تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤٨)

يقول تعالى إخبارا عن موسى وهارون عليهما‌السلام ، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما ، فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن يفرط يعجل. وقال مجاهد : يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى : يعتدي (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) أي لا تخافا منه ، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه ، وأرى مكانكما ومكانه ، لا يخفى عليّ من أمركم شيء ، واعلما أن ناصيته بيدي ، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري ، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما بعث الله عزوجل موسى إلى فرعون قال : رب أي شيء أقول؟ قال : قل هيا شراهيا. قال الأعمش : فسر ذلك : أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء (١) ، إسناده جيد ، وشيء غريب (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال : مكثا على بابه حينا لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد.

وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه ، وهما يقولان : إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل ، فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه ، فقال له : أيها الملك إن على بابك رجلا يقول قولا عجيبا يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك. قال ببابي؟ قال : نعم ، قال : أدخلوه ، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه ، فلما وقف على فرعون قال : إني رسول رب العالمين ، فعرفه فرعون.

وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه ، وهما لا يعرفانه ، وكان طعامهما ليلتئذ الطعثلل وهو اللفت ، ثم عرفاه وسلما عليه ، فقال له موسى : يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني. قال : افعل ما أمرك ربك ، فذهبا وكان ذلك ليلا ، فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون ، فغضب وقال : من يجترئ على هذا الصنيع الشديد ، فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلا مجنونا يقول إنه رسول الله ، فقال علي به ، فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه.

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٤ / ٥٣٧.

٢٦١

وقوله : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي بدلالة ومعجزة من ربك (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى ، ولهذا لما كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله «بسم الله الرحمن الرحمن ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر ، فلك المدر ولي الوبر ، ولكن قريشا قوم يعتدون ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» (١) ولهذا قال موسى وهارون عليهما‌السلام لفرعون (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ ـ ٣٩] وقال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٤ ـ ١٦] وقال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١ ـ ٣٢] أي كذب بقلبه ، وتولى بفعله.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥٢)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى منكرا وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه ، قال (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي الذي بعثك وأرسلك من هو ، فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يقول خلق لكل شيء زوجه (٢). وقال الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانا ، والحمار حمارا ، والشاة شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : سوى خلق كل دابة.

وقال سعيد بن جبير في قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) قال : أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه ، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة ، ولا للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب من خلق الشاة ، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح ، وهيأ كل شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئا من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح. وقال بعض المفسرين : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، كقوله تعالى : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٣] أي قدر قدرا وهدى

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٦٠٠ ، ٦٠١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٢١.

٢٦٢

الخلائق إليه ، أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه.

يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليفة على ما أراد (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق ، وقدر فهدى ، شرع يحتج بالقرون الأولى ، أي الذين لم يعبدوا الله ، أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره ، فقال له موسى في جواب ذلك ، هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم ، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله ، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي لا يشذ عنه شيء ، ولا يفوته صغير ولا كبير ، ولا ينسى شيئا يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط ، وأنه لا ينسى شيئا ، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه ، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان : أحدهما عدم الإحاطة بالشيء ، والآخر نسيانه بعد علمه ، فنزه نفسه عن ذلك.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) (٥٦)

هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عزوجل حين سأله فرعون عنه ، فقال : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ثم اعترض الكلام بين ذلك ، ثم قال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) وفي قراءة بعضهم مهادا أي قرارا تستقرون عليها ، وتقومون وتنامون عليها ، وتسافرون على ظهرها (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي جعل لكم طرقا تمشون في مناكبها كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء : ٣١] (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي من أنواع النباتات من زروع وثمار ، ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي شيء لطعامكم وفاكهتكم ، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا ويابسا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي لدلالات وحججا وبراهين (لِأُولِي النُّهى) أي لذوي العقول السليمة المستقيمة ، على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي من الأرض مبدؤكم ، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] وهذه الآية كقوله تعالى : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥] وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضر جنازة ، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال : منها خلقناكم ، ثم أخذ أخرى ، وقال : وفيها نعيدكم ، ثم أخرى ، وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى. وقوله : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) يعني فرعون أنه قامت

٢٦٣

عليه الحجج والآيات والدلالات ، وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفرا وعنادا وبغيا ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] الآية.

