تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

العبادة (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك؟

قال علي بن أبي طلحة والسدي : قيل لها : (يا أُخْتَ هارُونَ) أي أخي موسى ، وكانت من نسله كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللمضري يا أخا مضر (١) ، وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة ، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون (٢).

ورواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا المفضل بن فضالة ، حدثنا أبو صخر عن القرظي في قوله الله عزوجل : (يا أُخْتَ هارُونَ) قال : هي أخت هارون لأبيه وأمه ، وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص : ١١] وهذا القول خطأ محض ، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل ، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثا ، وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ، ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني وبينه نبي» ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي ، لم يكن متأخرا عن الرسل سوى محمد ، ولكان قبل سليمان وداود ، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما‌السلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] وذكر القصة إلى أن قال : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) [البقرة : ٢٥١] الآية ، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه.

قال : وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل ، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة ، بل هي باسم هذه ، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم ، كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرؤون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (٤) انفرد بإخراجه مسلم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٣٦.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٣٦.

(٣) المسند ٤ / ٢٥٢.

(٤) أخرجه بلفظ «يسمّون» بدل «يتسمون» ، مسلم في الأدب حديث ٩ ، والترمذي في تفسير سورة ١٩ ، باب ١.

٢٠١

والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به ، وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت أن كعبا قال إن قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) الآية ، قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر ، قال : وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل.

وقوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة ، فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) قال ميمون بن مهران: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) قالت كلموه ، فقالوا : على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا ، وقال السدي لما «أشارت إليه» غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم؟ قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ، أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية لربه.

وقوله : (آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة ، قال نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا ، كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ـ إلى قوله ـ ما دُمْتُ حَيًّا) وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني : رفع إصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) الآية ، وقال عكرمة : (آتانِيَ الْكِتابَ) أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٣٥.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٣٥.

٢٠٢

عن عبد العزيز بن زياد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل وأحكمها وهو في بطن أمه ، فذلك قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.

وقوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري : وجعلني معلما للخير. وفي رواية عن مجاهد : نفاعا. وقال ابن جرير (١) : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي ، سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم ، فقال له : يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وقيل : ما بركته؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان. وقوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) كقوله تعالى لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩]. وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) قال : أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ، ما أبينها لأهل القدر.

وقوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله ربه ، لأن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] وقال (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤]. وقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري : الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض السلف : لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا ، ثم قرأ : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) قال : ولا تجد سيئ الملكة (٢) إلا وجدته مختالا فخورا ، ثم قرأ : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦].

قال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له فيهن ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك ، وطوبى للثدي الذي أرضعت به ، فقال نبي الله عيسى عليه‌السلام يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ، ولم يكن جبارا شقيا (٣). وقوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) إثبات منه لعبوديته لله عزوجل ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد ، صلوات الله وسلامه عليه.

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٣٨.

(٢) سيئ الملكة : هو الذي يسيء صحبة ومعاملة المماليك.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٣٩ ، ٣٤٠.

٢٠٣

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣٧)

يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه‌السلام (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ، ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول ، وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق ، وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى ابن مريم ، قال : الحق ، والرفع أظهر إعرابا ، ويشهد له قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٦٠] ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة فقال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا ، فإنما يأمر به فيصير كما يشاء ، كما قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠].

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته ، فقال : (فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم ، أي قويم من اتبعه رشد وهدى ، ومن خالفه ضل وغوى. وقوله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصممت طائفة منهم ، وهم جمهور اليهود. ـ عليهم لعائن الله ـ على أنه ولد زنية ، وقالوا : كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله. وقال آخرون : بل هو ابن الله. وقال آخرون : ثالث ثلاثة. وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله ، وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين ، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.

قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال : اجتمع بنو إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية ، فقال الثلاثة : كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث : قل أنت فيه قال : هو ابن الله وهم النسطورية ، فقال الاثنان : كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله. قال الرابع : كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم

٢٠٤

المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا ، فاقتتلوا وظهروا على المسلمين ، وذلك قول الله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) قال قتادة : وهم الذين قال الله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) قال اختلفوا فيه فصاروا أحزابا (١).

وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريبا من ذلك ، وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه‌السلام اختلافا متباينا جدا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا ، فمائة تقول فيه شيئا ، وسبعون تقول فيه قولا آخر ، وخمسون تقول شيئا آخر ومائة وستون تقول شيئا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة ، وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه ، فمال إليهم الملك وكان فيلسوفا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء ، وابتدعوا بدعا كثيرة ، وحرفوا دين المسيح وغيروه ، فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها ، بلاد الشام والجزيرة والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قمامة (٢) على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء.

وقوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا ، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة ، وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم ، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٣) [هود : ١٠٢]. وفي الصحيحين أيضا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» (٤) وقد قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨] وقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢] ولهذا قال هاهنا : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي يوم القيامة. وقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٤١.

(٢) القمامة : الدير.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٢.

(٤) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣ ، والأدب باب ٧١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٠١ ، ٤٠٥.

٢٠٥

جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (١).

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار يوم القيامة : إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره ، كما قال تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا ، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعا لهم ومنقذا من عذاب الله ، ولهذا قال : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي ما أسمعهم وأبصرهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) يعني يوم القيامة (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ) أي في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ، ثم قال تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي أنذر الخلائق يوم الحسرة (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه ، (وَهُمْ) أي اليوم (فِي غَفْلَةٍ) عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون به.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا ، قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيؤمر به فيذبح ، قال : ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وأشار بيده (٣) ثم قال «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ، ولفظهما قريب من ذلك. وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة : حدثني أسباط بن محمد

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٤٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣١٤.

(٢) المسند المسند ٣ / ٩.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٩ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٠ ، والترمذي في الجنة باب ٢٠.

٢٠٦

عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا مثله ، وفي سنن ابن ماجة وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه ، وهو في الصحيحين عن ابن عمر.

ورواه ابن جريج قال : قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه ، ورواه أيضا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه : يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون ، وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل : حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله هو ابن مسعود في قصة ذكرها ، قال : فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة ، فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة ، ويقال لهم لو عملتم ، فتأخذهم الحسرة ، قال : ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار ، فيقال لهم لولا أن الله من عليكم.

وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ، ثم ينادي مناد : يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه ، ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادي : يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين ، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين ، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة ماتوا ، فذلك قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) يقول إذا ذبح الموت ، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) قال : يوم القيامة ، وقرأ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦].

وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ، ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا ، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم ، فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة. قال ابن أبي حاتم : ذكر هدبة بن خالد القيسي ، حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة : أما بعد ، فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، فجعل مصيرهم إليه ، وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي خلقه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه : إنه يرث الأرض

٢٠٧

ومن عليها وإليه يرجعون (١).

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن. الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته ، وقد كان صديقا نبيا مع أبيه ، كيف نهاه عن عبادة الأصنام ، فقال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك ، فاعلم أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ، ولا أطلعت عليه ولا جاءك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب ، والنجاة من المرهوب (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام ، فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [يس : ٦٠] وقال : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) [النساء : ١١٧].

وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) أي مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه ، فطرده وأبعده ، فلا تتبعه تصر مثله (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي على شركك وعصيانك لما آمرك به (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس ، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء ، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك ، كما قال تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النحل : ٦٣].

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨)

يقول تعالى مخبرا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٤ / ٤٩٠.

٢٠٨

وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك ، وهو قوله : (لَأَرْجُمَنَّكَ) قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم ، وقوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق : يعني دهرا. وقال الحسن البصري : زمانا طويلا. وقال السدي (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال : أبدا. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال : سويا سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة ، وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، فعند ما قال إبراهيم لأبيه : (سَلامٌ عَلَيْكَ) كما قال تعالى في صفة المؤمنين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وقال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ومعنى قول إبراهيم لأبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ) يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) قال ابن عباس وغيره : لطيفا ، أي في أن هداني لعبادته والإخلاص له.

وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) قال عوده الإجابة. وقال السدي : الحفي الذي يهتم بأمره ، وقد استغفر إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام ، وبنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام في قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ـ إلى قوله ـ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤] الآية ، يعني إلا في هذا القول ، فلا تتأسوا به ، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه ، فقال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ـ إلى قوله ـ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤]. وقوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي). أي وأعبد ربي وحده لا شريك له (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وعسى هذه موجبة لا محالة ، فإنه عليه‌السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا(٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠)

يقول تعالى : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً)

٢٠٩

[الأنبياء : ٧٢] وقال (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته ، ولهذا قال : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) فلو لم يكن يعقوب عليه‌السلام قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف ، فإنه نبي أيضا.

كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس ، فقال : «يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله» (١) ، وفي اللفظ الآخر «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»(٢).

وقوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الثناء الحسن ، وكذا قال السدي ومالك بن أنس ، وقال ابن جرير (٣) : إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣)

لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه ، عطف بذكر الكليم ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة. قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي لبابة قال : قال الحواريون : يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس ، وقرأ الآخرون بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى ، كما قال تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الوصفين ، فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة ، وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.

وقوله : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي الجبل (الْأَيْمَنِ) من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح ، فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه عند شاطئ الوادي ، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨ ، ١٤ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٢.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٩ ، والمناقب باب ١٣ ، وتفسير سورة ١٢ باب ١.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٥٠.

٢١٠

هو القطان ، حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : أدنى حتى سمع صريف القلم (١) ، وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم : يعنون صريف القلم بكتابة التوراة. وقال السدي : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد نحوه.

وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : نجا بصدقه. وروى ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الجبار بن عاصم ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل ، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال : يا موسى إذا خلقت لك قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين على الخير ، فلم أخزن عنك من الخير شيئا ، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئا.

وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه ، فجعلناه نبيا ، كما قال في الآية الأخرى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) [القصص : ٣٤] وقال : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] وقال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٣ ـ ١٤] ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال : قال ابن عباس قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب نبوته له ، وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقا عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدّورقي به.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥)

هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج : لم يعد ربه عدة إلا أنجزها ، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه‌السلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه فيه ، فجاء ونسي الرجل ، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد ، فقال : ما برحت من هاهنا؟ قال : لا. قال : إني نسيت قال : لم أكن أبرح حتى تأتيني ، فلذلك (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) وقال سفيان الثوري : يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٥١.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٥١ ، ٣٥٢.

٢١١

جاءه وقال ابن شوذب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا.

وقد روى أبو داود في سننه ، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق ، من طريق إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق ، عن أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث ، فبقيت له علي بقية ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك ، قال : فنسيت يومي والغد ، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك ، فقال لي : «يا فتى لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» (١) لفظ الخرائطي وساق آثارا حسنة في ذلك ، ورواه ابن مندة أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان ، عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به.

وقال بعضهم : إنما قيل له : (صادِقَ الْوَعْدِ) لأنه قال لأبيه : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢] فصدق في ذلك ، فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢ ـ ٣] وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان» (٢) ولما كانت هذه صفات المنافقين ، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد ، وكذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلا وفي له به ، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب ، فقال : «حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي» (٣) ولما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق : من كان له عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له ، فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كان جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا» يعني ملء كفيه ، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرا فغرف بيديه من المال ، ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.

وقوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق ، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط ، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» (٤) وذكر تمام الحديث ، فدل على صحة ما قلناه. وقوله : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة ، والخلة السديدة ، حيث كان مثابرا على طاعة ربه عزوجل ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٢.

(٢) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧ ، ١٠٩.

(٣) أخرجه البخاري في الشروط باب ٦ ، والشهادات باب ٢٨ ، وفضائل أصحاب النبي باب ١٦ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٩٥.

(٤) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١ ، والترمذي في المناقب باب ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٠٧.

٢١٢

آمرا بها لأهله ، كما قال تعالى لرسوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] الآية ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا ، فتأكلهم النار يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» (١) أخرجه أبو داود وابن ماجة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين ، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» (٢) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧)

ذكر إدريس عليه‌السلام بالثناء عليه بأنه كان صديقا نبيا ، وأن الله رفعه مكانا عليا ، وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير (٣) هاهنا أثرا غريبا عجيبا فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له : ما قول الله عزوجل لإدريس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) فقال كعب : أما إدريس ، فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم ، فأحب أن يزداد عملا ، فأتاه خليل له من الملائكة فقال له : إن الله أوحى إلى كذا وكذا ، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملا ، فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدرا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس؟ فقال : هوذا على ظهري. قال ملك الموت : العجب ، بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في السماء الرابعة ، فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك ، فذلك قول الله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعبا فذكر نحو ما تقدم ، غير أنه

__________________

(١) أخرجه أبو داود في التطوع باب ١٨ ، والوتر باب ١٣ ، والنسائي في قيام الليل باب ٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٠ ، ٤٣٦ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٥.

