تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

من الوحي شدة ، فكان مما يحرك به لسانه ، فأنزل الله هذه الآية (١) يعني أنه عليه‌السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن ، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه ، فقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي أن نجمعه في صدرك ، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وقال في هذه الآية (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي بل أنصت ، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي زدني منك علما ، قال ابن عيينة رحمه‌الله ولم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيادة حتى توفاه الله عزوجل ، ولهذا جاء في الحديث «إن الله تابع الوحي على رسوله ، حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢) وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علما ، والحمد لله على كل حال» (٣). وأخرجه الترمذي عن أبي كريب ، عن عبد الله بن نمير به. وقال : غريب من هذا الوجه ، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي عاصم ، عن موسى بن عبيدة به ، وزاد في آخره «وأعوذ بالله من حال أهل النار».

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١٢٢)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي ، وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه. وقال مجاهد والحسن : ترك. وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) يذكر تعالى تشريف آدم ، وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلا ، وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف (٤) ، وسيأتي في آخر سورة

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٤ ، والتوحيد باب ٤٣ ، ومسلم في الصلاة حديث ١٤٨ ، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٤٣.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في التفسير حديث ١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٣٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١٢٨ وابن ماجة في المقدمة باب ٢٣ ، والدعاء باب ٢.

(٤) انظر تفسير الآيات ٣٠ ـ ٣٨ من سورة البقرة ، والآيات ١١ ـ ٢٤ من سورة الأعراف ، والآيات ٢٨ ـ ٤٠ من سورة الحجر ، والآيات ٦١ ـ ٦٥ من سورة الإسراء والآية ٥٠ من سورة الكهف.

٢٨١

(ص) (١) يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفا وتكريما ، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديما ، ولهذا قال تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي امتنع واستكبر (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) يعني حواء عليهما‌السلام (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك ، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إنما قرن بين الجوع والعري ، لأن الجوع ذل الباطن ، والعري ذل الظاهر ، (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) وهذان أيضا متقابلان ، فالظمأ حر الباطن وهو العطش ، والضحى حر الظاهر.

وقوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) قد تقدم أنه دلاهما بغرور (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١] وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة ، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد ، يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه ، وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد ، فقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك ، سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها ، وهي شجرة الخلد» ورواه الإمام أحمد (٢).

وقوله : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس ، كأنه نخلة سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة ، فأخذت شعره شجرة فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم مني تفر ، فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ، ولكن استحياء ، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال : نعم» فذلك قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب ، فلم يسمعه منه ، وفي رفعه نظر أيضا.

وقوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب ، وكذا قال قتادة والسدي. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير ،

__________________

(١) الآيات ٧١ ـ ٨٥ من سورة (ص).

(٢) المسند ٢ / ٤٥٥ ، ٤٦٢.

٢٨٢

عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حاج موسى آدم ، فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحج آدم موسى» (١) ، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب ، عن يزيد بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك ، قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقربك نجيا ، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاما ، قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فحج آدم موسى» ، قال الحارث : وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦)

يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعا ، أي من الجنة كلكم ، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته. وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضنكا في الدنيا ، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : الشقاء (٢). وقال العوفي

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٠ ، باب ١ ، ٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٧٠.

٢٨٣

عن ابن عباس : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : كلما أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر ، لا يتقيني فيه ، فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وقال أيضا : إن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب ، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به ، اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك. وقال الضحاك : هو العمل السيئ والرزق الخبيث ، وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.

وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه ، وقال أبو حاتم الرازي : النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، أنبأنا الوليد ، أنبأنا عبد الله بن لهيعة ، عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله عزوجل (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : ضمة القبر له ، والموقوف أصح.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمن في قبره في روضة خضراء ، ويفسح له في قبره سبعون ذراعا ، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا. أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون» رفعه منكر جدا.

وقال البزار : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي : حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله عزوجل : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال «المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة». وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : «عذاب القبر» إسناد جيد.

وقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال مجاهد وأبو صالح والسدي : لا حجة له ، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضا ، كما قال تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء : ٩٧] الآية ، ولهذا يقول : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي في الدنيا (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك ، تناسيتها وأعرضت عنها

٢٨٤

وأغفلتها ، كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١] فإن الجزاء من جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه ، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص ، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم» ، ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر مثله سواء.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧)

يقول تعالى : وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد : ٣٤] ولهذا قال : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) أي أشد ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم ، فهم مخلدون فيه ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتلاعنين : «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» (٢).

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠)

يقول تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وقال في سورة الم السجدة : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) [السجدة : ٢٦] الآية.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، والأجل المسمى الذي ضربه الله

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٨٥ ، ٣٢٣ ، ٣٢٧ ، ٣٢٨.

(٢) أخرجه مسلم في اللعان حديث ٤ ، وأبو داود في الطلاق باب ٢٧ ، والترمذي في تفسير سورة ٢٤ ، باب ٢ ، والطلاق باب ٢٢ ، والدارمي في النكاح باب ٣٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٣١٠ ، ٢ / ١٩.

٢٨٥

تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة ، لجاءهم العذاب بغتة ، ولهذا قال لنبيه مسليا له : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي من تكذيبهم لك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني صلاة العصر ، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» (١) ثم قرأ هذه الآية.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» رواه مسلم (٣) من حديث عبد الملك بن عمير به ، وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه ، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين» (٤).

وقوله : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) أي من ساعاته فتهجد به ، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) في مقابلة آناء الليل (لَعَلَّكَ تَرْضى) كما قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] وفي الصحيح «يقول الله تعالى يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٥) وفي الحديث الآخر «يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه : فيقولون : وما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة ، فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم خيرا من النظر إليه ، وهي الزيادة» (٦).

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة باب ٢٦ ، والرقاق باب ٥٢ ، والتوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في المساجد حديث ٢١١.

(٢) المسند ٤ / ١٣٦ ، ٤ / ٢٦١.

(٣) كتاب الصلاة حديث ١٣ ، ٢١.

(٤) أخرجه الترمذي في الجنة باب ١٧ ، وتفسير سورة ٧٥ باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٣ ، ٦٤ ، ٤٥٠.

(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٧ ، والرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، والجنة حديث ٩.

(٦) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٠ ، باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٣.

٢٨٦

أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم ، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة ، لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور. وقال مجاهد : (أَزْواجاً مِنْهُمْ) ، يعني الأغنياء ، فقد آتاك خيرا مما آتاهم ، كما قال في الآية الأخرى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [الحجر : ٨٧ ـ ٨٨] الآية ، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف ، كما قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] ولهذا قال : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى).

وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن (١) ، فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير (٢) ، وليس في البيت إلا صبرة من قرظ (٣) وأهب (٤) معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عمر؟» فقال : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال : «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» (٥) فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئا لغد.

قال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا» قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال «بركات الأرض». وقال قتادة والسدي : زهرة الحياة الدنيا ، يعنى زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبتليهم. وقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة ، واصبر أنت على فعلها ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ ، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها ، فربما لم يقم ، فنقول : لا يقوم الليلة كما كان يقوم ، وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله ، وقال «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها».

__________________

(١) آلى منهن : أي أقسم لا يدخل عليهن شهرا.

(٢) الرمال ، بضم الراء : ما رمل : أي ما نسج.

(٣) القرظ : ما يدبغ به.

(٤) الأهب ، جمع إهاب : وهو الجلد من البقر ، والغنم ، ما لم يدبغ.

(٥) أخرجه البخاري في المظالم ، باب ٢٥ ، وتفسير سورة ٦٦.

٢٨٧

وقوله : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ) يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] وقال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ـ إلى قوله ـ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨] ولهذا قال : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ). وقال الثوري : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) ، أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا ، فإذا رجع إلى أهله ، فدخل الدار قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ـ إلى قوله ـ نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ثم يقول : الصلاة. الصلاة رحمكم الله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر عن ثابت قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلوا ، صلوا. قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ، وقد روى الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ، ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» (١) وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود : سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك» (٢) ، وروي أيضا من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان ، عن أبيه عن زيد بن ثابت ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع له أمره وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة» (٣).

وقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وهي الجنة لمن اتقى الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع ، وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة ، وأن ديننا قد طاب»(٤).

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٣٠ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٥٨.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٢.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٢.

(٤) أخرجه مسلم في الرؤيا حديث ١٨.

٢٨٨

مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار في قولهم : (لَوْ لا) أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه ، أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله؟ قال الله تعالى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعني القرآن الذي أنزله عليه الله ، وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب ، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها ، فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٤٩ ـ ٥٠] وفي الصحيحين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (١) وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه‌السلام ، وهو القرآن ، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر ، كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.

ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم ، لكانوا قالوا : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال : (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٧] كما قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ـ إلى قوله ـ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧] وقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] الآية ، وقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩ ـ ١١٠] الآيتين ، ثم قال تعالى : (قُلْ) أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده (كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) أي منا ومنكم (فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي الطريق المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق وسبيل الرشاد ، وهذا كقوله تعالى : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٢] وقال : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦].

آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١ ، وفضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

٢٨٩

سورة الأنبياء

وهي مكية

قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، ثنا غندر ، ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول وهن من تلادي (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦)

هذا تنبيه من الله عزوجل على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها ، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي : حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) قال : «في الدنيا». وقال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) [القمر : ١ ـ ٢] الآية ، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال : أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول : [مجزوء الكامل]

الناس في غفلاتهم

ورحا المنيّة تطحن (٢)

فقيل له : من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) وروي في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم عامر

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ ، باب ١ ، وسورة ٢١ ، باب ١ ، وفضائل القرآن باب ٦.

(٢) البيت في ديوان أبي العتاهية ص ٤٢٩ ، وهو بلا نسبة في كتاب العين ٣ / ٢٩٠.

٢٩٠

مثواه ، وكلم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واديا في العرب ، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار ، فقال (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي جديد إنزاله (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) كما قال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضا لم يشب ، رواه البخاري (١) بنحوه.

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي قائلين فيما بينهم خفية (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم ، فكيف اختص بالوحي دونهم ، ولهذا قال : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر ، فقال تعالى مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض.

وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم ، وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وقوله : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ) هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن ، وحيرتهم فيه وضلالهم عنه ، فتارة يجعلونه سحرا ، وتارة يجعلونه شعرا ، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام ، وتارة يجعلونه مفترى ، كما قال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨ والفرقان : ٩].

وقوله (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] الآية ، ولهذا قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا ، فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا ، بل (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو أظهر وأجلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢٥ ، والتوحيد باب ٤٢.

٢٩١

وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

قال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : ذكر عن زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة : حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي ، حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول : كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرئ بعضنا بعضا القرآن ، فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية ، فوضع واتكأ ، وكان صبيحا فصيحا جدلا ، فقال : يا أبا بكر ، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون ، جاء موسى بالألواح ، وجاء دواد بالزبور ، وجاء صالح بالناقة ، وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة ، فبكى أبو بكر رضي الله عنه.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر : قوموا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نستغيث به من هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه لا يقام لي إنما يقام لله عزوجل» فقلنا : يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق ، فقال : «إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك ، وفضيلته التي فضلت بها ، فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود ، وأمرني أن أنذر الجن ، وآتاني كتابه وأنا أمي ، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر ، وذكر اسمي في الأذان ، وأمدني بالملائكة ، وآتاني النصر ، وجعل الرعب أمامي ، وآتاني الكوثر ، وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة ورودا ، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم ، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس ، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب ، وآتاني السلطان والملك ، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم ، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش ، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا» وهذا الحديث غريب جدا.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩)

يقول تعالى رادا على من أنكر بعثة الرسل من البشر : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال في الآية الأخرى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقال تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم ، لأنهم أنكروا ذلك فقالوا (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] ولهذا قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشرا ، وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.

