تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

سورة الحج

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها ، وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة ، أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ كما قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ١٤ ـ ١٥] الآية ، وقال تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة : ٥٤ ـ ٥٦] الآية ، فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال : قبل الساعة ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره ، قال : وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.

وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قال أبو هريرة : يا رسول الله وما الصور؟ قال : قرن. قال : فكيف هو؟ قال : «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول : انفخ نفخة

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٠٤.

٣٤١

الفزع ، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر ، وهي التي يقول الله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) فتسير الجبال فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها.

فتذهل المراضع وتضع الحوامل ، ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع ، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهي التي يقول الله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [غافر : ٣٢ ـ ٣٣] فبينما هم على ذلك إذا انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، ورأوا أمرا عظيما ، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وقمرها ، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل : ٨٧] قال «أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير (١) وابن أبي حاتم وغير واحد مطولا جدا ، والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك ، والله أعلم ، وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور ، واختار ذلك ابن جرير ، واحتجوا بأحاديث:

[الأول] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى عن هشام ، حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو في بعض أسفاره ، وقد تفاوت بين أصحابه السير(٣) رفع بهاتين الآيتين صوته. (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فلما سمع أصحابه بذلك حثوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٠٥.

(٢) المسند ٤ / ٤٣٥.

(٣) تفاوت بين أصحابه السير : أي بعدوا عن بعضهم.

٣٤٢

المطي (١) ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما دنوا حوله قال : «أتدرون أي يوم ذاك ، ذاك يوم ينادى آدم عليه‌السلام فيناديه ربه عزوجل ، فيقول : يا آدم ابعث بعثك إلى النار ، فيقول : يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» قال : فأبلس أصحابه (٢) حتى ما أوضحوا بضاحكة (٣) ، فلما رأى ذلك قال : «أبشروا واعملوا ، فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس».

قال : فسري عنهم (٤) ، ثم قال : «اعملوا وأبشروا ، فو الذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة (٥) في ذراع الدابة» (٦) وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان ، عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

[طريق آخر] لهذا الحديث. قال الترمذي (٧) : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) قال : نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر ، فقال : «أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال ـ ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار ، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة» فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قاربوا وسددوا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية ، قال : فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت ، وإلا كملت من المنافقين ، وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ : «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ : «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبروا ثم قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا.

وكذا رواه الإمام أحمد (٨) عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضا : هذا حديث حسن

__________________

(١) حثوا المطي : أي دفعوها لتسرع.

(٢) أبلس أصحابه : أي احتاروا وسكتوا.

(٣) ما أوضحوا بضاحكة : الضاحكة : الأسنان والأضراس الخلفية التي تبدو عند الضحك.

(٤) سري عنهم : أي كشف وأزيل عنهم وارتاحوا.

(٥) الرقمة ، بفتح الراء ، وسكون القاف : الدائرة الناتئة في ذراع الدابة من الداخل.

(٦) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢٢ ، باب ٢.

(٧) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، باب ١.

(٨) المسند ٤ / ٤٣٢.

٣٤٣

صحيح. وقد روي عن سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره ، وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان ، والله أعلم.

[الحديث الثاني] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن الطباع ، حدثنا أبو سفيان المعمري ، عن معمر عن قتادة عن أنس قال : نزلت (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وذكر ، يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال : ومن هلك من كفرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير(١) بطوله من حديث معمر.

[الحديث الثالث] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام ، حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال : تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فذكر نحوه ، وقال فيه «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» ففرحوا ، وزاد أيضا «وإنما أنتم جزء من ألف جزء».

[الحديث الرابع] قال البخاري (٢) عند تفسير هذه الآية : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك ربنا وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ شطر أهل الجنة» فكبرنا (٣) ، وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به.

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٠٧.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، باب ١.

(٣) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٥ ، ٤٦ ، والتوحيد باب ٣٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٧٩ ، والفتن حديث ١١٦.

٣٤٤

[الحديث الخامس] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعنى ، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثا من ذريتك إلى النار ، فيقول آدم : يا رب من هم؟ فيقال له : من كل مائة تسعة وتسعون» فقال رجل من القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله؟ قال : «هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير» انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.

[الحديث السادس] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة ، حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا» قالت عائشة : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ، قال «يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك» (٣) أخرجاه في الصحيحين.

