الدنيا والآخرة ، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن ، والذبائح والتجارات ، وكذا قال مجاهد وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة كقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨]. وقوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، قال شعبة وهشيم عن أبي بشر ، عن سعيد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات أيام العشر ، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به. وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي ، وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل.

وقال البخاري : حدثنا محمد بن عرعرة ، حدثنا شعبة عن سليمان ، عن مسلم البطين ، عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٣٤ ، ١٣٥.

٣٦٤

سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه» قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» (١) ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه. وقال الترمذي : حديث حسن ، غريب ، صحيح ، وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر.

قلت : وقد تقصيت هذه الطرق ، وأفردت لها جزءا على حدته ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه. وقال البخاري (٣) : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.

وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا أن هذا هو العشر الذي أقسم به في قوله : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر : ١ ـ ٢]. وقال بعض السلف : أنه المراد بقوله : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢] وفي سنن أبي داود (٤) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصوم هذا العشر ، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم (٥) عن أبي قتادة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية ، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة (٦) ، فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة ، كما نطق به الحديث ، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير ، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل ، وليالي ذاك أفضل ، وبهذا يجتمع شمل الأدلة ، والله أعلم.

[قول ثان] في الأيام المعلومات. قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس : الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي ، وإليه ذهب أحمد بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في العيدين باب ١١ ، وأبو داود في الصوم باب ٦٠ ، والترمذي في الصوم باب ٥١ ، وابن ماجة في الصوم باب ٥٢.

(٢) المسند ٢ / ٧٥ ، ١٣١ ، ١٣٢.

(٣) كتاب العيدين باب ١١.

(٤) كتاب الصوم باب ٦٠.

(٥) كتاب الصيام حديث ١٩٦.

(٦) انظر أحمد في المسند ٤ / ٣٥٠.

٣٦٥

حنبل في رواية عنه.

[قول ثالث] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عجلان ، حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات : يوم النحر ، ويومان بعده ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، هذا إسناد صحيح إليه ، وقاله السدي ، وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني ذكر الله عند ذبحها.

[قول رابع] أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب : حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.

وقوله : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الأنعام : ١٤٣] الآية ، وقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي ، وهو قول غريب ، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها وحسا من مرقها (١). قال عبد الله بن وهب : قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته ، لأن الله يقول : (فَكُلُوا مِنْها) قال ابن وهب : وسألت الليث ، فقال لي مثل ذلك ، وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم (فَكُلُوا مِنْها) قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين ، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل ، وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك.

قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله : (فَكُلُوا مِنْها) قال : هي كقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) [الجمعة: ١٠] وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره ، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بالنصف بقوله في هذه الآية : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) فجزأها نصفين : نصف للمضحي ونصف للفقراء ، والقول الآخر أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به ، لقوله تعالى في الآية الأخرى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج : ٣٦] وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ١٤٧ ، وأبو داود في المناسك باب ٥٦ ، والترمذي في الحج باب ٦ ، وابن ماجة في المناسك باب ٨٤ ، والأضاحي باب ١٥ ، والدارمي في المناسك باب ٣٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٣٨.

٣٦٦

وقوله : (الْبائِسَ الْفَقِيرَ) قال عكرمة : هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس والفقير المتعفف ، وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده ، وقال قتادة : هو الزمن ، وقال مقاتل بن حيان : هو الضرير. وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك ، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه ، وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي. وقال عكرمة عن ابن عباس (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) قال : التفث المناسك.

وقوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني نحر ما نذر من أمر البدن. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال : الذبائح. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) كل نذر إلى أجل وقال عكرمة (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال : حجهم. وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم : حدثنا أبي. حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال : نذور الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به ، وروي عن مالك نحو هذا.

وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال مجاهد : يعني الطواف الواجب يوم النحر ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج يقول الله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق.

قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت ، وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف (١) إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.

وقوله : (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ، لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة ، ولهذا طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ، ولهذا قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان عن هشام بن حجر عن رجل عن ابن عباس

__________________

(١) أخرجه أبو داود في المناسك باب ٨٢ ، ومالك في الحج حديث ١٢٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٦ ، ٤١٧ ، ٦ / ٤٣١.

