تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) أي نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) ثم فسرهم ، فقال (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون.

وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) أي جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله ، وكذبوا بالدار الآخرة (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير. قال البخاري (١) : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة ، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ـ وقال ـ اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً»). وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد مثله ، هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا ، وقد رواه مسلم (٢) عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم ، فيوزن بحبة فلا يزنها» قال وقرأ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا ، فذكره بلفظ البخاري سواء.

وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا عون بن عمارة ، حدثنا هشيم بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له ، فلما قام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا» ثم قال : تفرد به واصل مولى أبي عنبسة ، وعون بن عمارة وليس بالحافظ ولم يتابع عليه.

وقد قال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن شمر عن أبي يحيى ، عن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرءوا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). وقوله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا ،

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٨ ، باب ٦.

(٢) كتاب صفات المنافقين ، حديث ١٨.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢٩٥.

١٨١

استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (١٠٨)

يخبر تعالى عن عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، أن لهم جنات الفردوس ، قال مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب ، وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنة ، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ، وقد روي هذا مرفوعا من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها». وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعا وروي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعا بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمه‌الله ، وفي الصحيحين «إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة» (١). وقوله تعالى : (نُزُلاً) أي ضيافة ، فإن النزل الضيافة. وقوله (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدا (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون سواها ، كما قال الشاعر : [الطويل]

فحلت سويدا القلب لا أنا باغيا

سواها ولا عن حبها أتحوّل (٢)

وفي قوله : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائما أنه قد يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩)

يقول تعالى : قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه ، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ) أي بمثل البحر آخر ، ثم آخر وهلم جرا بحور تمده ويكتب بها ، لما نفدت كلمات الله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٢.

(٢) يروى البيت :

وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا عن حبها متراخيا

والبيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ١٧١ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١١٠ ، وتخليص الشواهد ص ٢٩٤ ، والجنى الداني ص ٢٩٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٣٧ ، والدرر ٢ / ١١٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢٥ ، وشرح التصريح ١ / ١٩٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦١٣ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٤ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٤١ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٤٧ ، وشرح ابن عقيل ص ١٥٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٥.

١٨٢

حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧] وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) يقول لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله ، والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام ، وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ، لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني نفسه ، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان قال : هذه آخر آية أنزلت ، يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه (قُلْ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [فصلت : ٦] فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به ، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر ، ولو لا ما أطلعني الله عليه ، وإنما أخبركم (أَنَّما إِلهُكُمْ) الذي أدعوكم إلى عبادته (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) أي ثوابه وجزاءه الصالح (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي ما كان موافقا لشرع الله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا العمل المتقبل ، لا بد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال : قال رجل يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد. وقال الأعمش : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أنبئني عما أسألك عنه. أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويتصدق ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن

__________________

(١) المسند ٣ / ٣٠.

١٨٣

عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنبيت عنده تكون له حاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا ، فكثر المحتسبون وأهل النوب ، فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما هذه النجوى؟» قال : فقلنا : تبنا إلى الله أي نبي الله ، إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي قال قلنا بلى ، فقال : «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال : قال شهر ابن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء ، لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله ، وشمال أبي الدرداء بيمينه ، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى ، والله أعلم بما نتناجى به ، فقال عبادة بن الصامت : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين ، يعني من وسط قرأ القرآن على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت.

قال : فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا ، فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من الشهوة الخفية والشرك» فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء : اللهم غفرا ألم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها ، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي رجل أو يصوم لرجل أو يتصدق له ، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا : نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك ، فقال شداد فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك فقال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد إليه إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به فقال شداد عند ذلك : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئا ، فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به ، أنا عنه غني».

[طريق أخرى لبعضه] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني عبد الواحد بن زياد ، أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى ، فقيل له : ما يبكيك؟ قال شيء سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبكاني ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال : «نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ، ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن

__________________

(١) المسند ٤ / ١٢٥ ، ١٢٦.

(٢) المسند ٤ / ١٢٣ ، ١٢٤.

١٨٤

يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» ورواه ابن ماجة (١) من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به ، وعبادة فيه ضعف ، وفي سماعه من شداد نظر.

