تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامة عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك ، فقال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٤٠)

يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضا بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا وكفرا وعنادا واستبعادا ، فقال (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال الله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به. ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] وقال في هذه الآية : (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) وقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠] فالعذاب محيط لهم من جميع جهاتهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ناصر لهم ، كما قال : (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد : ٣٤]. وقوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) أي تأتيهم النار بغتة أي فجأة ، (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تذعرهم ، فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي ليس لهم حيلة في ذلك ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ(٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (٤٣)

يقول تعالى مسليا لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤] ثم ذكر

٣٠١

تعالى نعمته على عبيده في حفظه بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام ، فقال : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي بدل الرحمن يعني غيره ، كما قال الشاعر : [رجز]

جارية لم تلبس المرقّقا

ولم تذق من البقول الفستقا (١)

أي لم تذق بدل البقول الفستق. وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون عن آياته وآلائه ، ثم قال (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ، أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا ، ولا كما زعموا ، ولهذا قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) أن هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم. وقوله : (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) قال العوفي عن ابن عباس : ولا هم منا يصحبون أي يجارون. وقال قتادة : لا يصبحون من الله بخير. وقال غيره : ولا هم منا يصحبون يمنعون.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء ، ثم قال واعظا لهم (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٧] وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر ، والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون.

وقوله : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب

__________________

(١) الرجز لرؤبة في ديوانه ص ١٨٠ ، ولأبي نخيلة في شرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٥ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٠٦ ، ولسان العرب (سكف) ، (فستق) ، (بقل) ، وتاج العروس (فستق) ، ولهميان بن قحافة في المخصص ١١ / ١٣٩ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٣٢٩ ، والجنى الداني ص ٣١١ ، وجواهر الأدب ص ٢٧٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٢٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٦٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٠.

٣٠٢

والنكال ، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي ، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ، ولهذا قال : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) وقوله : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة ، الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.

وقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) كما قال تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] وقال لقمان (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد بن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عزوجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال : لا يا رب. قال : أفلك عذر أو حسنة؟ قال : فيبهت الرجل فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه ، فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم» (٣) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد ، وقال الترمذي : حسن غريب.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضع

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٨ ، ومسلم في الدعوات حديث ٣١.

(٢) المسند ٢ / ٢١٣.

(٣) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ١٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٥.

(٤) المسند ٢ / ٢٢١ ، ٢٢٢.

٣٠٣

الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ، ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان ، قال : فيبعث به إلى النار ، قال : فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عزوجل يقول : لا تعجلوا ، فإنه قد بقي له ، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان».

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا أبو نوح مرارا ، أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس بين يديه ، فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني ، وأضربهم وأشتمهم ، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم ، كان كفافا لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم ، كان فضلا لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ، اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك ، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويهتف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما له لا يقرأ كتاب الله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئا خير من فراق هؤلاء ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم (٢).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٠)

قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، وبين كتابيهما ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) قال مجاهد : يعني الكتاب. وقال أبو صالح : التوراة. وقال قتادة : التوراة حلالها وحرامها ، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد يعني النصر (٣) :

وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام ، وعلى ما يحصل نورا في القلوب وهداية وخوفا وإنابة وخشية ، ولهذا قال : (الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي تذكيرا لهم وعظة ، ثم وصفهم فقال: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) كقوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق : ٥٠]. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : ١٢] (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي خائفون وجلون ، ثم قال تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) يعني

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٨٠ ، ٢٨١.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢١ ، باب ٢.

(٣) انظر هذه الآثار في تفسير الطبري ٩ / ٣٤.

٣٠٤

القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٥٦)

يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه‌السلام أنه آتاه رشده من قبل ، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع ، وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها ، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل ، فما وافق منها الحق ، مما بأيدينا عن المعصوم ، قبلناه لموافقته الصحيح ، وما خالف شيئا من ذلك رددناه ، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفا ، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته ، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين ، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة ، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم ، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها ، كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود هاهنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل ، أي من قبل ذلك.

وقوله : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي وكان أهلا لذلك ، ثم قال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عزوجل ، فقال : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال.

ولهذا قال : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم ، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم ، فلما سفه أحلامهم

٣٠٥

وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبا أو محقا فيه ، فإنا لم نسمع به قبلك (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي ربكم الذي لا إله غيره ، وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣)

ثم أقسم الخليل قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين ، أي إلى عيدهم ، وكان لهم عيد يخرجون إليه ، قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض ، وقال : إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون : مه (١) ، فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) فسمعه أولئك (٢). وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه ، فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم ، وقد كان بالأمس ، قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسمعه ناس منهم.

وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي حطاما كسرها كلها ، إلا كبيرا لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم ، كما قال : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات : ٩٣]. وقوله (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي في صنيعه هذا ، (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم : سمعنا فتى أي شابا ، يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي

__________________

(١) مه : أي ما بك؟.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٧.

٣٠٦

العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ).

وقوله (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم ، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه‌السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا ، فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) يعني الذي تركه لم يكسره (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون ، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.

وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم عليه‌السلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة ، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل فقال : إنه قد نزل هاهنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك؟ قال : أختي. قال : فاذهب فأرسل بها إلي ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار قد سألني عنك ، فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي ، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذا شديدا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له ، فأرسل فأهوى إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ، ففعل ذلك الثالثة ، فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين ، فقال : ادعي الله فلا أضرك ، فدعت له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، ولكنك أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها ، انفتل من صلاته ، وقال : مهيم. قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر». قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : تلك أمكم يا بني ماء السماء (١).

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ(٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧)

يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم ، فقالوا : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها ، (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : (لَقَدْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨ ، والنكاح باب ١٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٤.

٣٠٧

عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ). قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء ، فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

وقال السدي (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي في الفتنة. وقال ابن زيد : أي في الرأي ، وقول قتادة أظهر في المعنى ، لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا ، ولهذا قالوا له (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون ، وأنت تعلم انها لا تنطق ، فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر ، فلم تعبدونها من دون الله؟ (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر. فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ، ولهذا قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٩٣] الآية.

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (٧٠)

لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم ، فقالوا : (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ، فجمعوا حطبا كثيرا جدا ، قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبا لحريق إبراهيم ، ثم جعلوه في جوبة (١) من الأرض وأضرموها نارا ، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها ، وجعلوا إبراهيم عليه‌السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شعيب الجبائي ، اسمه هيزن : فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فلما ألقوه قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد عليهما‌السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وروى الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو هشام ، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما ألقي إبراهيم عليه‌السلام في النار ، قال : اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك» ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت ، سبحانك لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك ، وقال شعيب الجبائي : كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة ، فالله أعلم ، وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما من الله فبلى.

وقال سعيد بن جبير ـ ويروى عن ابن عباس أيضا ـ قال : لما ألقي إبراهيم ، جعل خازن

__________________

(١) الجوبة : الحفرة.

٣٠٨

المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله؟ قال : فكان أمر الله أسرع من أمره ، قال الله (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت (١). وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه (٢).

وقال الثوري عن الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) قال : لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية : لو لا أن الله عزوجل قال : وسلاما لآذى إبراهيم بردها ، وقال جويبر عن الضحاك : كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، قالوا : صنعوا له حظيرة من حطب جزل ، وأشعلوا فيه النار من كل جانب ، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله ، قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق ، فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مهران ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فقال : كان فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها (٣).

وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار : وجده يرشح جبينه ، قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ ، وقال الزهري : أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله ، وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد الله ابن أخى ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا جرير بن حازم أن نافعا حدثه قال : حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة ، فرأيت في بيتها رمحا ، فقلت : يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم» فأمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله.

وقوله : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) أي المغلوبين الأسفلين ، لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا ، فكادهم الله ونجاه من النار ، فغلبوا هنالك ، وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه ، فطارت شرارة فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل الصوفة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٤.

(٣) انظر الدر المنثور ٤ / ٥٧٩.

٣٠٩

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥)

يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام ، إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب في قوله : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة ، وكذا قال أبو العالية أيضا وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، وكان يقال للشام عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأراضي زيد في الشام ، وما نقص من الشام زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وبها يهلك المسيح الدجال.

وقال كعب الأحبار في قوله : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) إلى حران. وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام ، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على أن لا يغيرها ، رواه ابن جرير ، وهو غريب ، والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها مهاجرا مر بلاده. وقال العوفي عن ابن عباس : إلى مكة ، ألا تسمع إلى قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (١) [آل عمران : ٩٦].

وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) قال عطاء ومجاهد وعطية وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة : النافلة ولد الولد ، يعني أن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدا ، فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة ، (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي الجميع أهل خير وصلاح ، (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي يقتدى بهم.