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى ، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما ، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء ، فقال : هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك ، وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك ، فإن عندنا سحرا مثل سحرك ، فلا يغرنك ما أنت فيه ، (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه ، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين ، فعند ذلك (قالَ) لهم موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وهو يوم عيدهم ونيروزهم (١) وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم ، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ، ولهذا قال : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ) أي جميعهم (ضُحًى) أي ضحوة من النهار ، ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح.

وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج ، ولهذا لم يقل ليلا ولكن نهارا ضحى ، قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء. وقال السدي وقتادة وابن زيد : كان يوم عيدهم. وقال سعيد بن جبير : كان يوم سوقهم ، ولا منافاة. قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده ، كما ثبت في الصحيح ، وقال وهب بن منبه : قال فرعون : يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه. قال موسى لم أومر بهذا إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك ، فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا ، وقل له أن يجعل هو ، قال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ففعل ، وقال مجاهد وقتادة : مكانا سوى منصفا. وقال السدي : عدلا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : مكانا سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى(٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) (٦٤)

__________________

(١) النوروز : من أعياد الفرس ، وقد عرب إلى نيروز.

٢٦٤

يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليه‌السلام إلى وقت ومكان معلومين تولى ، أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته ، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان ، وقد كان السحر فيهم كثيرا نافقا جدا ، كما قال تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) [القصص : ٧٩] (ثُمَّ أَتى) ، أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة ، وجلس فرعون على سرير مملكته ، واصطف له أكابر دولته ، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة ، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئا على عصاه ومعه أخوه هارون ، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفا ، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم ، يقولون (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء : ٤١ ـ ٤٢] (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة ، وليست مخلوقة ، فتكونون قد كذبتم على الله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي يهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) قيل معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم ، فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي ، وقائل يقول بل هو ساحر ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي تناجوا فيما بينهم (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وهذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ، ومنهم من قرأ «إن هذين لساحران» وهذه اللغة المشهورة ، وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه. والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه ـ يعنون موسى وهارون ـ ساحران عالمان ، خبيران بصناعة السحر ، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ، ويقاتلا فرعون وجنوده ، فينتصرا عليه ، ويخرجاكم من أرضكم.

وقوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر ، فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض ، وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم ، وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق ، سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال : يصرفا وجوه الناس إليهما.

وقال مجاهد (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال : أولو الشرف والعقل والأسنان. وقال أبو صالح : بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة : بخيركم. وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل ، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما. وقال عبد الرحمن بن زيد : بطريقتكم المثلى بالذي أنتم عليه. (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي اجتمعوا كلكم صفا واحدا ، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا

٢٦٥

الأبصار ، وتغلبوا هذا وأخاه (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي منا ومنه ، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل ، وأما هو فينال الرياسة العظيمة.

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠)

يقول تعالى مخبرا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه‌السلام ، أنهم قالوا لموسى (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أي أنت أولا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا) أي أنتم أولا لنرى ماذا تصنعون من السحر ، وليظهر للناس جلية أمرهم (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا (قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء: ٤٤] وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] وقال هاهنا : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد ، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كان حيلة ، وكانوا جما غفيرا وجمعا كثيرا ، فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضا.

وقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه ، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألق ما في يمينك يعني عصاك ، فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الخبال والعصي حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة ، فقامت المعجزة واتضح البرهان ، ووقع الحق وبطل السحر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) قال : لا يؤمن به حيث وجد» (١) وقد روى أصله الترمذي موقوفا ومرفوعا. فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، وأنه حق لا مرية فيه ، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون ، فعند ذلك وقعوا سجدا لله ، و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء : ٤٧ ـ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الحدود باب ٢٧.