[حديث آخر] قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر ، حدثنا علي بن ثابت ، حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله يوم القيامة : أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كله». وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرويه عن الله عزوجل أنه قال : «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا بريء منه ، وهو للذي أشرك» تفرد به من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٣) : «حدثنا يونس ، حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : «الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء».

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن بكير ، أخبرنا عبد الحميد يعني ابن جعفر ، أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري ، وكان من الصحابة ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» (٥) وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث محمد وهو البرساني به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا بكار ، حدثني أبي ـ يعني عبد العزيز بن أبي بكرة ـ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به» وقال الإمام أحمد (٧) : حدثنا معاوية ، حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من يرائي يرائي الله به ، ومن يسمع يسمع الله به».

__________________

(١) كتاب الزهد باب ٢١.

(٢) المسند ٢ / ٣٠١.

(٣) المسند ٥ / ٤٢٨.

(٤) المسند ٤ / ٢١٥.

(٥) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٨ ، باب ٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٤٦.

(٦) المسند ٥ / ٤٥.

(٧) المسند ٣ / ٤٠.

١٨٥

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سمع الناس بعمله سمع الله به ، ساء خلقه وصغره وحقره» فذرفت عينا عبد الله. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي ، حدثنا الحارث بن غسان ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزوجل يوم القيامة في صحف مختمة ، فيقول الله : ألقوا هذا واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا ، فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» ثم قال : الحارث بن غسان روى عنه جماعة وهو ثقة بصري ، ليس به بأس ، وقال ابن وهب : حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام رياء وسمعة ، لم يزل في مقت الله حتى يجلس».

وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوض عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة استهان بها ربهعزوجل».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الآية ، وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل ، فإن هذه الآية آخر سورة الكهف ، والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة ، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمرو بن الخطاب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ في ليلة (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الآية ، كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور الملائكة» غريب جدا.

آخر تفسير سورة الكهف.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٥.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٣٠٠.

١٨٦

سورة مريم

وهي مكية

وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة (١) من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل (٢) عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا ، وقرأ يحيى بن يعمر (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) وزكريا يمد ويقصر ، قراءتان مشهورتان وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل ، وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره ، حكاه الماوردي.

وقال آخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله ، كما قال قتادة في هذه الآية (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إن الله يعلم القلب التقي ، ويسمع الصوت الخفي (٣).

وقال بعض السلف : قام من الليل عليه‌السلام وقد نام أصحابه ، فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب ، يا رب ، يا رب ، فقال الله له : لبيك لبيك لبيك (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعفت وخارت القوى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ، أي اضطرم المشيب في السواد ، كما قال ابن دريد في مقصورته : [الطويل]

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٣٣٦.

(٢) المسند ١ / ٤٦١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٠٦.

١٨٧

أما ترى رأسي حاكى لونه

طرة صبح تحت أذيال الدجى

واشتعل المبيضّ في مسودّة

مثل اشتعال النار في جمر الغضا (١)

والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ، ولم تردني قط فيما سألتك وقوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول ، وعن الكسائي أنه سكن الياء ، كما قال الشاعر : [رجز]

كأن أيديهن في القاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (٢)

وقال الآخر : [الطويل]

فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها

أو القمر الساري لألقى المقالدا (٣)

ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي : [الطويل]

تغاير الشعر منه إذ سهرت له

حتى ظننت قوافيه ستقتتل (٤)

وقال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح : الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي ، وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا ، فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه ، فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.

__________________

(١) البيتان في شرح مقصورة ابن دريد ص ٢ ، وتفسير البحر المحيط ٦ / ١٦٤ ، البيت الثاني فقط ، وروح المعاني للآلوسي ١٦ / ٦٠.

(٢) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٧٩ ، وخزانة الأدب ٨ / ٣٤٧ ، والدرر ١ / ١٦٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ٤٠٥ ، وتاج العروس (زهق) ، (قرق) ، ولسان العرب (زهق) ، وبلا نسبة في لسان العرب (قرق) ، (ثمن) ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٦٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٦١ ، والخصائص ١ / ٣٠٦ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٩٤ ، ٩٧٠ ، ١٠٣٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٤ ، والمحتسب ١ / ١٢٦ ، ٢٨٩ ، ٢ / ٧٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٣ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ١٠٧ ، وكتاب العين ٥ / ٢٢ ، ومجمل اللغة ٤ / ١٥٦ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٧٥ ، وتاج العروس (ثمن)

(٣) البيت للأعشى في ديوانه ص ١١٥ ، ولسان العرب (ندى) ، وفيه «القلائد» بدل «المقالدا» وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٥ / ٤١٢.