٢٩٢

وقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] أي قد كانوا بشرا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس ، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا ، كما توهمه المشركون في قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٧ ـ ٨] الآية.

وقوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) أي في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزوجل ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه ، وقوله : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك ، ولهذا قال (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) أي أتباعهم من المؤمنين (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي المكذبين بما جاءت به الرسل.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥)

يقول تعالى منبها على شرف القرآن ومحرضا لهم على معرفة قدره : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) قال ابن عباس : شرفكم. وقال مجاهد : حديثكم. وقال الحسن : دينكم (١) ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي هذه النعمة ، وتتلقونها بالقبول ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف : ٤٤]. وقوله (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) هذه صيغة تكثير ، كما قال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧] وقال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥] الآية.

وقوله (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي أمة أخرى بعدهم (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي يفرون هاربين (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) هذا تهكم بهم نزرا ، أي قيل لهم نزرا لا تركضوا هاربين من نزول العذاب ، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم ، (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم ، (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك ، (فَما زالَتْ تِلْكَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٨.

٢٩٣

دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي ما زالت تلك المقالة ، وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصدا ، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠)

يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق ، أي بالعدل والقسط ، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولا لعبا كما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) يعني من عندنا ، يقول : وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقال الحسن وقتادة وغيرهما (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) اللهو المرأة بلسان أهل اليمن (١). وقال إبراهيم النخعي (لَاتَّخَذْناهُ) من الحور العين.

وقال عكرمة والسدي : والمراد باللهو هاهنا الولد ، وهذا والذي قبله متلازمان ، وهو كقوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزيز أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

وقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم : أي ما كنا فاعلين. وقال مجاهد كل شيء في القرآن (أَنْ) فهو إنكار. وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) أي نبين الحق فيدحض الباطل ، ولهذا قال : (فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي ذاهب مضمحل (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي أيها القائلون لله ولد (مِمَّا تَصِفُونَ) أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا ، فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يستنكفون عنها ، كما قال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٧٢].

وقوله : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يتعبون ولا يملون (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١١.

٢٩٤

فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا ، مطيعون قصدا وعملا ، قادرون عليه ، كما قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه إذ قال لهم «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : ما نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» غريب ، ولم يخرجوه.

ثم رواه ـ أعني ابن أبي حاتم ـ من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلا. وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام ، فقلت له : أرأيت قول الله تعالى للملائكة : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال : من هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب ، قال فقبل رأسي ثم قال : يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟ (١)

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣)

ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض ، أي لا يقدرون على شيء من ذلك ، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ) أي في السموات والأرض (لَفَسَدَتا) كقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١] وقال هاهنا : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يقولون أن له ولدا أو شريكا سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوا كبيرا.

وقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته وعدله ولطفه ، (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون : ٨٨].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٤.

٢٩٥

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥)

يقول تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ) يا محمد (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي دليلكم على ما تقولون (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) يعني القرآن (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون ، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله ، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه ، ولهذا قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) كما قال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وقال (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضا ، والمشركون لا برهان لهم ، وحجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩)

يقول تعالى ردا على من زعم أن له تعالى وتقدس ولدا من الملائكة ، كمن قال ذلك من العرب : إن الملائكة بنات الله فقال : (سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية ، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به ، بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)

وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) كقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]. وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] في آيات كثيرة في معنى ذلك (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) أي من خوفه ورهبته (مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي كل من قال ذلك ، وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، كقوله (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ، وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥].

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا

٢٩٦

يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣)

يقول تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد معه غيره ، أو يشرك به ما سواه ، ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه ، فجعل السموات سبعا ، والأرض سبعا ، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ، ولهذا قال (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء : [المتقارب]

ففي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد (١)

قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار؟ فقال : أرايتم السموات والأرض حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار (٢). وقال ابن ابي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك ، قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس : نعم كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات ، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما ، صدق هكذا كانت ، قال ابن عمر : قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن علمت أنه قد أوتي في القرآن علما. وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقا لا تمطر فأمطرت ، وكانت هذه رتقا لا تنبت فأنبتت.

وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنفي عن قوله : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) قال : كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين ، وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض

__________________

(١) البيت لأبي العتاهية في ديوان ص ١٠٤ ، وتاج العروس (عنه)؟؟؟.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢١.

٢٩٧

متماستين (١). وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن وقتادة : كانتا جميعا ففصل بينهما بهذا الهواء.

وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي أصل كل الأحياء. قال ابن أبي حاتم : حدثنا ابي ، حدثنا أبو الجماهر ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي ، فأخبرنا عن كل شيء قال : «كل شيء خلق من ماء».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد ، حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء ، قال : «كل شيء خلق من ماء» قال : قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال : «أفش السلام ، وأطعم الطعام ، وصل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنة بسلام» ورواه أيضا عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام ، تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم ، والترمذي يصحح له ، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس ، أي تضطرب وتتحرك ، فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع. فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات ، ولهذا قال : (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تميد بهم. وقوله : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طريقا من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد ، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ، ولهذا قال : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي على الأرض وهي كالقبة عليها ، كما قال: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧] وقال : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦] والبناء هو نصب القبة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بني الإسلام على خمس» (٣) أي خمسة دعائم ، وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب (مَحْفُوظاً) أي عاليا محروسا أن ينال. وقال

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ١٩ ، ٢٠.

(٢) المسند ٢ / ٢٩٥.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١ ، ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٩ ـ ٢٢.

٢٩٨

مجاهد : مرفوعا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال رجل : يا رسول الله ما هذه السماء؟ قال : «موج مكفوف عنكم» إسناده غريب.

وقوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) كقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥] أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر ، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكامله في يوم وليلة ، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا رحمه‌الله في كتابه التفكر والاعتبار : أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة ، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة ، فلم ير ذلك الرجل شيئا مما كان يحصل لغيره ، فشكى ذلك إلى أمه فقالت له : يا بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه؟ فقال : لا والله ما أعلمه ، قالت : فلعلك هممت؟ قال : لا ولا هممت ، قالت : فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال : نعم كثيرا.

قالت : فمن هاهنا أتيت ، ثم قال منبها على بعض آياته : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير خاص ، وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي يدورون. قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥)

يقول تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي يا محمد (الْخُلْدَ) أي في الدنيا بل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧] وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه‌السلام مات وليس بحي إلى الآن ، لأنه بشر سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا. وقد قال تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الكهف : ٨٢]. وقوله : (أَفَإِنْ مِتَ) أي يا محمد (فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل إلى الفناء ، ولهذا قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وقد روي عن الشافعي

٢٩٩

رحمه‌الله أن أنشد واستشهد بهذين البيتين : [الطويل]

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد (١)

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى ، فننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَنَبْلُوكُمْ) يقول نبتليكم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال (٢). وقوله : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي فنجازيكم بأعمالكم.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧)

يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله ، كما قال في الآية الأخرى (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤١ ـ ٤٢].

وقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) كما قال في الآية الأخرى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] أي في الأمور. قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق ، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ أسفله ، قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان. حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ـ وقبض أصابعه يقللها ـ فسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه».

__________________

(١) البيتان للإمام الشافعي في ملحق ديوانه ص ١٥٩ ، ١٦٠ ، والبيت الأول للشافعي في تاج العروس (وحد) ، وللإمام علي في ديوانه ص ٦٧ ، ولطرفة بن العبد في بهجة المجالس ٢ / ٧٤٦ ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في كتاب العين (وحد) ، والبيت الثاني لطرفة بن العبد في بهجة المجالس ٢ / ٧٤٧ ، وبلا نسبة في لسان العرب (خلف) ، ونوادر القالي ص ٢١٨ وتاج العروس (خلف)

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٢٦.

٣٠٠