٣٦٧

قال : لما نزلت هذه الآية (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال : لأنه أول بيت وضع للناس ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح ، وقال خصيف : إنما سمي بالبيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط.

وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه ، وكذا قال قتادة. وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد : لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة.

وقال الترمذي (١) : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» وكذا رواه ابن جرير (٢) عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به ، وقال : إن كان صحيحا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلا.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١)

يقول تعالى : هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي ومن يجتنب معاصيه ، ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي فله على ذلك خير كثير ، وثواب جزيل ، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل ، كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات ، قال ابن جريج : قال مجاهد في قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) قال : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها ، وكذا قال ابن زيد.

وقوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحللنا لكم جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الآية ، قال ذلك ابن جرير ، وحكاه عن قتادة. وقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) من هاهنا لبيان

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، باب ٣.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ١٤٢.

٣٦٨

الجنس ، أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وقرن الشرك بالله بقول الزور ، كقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣] ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا : بلى يا رسول الله قال : «الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال ـ ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا ، فقال : «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله» ثلاثا ، ثم قرأ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وهكذا رواه الترمذي (٣) عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به ، ثم قال : غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد ، وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، فلما انصرف قام قائما فقال : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عزوجل» ثم تلا هذه الآية (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال : تعدل شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم قرأ هذه الآية.

وقوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ، ولهذا قال : (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي سقط منها (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أي تقطعه الطيور في الهواء (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي بعيد مهلك لمن هوى فيه ، ولهذا جاء في حديث البراء : إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحا من هناك ، ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام. وهو قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستتابة باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٣ ، ١٤٤.

(٢) المسند ٤ / ١٧٨ ، ٢٣٣.

(٣) كتاب الشهادات باب ٣.

(٤) المسند ٤ / ٣٢١.

٣٦٩

اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [الأنعام : ٧١] الآية.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣)

يقول تعالى هذا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي أوامره (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس : تعظيمها استسمانها واستحسانها (١). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يسمنون ، رواه البخاري (٢) ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين» رواه أحمد (٣) وابن ماجة ، قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضا ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضا لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين (٤) ، وعن أبي سعيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحى بكبش أقرن فحيل ، يأكل في سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد (٥) ، رواه أهل السنن وصححه الترمذي ـ أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن.

وفي سنن ابن ماجة عن أبي رافع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين (٦) ، وكذا روى أبو داود وابن ماجة عن جابر : ضحى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين (٧). قيل : هما الخصيان ، وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما ، والله أعلم.

وعن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء (٨) ، رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٤٦.

(٢) كتاب الأضاحي باب ٧.

(٣) المسند ٢ / ٤١٧.

(٤) أخرجه البخاري في الحج باب ١١٧ ، ١١٩ ، ومسلم في الأضاحي حديث ١٧ ، ١٨.

(٥) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٣ ، والترمذي في الأضاحي باب ٤ ، والنسائي في الضحايا باب ١٤ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٤.

(٦) أخرجه ابن ماجة في الأضاحي باب ٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨ ، ٣٩١.

(٧) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٤ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ١.

(٨) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٦ ، والترمذي في الأضاحي باب ٦ ، والنسائي في الضحايا باب ١٢ ، ـ

٣٧٠

الترمذي ولهم عنه ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن (١) ، وقال سعيد بن المسيب : العضب النصف فأكثر ، وقال بعض أهل اللغة : إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العضب فهو كسر الأسفل ، وعضب الأذن قطع بعضها. وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره. وقال أحمد : لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ وإلا أجزأ ، والله أعلم.

وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة من مؤخر أذنها ، والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولا ، قاله الشافعي ، وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقا مدورا ، والله أعلم.

وعن البراء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظلعها ، والكسيرة التي لا تنقي» (٢) رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه الترمذي ، وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو ظاهر الحديث.

واختلف قول الشافعي في المريضة مرضا يسيرا على قولين ، وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء (٣) ، فالمصفرة قيل الهزيلة ، وقيل المستأصلة الأذن ، والمستأصلة مكسورة القرن ، والبخقاء هي العوراء ، والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها ، والكسراء العرجاء ، فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء ، فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة.

وقد روى الإمام أحمد (٤) عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ضح به» ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نستشرف

__________________

ـ ١٤ ، ١٥ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٨.

