تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

وقد روى الإمام أحمد (١) حديثا غريبا فقال : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات ، ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : «كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك أكرهتك؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملني عليه الحاجة ، قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ ثم نزل فقال : اذهبي بالدنانير لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا ، فمات من ليلته ، فأصبح مكتوبا على بابه : غفر الله للكفل» هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة ، والله أعلم ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وإسناده غريب ، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل ، ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر والله أعلم.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات (٢) وفي سورة ن (٣) ، وذلك أن يونس بن متىعليه‌السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله تعالى ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث ، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عزوجل وجأروا إليه ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].

وأما يونس عليه‌السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم ، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا ، قال الله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١] أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه‌السلام وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٣.

(٢) الآيات ١٣٩ ـ ١٤٨.

(٣) سورة القلم الآيات ٤٨ ـ ٥٠.

٣٢١

مسعود ـ حوتا يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما ، فإن يونس ليس لك رزقا وإنما بطنك تكون له سجنا.

وقوله : (وَذَا النُّونِ) يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) قال الضحاك لقومه : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي نضيق عليه في بطن الحوت ، يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم ، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧] وقال عطية العوفي : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، أي نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدر وقدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر : [الطويل]

فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى

تبارك ما تقدر يكن فلك الأمر

ومنه قوله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢] أي قدر. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل ، وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر ، قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالك قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقال عوف الأعرابي : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يوما. رواهما ابن جرير (١).

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر ، قال : وسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ، قال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال : نعم ، قال : فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله تعالى : (وَهُوَ سَقِيمٌ) رواه

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٧٧.

٣٢٢

ابن جرير (١) ، ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، ثنا عمي ، حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس بن مالك ، ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يونس النبي عليه‌السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال : اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال : أما تعرفون ذاك؟ قالوا : لا يا رب ومن هو؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة ، قالوا : يا رب أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال : بلى ، فأمر الحوت فطرحه في العراء.

وقوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء ، فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد ، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال : مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء ، مرتين قال : لا وما ذاك؟ قلت لا ، إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام ، قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال : ما فعلت ، قال سعد : قلت بلى حتى حلف وحلفت.

قال : ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة ، قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من هذا ، أبو إسحاق؟» قال : قلت نعم يا رسول الله ، قال : «فمه» قلت : لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك ، قال: «نعم دعوة ذي

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٧٧ ، ٧٨.

(٢) المسند ١ / ١٧٠.

٣٢٣

النون إذ هو في بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» (١) ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب ، قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دعا بدعاء يونس استجيب له» قال أبو سعيد : يريد به (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى» قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : «هي ليونس بن متى خاصة ، ولجماعة المؤمنين عامة ، إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله عزوجل (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فهو شرط من الله لمن دعاه به».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن فقلت : يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى؟ قال : ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ـ إلى قوله ـ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ابن أخي ، هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٩٠)

يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا ، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم (٣) وفي سورة آل عمران (٤) أيضا ، وهاهنا أخصر منها (إِذْ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٨١.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٧٨.

(٣) انظر تفسير الآيات ٢ ـ ١٥ من سورة مريم.

(٤) انظر تفسير الآيات ٣٧ ـ ٤١ من سورة آل عمران.

٣٢٤

نادى رَبَّهُ) أي خفية عن قومه (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) دعاء وثناء مناسب للمسألة ، قال الله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي امرأته ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت عاقرا لا تلد فولدت. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء : كان في لسانها طول ، فأصلحها الله وفي رواية : كان في خلقها شيء فأصلحها الله ، وهكذا قال محمد بن كعب والسدي ، والأظهر من السياق الأول.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي في عمل القربات وفعل الطاعات (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) قال الثوري : رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله ، وقال مجاهد : مؤمنين حقا. وقال أبو العالية : خائفين. وقال أبو سنان : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدا. وعن مجاهد أيضا : خاشعين أي متواضعين. وقال الحسن وقتادة والضحاك : خاشعين أي متذللين للهعزوجل ، وكل هذه الأقوال متقاربة.

وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه. ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله عزوجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١)

هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما‌السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما‌السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم ، لأن تلك مربوطة بهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر ، هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) يعني مريم عليها‌السلام ، كما قال في سورة التحريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

وقوله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وهذا كقوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر ، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله :

٣٢٥

(لِلْعالَمِينَ) قال : العالمين الجن والإنس.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٩٤)

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) يقول : دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الآية يبين لهم ما يتقون وما يأتون ، ثم قال : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي سنتكم سنة واحدة ، فقوله إن هذه إن واسمها ، وأمتكم خبر إن ، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال ، ولهذا قال : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) كما قال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ـ إلى قوله ـ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥١ ـ ٥٢] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» (١) يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨].

