تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

شواربكم ، ولا تستاكون. ثم قرأ (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية. وقد قال الطبراني:حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك ، فقال : وكيف وأنتم لا تستنون ، ولا تقلمون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تنقون رواجبكم؟ (١) وهكذا رواه الإمام أحمد (٢) عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه.

وقال الإمام احمد (٣) : حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار ، حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط».

وقوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) قيل : المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا ، وما خلفنا أمر الآخرة ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) ما بين النفختين ، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما ، والسدي والربيع بن أنس ، وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما يستقبل من أمر الآخرة (وَما خَلْفَنا) أي ما مضى من الدنيا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي ما بين الدنيا والآخرة ، ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري ، واختاره ابن جرير أيضا ، والله اعلم.

وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) قال مجاهد معناه ما نسيك ربك (٤) ، وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ١ ـ ٣]. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال «ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرمه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا» ثم تلا هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٥).

وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هل تعلم للرب مثلا أو شبيها ، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير

__________________

ـ تنظيفها.

(١) الرواجب : ما بين عقد الأصابع من داخل ، واحدها : راجبة.

(٢) المسند ١ / ٢٤٣.

(٣) المسند ٦ / ٢٩٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦١.

(٥) انظر الدر المنثور ٤ / ٥٠٢.

٢٢١

وقتادة وابن جريج وغيرهم. وقال عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (٧٠)

يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥] وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩] وقال هاهنا : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة ، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئا ، أفلا يعيده وقد صار شيئا ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وفي الصحيح «يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره ، وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (١).

وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) قال العوفي عن ابن عباس : يعني قعودا كقوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية : ٢٨] وقال السدي في قوله جثيا : يعني قياما ، وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله. وقوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) يعني من كل أمة ، قال مجاهد (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعا ، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرما ، وهو قوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).

وقال قتادة : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) قال : ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر ، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف ، وهذا كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٨ ، وسورة ١١٢ ، باب ١ ، ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٧ ، ٣٥٠.

٢٢٢

عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ـ إلى قوله ـ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩] وقوله: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ثم هاهنا لعطف الخبر على الخبر ، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما قال في الآية المتقدمة (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم: يدخلونها جميعا ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، فقال : يردونها جميعا ، وقال سليمان بن مرة : يدخلونها جميعا ، وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه ، وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا» غريب ولم يخرجوه.

وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال : قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة : ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة (٢) ، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته ، فبكى فبكت امرأته ، فقال : ما يبكيك؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت ، قال : إني ذكرت قول الله عزوجل (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فلا أدري أنجو منها أم لا ـ وفي رواية ، وكان مريضا (٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : يا ليت أمي لم تلدني ، ثم يبكي ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنّا صادرون عنها ، وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك وارد النار؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال : لا ، قال : ففيم الضحك؟ قال : فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله(٥). وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو ، أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم

__________________

(١) المسند ٣ / ٣٢٨ ، ٣٢٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٥.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ٣٦٥.

(٥) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٧.

٢٢٣

نافع بن الأزرق فقال ابن عباس : الورود الدخول ، فقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] وردوا أم لا ، وقال : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] أوردها أم لا ، أما أنا وأنت فسندخلها.

فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك ، فضحك نافع (١). وروى ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري وهو نافع بن الأزرق (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) فقال ابن عباس : ويلك ، أمجنون أنت؟ أين قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والله إن كان دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالما ، وأدخلني الجنة غانما (٢). وقال ابن جرير (٣) : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أسباط عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس أرأيت قول الله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا)؟ قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها ، فانظر هل نصدر عنها أم لا؟

وقال أبو داود الطيالسي : قال شعبة : أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس يقرؤها وإن منهم إلا واردها يعني الكفار (٤) ، وهكذا روى عمر بن الوليد الشنّي أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك وإن منهم إلا واردها قال وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وقال العوفي عن ابن عباس : قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) يعني البر والفاجر ، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] الآية ، (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] فسمى الورود على النار دخولا وليس بصادر (٥).

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي ، عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم» (٧) ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به. ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفا ، هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعا.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٦٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٦.

(٥) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٤.

(٦) المسند ١ / ٤٣٤ ، ٤٣٥.

(٧) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٩ ، باب ٥ ، ٦ ، والدارمي في الرقاق باب ٨٩.