(١) أخرجه الترمذي في الأضاحي باب ٩ ، وأبو داود في الأضاحي باب ٦ ، والنسائي في الضحايا باب ١٢ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٨٣ ، ١٠٩ ، ١٢٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٥ ، والنسائي في الضحايا باب ٥ ، ٦ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٨ ، والدارمي في الأضاحي باب ٣ ، ومالك في الضحايا حديث ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨٤ ، ٢٨٩ ، ٣٠١.

(٣) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٥.

(٤) المسند ٢ / ٣٢.

٣٧١

العين والأذن (١) ، أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال : لا «أنحرها إياها» (٢) وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله. وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله. وقال ابن عمر : أعظم الشعائر البيت.

وقوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى. قال مقسم عن ابن عباس في قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال : ما لم تسم بدنا. وقال مجاهد في قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب ذلك كله ، وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال «اركبها» قال : إنها بدنة. قال «اركبها ويحك» (٣) في الثانية أو الثالثة. وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» (٤) وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن حذف عن علي أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها.

وقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ، كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٨٥] وقال : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريبا ، ولله الحمد. وقال ابن جريج عن عطاء قال : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت فقد حل ، قال الله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٦ ، والترمذي في الأضاحي باب ٦ ، ٩ ، والنسائي في الضحايا باب ٨ ، ٩ ، ١١ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٥ ، ١٠٥ ، ١٠٨ ، ١٢٥ ، ١٢٨ ، ١٣٢ ، ١٤٩ ، ١٥٢.

(٢) أخرجه أبو داود في المناسك باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٤٥.

(٣) أخرجه البخاري في الحج باب ١١٢ ، ومسلم في الحج حديث ٣٧١.

(٤) أخرجه مسلم في الحج حديث ٣٧٣.

٣٧٢

الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥)

يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال : عيدا. وقال عكرمة : ذبحا. وقال زيد بن أسلم في قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) إنها مكة ، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.

وقوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما (١). وقال الإمام أحمد بن حنبل (٢) : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود ـ وهو نفيع بن الحارث ـ عن زيد بن أرقم قال : قلت أو قالوا : يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال : «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا : ما لنا منها؟ قال : «بكل شعرة حسنة قال فالصوف؟ قال «بكل شعرة من الصوف حسنة» (٣) وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه من حديث سلام بن مسكين به.

وقوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضا ، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ولهذا قال : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال مجاهد : المطمئنين. وقال الضحاك وقتادة : المتواضعين. وقال السدي : الوجلين. وقال عمرو بن أوس : المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا (٤). وقال الثوري (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال : المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له ، وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت منه قلوبهم (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) أي من المصائب.

قال الحسن البصري : والله لنصبرن أو لنهلكن (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضا وقرأ ابن السميقع (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) بالنصب وعن الحسن البصري (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا ، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف ، فنصبت ، أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأضاحي باب ٩ ، ١٣ ، ١٤ ، ومسلم في الأضاحي حديث ١٧ ، ١٨.

(٢) المسند ٤ / ٣٦٨.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الأضاحي باب ٣ ، والترمذي في الأضاحي باب ١.

(٤) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٥١.

٣٧٣

وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله ، وهذه بخلاف صفات المنافقين ، فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة (١).

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦)

يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى إليه ، كما قال تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] الآية ، قال ابن جريج ، قال عطاء في قوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) قال البقرة والبعير ، وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري ، وقال مجاهد : وإنما البدن من الإبل.

(قلت) أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح الحديث ، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة (٢). وقال إسحاق بن راهويه وغيره : بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة ، وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما ، فالله أعلم.

وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي ثواب في الدار الآخرة ، وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إهراق دم ، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا» (٣) رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه ، وقال سفيان الثوري : كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن ، فقيل له : تستدين وتسوق البدن؟ فقال : إني سمعت الله يقول لكم : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ). وعن ابن عباس : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه الدار قطني في سننه. وقال مجاهد : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قال : أجر ومنافع ، وقال إبراهيم النخعي : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.

وقوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن

__________________

(١) انظر تفسير الآيات ٦٧ ، ٧٥ ـ ٧٩ من سورة براءة.