٢٦٦

٤٨] ، ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة. وقال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفا ، وقال القاسم بن أبي بزة : كانوا سبعين ألفا ، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفا ، وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة : كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفا ، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفا ، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن حمزة ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت السحرة سبعين رجلا ، أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح بمكة ، حدثنا ابن المبارك قال : قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجدا ، رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها ، قال : وذكر عن سعيد بن سلام ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) قال : رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم ، وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣)

يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل ، حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة ، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم ، وغلب كل الغلب ، شرع في المكابرة والبهت ، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة ، فتهددهم وتوعدهم وقال : (آمَنْتُمْ لَهُ) أي صدقتموه (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي ما أمرتكم بذلك وأفتنم علي في ذلك ، وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى ، واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٢٣] ، ثم أخذ يتهددهم فقال : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي لأجعلنكم مثلة ، ولأقتلنكم ولأشهرنكم ، قال ابن عباس : فكان أول من فعل ذلك ، ورواه ابن أبي حاتم.

وقوله (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي أنتم تقولون : إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى ، فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه ، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عزوجل و (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ

٢٦٧

الْبَيِّناتِ) أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين ، (وَالَّذِي فَطَرَنا) يحتمل أن يكون قسما ، ويحتمل أن يكون معطوفا على البينات ، يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدئ خلقنا من الطين ، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.

(فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي فافعل ما شئت ، وما وصلت إليه يدك ، (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ، ونحن قد رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي ما كان منا من الآثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من الحسر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل ، فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء ، وقال : علموهم تعليما لا يعلمه أحد في الأرض ، قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي خير لنا منك وأبقى أي أدوم ثوابا مما كنت وعدتنا ومنيتنا ، وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه‌الله. وقال محمد بن كعب القرظي (وَاللهُ خَيْرٌ) أي لنا منك إن أطيع (وَأَبْقى) أي منك عذابا إن عصي ، وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضا. والظاهر أن فرعون ـ لعنه الله ـ صمم على ذلك ، وفعله بهم رحمة لهم من الله ، ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦)

الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون ، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد ، فقالوا : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) كقوله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر : ٣٦] وقال : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١١ ـ ١٣] وقال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧].

وقال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في

__________________

(١) المسند ٣ / ١١.

٢٦٨

الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم : كأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بالبادية (١) ، وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل ، كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبي ، حدثنا حيان ، سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب فأتى على هذه الآية (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ، وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فتجعل الضبائر ، فيؤتى بهم نهرا يقال له الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل».

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي الجنة ذات الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات ، والمساكن الطيبات.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، أنبأنا همام ، حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تخرج الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها ، فإذا سألتهم الله فاسألوه الفردوس» (٣) ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال : كان يقال : الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فيهن الياقوت والحلي ، في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد.

وفي الصحيحين : «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم ـ قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء قال ـ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» (٤) وفي السنن : وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما (٥). وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة ، وهي بدل من الدرجات العلى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٠٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.

(٢) المسند ٥ / ٣١٦.

(٣) أخرجه الترمذي في صفة الجنة باب ٤.

(٤) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، والرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الجنة حديث ١١.

(٥) أخرجه أبو داود في الحروف باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٦ ، ٢٧.

٢٦٩

خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين أبدا (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك ، وعبد الله وحده لا شريك له. واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خير وطلب.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩)

يقول تعالى مخبرا أنه أمر موسى عليه‌السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل ، ويذهب بهم من قبضة فرعون ، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة ، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب ، فغضب فرعون غضبا شديدا ، وأرسل في المدائن حاشرين ، أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه ، يقول : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) [الشعراء : ٥٣ ـ ٥٥].

ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه ، ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين ، أي عند طلوع الشمس (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٠ ـ ٦٢] ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم ، وفرعون وراءهم ، فعند ذلك أوحى الله إليه أن اضرب (لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) فضرب البحر بعصاه ، وقال : انفلق علي بإذن الله ، (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣] ، أي الجبل العظيم ، فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يبسا كوجه الأرض ، فلهذا قال : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً) أي من فرعون (وَلا تَخْشى) يعني من البحر أن يغرق قومك ، ثم قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِ) أي البحر (ما غَشِيَهُمْ) أي الذي هو معروف ومشهور ، وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤ ـ ٥٥] وقال الشاعر : [رجز]

أنا أبو النجم وشعري شعري (١)

أي الذي يعرف وهو مشهور. وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد ، كذلك (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٨].