(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يدعون إلى الله بإذنه ، ولهذا قال : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) من باب عطف الخاص على العام ، (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي فاعلين لما يأمرون الناس به ، ثم عطف بذكر لوط ، وهو لوط بن هاران بن آزر. كان قد آمن بإبراهيم عليه‌السلام واتبعه وهاجر معه ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٦.

٣١٠

[العنكبوت : ٢٦] فآتاه الله حكما وعلما ، وأوحى إليه وجعله نبيا وبعثه إلى سدوم وأعمالها ، فخالفوه وكذبوه ، فأهلكهم الله ودمر عليهم ، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ، ولهذا قال : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧)

يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه‌السلام حين دعا على قومه لما كذبوه (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٦ ـ ٢٧] ولهذا قال هاهنا : (إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي الذين آمنوا به ، كما قال : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠]. وقوله : (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي من الشدة والتكذيب والأذى ، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزوجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل ، وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل على خلافه ، وقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي ونجيناه وخلصناه منتصرا من القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي أهلكهم الله بعامة ، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد ، كما دعا عليهم نبيهم.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ(٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٨٢)

قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرما قد تدلت عناقيده (١) ، وكذا قال شريح. وقال ابن عباس : النفش الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة : النفش لا يكون إلا بالليل ، زاد قتادة : والهمل بالنهار. وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم ، قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله: قال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٤٩.

٣١١

وما ذاك؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس.

وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد : حدثني خليفة عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لصحاب الحرث فخرج الرعاة معهم الكلاب ، فقال لهم سليمان : كيف قضى بينكم؟ فأخبروه ، فقال : لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم؟ قال : أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها (١) ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم ، إنما كان كرما نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم ، وأهل الكرم كرمهم ، وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا إسماعيل عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه ، وإن كان ليلا فقد ضمن ، ثم قرأ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) الآية ، وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (٣) ، وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، فقال : ما يبكيك؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار،

__________________

(١) سلاؤها : أي سمنها.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٥١.

(٣) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٩٠ ، وابن ماجة في الأحكام باب ١٣ ، ومالك في الأقضية حديث ٣٦ ، ٣٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٩٥ ، ٥ / ٤٣٥.

٣١٢

ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما‌السلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود ، ثم قال : ـ يعني الحسن ـ : إن الله اتخذ على الحكام ثلاثا : لا يشتروا به ثمنا قليلا ، ولا يتبعوا فيه الهوى ، ولا يخشوا فيه أحدا ، ثم تلا (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦] وقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤] وقال (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤].

قلت : أما الأنبياء عليهم‌السلام ، فكلهم معصومون مؤيدون من الله عزوجل ، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ ، فله أجرا» (١) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم.

وفي السنن : «القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار ، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار» (٢) ، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد (٣) في مسنده حيث قال : حدثنا علي بن حفص ، أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به الكبرى ، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينكما : فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه ، فقضى به للصغرى» (٤) وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء : [باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق].

وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه‌السلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة ، ملخصها : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢١ ، ٢٢ ، ومسلم في الأقضية حديث ١٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الأقضية باب ٢ ، وابن ماجة في الأحكام باب ٣.

(٣) المسند ٢ / ٣٢٢ ، ٣٤٠.

(٤) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٠ ، ومسلم في الأقضية حديث ٢٠ ، والنسائي في القضاة باب ١٤.

٣١٣

بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند داود عليه‌السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك ، وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان فرقوا بينهم ، فسأل أولهم ما كان لون الكلب؟ فقال أسود ، فعزله واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر ، وقال الآخر : أغبش ، وقال الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليه‌السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم.

وقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) الآية ، وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا ، ولهذا لما مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جدا ، فوقف واستمع لقراءته ، وقال : «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود» قال : يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا (١). وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام : «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود».

وقوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) يعني صنعة الدروع. قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح : وهو أول من سردها حلقا ، كما قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ١٠ ـ ١١] أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ، ولهذا قال : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) يعني في القتال (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من أجلكم.

وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني أرض الشام (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله ، فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به ، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل وتوضع آلاته وحشمه ، قال الله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦] وقال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢].

قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال : كان

__________________

(١) أخرج القسم الأول من الحديث : البخاري في فضائل القرآن باب ٣١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، والترمذي في المناقب باب ٥٥ ، والنسائي في الافتتاح باب ٨٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٦ ، والدارمي في الصلاة باب ١٧١ ، وفضائل القرآن باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٦٩ ، ٤٥٠ ، ٥ / ٣٤٩ ، ٣٥١ ، ٣٥٩ ، ٦ / ٣٧ ، ١٦٧.

٣١٤

يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء ، وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يمينا ولا شمالا ، تعظيما لله عزوجل ، وشكرا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عزوجل ، حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه.

وقوله : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي في الماء يستخرجون اللئالئ والجواهر وغير ذلك ، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي غير ذلك ، كما قال تعالى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٧ ـ ٣٨]. وقوله : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء ، بل كل في قبضته وتحت قهره ، لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه ، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء ، ولهذا قال : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ).

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤)

يذكر تعالى عن أيوب عليه‌السلام ، ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية ، فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره ، ثم ابتلي في جسده ، يقال : بالجذام في سائر بدنه ، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر بهما الله عزوجل ، حتى عافه الجليس ، وأفرد في ناحية من البلد ، ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره ، ويقال : إنها احتاجت ، فصارت تخدم الناس من أجله ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل» (١).

وفي الحديث الآخر «يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» (٢) وقد كان نبي الله أيوب عليه‌السلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة : لما ابتلى الله أيوب عليه‌السلام بذهاب الأهل والمال والولد ، ولم يبق شيء له أحسن الذكر ، ثم قال : أحمدك رب الأرباب ، الذي أحسنت إليّ ، أعطيتني المال والولد فلم يبق من

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٥٧ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٣ ، والدارمي في الرقاق باب ٦٧ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٨٠ ، ١٨٥.

(٢) راجع التخريج السابق.

٣١٥

قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك ، فأخذت ذلك كله مني ، وفرغت قلبي ، فليس يحول بيني وبينك شيء ، ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال : فلقي إبليس من ذلك منكرا (١). قال : وقال أيوب عليه‌السلام : يا رب إنك أعطيتني المال والولد ، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته ، وأنت تعلم ذلك ، وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها ، وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.

وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه ، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين ، وفيها غرابة تركناها لحال الطول ، وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء ، فقال الحسن وقتادة : ابتلي أيوب عليه‌السلام سبع سنين وأشهرا ، ملقى على كناسة بني إسرائيل ، تختلف الدواب في جسده ، ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء.

وقال وهب بن منبه : مكث في البلاء ثلاث سنين ، لا يزيد ولا ينقص وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام ، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه ، فقالت له امرأته لما طال وجعه : يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك ، فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحا ، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة ، فجزعت من ذلك ، فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه ، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين ، كانا صديقين له وأخوين ، فأتاهما فقال : أخو كما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا ، فأتياه وزوراه ، واحملا معكما من خمر أرضكما ، فإنه إن شرب منه برىء ، فأتياه فلما نظرا إليه بكيا ، فقال : من أنتما؟ فقالا : نحن فلان وفلان ، فرحب بهما وقال : مرحبا بمن لا يجفوني عند البلاء ، فقالا : يا أيوب لعلك كنت تسر شيئا وتظهر غيره ، فلذلك ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال : هو يعلم ، ما أسررت شيئا أظهرت غيره ، ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له : يا أيوب اشرب من خمرنا ، فإنك إن شربت منه برأت.

قال : فغضب ، وقال : جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام ، فقاما من عنده ، وخرجت امرأته تعمل للناس ، فخبزت لأهل بيت لهم صبي ، فجعلت لهم قرصا ، وكان ابنهم نائما ، فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها ، فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال : ما كنت تأتيني بهذا ، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر ، قال : فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله ، فانطلقي به إليه ، فأقبلت حتى بلغت درجة القوم ، فنطحتها شاة لهم ، فقالت : تعس أيوب الخطاء ، فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئا غيره ، فقالت : رحمه‌الله ، يعني أيوب ،

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٤ / ٥٨٩.

٣١٦

فدفعت إليه القرص ورجعت ، ثم إن إبليس أتاها في صورة طيب ، فقال لها : إن زوجك قد طال سقمه ، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان ، فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك ، فقالت ذلك لأيوب.