(٢) أخرجه أبو داود في التطوع باب ١٨ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٥.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٥٢.

٢١٣

قال لذلك الملك : هل لك أن تسأله ، يعني ملك الموت ، كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل ، وذكر باقيه وفيه : أنه لما سأله عما بقي من أجله ، قال : لا أدري حتى أنظر ، فنظر ثم قال : إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين ، فنظر الملك تحت جناحه فإذا هو قد قبض عليه‌السلام وهو لا يشعر به ، ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطا ، فكان لا يغرز إبرة إلا قال : سبحان الله ، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه ، وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى ، وقال سفيان عن منصور عن مجاهد (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : السماء الرابعة ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال الحسن وغيره في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : الجنة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨)

يقول تعالى : هؤلاء النبيون ـ وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياءعليهم‌السلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ـ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) الآية ، قال السدي وابن جرير رحمه‌الله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس ، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم ، قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم ، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس ، فإنه جد نوح (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوحعليهما‌السلام ، وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء ، حيث قال في سلامه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، ولم يقل والولد الصالح ، كما قال آدم وإبراهيمعليهما‌السلام.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح ، فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله ، ويعملوا ما شاؤوا ، فأبوا فأهلكهم الله عزوجل ، ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا

٢١٤

وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٨٣ ـ ٩٠] وقال سبحانه وتعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].

وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : أفي (ص) سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فنبيكم من أمر أن يقتدى بهم ، قال : وهو منهم ، يعني داود (١).

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه ، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة ، والبكي جمع باك ، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم ، فسجد وقال : هذا السجود فأين البكي؟ يريد البكاء ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت ، فالله أعلم.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (٦٠)

لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره ، ذكر أنه (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي قرون أخر (أَضاعُوا الصَّلاةَ) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع ، لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد ، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فهؤلاء سيلقون غيا ، أي خسارا يوم القيامة ، وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية ، قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي ، واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة» (٢). والحديث الآخر «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٩ ، وتفسير سورة ٦ ، باب ٥ ، وسورة ٣٨ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٦٠.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٣٤ ، وأبو داود في السنة باب ١٥ ، والترمذي في الإيمان باب ٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٩.

٢١٥

فمن تركها فقد كفر» (١) وليس هذا محل بسط هذه المسألة.

وقال الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) قال : أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركا كان كفرا (٢). وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥] و (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣] و (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩٢] فقال ابن مسعود : على مواقيتها.

قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ، قال ذلك الكفر ، قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن. وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قال : عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ، وكذا روى ابن جريج عن مجاهد مثله ، وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة ، يعنون في آخر الزمان.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني الحارث ، حدثنا الحسن الأشيب ، حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا حيوة ، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق وفاجر» وقال بشير : قلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة؟ قال : المؤمن مؤمن به ، والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وهكذا رواه أحمد (٤) عن أبي عبد الرحمن المقري به.

وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا عيسى بن يونس ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الإيمان باب ٩ ، والنسائي في الصلاة باب ٨ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٧٧ ، ٧٨ ، والفتن باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٤٦ ، ٣٥٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٥٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٥٥.

(٤) المسند ٣ / ٣٨ ، ٣٩.

٢١٦

حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة ، وتقول : لا تعطوا منه بربريا ، ولا بربرية ، فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) هذا الحديث غريب. وقال أيضا : حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك ، حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قول الله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) الآية ، قال : هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك.

وقال كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عزوجل : شرّابين للقهوات (١) ، ترّاكين للصّلوات ، لعّابين بالكعبات ، رقّادين عن العتمات ، مفرطين في الغدوات ، تاركين للجماعات ، قال : ثم تلا هذه الآية (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال أبو الأشهب العطاردي : أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة ، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أخاف على أمتي اثنتين : القرآن ، واللبن» أما اللبن فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة ، أما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين ، ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو قبيل عن عقبة به ، مرفوعا بنحوه ، تفرد به.

وقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي خسرانا ، وقال قتادة : شرا ، وقال سفيان الثوري وشعبة ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال : واد في جهنم بعيد القعر ، خبيث الطعم. وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال : واد في جهنم من قيح ودم.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثني عباس بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثنا شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال : جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي ، فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا بطعام ، ثم قال قال

__________________

(١) القهوة : هي الخمرة.

(٢) المسند ٤ / ١٤٦ ، ١٥٦.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٥٦.

٢١٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا ، ثم تنتهي إلى غي وآثام» قال : قلت ما غي وآثام؟ قال : قال : «بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله في الفرقان : (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] حديث غريب ورفعه منكر.

وقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات ، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم ، ولهذا قال : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) وذلك لأن التوبة تجبّ ما قبلها ، وفي الحديث الآخر «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (١) ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئا ، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها ، لأن ذلك ذهب هدرا وترك نسيا ، وذهب مجانا من كرم الكريم وحلم الحليم ، وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ـ إلى قوله ـ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠].

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣)

يقول تعالى : الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن ، أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب ، أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه ، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره ، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله ، كقوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) [المزمل : ١٨] أي كائنا لا محالة ، وقوله هاهنا : (مَأْتِيًّا) أي العباد صائرون إليه وسيأتونه ، ومنهم من قال (مَأْتِيًّا) بمعنى آتيا ، لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، كما تقول العرب : أتت علي خمسون سنة ، وأتيت على خمسين سنة ، كلاهما بمعنى واحد.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا. وقوله : (إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] وقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلا ونهارا ، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ، كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٠.

(٢) المسند ٢ / ٣١٦.

٢١٨

همام عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ، ولا يتمخطون فيها. ولا يتغوطون ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوّة (١) ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، يسبحون الله بكرة وعشيا» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال الضحاك عن ابن عباس (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : مقادير الليل والنهار.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا علي بن سهم ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل والنهار ، ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب ، وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن الحسن البصري ، وذكر أبواب الجنة فقال : أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتهمهم ، انفتحي انغلقي فتفعل ، وقال قتادة في قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فيها ساعتان بكرة وعشي ، ليس ثم ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشي ، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا.

وقال الحسن وقتادة وغيرهما : كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى ، فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم فقال تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : البكور يرد على العشي ، والعشي يرد على البكور ، ليس فيها ليل. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سليم بن منصور بن عمار ، حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شمشاط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات ، إلا أنه يزف إلى ولي الله ، فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران» قال أبو محمد : هذا حديث غريب منكر.

__________________

(١) الألوة : العود الذي يتبخر به.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، ومسلم في الجنة حديث ١٤ ، ١٦.

(٣) المسند ١ / ٢٦٦.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ٣٥٨.

٢١٩

وقوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة ، هي التي نورثها عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله عزوجل في السراء والضراء ، والكاظمون الغيظ ، والعافون عن الناس ، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) إلى أن قال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١١].

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعلى ووكيع قالا : حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبرائيل : «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال : فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (٢) إلى آخر الآية.

انفرد بإخراجه البخاري فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال العوفي عن ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال : يا محمد (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية.

وقال مجاهد لبث جبرائيل عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون أقل ، فلما جاءه قال : «يا جبرائيل لقد رثت (٣) علي حتى ظن المشركون كل ظن» فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية. قال : وهذه الآية كالتي في الضحى ، وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبرائيل. وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال : أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أربعين يوما ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما نزلت حتى اشتقت إليك» فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور ، فأوحى الله إلى جبرائيل أن قل له (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية ، ورواه ابن أبي حاتم رحمه‌الله وهو غريب.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مجاهد قال : أبطأت الرسل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له «ما حبسك يا جبريل؟» فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم (٤) ، ولا تأخذون

__________________

(١) المسند ١ / ٢٣١ ، ٣٣٤ ، ٣٥٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٩ ، باب ٢ ، والتوحيد باب ٢٨ ، وبدء الخلق باب ٦ ، والترمذي في تفسير سورة ١٩ ، باب ٤.

(٣) لقد رئت علىّ : أي لقد أبطأت عليّ.

(٤) البراجم : هي العقود التي في ظهور الأصابع ، يجتمع فيها الوسخ ، الواحدة : برجمة ، وإنقاؤها : ـ

٢٢٠