(٤) البيت في ديوان أبي تمام ص ٢٢٧.

١٨٨

[الثاني] أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

[الثالث] أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة» (١) وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث» (٢) ، وعلى هذا فتعين حمل قوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) على ميراث النبوة ، ولهذا قال (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) كقوله (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة».

قال مجاهد في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) كان وراثته علما ، وكان زكريا من ذرية يعقوب ، وقال هشيم : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال : يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، عن الحسن يرث نبوته وعلمه ، وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال : يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله ، ويرحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد». وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة ، عن الحسن قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال : هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب» وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح ، والله أعلم. وقوله (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي مرضيا عندك وعند خلقك ، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧)

هذا الكلام يتضمن محذوفا وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه ، فقيل له : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) كما قال تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الخمس باب ١ ، ومسلم في الجهاد حديث ٤٩ ، ٥٢.

(٢) أخرجه الترمذي في السير باب ٤٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٦٣.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٣٠٨.

١٨٩

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ٣٨ ـ ٣٩] وقوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال قتادة وابن جريج وابن زيد : أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم ، واختاره ابن جرير رحمه‌الله.

قال مجاهد (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي شبيها ، وأخذه من معنى قوله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] أي شبيها ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله ، وهذا دليل على أن زكريا عليه‌السلام كان لا يولد له ، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها ، بخلاف إبراهيم ، وسارة عليهما‌السلام ، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما ، ولهذا قال (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة ، وقالت امرأته (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٢ ـ ٧٣].

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩)

هذا تعجب من زكريا عليه‌السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد ، ففرح فرحا شديدا ، وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ، ومع أنه قد كبر وعتا ، أي : عسا عظمه ونحل ، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع ، والعرب تقول للعود إذا يبس : عتا يعتو عتيا وعتوا ، وعسا يعسو عسوا وعسيا ، وقال مجاهد : عتيا يعني نحول العظم ، وقال ابن عباس وغيره : عتيا ، يعني الكبر ، والظاهر أنه أخص من الكبر.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أو عسيا ، ورواه الإمام أحمد (٢) عن سريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به ، (قالَ) أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها ، (هَيِّنٌ) أي يسير سهل على الله ، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه ، فقال (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) كما قال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣١١.

(٢) المسند ١ / ٢٥٧ ، ٢٥٨.

١٩٠

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١)

يقول تعالى مخبرا عن زكريا عليه‌السلام أنه (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) أي علامة ودليلا على وجود ما وعدتني ، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] الآية (قالَ آيَتُكَ) أي علامتك (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال ، وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد : اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.

وقال العوفي عن ابن عباس (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي متتابعات ، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح ، كما قال تعالى في آل عمران (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [آل عمران : ٤١] وقال مالك عن زيد بن أسلم (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) من غير خرس ، وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها (إِلَّا رَمْزاً) أي إشارة ، ولهذا قال في هذه الآية الكريمة (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي الذي بشر فيه بالولد (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إشارة خفية سريعة (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله على ما أولاه. قال مجاهد : «فأوحى إليهم» أي أشار وبه قال وهب وقتادة. وقال مجاهد في رواية عنه : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي كتب لهم في الأرض ، وكذا قال السدي.

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥)

وهذا أيضا تضمن محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه‌السلام ، وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقت ، فلهذا أنزل الله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣١٥.

١٩١

وقوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا ، وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) وتعطفا من ربه عليه. وقال عكرمة: (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال : محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة ، وقال عطاء بن أبي رباح : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال : تعظيما من لدنا ، وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا والله ما أدري ما حنانا (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن منصور ، سألت سعيد بن جبير عن قوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) فقال : سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئا ، والظاهر من السياق أن قوله وحنانا معطوف على قوله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة ، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل ، كما تقول العرب : حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ، ومنه سميت المرأة حنة من الحنّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، كما قال الشاعر : [المتقارب]

تحنّن عليّ هداك المليك

فإن لكلّ مقام مقالا (٣)

وفي المسند للإمام أحمد (٤) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان» وقد يثني ، ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة : [الطويل]

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض (٥)

وقوله : (وَزَكاةً) معطوف على وحنانا ، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب ، وقال قتادة : الزكاة العمل الصالح ، وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس (وَزَكاةً) قال : بركة ، (وَكانَ تَقِيًّا) ذا طهر فلم يهمّ بذنب.