فقال : قد أتاك الخبيث ، لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة ، فخرجت تسعى عليه ، فحظر عنها الرزق ، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها ، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنا فباعته من صبية من بنات الأشراف ، فأعطوها طعاما طيبا كثيرا ، فأتت به إلى أيوب ، فلما رآه أنكره وقال : من أين لك هذا؟ قالت : عملت لأناس فأطعموني ، فأكل منه ، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد ، فحلقت أيضا قرنا فباعته من تلك الجارية ، فأعطوها أيضا من ذلك الطعام ، فأتت به أيوب فقال : والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو ، فوضعت خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقا جزع جزعا شديدا ، فعند ذلك دعا الله عزوجل ، فقال : (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مسوط ، قال : وكانت امرأة أيوب تقول : ادع الله فيشفيك ، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه ، فعند ذلك قال : (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب عليه‌السلام أخوان ، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا ، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط ، وأنا أعلم مكان عار ، فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم بعزتك ، ثم خر ساجدا ، فقال : اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا ، فقال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه‌الله فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له ، فقال أيوب عليه‌السلام : ما أدري ما تقول ، غير أن الله عزوجل يعلم أني

٣١٧

كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق ، قال : وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» رفع هذا الحديث غريب جدا.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان هاهنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ، فجعلت تكلمه ساعة. فقال : ويحك أنا أيوب. قالت : أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي ، وبه قال ابن عباس ، ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك ، ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.

وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه ، قال : فقيل له : يا أيوب أما تشبع؟ قال : يا رب ومن يشبع من رحمتك» أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.

وقوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا عليه بأعيانهم ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضا ، وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن وقتادة ، وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة ، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة ، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم ، فهو مما لا يصدق ولا يكذب ، وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه‌الله تعالى : قال : ويقال اسمها ليا بنت منشّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : ويقال ليا بنت يعقوب عليه‌السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض البثنية ، وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب إن أهلك لك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم؟ قال : لا بل اتركهم لي في الجنة ، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.

وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال : أوتى أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال : فحدثت به مطرفا ، فقال : ما عرفت وجهها قبل اليوم ، وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف ، والله أعلم. قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا ، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما

٣١٨

يشاء ، وله الحكمة البالغة في ذلك.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٦)

وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، وقد تقدم ذكره في سورة مريم ، وكذا إدريس عليه‌السلام ، وأما ذو الكفل ، فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحا ، وكان ملكا عادلا ، وحكما مقسطا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله : (وَذَا الْكِفْلِ) قال : رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل ، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا.

وروى ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا داود عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل ، فجمع الناس فقال : من يتقبل مني بثلاث أستخلفه : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب؟ قال : فقام رجل تزدريه الأعين فقال : أنا ، فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال : نعم ، قال : فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل فقال : أنا ، فاستخلفه. قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة (٢) ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدق الباب.

فقال : من هذا؟ قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني ، وفعلوا بي وفعلوا بي ، وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح (٣) وذهبت القائلة ، فقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب فقال : من هذا؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ، قال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق ، فإذا رحت فأتني.

قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينتظره ولا يراه ، وشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله :

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٧١.

(٢) القائلة : نصف النهار.

(٣) الرواح : آخر النهار.

٣١٩

لا تدع أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل : وراءك ، وراءك ، قال : إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري ، فقال : لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : واستيقظ الرجل ، فقال : يا فلان ألم آمرك؟ قال : أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت ، قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه ، فقال : أعدو الله؟ قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال : قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ قال : فقال رجل : أنا ، فسمي ذا الكفل ، قال : فكان ليله جميعا يصلي ، ثم يصبح صائما فيقضي بين الناس ، قال : وله ساعة يقيلها ، قال : فكان كذلك ، فأتاه الشيطان عند نومته ، فقال له أصحابه : ما لك؟ قال : إنسان مسكين له على رجل حق ، وقد غلبني عليه ، قالوا : كما أنت حتى يستيقظ ، قال : وهو فوق نائم ، قال : فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه ، قال : فسمع ، فقال : ما لك؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق ، قال: فاذهب فقل له يعطيك.

قال : قد أبى ، قال : اذهب أنت إليه ، قال : فذهب ثم جاء من الغد فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسا. قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك ، فذهب ثم جاء من الغد حين قال ، قال : فقال له أصحابه : اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام ، قال : فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنيا ، قال : فسمع أيضا فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه فضربني ، قال : امش حتى أجيء معك ، قال : فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر ، أخبرنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان ـ يعني في بني إسرائيل ـ رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذا الكفل ، وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا ، والله أعلم.

٣٢٠