٢٢٤

وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال : يرد الناس جميعا الصراط ، وورودهم قيامهم حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى إن آخرهم مرّا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه ، يمر فيتكفأ به الصراط ، والصراط دحض (١) مزلة عليه حسك كحسك القتاد (٢) ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس. وذكر تمام الحديث رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، حدثنا إسرائيل ، أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، فتمر الطبقة الأولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم ، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل عن غنيم بن قيس قال : ذكروا ورود النار ، فقال كعب : تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق : برهم وفاجرهم ، ثم يناديها مناد : أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي ، قال فتخسف بكل ولي لها ، وهي أعلم بهم من الرجل بولده ، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب : ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة ، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، عن أم مبشر عن حفصة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية» قالت : فقلت أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قالت : فسمعته يقول (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

وقال أحمد (٦) أيضا : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت حفصة فقال : «لا يدخل النار أحد

__________________

(١) دحض : زلق.

(٢) الحسك : الشوك ، والقتاد : شجر له شوك.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٦٥ ، ٣٦٦.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ٣٦٥.

(٥) المسند ٦ / ٢٨٥.

(٦) المسند ٦ / ٣٦٢.

٢٢٥

شهد بدرا والحديبية» قالت حفصة : أليس الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية ، وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم» (١).

وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلّة القسم» يعني الورود (٢) ، وقال أبو داود الطيالسي حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» قال الزهري كأنه يريد هذه الآية (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا).

وقال ابن جرير (٣) : حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعود رجلا من أصحابه وعك وأنا معه ثم قال «إن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة» غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وحدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات ، بني الله له قصرا في الجنة» فقال عمر : إذا نستكثر يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله أكثر وأطيب» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله ، ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجر سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم». قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وإن الذكر في سبيل الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف. وفي رواية بسبعمائة ألف ضعف (٥).

وروى أبو داود عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب ، كلاهما عن زبان عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٦ ، والأيمان باب ٩ ، ومسلم في البر حديث ١٥٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٦٦.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٦٦.

(٤) المسند ٣ / ٤٣٧.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤٣٧ ، ٤٣٨.

٢٢٦

بسبعمائة ضعف» (١) وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها وورود المشركين أن يدخلوها ، وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلم سلم» وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في قوله (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) قال : قسما واجبا. وقال مجاهد : حتما ، قال قضاء ، وكذا قال ابن جريج.

وقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم ، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم ، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا ، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين ، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقا كثيرا قد أكلتهم النار إلا دارأت وجوههم وهي مواضع السجود ، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان ، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، حتى يخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، ثم يخرج الله من النار من قال يوما من الدهر : لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط ، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٧٤)

يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي أحسن منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وهو مجتمع الرجال للحديث أي ناديهم أعمر وأكثر واردا وطارقا يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبرا عنهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] وقال قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] ولهذا قال تعالى رادا على شبهتهم (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٣.

٢٢٧

بكفرهم (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.

قال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال المقام المنزل والندي المجلس والأثاث المتاع والرئي المنظر (١).

وقال العوفي عن ابن عباس المقام المسكن والندي المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان : ٣٥] فالمقام المسكن والنعيم ، والندي المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩] والعرب تسمي المجلس النادي (٢) ، وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك ما تسمعون (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وكذا قال مجاهد والضحاك ومنهم من قال في الأثاث هو المال ومنهم من قال الثياب ومنهم من قال المتاع والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، وقال الحسن البصري يعني الصور وكذا قال مالك : (أَثاثاً وَرِءْياً) أكثر أموالا وأحسن صورا والكل متقارب صحيح.

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥)

يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم على باطل : (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) أي منا ومنكم (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) يصيبه (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بغتة تأتيه (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى. قال مجاهد في قوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) فليدعه الله في طغيانه ، وهكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله.

وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق ، فإنه لا يضركم الدعاء ، فنكلوا عن ذلك ، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطا ، ولله الحمد ، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله ، وقد ذكر الله حججه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٧١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٧١.

٢٢٨

وبراهينه على عبودية عيسى ، وأنه مخلوق كآدم ، قال تعالى بعد ذلك : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٤٠] فنكلوا أيضا عن ذلك.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦)

لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه ، أخبر بزيادة المهتدين هدى ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] الآيتين. وقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي جزاء (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي عاقبة ومردا على صاحبها.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فأخذ عودا يابسا فحط ورقه ، ثم قال : «إن قول لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ، هن الباقيات الصالحات ، وهن من كنوز الجنة» قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللن الله ، ولأكبرن الله ، ولأسبحن الله ، حتى إذ رآني الجاهل حسب أني مجنون (١) ، وهذا ظاهره أنه مرسل ، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء ، والله أعلم ، وهكذا وقع في سنن ابن ماجة من حديث أبي معاوية عن عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء ، فذكر نحوه.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٨٠)

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تموت ثم تبعث. قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ـ إلى قوله ـ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٣) أخرجه صاحبا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٧٤.