(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٣٥٠ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣. والنسائي في الضحايا باب ١٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٧٥.

(٣) أخرجه الترمذي في الأضاحي باب ١ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٣.

٣٧٤

جابر بن عبد الله قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيد الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : «باسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» (١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال : ضحّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما : «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، اللهم منك ولك عن محمد وأمته» ثم سمى الله وكبّر وذبح (٢).

وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلّى وخطب الناس ، أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه ، فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : «اللهم هذا عن أمتي جميعها : من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم يقول «هذا عن محمد وآل محمد» فيطعمهما جميعا للمساكين ويأكل هو وأهله منهما (٣) ، رواه أحمد وابن ماجة.

وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) قال : قياما على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرى ، يقول : باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله ، اللهم منك ولك ، وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث ، وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه. وقال الضحاك : تعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث.

وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة ، سنة أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، وعن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها ، رواه أبو داود (٥). وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك : قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر.

وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه : فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ثلاثا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٣ ، والترمذي في الأضاحي باب ٢٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٥٦ ، ٣٦٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الأضاحي باب ٤.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الأضاحي باب ١ ، ٩ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨ ، ٣٩١ ، ٣٩٢.

(٤) أخرجه البخاري في الحج باب ١١٨ ، ومسلم في الحج حديث ٢٧٩ ، ٢٨١.

(٥) كتاب المناسك باب ٢٠.

٣٧٥

وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده (١).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود صوافن أي معقلة قياما. وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال : معقولة ، ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها ، وقال طاوس والحسن وغيرهما فاذكروا اسم الله عليها صوافي يعني خالصة لله عزوجل ، وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد : صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.

وقوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني سقطت إلى الأرض ، وهو رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس : فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فإذ وجبت جنوبها ، يعني ماتت ، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع «لا تعجلوا النفوس أن تزهق» وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي ، عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك ، ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته» (٢) وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» (٣) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.

وقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) قال بعض السلف : قوله : (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة. وقال مالك : يستحب ذلك ، وقال غيره : يجب ، وهو وجه لبعض الشافعية.

واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي عن ابن عباس : القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل ، وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : القانع المتعفف ، والمعتر السائل ، وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه. وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس : القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك ، والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك ، وهذا لفظ الحسن. وقال سعيد بن جبير : القانع هو السائل ، قال : أما سمعت قول الشماخ : [الوافر]

__________________

(١) لم أجد الحديث بهذا اللفظ في صحيح مسلم.

(٢) أخرجه مسلم في الصيد حديث ٥٧.

(٣) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٢٤ ، والترمذي في الصيد باب ١٢ ، وابن ماجة في الصيد باب ٨ ، والدارمي في الصيد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢١٨.

٣٧٦

لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع (١)

قال : يغني من السؤال ، وبه قال ابن زيد. وقال زيد بن أسلم : القانع المسكين الذي يطوف ، والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور ، وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضا. وعن مجاهد أيضا : القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك ، والمعتر الذي يعتريك من الناس ، وعنه : أن القانع هو الطامع ، والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير ، وعن عكرمة نحوه ، وعنه : القانع أهل مكة ، واختار ابن جرير أن القانع هو السائل ، لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم. وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء : فثلث لصاحبها يأكله ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على الفقراء ، لأنه تعالى قال : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للناس : «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا لكم». وفي رواية «فكلوا وادخروا وتصدقوا». وفي رواية «فكلوا وأطعموا وتصدقوا» (٢). والقول الثاني : أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله في الآية المتقدمة : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٨] ولقوله في الحديث : فكلوا وادخروا وتصدقوا» فإن أكل الكل ، فقيل : لا يضمن شيئا ، وبه قال ابن سريج من الشافعية. وقال بعضهم : يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها. وقيل أدنى جزء منها ، وهو المشهور من مذهب الشافعي. وأما الجلود ففي مسند أحمد (٣) عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي «فكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها» ومن العلماء من رخص في بيعها ، ومنهم من قال : يقاسم الفقراء ثمنها ، والله أعلم.