[الحديث السابع] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، هل يذكر الحبيب حبيبه ، يوم القيامة؟ قال : «يا عائشة أما عند ثلاث فلا ، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا ، وأما عند تطاير الكتب إما يعطي بيمينه وإما يعطي بشماله فلا ، وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ، وكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد ـ قال ـ فينطوي عليهم. ويرميهم في غمرات جهنم ، ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف ، عليه كلاليب وحسك يأخذون من شاء الله ، والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : رب سلم ، سلم. فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، مكور في النار على وجهه».

والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا لها موضع آخر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) أي أمر عظيم ، وخطب جليل ، وطارق مفظع ، وحادث هائل ، وكائن عجيب ، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع ، كما قال تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١].

ثم قال تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها) هذا من باب ضمير الشأن ، ولهذا قال مفسرا له : (تَذْهَلُ كُلُ

__________________

(١) المسند ١ / ٣٨٨.

(٢) المسند ٦ / ٥٣.

(٣) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٥ ، ومسلم في الجنة حديث ٥٦.

(٤) المسند ٦ / ١١٠.

٣٤٥

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له ، ولهذا قال : (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) ولم يقل مرضع ، وقال : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي عن رضيعها قبل فطامه.

وقوله : (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي قبل تمامه لشدة الهول (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) وقرئ (سُكارى) أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سكارى (وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤)

يقول تعالى ذاما لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى ، معرضا عما أنزل الله على أنبيائه متبعا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن ، وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء ، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي علم صحيح (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ) قال مجاهد : يعني الشيطان (١) ، يعني كتب عليه كتابة قدرية (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي اتبعه وقلده (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي يضله في الدنيا ، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير ، وهو الحار المؤلم المقلق المزعج ، وقد قال السدي عن أبي مالك : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، وكذلك قال ابن جريج.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة ، حدثنا المعمر ، حدثنا أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو ، أو من فضة هو ، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٠٩.

٣٤٦

كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧)

لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك (مِنَ الْبَعْثِ) وهو المعاد ، وقيام الأرواح والأجساد ، يوم القيامة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي أصل برئه لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم عليه‌السلام (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم (جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ... (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوما كذلك يضاعف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث كذلك أربعين يوما ، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط ، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء ، فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي كما تشاهدونها (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق (١) ، فإذا مضى عليها أربعون يوما وهي مضغة ، أرسل الله تعالى ملكا إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عزوجل من حسن وقبح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو سعيد.

كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه وعمله وأجله ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح» (٢).

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير (٣) من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دما ، وإن قيل : مخلقة قال : أي رب ذكر أو أنثى ، شقي أو سعيد ، ما الأجل وما الأثر ، وبأي أرض يموت؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك؟ فتقول : الله ، فيقال من رازقك؟ فتقول الله ، فيقال له : اذهب إلى أم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ١.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ١١٠.

٣٤٧

الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوما أو خمس وأربعين ، فيقول : أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول الله ويكتبان ، فيقول : أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص» (١) ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه.

وقوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله ، ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ، ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ، ولهذا قال : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي يتكامل القوي ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي في حال شبابه وقواه ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر ، ولهذا قال : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم : ٥٤].

وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال : «المولود حتى يبلغ الحنث (٢) ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته ، وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين ، خفف الله حسابه ، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه ، فإذا

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ٧.

(٢) يبلغ الحنث : أي يبلغ مبلغ الرجال.

٣٤٨

بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه».

هذا حديث غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة ، ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل (١) في مسنده موقوفا ومرفوعا ، فقال : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري ، عن عمرو بن جعفر عن أنس قال : «إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ، أمنه الله من أنواع البلايا : من الجنون ، والبرص ، والجذام ، فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله» ثم قال : حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله.

رواه الإمام أحمد (٢) أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون ، والبرص ، والجذام» وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء ، رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون ، والجذام ، والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته».

وقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة ، وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة : غبراء متهشمة. وقال السدي : ميتة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي فإذا أنزل الله عليها المطر ، اهتزت أي تحركت بالنبات ، وحييت بعد موتها ، وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات

__________________

(١) المسند ٢ / ٨٩.

(٢) المسند ٣ / ٢١٧ ، ٢١٨.

٣٤٩

النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي حسن المنظر طيب الريح.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت : ٣٩] (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي كائنة لا شك فيها ولا مرية ، (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ويوجدهم بعد العدم ، كما قال تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [يس : ٧٨ ـ ٨٠] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة قال : أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال : يا رسول الله أكلنا يرى ربه عزوجل يوم القيامة ، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أليس كلكم ينظر إلى القمر مخليا به؟» قلنا : بلى ، قال : «فالله أعظم» قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه؟ قال : «أما مررت بوادي أهلك محلا؟» (٢) قال : بلى. قال : ثم مررت به يهتز خضرا؟» قال : بلى. قال «فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه»(٣). ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به.

