تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى ، فأنزل الله تعالى : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرا كثيرا ، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (١).

وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا إبراهيم الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» إسناده جيد ، وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ، ذكره أبو عمر في استيعابه ، وقال : نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة ، وروى عنه سماك بن حرب.

وقال مجاهد في قوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) هي كقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل : ٢٠] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) لا والله ما جعله شقاء ، ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه.

وقوله : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك ، رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء ، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها ، وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها ، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام (٢) ، وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله عنه. وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا ، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) أي الجميع ملكه ، وفي قبضته ، وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه ، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ١٠ ، والخمس باب ٧ ، والاعتصام باب ١٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٧٥ ، والزكاة حديث ٩٨ ، ١٠٠.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٧ ، باب ١.

٢٤١

ولا رب غيره. وقوله : (وَما تَحْتَ الثَّرى) قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي : إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبا سئل فقيل له : ما تحت هذه الأرض؟ فقال : الماء. قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض. قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض. قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء ، قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض، قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء ، قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الصخرة ، قيل : وما تحت الصخرة؟ قال : ملك ، قيل : وما تحت الملك؟ قا : حوت معلق طرفاه بالعرش ، قيل : وما تحت الحوت؟ قال : الهواء والظلمة وانقطع العلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد الله بن عياش ، حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد الملك ، والثانية سجن الريح ، والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت جهنم ، والخامسة فيها حيات جهنم ، والسادسة فيها عقارب جهنم ، والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه ، فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه» وهذا حديث غريب جدا ، ورفعه فيه نظر.

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال : قلت ابن الفضل الأنصاري؟ قال : نعم ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فأقبلنا راجعين في حر شديد ، فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين ، قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم ، ثم قال : أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس ، فقلت : أيها السائل هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أتاك ، فقال : أيهم هو؟ فقلت : صاحب البكر الأحمر ، فدنا منه فأخذ بخطام راحلته ، فكف عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنت محمد؟ قال : «نعم».

قال : إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلا؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سل عما شئت» قال : يا محمد أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قال : صدقت ثم قال : يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأي الماءين غلب على الآخر نزع الولد» فقال : صدقت ، فقال : ما للرجل من الولد ، وما للمرأة منه؟ فقال «للرجل العظام والعروق والعصب ، وللمرأة اللحم والدم والشعر» قال : صدقت ، ثم قال : يا محمد

٢٤٢

ما تحت هذه؟ ـ يعني الأرض ـ.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق» فقال : فما تحتهم؟ قال «أرض». قال : فما تحت الأرض؟ قال : «الماء». قال : فما تحت الماء؟ قال : «ظلمة». قال : فما تحت الظلمة؟ قال : «الهواء». قال : فما تحت الهواء؟ قال : «الثرى». قال : فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبكاء ، وقال : «انقطع علم الخلق عند علم الخالق ، أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال : فقال صدقت ، أشهد أنك رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس هل تدرون من هذا؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال «هذا جبريل عليه‌السلام». هذا حديث غريب جدا ، وسياق عجيب ، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا ، وقد قال فيه يحيى بن معين : ليس يساوي شيئا ، وضعفه أبو حاتم الرازي ، وقال ابن عدي : لا يعرف. قلت : وقد خلط في هذا الحديث ، ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث ، وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى ، كما قال تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) قال : السر ما أسره ابن آدم في نفسه (وَأَخْفى) ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه ، فالله يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضي من ذلك وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (١) [لقمان : ٢٨] وقال الضحاك (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) قال : لسر ما تحدث به نفسك ، وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.

وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا ، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غدا ، وقال مجاهد (وَأَخْفى) يعني الوسوسة ، وقال أيضا هو وسعيد بن جبير (وَأَخْفى) أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الذي أنزل عليك القرآن ، هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠)

من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى ، وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٩٣.

٢٤٣

وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم ، وسار بأهله قيل : قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته ، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب ، وجعل يقدح بزند معه ليوري نارا كما جرت له العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ولا يخرج منه شرر ولا شيء ، فبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا ، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي شهاب من نار. وفي الآية الأخرى (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) [القصص : ٢٩] وهي الجمر الذي معه لهب (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [القصص : ٢٩] دل على وجود البرد.