وقوله (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) لما ذكر تعالى طاعته لربه ، وأنه خلقه ذا رحمة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣١٦.

(٢) هذا الأثر لم أجده بهذا اللفظ في تفسير الطبري.

(٣) البيت للحطيئة في ديوانه ص ٧٢ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٦ ، والدرر ٣ / ٦٤ ، ولسان العرب (قول) ، (حنن) ، وتاج العروس (قول) ، (حنن) ، وبلا نسبة في العقد الفريد ٥ / ٤٩٣ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٨٩ ، وتفسير الطبري ٨ / ٣١٧.

(٤) المسند ٣ / ٢٣٠.

(٥) البيت في ديوان طرفة بن العبد ص ٦٦ ، والدرر ٣ / ٦٧ ، والكتاب ١ / ٣٤٨ ، ولسان العرب (حنن) وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ ، وتاج العروس (حنن) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ١٢٧٣ ، وشرح المفصل ١ / ١١٨ ، والمقتضب ٣ / ٢٢٤.

١٩٢

وزكاة وتقى ، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ، ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا ، أمرا ونهيا ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال. وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه ، فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (جَبَّاراً عَصِيًّا) قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» قال قتادة : ما أذنب ولا هم بامرأة (١) ، مرسل ، وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا بن إسحاق هذا مدلس ، وقد عنعن هذا الحديث ، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ، ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وهذا أيضا ضعيف ، لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة ، والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى عليهما‌السلام التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسي ، وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)

لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه‌السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما‌السلام منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ، ولهذا ذكرهما في آل عمران وهاهنا ، وفي سورة الأنبياء يقرن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣١٨.

(٢) المسند ١ / ٢٥٤.

١٩٣

بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما يشاء قادر ، فقال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه‌السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل ، وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران ، وأنها نذرتها محررة ، أي تخدم مسجد بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب ، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك ، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره.

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٣٧] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف ، وثمر الصيف في الشتاء ، كما تقدم بيانه في سورة آل عمران ، فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة ، أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه‌السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) أي اعتزلتهم وتنحت عنهم ، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها ، وقيل لغير ذلك.

قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه ، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) قال : خرجت مريم مكانا شرقيا ، فصلوا قبل مطلع الشمس ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر ، عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة (مَكاناً شَرْقِيًّا) شاسعا منتحيا ، وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلا تتعبد فيه ، فالله أعلم.

وقوله : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل عليه‌السلام ، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن ، فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] وقال أبو جعفر

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣١٩.

١٩٤

الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : إن روح عيسى عليه‌السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه‌السلام ، وهو الذي تمثل لها بشرا سويا ، أي روح عيسى ، فحملت الذي خاطبها ، وحل في فيها ، وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل ، فالأسهل ، فخوفته أولا بالله عزوجل.

قال ابن جرير (١) : حدثني أبو كريب ، حدثنا أبو بكر عن عاصم قال : قال أبو وائل وذكر قصة مريم ، فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ، ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء ، وقرأ الآخرون (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح ، وكل تستلزم الأخرى.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ، ولهذا قالت : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) والبغي هي الزانية ، ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ، ولا توجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ، ولهذا قال : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى ، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.

وقوله : (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبيا من الأنبياء ، يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ٤٥] أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم ، حدثنا مروان ، حدثنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٢١.

١٩٥

العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد : قال : قالت مريم عليها‌السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني ، وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.

وقوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته ، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] وقال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] قال محمد بن إسحاق : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد ، واختار هذا أيضا ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره ، والله أعلم.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)

يقول تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال ، أنها استسلمت لقضاء الله تعالى ، فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه‌السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى ، فلما حملت به ضاقت ذرعا ، ولم تدر ماذا تقول للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا ، وذلك أن زكريا عليه‌السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم ، فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أيضا أني حبلى ، وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها ، وكانوا بيت إيمان وتصديق ، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها يسجد للذي في بطن مريم ، أي يعظمه ويخضع له ، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا ، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته ، وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدمعليه‌السلام ، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع ، قال أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قال مالك رحمه‌الله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياعليهما‌السلام ابنا خالة ، وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه‌السلام ، لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه‌السلام ، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة : ثمانية أشهر ، قال : ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج :

١٩٦

أخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله الثقفي ، سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت (١) ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.

وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] فالمشهور الظاهر ، والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن. ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها ، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت : وما هو؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حب ، وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت : نعم ، وفهمت ما أشار إليه.

أما قولك : هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر ، وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم ، فصدقها وسلم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكانا قصيا ، أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها.

قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون ، حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا : إنما صاحبها يوسف ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا تراه. وقوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي تنحت إليه ، وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس. وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك يقال لها بيت لحم ، قلت : وقد تقدم في أحاديث الإسراء من

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٣٢٥.

١٩٧

رواية النسائي عن أنس رضي الله عنه ، والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم ، فالله أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا تشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس ، وقد ورد به الحديث إن صح.

وقوله تعالى إخبارا عنها : (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) أي قبل هذا الحال ، (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي لم أخلق ولم أك شيئا ، قاله ابن عباس. وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل ، (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن أنس : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) هو السقط. وقال ابن زيد : لم أكن شيئا قط ، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: ١٠١].

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦)

قرأ بعضهم : من تحتها بمعنى الذي تحتها ، وقرأ الآخرون : (مِنْ تَحْتِها) على أنه حرف جر ، واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس (فَناداها مِنْ تَحْتِها) جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة : إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة والسلام ، أي ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها ، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها ، قال : أو لم تسمع الله يقول : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) [مريم ٢٩] واختاره ابن زيد وابن جرير (١) في تفسيره.

وقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) أي ناداها قائلا لا تحزني (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال : الجدول ، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السري النهر ، وبه قال عمرو بن ميمون

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٢٧.

١٩٨

نهر تشرب منه. وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير : السري النهر الصغير بالنبطية. وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية. وقال إبراهيم النخعي : هو النهر الصغير. وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز ، وقال وهب بن منبه : السري هو ربيع الماء. وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير.

وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، فقال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول ، سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن السري الذي قال الله لمريم (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهر أخرجه الله لتشرب منه» وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى ، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف. وقال أبو زرعة : منكر الحديث.

وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث. وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه‌السلام ، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر ، وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر. ولهذا قال بعده : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي وخذي إليك بجذع النخلة. قيل : كانت يابسة ، قاله ابن عباس. وقيل : مثمرة. قال مجاهد : كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى : كانت صرفانة ، والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه ، ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاما وشرابا فقال : (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي طيبي نفسا ، ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه‌السلام ، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران» هذا حديث منكر جدا ورواه أبو يعلى عن شيبان به. وقرأ بعضهم (تُساقِطْ) بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها. وقرأ أبو نهيك تسقط عليك رطبا جنيا وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها يسّاقط أي الجذع ، والكل متقارب.

وقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي مهما رأيت من أحد (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك ، لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال أنس بن مالك في قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ

١٩٩

صَوْماً) قال : صمتا ، وكذا قال ابن عباس والضحاك ، وفي رواية عن أنس : صوما وصمتا ، وكذا قال قتادة وغيرهما ، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو إسحاق عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك؟ قال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها‌السلام ، ليكون عذرا لها إذا سئلت. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١) رحمها الله. وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : لا تحزني قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة؟ أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال هذا كله من كلام عيسى لأمه ، وكذا قال وهب.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣)

يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحدا من البشر ، فإنها ستكفي أمرها ويقام بحجتها ، فسلمت لأمر الله عزوجل واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله ، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جدا ، و (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) ، أي أمرا عظيما ، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال : وخرج قومها في طلبها ، قال : وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئا ، فلقوا راعي بقر فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط ، قالوا : وما رأيت؟ قال : رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.

قال عبد الله بن زياد : وأحفظ عن سيّار أنه قال : رأيت نورا ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم ، فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها و (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أمرا عظيما (يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا شبيهة هارون في

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٣٣٣.

٢٠٠