ثم رواه الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال «أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة ، ثم مررت بها مخصبة؟» قال : نعم. قال «كذلك النشور» والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيس بن مرحوم ، حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق المبين ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، دخل الجنة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) المسند ٤ / ١١.

(٢) المحل : انقطاع المطر ، ويقال : أرض محل ، وزمن محل وماحل.

(٣) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

(٤) المسند ٤ / ١١.

٣٥٠

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي بلا عقل صحيح ، ولا نقل صحيح صريح ، بل بمجرد الرأي والهوى. وقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال ابن عباس وغيره : مستكبر عن الحق إذا دعي إليه ، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي لاوي عنقه (١) وهي رقبته ، يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق ، ويثني رقبته استكبارا ، كقوله تعالى : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات : ٣٨ ـ ٣٩] الآية ، وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء : ٦١] وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [المنافقون : ٥] وقال لقمان لابنه (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان : ١٨] أي تميله عنهم استكبارا عليهم ، وقال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان : ٧] الآية.

وقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال بعضهم : هذه لام العاقبة ، لأنه قد لا يقصد ذلك ، ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله. ثم قال تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الآخرة ، لأنها أكبر همه ومبلغ علمه (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي يقال له هذا تقريعا وتوبيخا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) كقوله تعالى: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٤٧ ـ ٥٠]. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن الصباح ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا هشام عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣)

قال مجاهد وقتادة وغيرهما : (عَلى حَرْفٍ) على شك ، وقال غيرهم : على طرف ، ومنه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١٤.

٣٥١

حرف الجبل أي طرفه ، أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر. وقال البخاري (١) : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، حدثنا يحيى بن ابي بكير ، حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير ، فأنزل الله على نبيه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به ، واطمأن إليه ، وقال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) والفتنة البلاء ، أي وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرا ، وذلك الفتنة (٢) ، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه ، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر (٣). وقال مجاهد في قوله : (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي ارتد كافرا.

وقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي من الأصنام والأنداد ، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) وقوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، باب ٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١٦.

٣٥٢

وقوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) قال مجاهد : يعني الوثن (١) ، يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى ، يعني وليا وناصرا ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) وهو المخالط والمعاشر ، واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وقول مجاهد إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام ، والله أعلم.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤)

لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم ، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات ، وتركوا المنكرات ، فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات ، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦)

قال ابن عباس : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب أي بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي سماء بيته (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) يقول ثم ليختنق به ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي ليتوصل إلى بلوغ السماء ، فإن النصر إنما يأتي محمدا من السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ذلك عنه إن قدر على ذلك ، وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم ، فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه ، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه ، فإن الله ناصره لا محالة ، قال الله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١ ـ ٥٢] الآية ، ولهذا قال : (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) قال السدي : يعني من شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط. وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات في لفظها ومعناها ، حجة من الله على الناس ، (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١٧.

٣٥٣

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧)

يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين ، وقد قدمنا في سورة البقرة (١) التعريف بهم واختلاف الناس فيهم ، والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره ، فإنه تعالى : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويحكم بينهم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة ، ومن كفر به النار ، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨)

يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها ، وسجود كل شيء مما يختص به ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [النحل : ٤٨] وقال هاهنا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] وقوله : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) إنما ذكر هذه على التنصيص ، لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) [فصلت : ٣٧] الآية.

وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال : «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت» (٢) وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة في حديث الكسوف «إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عزوجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له» (٣).

وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم

__________________

(١) انظر تفسير الآية ٦٢ من سورة البقرة.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٠ ، ٢٥١.

(٣) أخرجه أبو داود في الاستسقاء باب ٣ ، والنسائي في الكسوف باب ١٦ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦٧ ، ٢٦٩.

٣٥٤

لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه (١) ، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل ، وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت ، فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا ، وضع عني بها وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ، قال ابن عباس : فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سجدة ثم سجد ، فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة (٢) ، رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.

وقوله : (وَالدَّوَابُ) أي الحيوانات كلها ، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر (٣) ، فرب مركوبة خير وأكثر ذكرا لله تعالى من راكبها.

وقوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي ممن امتنع وأبى واستكبر (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة ، فقال له علي : يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال : بل كما شاء. قال : فيمرضك إذ شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيدخلك حيث يشاء أو حيث شاء؟ قال : بل حيث يشاء. قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (٤) رواه مسلم.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا : حدثنا ابن لهيعة ، قال : حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال «نعم فمن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٢٢.

(٢) أخرجه الترمذي في الجمعة باب ٥٥ ، والدعوات باب ٣٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٧٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٥٥.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٣٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٧٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٠٠.

(٥) المسند ٤ / ١٥١ ، ١٥٢.

٣٥٥

لم يسجد بهما فلا يقرأهما» (١) ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به. وقال الترمذي : ليس بقوي ، وفي هذا نظر ، فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع ، وأكثر ما نقموا عليه تدليسه.

وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه‌الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين» ثم قال أبو داود : وقد أسند هذا ، يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثني ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع قال : حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين.

وروى أبو داود وابن ماجة من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج (٢) سجدتان ، فهذه شواهد يشد بعضها بعضا.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢)

ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر : أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في حمزة وصاحبيه ، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر (٣) ، لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري (٤) : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة ، قال قيس : وفيهم نزلت : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال : هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجمعة باب ٥٤.

(٢) أخرجه أبو داود في السجود باب ١ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٧١.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٢ ، باب ٣ ، ومسلم في التفسير حديث ٣٤.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٢ ، باب ٣.

٣٥٦

أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم ، فأفلج (١) الله الإسلام على من ناوأه ، وأنزل (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس : وقال شعبة عن قتادة في قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال : مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث ، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية : هم المؤمنون والكافرون.

وقال عكرمة : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عزوجل ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل ، وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حسن ، ولهذا قال (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصلت لهم مقطعات من النار ، قال سعيد بن جبير : من نحاس ، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة. وقال سعيد بن جبير : هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم ، وكذلك تذوب جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن المثنى ، حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان» (٣) ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال : حسن صحيح ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري.

قال : سمعت عبد الله بن السري قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه ، ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ).

وقوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن

__________________

(١) أفلج : أي نصر.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ١٢٥.

(٣) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٤.

(٤) المسند المسند ٣ / ٢٩.

٣٥٧

لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض ، فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض» وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ، ثم عاد كما كان ، ولو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقال ابن عباس في قوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) قال : يضربون بها ، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور (٢).

وقوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) وقال زيد بن أسلم في هذه الآية (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون ، وقال الفضيل بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها. وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كقوله : (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤)

لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذا بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة ، فقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها ، يصرفونها حيث شاؤوا وأين أرادوا (يُحَلَّوْنَ فِيها) من الحلية (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي في أيديهم ، كما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» (٣). وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكا لو شئت أن أسميه لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها ـ أي سوار منها ـ لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر.

__________________

(١) المسند ٣ / ٨٣.

(٢) الثبور : الهلاك.

(٣) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٤٠ ، والنسائي في الطهارة باب ١٠٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٢ ، ٣٧١.

٣٥٨

وقوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه ، كما قال : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) [الإنسان: ٢١ ـ ٢٢] وفي الصحيح «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» (١) قال عبد الله بن الزبير : من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة ، قال الله تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). وقوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) كقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ٢٣] وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب ، وقوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥] لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

وقوله : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح «إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النّفس» (٢) وقد قال بعض المفسرين في قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) أي القرآن وقيل : لا إله إلا الله وقيل : الأذكار المشروعة (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥)

يقول تعالى منكرا على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم أولياؤه (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] الآية ، وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية ، كما قال في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] وقال هاهنا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في اللباس باب ٢٥ ، ومسلم في اللباس حديث ١١ ، ١٢.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١٨ ، ١٩ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٤٩ ، ٣٥٤ ، ٣٨٤.

٣٥٩

التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.

وقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وقال مجاهد : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل ، وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله.

وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف ، وأحمد بن حنبل حاضر أيضا ، فذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال : «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟» ثم قال : «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر» (١) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا ، بأربعة آلاف درهم ، وبه قال طاوس وعمرو بن دينار ، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن (٢).

وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها ، وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري ، قال : فلك ذلك إذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الحج باب ٤٤ ، والفرائض باب ٢٦ ، ومسلم في الفرائض حديث ١ ، وابن ماجة في الفرائض باب ٦.

(٢) أخرجه ابن ماجة في المناسك باب ١٠٢.

٣٦٠