(٢) المسند ٥ / ١١١.

(٣) أخرجه البخاري في البيوع باب ٢٩ ، والإجارة باب ١٥ ، والخصومات باب ١٠ ، وتفسير سورة ١٩ ، ـ

٢٢٩

الصحيح وغيرهما من غير وجه عن الأعمش به وفي لفظ البخاري : كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا ، فجئت أتقاضاه فذكر الحديث ، وقال : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : موثقا.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال خباب بن الأرت : كنت قينا بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل ، فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه ، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) (١) الآيات.

وقال العوفي عن ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يطالبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى. قال : فإن موعدكم الآخرة ، فو الله لأوتين مالا وولدا ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به ، فضرب الله مثله في القرآن ، فقال (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا ـ إلى قوله ـ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٢) وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم : أنها نزلت في العاص بن وائل. وقوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) قرأ بعضهم بفتح الواو من ولدا ، وقرأ آخرون بضمها ، وهو بمعناه ، قال رؤبة : [رجز]

الحمد لله العزيز فردا

لم يتخذ من ولد شيء ولدا (٣)

وقال الحارث بن حلزة : [مجزوء الكامل]

ولقد رأيت معاشرا

قد ثمّروا مالا وولدا (٤)

وقال الشاعر : [الطويل]

فليت فلانا كان في بطن أمه

وليت فلانا كان ولد حمار (٥)

وقيل : إن الولد بالضم جمع ، والولد بالفتح مفرد ، وهي لغة قيس ، والله أعلم.

__________________

ـ باب ٤ ، ٥ ، ومسلم في المنافقين حديث ٣٦.

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٧٥.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٧٥.

(٣) الرجز في تفسير الطبري ٨ / ٣٧٦.

(٤) البيت للحارث بن حلزة في ديوانه ص ٤٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٠٠ ، ١١٢٠ ، والأغاني ١١ / ٤٤ ، وشعراء النصرانية ص ٤١٧ ، وتفسير الطبري ٨ / ٣٧٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (ولد) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٧٧ ، وتاج العروس (ولد)

(٥) البيت بلا نسبة في لسان العرب (ولد) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٧٨ ، والمخصص ١٣ / ٢١٧ ، وتاج العروس (ولد) ، وتفسير الطبري ٨ / ٣٧٦.

٢٣٠

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إنكار على هذا القائل (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) يعني يوم القيامة ، أي أعلم ماله في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك ، وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق. وقال الضحاك عن ابن عباس : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : لا إله إلا الله فيرجو بها. وقال محمد بن كعب القرظي (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، ثم قرأ (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

وقوله : (كَلَّا) هي حرف ردع لما قبلها ، وتأكيد لما بعدها (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم ، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالا وولدا زيادة على الذي له في الدنيا ، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان له في الدنيا ، ولهذا قال تعالى : (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي من المال والولد. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : نرثه.

قال مجاهد : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) ماله وولده. وذلك الذي قال العاص بن وائل. وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : ما عنده. وهو قوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً). وفي حرف ابن مسعود : ونرثه ما عنده وقال قتادة (وَيَأْتِينا فَرْداً) لا مال له ولا ولد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها ، قال (وَيَأْتِينا فَرْداً) قال : فردا من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) (٨٤)

يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآية (عِزًّا) يعتزون بها ويستنصرونها ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي يوم القيامة (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥] وقرأ أبو نهيك كل سيكفرون بعبادتهم. وقال السدي : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) أي بعبادة الأوثان.

وقوله : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي بخلاف ما رجوا منهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : أعوانا. قال مجاهد : عونا عليهم تخاصمهم وتكذبهم. وقال العوفي عن ابن عباس (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، قال : قرناء. وقال قتادة :

٢٣١

قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ، ويكفر بعضهم ببعض. وقال السدي (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : الخصماء الأشداء في الخصومة ، وقال الضحاك (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : أعداء. وقال ابن زيد : الضد البلاء ، وقال عكرمة : الضد الحسرة.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : تغويهم إغواء ، وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه. وقال مجاهد : تشليهم إشلاء وقال قتادة : تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله ، وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالا. وقال السدي : تطغيهم طغيانا. وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] وقوله : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط ، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله. وقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] الآية ، (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠] وقال السدي : إنما نعد لهم عدا : السنين والشهور والأيام والساعات. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) قال : نعد أنفاسهم في الدنيا (١).