__________________

(١) الرجز لأبي النجم في أمالي المرتضى ١ / ٣٥٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٩ ، والخصائص ٣ / ٣٣٧ ، والدرر ١ / ١٨٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٦١٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٤٧ ، وشرح المفصل ١ / ٩٨ ، ٩ / ٨٣ ، والمنصف ١ / ١٠ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٠ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٨ / ٣٠٧ ، ٩ / ٤١٢ ، والدرر ٥ / ٧٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٠٣ ، ٢٩٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٢٩ ، ٢ / ٤٣٥ ، ٤٣٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٥٩.

٢٧٠

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢)

يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام ، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون ، وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة ، لم ينج منهم أحد ، كما قال : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠] وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا شعبة ، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وجد اليهود تصوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون ، فقال : «نحن أولى بموسى فصوموه» (١) رواه مسلم أيضا في صحيحه.

ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن ، وهو الذي كلمه الله تعالى عليه ، وسأل فيه الرؤية ، وأعطاه التوراة هنالك ، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريبا ، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها (٢) ، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء ، والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد ، لطفا من الله ورحمة بهم وإحسانا إليهم ، ولهذا قال تعالى : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ، ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما أمرتكم به (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي أغضب عليكم (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي فقد شقي. وقال شفي بن مانع : إن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه ، فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال ، وذلك قوله (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) رواه ابن أبي حاتم.

وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي كل من تاب إلي ، تبت عليه من أي ذنب كان ، حتى أنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل. وقوله تعالى : (تابَ) أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق. وقوله : (وَآمَنَ) أي بقلبه. (وَعَمِلَ صالِحاً) أي بجوارحه. وقوله : (ثُمَّ اهْتَدى) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك. وقال سعيد بن جبير (ثُمَّ اهْتَدى) أي استقام على السنة والجماعة وروي نحوه عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٠ ، باب ٢ ، ومسلم في الصيام حديث ١٢٧ ، ١٢٨.

(٢) في تفسير الآية ٥٧ من سورة البقرة ، والآية ١٦٠ من سورة الأعراف.

٢٧١

مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف وقال قتادة (ثُمَّ اهْتَدى) أي لزم الإسلام حتى يموت وقال سفيان الثوري (ثُمَّ اهْتَدى) أي علم أن لهذا ثوابا ، وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر ، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد : ١٧].

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩)

لما سار موسى عليه‌السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٣٧ ـ ١٣٨] وواعده ربه ثلاثين ليلة ، ثم أتبعها عشرا ، فتمت أربعين ليلة ، أي يصومها ليلا ونهارا ، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك ، فسارع موسى عليه‌السلام مبادرا إلى الطور ، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ، ولهذا قال تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي قادمون ينزلون قريبا من الطور (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي لتزداد عنى رضا (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.

وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضا ، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥] أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.

وقوله : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم ، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم ، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم ، وفيها شرف لهم ، وهم قوم قد عبدوا غير الله ، ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم ، ولهذا قال : رجع إليهم غضبان أسفا ، والأسف شدة الغضب. وقال مجاهد : غضبان أسفا أي جزعا ، وقال قتادة والسدي : أسفا حزينا على ما صنع قومه من بعده (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي أما وعدكم على لساني كل خير في

٢٧٢

الدنيا والآخرة وحسن العاقبة ، كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله.

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم ، (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أم هاهنا بمعنى بل ، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني ، كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ، قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي عن قدرتنا واختيارنا ، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر ، فقذفناها أي ألقيناها عنا.

وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه‌السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار ، وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس ، إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة ، ويجعل حجرا واحدا ، حتى إذا رجع موسى عليه‌السلام ، رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له ، فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا ، فكان عجلا له خوار أي صوت استدراجا ، وإمهالا ومحنة واختبارا ، ولهذا قال : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البختري ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع ، فقال هارون : اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه ، ومضى هارون. وقال السامري : اللهم إني أسألك ان يخور فخار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : أعمل ما ينفع ولا يضر. وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا : أي الضّلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه ، كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس : (فَنَسِيَ) ، أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.

وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط يعني مثله ، يقول الله: (فَنَسِيَ) أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري. قال الله تعالى ردا عليهم وتقريعا لهم وبيانا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ

٢٧٣

لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي العجل ، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه ، (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، أي في دنياهم ولا في أخراهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره. فيخرج من فمه فيسمع له صوت.

وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت ، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب ، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق ، قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين ، وهم يسألون عن دم البعوضة (١).

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١)

يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه‌السلام لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم ، إنما هذا فتنة لكم وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ذو العرش المجيد الفعال لما يريد (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) أي فيما آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه ، (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه ، وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤)

يخبر تعالى عن موسى عليه‌السلام حين رجع إلى قومه ، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم ، فامتلأ عند ذلك غضبا وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك ، وذكرنا هناك حديث «ليس الخبر كالمعاينة» وشرع يلوم أخاه هارون ، فقال : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أي فيما كنت قدمت إليك ، وهو قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢].

(قالَ يَا بْنَ أُمَ) ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه ، لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف ، ولهذا قال : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) الآية ، هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ١٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٣ ، ١١٤.

٢٧٤

الجسيم ، قال : (إِنِّي خَشِيتُ) أن أتبعك فأخبرك بهذا ، فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم ، قال ابن عباس: وكان هارون هائبا مطيعا له (١).

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨)

يقول موسى عليه‌السلام للسامري : ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان السامري رجلا من اهل باجرما ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان حب عبادة البقر في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل ، وكان اسمه موسى بن ظفر ، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان ، وقال قتادة : كان من قرية سامرا.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي من أثر فرسه ، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، أخبرني عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال : إن جبريل عليه‌السلام لما نزل فصعد بموسى عليه‌السلام إلى السماء ، بصر به السامري من بين الناس ، فقبض قبضة من أثر الفرس ، قال : وحمل جبريل موسى عليهما‌السلام خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح ، وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح ، فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال : نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه ، غريب.

وقال مجاهد : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) قال : من تحت حافر فرس جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع ، قال مجاهد : نبذ السامري ، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فيه فهو خواره. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا علي بن المديني ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا عمارة ، حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول ، فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان ، فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٤٩.

٢٧٥

أصابعه على القبضة ، فلما ذهب موسى للميقات.

وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون ، فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا الحلي ، فاجمعوه فجمعوه ، فأوقدوا عليه فذاب ، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت كن فيكون ، فقذف القبضة وقال كن فكان عجلا جسدا له خوار ، فقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) ولهذا قال (فَنَبَذْتُها) أي ألقيتها مع من ألقى (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي حسنته وأعجبها ، إذا ذاك (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس ، أي لا تماس الناس ولا يمسونك (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) أي يوم القيامة (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال : عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس (١).

وقوله : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) قال الحسن وقتادة وأبو نهيك : لن تغيب عنه. وقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) أي معبودك (الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) أي أقمت على عبادته يعني العجل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) قال الضحاك عن ابن عباس والسدي : سحله بالمبارد وألقاه على النار. وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحما ودما ، فحرقه بالنار ، ثم القى رماده في البحر ، ولهذا قال : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال : إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل ، ثم صوره عجلا ، قال : فعمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد ، فبرده بها وهو على شط نهر ، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب ، فقالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا ، وهكذا قال السدي ، وقد تقدم في تفسير سورة البقرة ، ثم في حديث الفتون بسط ذلك.

وقوله تعالى : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يقول لهم موسى عليه‌السلام : ليس هذا إلهكم ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ، ولا تنبغي العبادة إلا له ، فإن كل شيء فقير إليه عبد له. وقوله : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) نصب على التمييز ، أي هو عالم بكل شيء ، (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق : ١٢] ، و (أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] ، فلا (يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [سبأ : ٣] ، (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] ، (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] ، والآيات

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤٥٢.

٢٧٦

في هذا كثيرة جدا.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع ، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص ، هذا وقد آتيناك من لدنا ، أي من عندنا ذكرا ، وهو القرآن العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا مثله ، ولا أكمل منه ، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن ، وحكم الفصل بين الناس منه.