وقوله : (بِقَبَسٍ) دل على وجود الظلام ، وقوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي من يهديني الطريق ، دل على أنه قد تاه عن الطريق ، كما قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) قال : من يهديني إلى الطريق ، وكانوا شاتين وضلوا الطريق ، فلما رأى النار قال : إن لم أجد أحدا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) (١٦)

يقول تعالى : (فَلَمَّا أَتاها) أي النار ، واقترب منها (نُودِيَ يا مُوسى) وفي الآية الأخرى (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] وقال هاهنا (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي الذي يكلمك ويخاطبك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف : كانتا من جلد حمار غير ذكي ، وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة ، وقيل : ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (طُوىً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو اسم للوادي ، وكذا قال غير واحد ، فعلى هذا يكون عطف بيان ، وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه ، وقيل : لأنه قدس مرتين ، وطوى له البركة وكررت ، والأول أصح كقوله : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦]. وقوله : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) كقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤] أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه ، وقد قيل : إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال : لا ، قال : لأني لم

٢٤٤

يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي استمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وقوله : (فَاعْبُدْنِي) أي وحدني ، وقم بعبادتي من غير شريك (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قيل : معناه صل لتذكرني ، وقيل : معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي ، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة ، عن أنس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها ، فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله تعالى قال : وأقم الصلاة لذكري» ، وفي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك» (٢). وقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها.

وقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : أكاد أخفيها من نفسي ، يقول : لأنها لا تخفى من نفس الله أبدا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : من نفسه: وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (أَكادُ أُخْفِيها) يقول : لا أطلع عليها أحدا غيري. وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي ، يقول : كتمتها من الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة : أكاد أخفيها ، وهي في بعض القراءات : أخفيها من نفسي ، ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين. قلت وهذا كقوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] وقال : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب ، حدثنا أبو نميلة ، حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال : أقرأنيها سعيد بن جبير : أكاد أخفيها ، يعني بنصب الألف وخفض الفاء ، يقول أظهرها ، ثم قال أما سمعت قول الشاعر : [الخفيف]

دأب شهرين ثم شهرا دميكا

بأريكين يخفيان غميرا (٣)

__________________

(١) المسند ٣ / ١٨٤.

(٢) أخرجه البخاري في المواقيت باب ٣٧ ، ومسلم في المساجد حديث ٣١٤.

(٣) يروى البيت :

دأب شهرين نم نصفا دميكا

بأريكين يكلمان غميرا

وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ١٧٤ ، وكتاب الجيم ١ / ٢٦٦ ، ولسان العرب (دمك)

٢٤٥

قال السدي : الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس ، والأريكين موضع ، والدميك الشهر التام ، وهذا الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٦] وقوله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) الآية ، المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة ، وأقبل على ملاذه في دنياه ، وعصى مولاه واتبع هواه ، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر (فَتَرْدى) أي تهلك وتعطب ، قال الله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [الليل : ١١].

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى(٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١)

هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه‌السلام ، ومعجزة عظيمة ، وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عزوجل ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل. وقوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) قال بعض المفسرين : إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له ، وقيل : وإنما قال له ذلك على وجه التقرير ، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها ، فسترى ما نصنع بها الآن (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) استفهام تقرير (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها في حال المشي (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي. قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ، فهذا الهش ولا يخبط ، وكذا قال ميمون بن مهران أيضا.

وقوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك ، وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت ، فقيل : كانت تضيء له بالليل وتحرس له النغم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ، والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعبانها فما كان يفر منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية ، وكذا قول بعضهم : إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام ، وقول الآخر : إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان اسمها ماشا ، والله أعلم بالصواب.

وقوله تعالى : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي صارت في الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة ، فإذا

٢٤٦

هي تهتز كأنها جان ، وهو أسرع الحيات حركة ، ولكنه صغير ، فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة ، (تَسْعى) أي تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع ، حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ولم تكن قبل ذلك حية ، فمرت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة فابتلعتها ، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا ، ونودي : أن يا موسى خذها فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية : أن خذها ولا تخف ، فقيل له في الثالثة : إنك من الآمنين ، فأخذها.

وقال وهب بن منبه في قوله : (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) قال فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون فدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها ، عيناه توقدان نارا ، وقد عاد المحجن منها عرفا ، قيل : شعره مثل النيازك ، وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف ، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب ، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية.

ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال : (خُذْها) بيمينك (وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ، أدلى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ، ومن ضعيف خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حسن الأضراس والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين ، ولهذا قال تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي(٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً(٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥)

وهذا برهان ثان لموسى عليه‌السلام ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى ، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) وقال في مكان آخر (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [القصص: ٣٢] وقال مجاهد : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) كفه تحت عضدك ، وذلك أن موسىعليه‌السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر.

٢٤٧

وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزوجل ، ولهذا قال تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) وقال وهب : قال له ربه : ادنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه.

وقوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه وهاربا فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ، فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني ، وإن معك أيدي ونصري ، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني ، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته.

ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي ، وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي ، وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني ، وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزة بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم.

وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ، ولا قليل مني ، تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ، ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما جرت عادتي في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العناء ، وما ذاك لهوانهم علي ولكن

٢٤٨

ليستكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ، واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقا حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك.

وأعلم أنه من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني ، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ، وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري ، رواه ابن أبي حاتم.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) هذا سؤال من موسى عليه‌السلام لربه عزوجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به ، فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم ، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا ، وأكثرهم جنودا ، وأعمرهم ملكا ، وأطغاهم وأبلغهم تمردا ، بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ، ولا يعلم لرعاياه إلها غيره ، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدا عندهم في حجر فرعون على فراشه ، ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه ، فهرب منهم هذه المدة بكمالها ، ثم بعد هذا بعثه ربه عزوجل إليهم نذيرا يدعوهم إلى الله عزوجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ، ولهذا قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري ، وإلا فلا طاقة لي بذلك (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) وذلك لما كان أصابه ، من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، كما سيأتي بيانه ، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال الله تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف : ٥٢] أي يفصح بالكلام.

وقال الحسن البصري (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) قال : حل عقدة واحدة. ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه.

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال : أتاه ذو قرابة له : فقال له : ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك؟

قال : نعم. قال : فإن موسى عليه‌السلام إنما سأل ربه أن يحلّ عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ، ولم يزد عليها ، هذا لفظه.

٢٤٩

وقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) وهذا أيضا سؤال من موسى عليه‌السلام في أمر خارجي عنه ، وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبئ هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما‌السلام. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن نمير ، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت ببعض الأعراب ، فسمعت رجلا يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا : لا ندري. قال : أنا والله أدري. قالت : فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ، قال : موسى حين سأل لأخيه النبوة ، فقلت : صدق والله. قلت : وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه‌السلام : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قال مجاهد : ظهري ، (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي في مشاورتي (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وقوله : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة ، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٤٠)

هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه‌السلام فيما سأل من ربه عزوجل ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ، لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان ، فاتخذت له تابوتا ، فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل ، وتمسكه إلى منزلها بحبل ، فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [القصص : ١٠] فذهب به البحر إلى دار فرعون.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي قدرا مقدورا من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذرا من وجود موسى ، فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له ، ولهذا قال تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي عند عدوك جعلته يحبك ، قال سلمة بن كهيل (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قال : حببتك إلى عبادي (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله وقال قتادة : تغذى على عيني.

٢٥٠

وقال معمر بن المثنى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) بحيث أرى ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة.

وقوله : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها ، قال الله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] فجاءت أخته وقالت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) [القصص : ١٢] تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة ، فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها ، فقبله ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنى وأجزل ، ولهذا جاء في الحديث «مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» وقال تعالى هاهنا : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي عليك (وَقَتَلْتَ نَفْساً) يعني القبطي (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ، ففر منهم هاربا حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥].

وقوله : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه‌الله في كتاب التفسير من سننه قوله (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً).

(حديث الفتون) حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزوجل لموسى عليه‌السلام (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا ، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه‌السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه.

وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه‌السلام ، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولد ذكر ، واتركوا بناتهم ، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة.

٢٥١

فلما كان من قابل ، حملت بموسى عليه‌السلام فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها : ما فعلت يا بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.

فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقي جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن : إن في هذا مالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك» ، فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل.

وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا : أحي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظئورات : أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها.

فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها فأتت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئا حبه قط. قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك

٢٥٢

أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا ، فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده ، فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قد قضى فيه.

فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني ابني فدعتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك ، وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به.

وأريد به فتونا فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟ فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف الحق به ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين ، عرفت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرت إليه الجمرتين واللؤلؤتين ، فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره ، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى عليه‌السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا ، لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عزوجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ، ثم قال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص : ١٦].

فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم ، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر ،

٢٥٣

رجلا من آل فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) [القصص : ١٨] ، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين ، أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني.

فخاف الإسرائيلي وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره ، وذلك من الفتون يا ابن جبير.

فخرج موسى متوجها نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزوجل ، فإنه قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) [القصص : ٢٣] يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى عليه‌السلام فاستظل بشجرة وقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا ، فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته.

فلما كلمه قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلم يفعل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص : ٢٧]؟ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا.

قال سعيد وهو ابن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أي

٢٥٤

الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا ، وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي كان وعده ، فإنه قضى عشر سنين ، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك ، قلت : أجل وأولى.

فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما‌السلام ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) قال : فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن؟ قال : فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت ، قال : أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل ، فأبى عليه وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين ، فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة ، فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون.

فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ، يعني من غير برص ، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع لهما السحرة ، فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما ، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات ، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل ، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى.

قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) [الشعراء : ٤٠] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما؟ ف (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) [الأعراف : ١١٥] قال : بل ألقوا (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الأعراف : ٤٤] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت

٢٥٥

جزرا إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته ، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكن هذا أمر من الله عزوجل ، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه ، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) [الأعراف : ١١٩] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى.

فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا ، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل ، فيصير عاصيا لله.

فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى : إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.

ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) [الأعراف : ١٣٨] الآية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ، ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، ارجع فصم عشرا ثم ائتني.

٢٥٦

ففعل موسى عليه‌السلام ما أمر به ، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك ، فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقته ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم ، وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر بهارون فقال له هارون عليه‌السلام : يا سامري ألا تلقي ما في يدك ، وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك؟

فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا ، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف ليس فيه روح وله خوار ، قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه ، وكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق ، فقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى ، وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به.

فقال لهم هارون : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ، هذه أربعون يوما قد مضت ، وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه : يتبعه ، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له ، وانصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ، ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.

فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا ، فاختار موسى من قومه سبعين رجلا لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض! فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل

٢٥٧

بهم ما فعل ، فقال : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) [الأعراف : ٣] وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٥] فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي ، فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون ، واطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول.

ثم سار بهم موسى عليه‌السلام متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها ، فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.

قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويقول أناس : إنهم من قوم موسى ، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ، وظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.

رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ، ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟

٢٥٨

فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره.

وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير (١) وابن أبي حاتم في تفسيريهما ، كلهم من حديث يزيد بن هارون به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار ، أو غيره ، والله أعلم ، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا. وقوله عزوجل :

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤)

يقول تعالى مخاطبا لموسى عليه‌السلام : إنه لبث مقيما في أهل مدين فارا من فرعون وملئه ، يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله تبارك وتعالى ، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ، ولهذا قال : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) قال مجاهد : أي على موعد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) قال : على قدر الرسالة والنبوة (٢). وقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي اصطفيتك واجتبيتك رسولا لنفسي أي كما أريد وأشاء.

وقال البخاري عند تفسيرها : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التقى آدم وموسى فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال : نعم ، قال فوجدته مكتوبا عليّ قبل أن يخلقني ، قال : نعم فحج آدم موسى» (٣) أخرجاه.

وقوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا ، وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا ، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله ، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤١٧ ، وانظر الدر المنثور ٤ / ٥٣٠ ـ ٥٣٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٤١٨.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٠ ، باب ١ ، ٣ ، ومسلم في القدر حديث ١٣ ، ١٥.

٢٥٩

وهو مناجز قرنه». وقوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين ، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) : [رجز]

يا من يتحبب إلى من يعاديه

فكيف بمن يتولاه ويناديه؟

وقال وهب بن منبه : قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) قال : لا إله إلا الله ، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أعذرا إليه قولا له : إن لك ربا ولك معادا ، وإن بين يديك جنة ونارا ، وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) قال : كنه ، وكذا روي عن سفيان الثوري : كنه بأبي مرة ، والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رقيق ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].

وقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة ، أو يخشى أي يوجد طاعة من خشية ربه ، كما قال تعالى : لمن أراد أن يذكر أو يخشى! (١) فالتذكر الرجوع عن المحذور ، والخشية تحصيل الطاعة ، وقال الحسن البصري : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه ، وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ، ويروى لأمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق : [الطويل]

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة

بعثت إلى موسى رسولا مناديا (٢)

فقلت له : فاذهب وهارون فادعوا

إلى الله فرعون الذي كان باغيا

فقولا له : هل أنت سويت هذه

بلا وتد حتى استقلت كما هيا

وقولا له : آ أنت رفعت هذه

بلا عمد أرفق إذن بك بانيا

وقولا له : آ أنت سويت وسطها

منيرا إذا ما جنه الليل هاديا

وقولا له : من يخرج الشمس بكرة

فيصبح ما مسّت من الأرض ضاحيا

وقولا له : من ينبت الحب في الثرى

فيصبح منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبة في رؤوسه؟

ففي ذاك آيات لمن كان واعيا

وقوله عزوجل :

__________________

(١) هذه ليست آية ، وهي مزيج من آيتين الأولى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦٢] ، والثانية : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) [الأعلى : ١٠].

(٢) الأبيات في سيرة ابن هشام ١ / ٢٨٨.

٢٦٠