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧)

يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا ، واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم ، وأطاعوهم فيما أمروهم به ، وانتهوا عما عنه زجروهم ، أنه يحشرهم يوم القيامة وفدا إليه ، والوفد هم القادمون ركبانا ، ومنه الوفود وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه ، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم ، فإنهم يساقون عنفا إلى النار (وِرْداً) عطاشا ، قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد ، وهاهنا يقال : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا ، فيقول : من أنت؟ فيقول أما تعرفني؟ فيقول : لا ، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك ، فيقول : أنا عملك الصالح ، هكذا كنت في الدنيا حسن

__________________

(١) هذا الأثر والآثار التي قبله في تفسير الطبري ٨ / ٣٧٩.

٢٣٢

العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه ، فذلك قوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : ركبانا.

وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن المثنى ، حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : على الإبل. وقال ابن جريج : على النجائب. وقال الثوري : على الإبل النوق. وقال قتادة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : إلى الجنة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد ، قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة (٢) ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به. وزاد عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد والباقي مثله.

وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي ، سمعت أبا معاذ البصري قال : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ هذه الآية (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة ، فيسمع لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خر له ـ قال مسلمة أراه قال ساجدا ـ.

فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ، ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة ، فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت حبي وأنا حبك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا المقيمة

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٨٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٥٥.

٢٣٣

التي لا أظعن ، فيدخل بيتا من رأسه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق : أحمر وأصفر وأخضر ، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها. وفي البيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون حشية ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه ، الأنهار من تحتهم تطرد أنهار من ماء غير آسن.

قال : صاف لا كدر فيه ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم ، وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل فيستحلي الثمار ، فإن شاء أكل قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا ، ثم تلا : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض ، وربما قال أخضر ، فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها ، أي الألوان شاء ، ثم يطير فتذهب فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢] ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم.

وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) أي عطاشا (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض ، كما قال تعالى مخبرا عنهم : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠١]. وقوله : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : العهد شهادة أن لا إله إلا الله ، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة ، ولا يرجو إلا الله عزوجل (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عثمان بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة ، عن الأسود بن يزيد قال : قرأ عبد الله يعني ابن مسعود هذه الآية (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) ثم قال : اتخذوا عند الله عهدا ، فإن الله يوم القيامة يقول : من كان له عند الله عهد فليقم ، قالوا : يا أبا عبد الرحمن فعلمنا. قال : قولوا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أن لا تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إليّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد. وقال المسعودي : فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن ، أخبرنا ابن مسعود وكان يحلق بهن خائفا مستجيرا مستغفرا راهبا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٨١.

٢٣٤

راغبا إليك ، ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥)

لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه‌السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب ، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدا ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا ، فقال : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ) أي في قولكم هذا (شَيْئاً إِدًّا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك : أي عظيما. ويقال إدا بكسر الهمزة وفتحها ، ومع مدها أيضا ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاما للرب وإجلالا ، لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا شريك له ولا نظير له ، ولا ولد له ، ولا صاحبة له ، ولا كفء له ، بل هو الأحد الصمد. [المتقارب]

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد (١)

قال ابن جرير (٢) : حدثني علي ، حدثنا عبد الله ، حدثني معاوية عن علي ، عن ابن عباس في قوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة» ، فقالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال «تلك أوجب وأوجب». ثم قال «والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن ، فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن» هكذا رواه ابن جرير ، ويشهد له حديث البطاقة ، والله أعلم.

وقال الضحاك : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي يتشققن فرقا من عظمة الله ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) ، أي غضبا له عزوجل ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) ، قال ابن عباس : هدما ، وقال سعيد بن جبير : هدا ينكسر بعضها على بعض متتابعات. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا

__________________

(١) البيت لأبي العتاهية في ديوانه ص ١٠٤ ، وتاج العروس (عنه)

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٨٣.

٢٣٥

مسعر عن عون عن عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان ، هل مر بك اليوم ذاكر الله عزوجل؟ فيقول : نعم ويستبشر ، قال عون : لهي للخير أسمع أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره ، ثم قرأ (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً).

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا هوذة ، حدثنا عوف عن غالب بن عجرد ، حدثني رجل من أهل الشام في مسجد منى قال : بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة ـ أو قال ـ كان لهم فيها منفعة ، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة قولهم : اتخذ الرحمن ولدا ، فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر. وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له ولدا ، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم» (٢) أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ «أنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم».

وقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته ، لأنه لا كفء له من خلقه ، لأن جميع الخلائق عبيد له ، ولهذا قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ذكرهم وأنثاهم ، صغيرهم وكبيرهم ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له ، فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، ولا يظلم أحدا.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨)

يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي ترضي الله عزوجل لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة ، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه ، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير وجه.