وقوله : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب ، ولهذا قال : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي يوم القيامة ، فيجازي كل بحسب عمله ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ولهذا قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي قلبه مصدق وعمل صالحا (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) كقوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة ، ولهذا قال : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) (٩٧)

يقول تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) قال ابن عباس : وجب ، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس : أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ، والقول الأول أظهر ، والله أعلم. وقوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) قد قدمنا أنهم من سلالة آدم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤٦٣ ، ٥٤١. وأولاد العلات : الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد ، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة.

٣٢٦

عليه‌السلام ، بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث ، أي أبي الترك ، والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين ، وقال : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : ٩٨ ـ ٩٩] الآية ، وقال في هذه الآية الكريمة (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي يسرعون في المشي إلى الفساد ، والحدب هو المرتفع من الأرض ، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم ، وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) هذا إخبار عالم ما كان وما يكون ، الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال : رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون ، فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج ، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.

[فالحديث الأول] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «تفتح يأجوج ومأجوج ، فيخرجون على الناس ، كما قال الله عزوجل : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ، ويضمون إليهم مواشيهم ، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسا ، حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان هاهنا ماء مرة ، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء.

قال : ثم يهز أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة ، فبينما هم على ذلك بعث الله عزوجل دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه ، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشرى لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال : فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزوجل قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم ، فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط» ، ورواه ابن ماجة (٣) من حديث يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق به.

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٨٤.

(٢) المسند ٣ / ٧٧.

(٣) كتاب الفتن باب ٣٣.

٣٢٧

[الحديث الثاني] قال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه ، أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجال ذات غداة ، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل.

فقال : «غير الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، وإنه شاب جعد قطط عينه طافية ، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا : يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ ـ قال : أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، يوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم» قلنا : يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة ، أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال : «لا اقدروا له قدره» قلنا : يا رسول الله فما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث اشتد به الريح ، قال : فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى ، أمده خواصر ، وأسبغه ضروعا ، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ.

قال ـ ويأمر برجل فيقتل ، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل إليه ، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عزوجل المسيح عيسى ابن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على أجنحة ملكين ، فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عزوجل إلى عيسى ابن مريم عليه‌السلام أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم ، فحوّز عبادي إلى الطور ، فيبعث الله عزوجل يأجوج ومأجوج ، كما قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزوجل ، فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة ، فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم.

فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزوجل ، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله» ، قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال : فتطرحهم بالمهبل ، قال ابن جابر : فقلت يا أبا يزيد ، وأين المهبل؟ قال : مطلع الشمس. قال : «ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ، ويقال للأرض : أنبتي ثمرك ودري بركتك ، قال : فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ،

__________________

(١) المسند ٤ / ١٨١ ، ١٨٢.

٣٢٨

واللقحة من البقر تكفي الفخذ ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت ، قال : فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عزوجل ريحا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو قال : كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة» (١) ، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

[الحديث الثالث] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة ، عن خالته قالت : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب ، فقال : «إنكم تقولون لا عدو لكم ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج : عراض الوجوه ، صغار العيون ، صهب الشغاف ، من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» ، وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي ، عن خالة له ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره مثله سواء.

[الحديث الرابع] قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم ، عن العوام ، عن جبلة بن سحيم ، عن موثر بن عفازة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال : لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيما عهد إلى ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا ، فتعال فاقتله.

قال : فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطؤون بلادهم ، ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم ، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا».

ورواه ابن ماجة (٣) عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب به نحوه ، وزاد : قال العوام : ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عزوجل (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١١٠ ، والترمذي في الفتن باب ٥٩ ، وابن ماجة في الفتن باب ٣٣.

(٢) المسند ٥ / ٢٧١.

(٣) كتاب الفتن باب ٣٣.

٣٢٩

وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ورواه ابن جرير (١) هاهنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جدا والآثار عن السلف كذلك.

وقد روى ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي الصيف قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غدا فنخرج فيعيده الله كما كان ، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان ، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول : نجيء غدا فنخرج إن شاء الله ، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه ، فيحفرون حتى يخرجوا ، فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها ، ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها ، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون : قد كان هاهنا مرة ماء ، فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء ، ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء ، فيقولون : غلبنا أهل الأرض وأهل السماء ، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فيقول : اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم ، فاكفناهم بما شئت.

فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغف ، فيفرس رقابهم ، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر ، ويبعث الله عينا يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها ، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن ، وقيل : وما السكن يا كعب؟ قال : أهل البيت ، قال : فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده ، قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، بعث الله ريحا يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن ، ثم يبقى عجاج الناس ، فيتسافدون كما تتسافد البهائم ، فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع ، قال كعب : فمن قال بعد قولي هذا شيئا أو بعد علمي هذا شيئا فهو المتكلف ، وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار.

وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق ، وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» انفرد بإخراجه البخاري (٤) وقوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل ، أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت ، قال الكافرون : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] ، ولهذا قال تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من شدة ما يشاهدونه من

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٨٥ ، ٨٦.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٨٦.

(٣) المسند ٣ / ٢٧ ، ٢٨.

(٤) كتاب الحج باب ٤٧.

٣٣٠

الأمور العظام (يا وَيْلَنا) أي يقولون يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي في الدنيا (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣)

يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال ابن عباس : أي وقودها (١) يعني كقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] وقال ابن عباس أيضا : حصب جهنم يعني شجر جهنم ، وفي رواية قال : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : حطبها ، وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما ، وقال الضحاك : حصب جهنم أي ما يرمى به فيها ، وكذا قال غيره ، والجميع قريب. وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي داخلون (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦] والزفير خروج أنفاسهم ، والشهيق ولوج أنفاسهم (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).

قال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال : قال ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار ، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم تلا عبد الله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود ، فذكره.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال عكرمة : الرحمة. وقال غيره السعادة (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقال : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٨٩.

٣٣١

مآبهم وثوابهم ، ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب ، فقال : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي حريقها في الأجساد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) قال : حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) فسلمهم من المحذور والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا محمّد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال : وسمر مع علي ذات ليلة ، فقرأ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم ، أو قال : سعد منهم ، قال : أقيمت الصلاة ، فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها).

وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال : سمعت عليا يقول في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال : عثمان وأصحابه ، ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد ، وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق ، ويبقى الكفار فيها جثيا ، فهذا مطابق لما ذكرناه.

وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين ، وخرج منهم عزيز والمسيح ، كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ثم استثنى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) فيقال : هم الملائكة وعيسى ، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عزوجل ، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج.

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزيز عليهما‌السلام ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة ، حدثنا أبو زهير ، حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال : كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى ابن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : عيسى وعزيز والملائكة. وقال الضحاك : عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر.

وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد ، وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك

٣٣٢

حديثا غريبا جدا ، فقال : حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني ، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : عيسى وعزيز والملائكة ، وذكر بعضهم قصة ابن الزبعرى ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن سهل ، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) فقال ابن الزبعرى : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزيز وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ثم نزلت (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) قال المشركون : فالملائكة وعزيز وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) الآلهة التي يعبدون (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال : فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).

وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله في كتاب السيرة : وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ، وتلا عليه وعليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ـ إلى قوله ـ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس معهم ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا ولا قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيزا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم ، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته».

٣٣٣

وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي عيسى وعزيز ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٢٦] ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزخرف : ٥٩] أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [الزخرف : ٦١] وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير ، لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها ، ولهذا قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فكيف يورد على هذا المسيح وعزيز ونحوهما من له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده ، وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن (ما) لما لا يعقل عند العرب (١) ، وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك ، وكان من الشعراء المشهورين ، وقد كان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرا : [الخفيف]

يا رسول المليك إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (٢)

إذ أجاري الشيطان في سنن الغيّ

ومن مال ميله مثبور

وقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قيل : المراد بذلك الموت ، رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل : المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور ، قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني ، واختاره ابن جرير في تفسيره ، وقيل : حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري ، وقيل : حين تطبق النار على أهلها ، قاله سعيد بن جبير وابن جريج ، وقيل : حين يذبح الموت بين الجنة والنار ، قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣٥٨ ـ ٣٦٠ ، وتفسير الطبري ٩ / ٩١ ، ٩٢.

(٢) البيتان في ديوان عبد الله بن الزبعرى ص ٣٦ ، والبيت الأول من لسان العرب (بور) ، وجمهرة اللغة ص ١٠٢٠ ، والمخصص ٣ / ٤٨ ، ٧ / ٣٠ ، ٣١١ ، ١٤ / ٣٣ ، وتاج العروس (ملك) ، ومقاييس اللغة ١ / ٣١٦. وسمط اللآلي ص ٣٨٨ ، وهو لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص ٩٥ ، ولعبد الله بن رواحة أو لعبد الله بن الزبعرى في تاج العروس (بور) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٣٠ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٢٦٧.

٣٣٤

حاتم عنه ، وقوله (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي فأملوا ما يسركم.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤)

يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : ٦٧] وقد قال البخاري : حدثنا مقدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه» (١) انفرد به من هذا الوجه البخاريرحمه‌الله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي ، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي واصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال : يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يديه بمنزلة خردلة.