[مسألة] عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن

__________________

(١) البيت للشماخ في ديوانه ص ٢٢١ ، ولسان العرب (ضيع) ، (قنع) ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٥٩ ، ٣ / ٧١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٢ ، وكتاب العين ١ / ١٧٠ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٣٣ ، وكتاب الجيم ٣ / ٧٨ ، وأساس البلاغة (فقر) ، وحماسة البحتري ص ٢١٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (فقر) ، (ضيع) ، والمخصص ١٢ / ٢٨٧ ، وتاج العروس (فقر) ، (ضيع) ، (كنع) ، (حفف)

(٢) أخرجه البخاري في الأضاحي باب ١٦ ، ومسلم في الأضاحي حديث ٣٧ ، وأبو داود في الأضاحي باب ١ ، والترمذي في الأضاحي باب ١٤ ، والنسائي في الضحايا باب ٣٦ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ١٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٣ ، ٤٨ ، ٥٧ ، ٦٣ ، ٦٦ ، ٨٥ ، ٣٨٨ ، ٥ / ٧٥ ، ٧٦ ، ٣٥٥ ، ٣٥٦ ، ٦ / ٥١.

(٣) المسند ٤ / ١٥.

٣٧٧

نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس هو من النسك في شيء» (١) أخرجاه ، فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين ، زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم : وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام. وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام ، والله أعلم.

ثم قيل : لا يشرع بالذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم ، وأما اهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع ، وقيل : ويومان بعده ، وبه قال الإمام أحمد. وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيام التشريق كلها ذبح» رواه أحمد (٢) وابن حبان.

وقيل : إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وهو قول غريب. وقوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول تعالى من أجل هذا (سَخَّرْناها لَكُمْ) أي ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم خاضعة ، إن شئتم ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ـ إلى قوله ـ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٣] وقال في هذه الآية الكريمة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ، ونضحوا عليها من دمائها ، فقال تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فنحن أحق أن ننضح ، فأنزل الله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يتقبل ذلك ويجزي عليه ، كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في العيدين باب ٨ ، ١٠ ، ومسلم في الأضاحي حديث ٧.

(٢) المسند ٤ / ٨٢.

٣٧٨

قلوبكم وأعمالكم» (١). وجاء في الحديث «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض» كما تقدم في الحديث ، رواه ابن ماجة والترمذي ، وحسنه عن عائشة مرفوعا ، فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا ، والله أعلم.

وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرا الشعبي عن جلود الأضاحي ، فقال : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) إن شئت فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق. وقوله : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) أي من أجل ذلك سخر لكم البدن (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عزوجل.

[مسألة] وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضا ، واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله كلهم ثقات ، عن أبي هريرة مرفوعا : «من وجد سعة فلم يضح ، فلا يقربن مصلانا» (٢) على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل ، وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين يضحي ، رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد : لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث : «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته ، فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو سريحة : كنت جارا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما ، وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت ، سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار.

وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن مخنف بن سليم أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بعرفات : «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرجبية» (٣) وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون حتى تباهي الناس ، فصار كما ترى ، رواه الترمذي وصححه وابن ماجة ، وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله ، رواه البخاري.

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٣٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٥ ، ٥٣٩.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الأضاحي باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٢١.

(٣) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٦ ، والترمذي في الأضاحي باب ١٨ ، وابن ماجة في الأضاحي باب ٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢١٥ ، ٥ / ٧٦.

٣٧٩

وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تذبحوا إلا مسنة ، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» (١) ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ ، وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس ، وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزئ الثني من الإبل والبقر والمعز ، أو الجذع من الضأن ، فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة ، ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة ، وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة ، ومن المعز ما له سنتان ، وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة ، وقيل عشرة أشهر ، وقيل ثمانية ، وقيل ستة أشهر ، وهو أقل ما قيل في سنه ، وما دونه فهو حمل ، والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم. والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدعين والله أعلم.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (٣٨)

يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] وقال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال ، والكفر الجحد للنعم ، فلا يعترف بها.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠)

قال العوفي عن ابن عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة (٢). وقال مجاهد والضحاك ، وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم : هذه أول آية نزلت في الجهاد ، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير (٣) : حدثني يحيى بن داود الواسطي ، حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس : فأنزل الله عزوجل (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال

__________________

(١) أخرجه مسلم في الأضاحي حديث ١٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٦١.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ١٦١.

٣٨٠