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٠٥.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣ ، والأدب باب ٧١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤٩ ، ٥٠.

٢٣٦

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل ، فقال : يا جبريل ، إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ، قال : ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال : فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» (٢). ورواه مسلم من حديث سهيل ، ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرائي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد ليلتمس مرضاة الله عزوجل ، فلا يزال كذلك فيقول الله عزوجل لجبريل : إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني ، ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل السموات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض» غريب. ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن المقة من الله ـ قال شريك : هي المحبة ـ والصيت في السماء ، فإذا أحب الله عبدا قال لجبريل عليه‌السلام : إني أحب فلانا ، فينادي جبريل : إن ربكم يمق ـ يعني يحب ـ فلانا فأحبوه ـ أرى شريكا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض ـ وإذا أبغض عبدا قال لجبريل : إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه ـ أرى شريكا قال ـ : فيجري له البغض في الأرض» غريب ، ولم يخرجوه.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو داود الحفري ، حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد ـ وهو الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) المسند ٢ / ٤١٣.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ٤١ ، ومسلم في البر حديث ١٥٧.

(٣) المسند ٥ / ٢٧٩.

(٤) المسند ٥ / ٢٦٣.

٢٣٧

الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (١) ، رواه مسلم والترمذي ، كلاهما عن عبد الله عن قتيبة ، عن الدراوردي به. وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : حبا ، وقال مجاهد عنه : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ، قال : محبة في الناس في الدنيا ، وقال سعيد بن جبير عنه ، يحبهم ويحببهم ، يعني إلى خلقه المؤمنين ، كما قال مجاهد أيضا والضحاك وغيرهم. وقال العوفي عن ابن عباس أيضا : الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق. وقال قتادة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) إي والله في قلوب أهل الإيمان ، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من عبد يعمل خيرا أو شرا إلا كساه الله عزوجل رداء عمله.

وقال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه‌الله قال : قال رجل : والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها ، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي ، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج ، فكان لا يعظم ، فمكث بذلك سبعة أشهر ، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا : انظروا إلى هذا المرائي ، فأقبل على نفسه فقال : لا أراني أذكر إلا بشر ، لأجعلن عملي كله لله عزوجل ، فلم يزد على أن قلب نيته ، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله ، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون : رحم الله فلانا الآن ، وتلا الحسن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) وقد روى ابن جرير أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف ، وهو خطأ ، فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ، ولم يصح سند ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) يعني القرآن (بِلِسانِكَ) أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي المستجيبين لله ، المصدقين لرسوله ، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي عوجا عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيج عن مجاهد (قَوْماً لُدًّا) لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) عوجا عن الحق ، وقال الضحاك : الألد الخصم. وقال القرظي : الألد الكذاب. وقال الحسن البصري (قَوْماً لُدًّا) صما ، وقال غيره : ثم آذان القلوب. وقال قتادة : قوما لدا يعني قريشا وقال العوفي عن ابن عباس (قَوْماً لُدًّا) فجارا ، وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد.

وقال ابن زيد : الألد الظلوم ، وقرأ قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤].

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ١٥٧ ، والترمذي في تفسير سورة ١٩ ، باب ٧.

٢٣٨

وقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم ركزا. وقال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد : يعني صوتا ، وقال الحسن وقتادة : هل ترى عينا أو تسمع صوتا ، والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي.

قال الشاعر : [الكامل]

فتوجست ركز الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها (١)

آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله.

__________________

(١) يروى صدر البيت :

وتسمّعت رزّ الأنيس فراعها

وهو للبيد في ديوانه ص ٣١١ ، ولسان العرب (غيب) (ظهر) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٢٥ ، وتاج العروس (غيب) ، (ظهر) ، (سمع) ، وديوان الأدب ٣ / ٢٠٩ ، وكتاب العين ٧ / ٣٤٨ ، وبلا نسبة في المخصص ٢ / ١٣٧ ، وتفسير الطبري ٨ / ٣٨٨.

٢٣٩

سورة طه

وهي مكية

روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي : حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة ـ يعني عبد الرحمن بن يعقوب ـ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا» هذا حديث غريب وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي ، حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : طه يا رجل ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا : طه بمعنى يا رجل (١) ... وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح : هي معربة.

وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى : (طه) يعني : طأ الأرض يا محمد (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ثم قال : ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة.

وقوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) قال جويبر عن الضحاك : لما أنزل الله القرآن على

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٨٩ ، ٣٩٠.

٢٤٠