ولهذا قال تعالى : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمرا وطلبا ، وابتغى الهدى من غيره ، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ، ولهذا قال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي إثما كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم ، كما قال : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع ، فمن اتبعه هدي ومن خالفه وأعرض عنه ، ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة ، ولهذا قال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ) أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) أي بئس الحمل حملهم.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) (١٠٤)

ثبت في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصور ، فقال : «قرن ينفخ فيه» (١). وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم ، الدائرة منه بقدر السموات والأرض ، ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام وجاء في الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن له» فقالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال «قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» (٢).

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٨ ، وتفسير سورة ٣٩ ، باب ٨ ، والدارمي في الرقاق باب ٧٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢.

(٢) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٨ ، وتفسير سورة ٣٩ ، باب ٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٢٦ ، ٣ / ٧ ، ٤ / ٣٧٤.

٢٧٧

وقوله : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) قيل : معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) قال ابن عباس : يتسارون بينهم ، أي يقول بعضهم لبعض : إن لبثتم إلا عشرا أي في الدار الدنيا ، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها ، قال الله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي في حال تناجيهم بينهم (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي العاقل الكامل فيهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد ، لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها ، كأنها يوم واحد ، ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة ، وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة ، ولهذا قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الروم : ٥٥ ـ ٥٦] وقال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر : ٣٧] الآية ، وقال تعالى : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٤] أي إنما كان لبثكم فيها قليلا ، لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ، ولكن تصرفتم فاسأتم التصرف ، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً) (١٠٨)

يقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا (فَيَذَرُها) أي الأرض (قاعاً صَفْصَفاً) أي بساطا واحدا ، والقاع هو المستوي من الأرض ، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك ، وقيل الذي لا نبات فيه ، والأول أولى وإن كان الآخر مرادا أيضا باللازم ، ولهذا قال : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا ، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه ، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم ، كما قال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] وقال : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ١٠٥] وقال محمد بن كعب القرظي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ، ويطوي السماء ، وتتناثر النجوم ، وتذهب الشمس والقمر ، وينادي مناد ، فيتبع الناس الصوت يؤمونه ، فذلك قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) وقال قتادة : لا عوج له ، لا يميلون

٢٧٨

عنه. وقال أبو صالح : لا عوج له أي لا عوج عنه.

وقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) قال ابن عباس : سكنت ، وكذا قال السدي (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني وطء الأقدام ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الصوت الخفي ، وهو رواية عن عكرمة والضحاك. وقال سعيد بن جبير (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الحديث وسره ووطء الأقدام ، فقد جمع سعيد كلا القولين ، وهو محتمل ، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر ، وهو مشيهم في سكون وخضوع ، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال ، فقد قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥].

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢) يقول تعالى : (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي عنده (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] ، وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]. وقال : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] ، وقال : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨].

وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سيد ولد آدم ، وأكرم الخلائق على الله عزوجل أنه قال «آتي تحت العرش ، وأخر لله ساجدا ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، فيدعني ما شاء أن يدعني ، ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفع تشفع ـ فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ثم أعود» فذكر أربع مرات ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء(١).

وفي الحديث أيضا «يقول تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، فيخرجون خلقا كثيرا ، ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان ، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة ، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٣ ، والتوحيد باب ١٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٦ ، ٢٤٤.

٢٧٩

إيمان» (١) الحديث.

وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يحيط علما بالخلائق كلهم (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) كقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥]. وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قال ابن عباس وغير واحد : خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه ، فهو الكامل في نفسه ، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به. وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي يوم القيامة ، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ، وفي الحديث «يقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم» وفي الصحيح «إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢) ، والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك ، فإن الله تعالى يقول : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) لما ذكر الظالمين ووعيدهم ، ثنى بالمتقين وحكمهم ، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون ، أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد ، فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره ، والهضم النقص.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً(١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

يقول تعالى : ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة ، أنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق ، ووعيده حق ورسله حق ، والجنة حق والنار حق وكل شيء منه حق ، وعدله تعالى أن لا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل ، والإعذار إلى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.

وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ، كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٦ ـ ١٩] وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يعالج

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٩٤ ، ٩٥.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٦ ، ٥٧.

٢٨٠