وقوله : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قيل : المراد بالسجل الكتاب ، وقيل المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : السجل ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : أكتبها نورا ، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك ، وقال السدي في هذه الآية السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل ، فطواه ورفعه إلى يوم القيامة ، وقيل : المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : السجل هو الرجل ، قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة بن سعد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٦.

٣٣٥

الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : السجل كاتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم ، ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاتب يسمى السجل ، وهو قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : كما يطوي السجل الكتاب كذلك تطوى السماء ، ثم قال : وهو غير محفوظ.

وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البرقاني ، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد ، حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : السجل كاتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا ، وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضا ، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدته ولله الحمد.

وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير (١) للإنكار على هذا الحديث ، ورده أتم رد ، وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل ، وكتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصدق رحمه‌الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث ، وأما من ذكره في أسماء الصحابة ، فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره ، والله أعلم ، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة ، والعوفي عنه ، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ، أي على الكتاب بمعنى المكتوب ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣] أي على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم.

وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا كما بدأهم هو القادر على إعادتهم. وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك ، ولهذا قال : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع وابن جعفر المعني قالا حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة : فقال : «إنكم محشورون إلى الله عزوجل حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٩٥.

(٢) المسند ١ / ٢٣٥.

٣٣٦

علينا ، إنا كنا فاعلين» (١) وذكر تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ، ذكره البخاري عند هذه الآية في كتابه ، وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو ذلك ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) قال : يهلك كل شيء كما كان أول مرة (٢).

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧)

يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) [النور : ٥٥] وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة ، ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ).

قال الأعمش : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) فقال الزبور : التوراة والإنجيل ، والقرآن وقال مجاهد : الزبور الكتاب ، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد : الزبور الذي أنزل على داود ، والذكر التوراة. وعن ابن عباس : الذكر القرآن ، وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله ، واختار ذلك ابن جرير رحمه‌الله ، وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول ، وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، والذكر أمّ الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأرض ، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قال : أرض الجنة ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري ، وقال أبو الدرداء نحن الصالحون. وقال السدي : هم المؤمنون.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥ ، باب ١٤ ، وسورة ٢١ باب ٢ ، والرقاق باب ٤٥ ، ومسلم في الجنة حديث ٥٨ ، والترمذي في القيامة باب ٣ ، وتفسير سورة ٢١ ، باب ٤ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٩٦.

٣٣٧

وقوله : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلاغا : لمنفعة وكفاية لقوم عابدين ، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان ، وشهوات أنفسهم.

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) يخبر تعالى أن الله جعل محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] وقال تعالى في صفة القرآن : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين. قال «إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة» انفرد بإخراجه مسلم (١). وفي الحديث الآخر «إنما أنا رحمة مهداة» (٢) رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. قال إبراهيم الحربي. وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة. وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن غياث مرسلا.

قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ، ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي ، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا رحمة مهداة» ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد ، عن رجل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين».

قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت كتابا بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة : يا معشر قريش إن محمدا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقه

__________________

(١) كتاب البر حديث ٨٧.

(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة باب ٣.

٣٣٨

أو تقاربوه ، فإنه كالأسد الضاري ، إنه حق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم ، والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين ، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج ، فهو عدو استعان بعدو ، فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ، ولا أصدق موعدا من أخيكم الذي طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم ، فكونوا أكف الناس عنه.

قال أبو سفيان بن الحارث : كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم ، فيكون وحيدا مطرودا ، وأما ابنا قيلة فو الله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم ، وقال :

سأمنح جانبا مني غليظا

على ما كان من قرب وبعد

رجال الخزرجية أهل ذلّ

إذا ما كان هزل بعد جدّ

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون ، إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب» وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحا.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال : كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء حذيفة إلى سلمان ، فقال سلمان : يا حذيفة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فقال : «أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون ، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة».

ورواه أبو داود (٢) عن أحمد بن يونس عن زائدة ، فإن قيل : فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قال : من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال

__________________

(١) المسند ٥ / ٤٣٧.

(٢) كتاب السنة باب ١٠.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ١٠٠.

٣٣٩

عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه ، والله أعلم ، وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان ابن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢)

يقول تعالى آمرا رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تركوا ما دعوتهم إليه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنتم برآء مني ، كقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] وقال : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء ، وهكذا هاهنا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.

وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي هو واقع لا محالة ، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) اي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون ، يعلم الظواهر والضمائر ، ويعلم السر وأخفى ، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم ، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير (١) : لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى ، وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم‌السلام يقولون : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول ذلك ، وعن مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شهد قتالا (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ). وقوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك ، والله المستعان عليكم في ذلك.

آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم‌السلام ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ١٠٢.

٣٤٠