تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

قال : كذب نوف.

ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه ، فقال : أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه ، فقال له : نعم في عبادي من هو أعلم منك ، ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه ، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح ، قد قيل له : إذا حيي هذا الحوت في مكان ، فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك ، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه ذلك الحوت يحملانه ، فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء ، وذلك الماء ماء الحياة ، من شرب منه خلد ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي ، فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي ، فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، قال الفتى وذكر : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ سبيله في البحر عجبا ، قال ابن عباس فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها ، فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى عليه فرد عليه‌السلام ، ثم قال له : ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل؟ قال له موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، وكان رجلا يعلم علم الغيب ، قد علم ذلك ، فقال موسى : بلى.

قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وإن رأيت ما يخالفني ، قال : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) وإن أنكرته (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من يخملهما ، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شيء أحسن ، ولا أجعل ولا أوثق منها ، فسأل أهلها أن يحملوهما فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها ، أخرج منقارا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها ، فقال له موسى ورأى أمرا أفظع به (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أي بما تركت من عهدك (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).

ثم خرجا من السفينة ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ، فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه ، ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبي صغير قتله لا ذنب له ، قال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي صغيرة (بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد أعذرت في شأني (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا

١٦١

فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) فهدمه ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف وما ليس له عليه صبر فأقامه ، قال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا ، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله.

قال : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) وفي قراءة أبي بن كعب كل سفينة صالحة وإنما عبتها لأرده عنها ، فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها ، (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي ما فعلته عن نفسي (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢] فكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما.

وقال العوفي عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة ، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون ، وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض ، وقال : كلم الله نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه ، وأنزل عليّ محبة منه ، وآتاكم الله من كل ما سألتموه ، فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة ، فلم يترك نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها ، فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا نبي الله قد عرفنا الذي تقول : فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال : لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه‌السلام فقال : إن الله يقول : وما يدريك أين أضع علمي ، بلى إن لي على شط البحر رجلا هو أعلم منك.

قال ابن عباس : هو الخضر ، فسأل موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى إليه أن ائت البحر ، فإنك تجد على شط البحر حوتا ، فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شاطئ البحر ، فإذا نسيت الحوت وهلك منك ، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت ، فقال له فتاه وهو غلامه (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لك ، قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربا فأعجب من ذلك ، فرجع موسى حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت ، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى ، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت ، وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر فلقى الخضر بها ،

١٦٢

فسلم عليه فقال الخضر : وعليك السلام ، وأنى يكون السلام بهذه الأرض ، ومن أنت؟ قال : أنا موسى ، قال الخضر : صاحب بني إسرائيل؟ قال : نعم ، فرحب به وقال : ما جاء بك؟ قال جئتك (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يقول : لا تطيق ذلك ، قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قال : فانطلق به ، وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين شأنه ، فذلك قوله : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس : هو الخضر ، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه ، فهل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر شأنه؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل ، فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال : لا ، فأوحى الله إلى موسى ، بلى عبدنا خضر ، فسأل موسى السبيل إلى لقيه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه ، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال فتى موسى لموسى : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت ، قال موسى (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) فوجدا عبدنا خضرا ، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

يخبر تعالى عن قيل موسى عليه‌السلام لذلك الرجل العالم وهو الخضر ، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى ، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ) سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار ، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله : (أَتَّبِعُكَ) أي أصحبك وأرافقك (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح ، فعندها (قالَ) الخضر لموسى (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك ، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله ، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه ، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك (قالَ) أي موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) أي على ما أرى من أمورك (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي

١٦٣

ولا أخالفك في شيء فعند ذلك شارطه الخضر عليه‌السلام (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي ابتداء (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه ، عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه‌السلام ربه عزوجل فقال : أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : أي رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى ، قال : أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال : نعم قال : فمن هو؟ قال : الخضر. قال : وأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. قال : فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله ، وانتهى موسى إليه عند الصخرة ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه ، فقال له موسى : إني أحب أن أصحبك ، قال : إنك لن تطيق صحبتي قال : بلى. قال : فإن صحبتني (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه ، قال : وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال : ما أقل ما رزأ. قال : يا موسى ، فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ، وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر ، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه وهو الخضر ، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا ، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه ، فركبا في السفينة ، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة ، وأنهم عرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول ، يعني بغير أجرة ، تكرمة للخضر ، فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت ، أي دخلت اللجة ، قام الخضر فخرقها ، واستخرج لوحا من ألواحها ثم رقعها ، فلم يملك موسى عليه‌السلام نفسه أن قال منكرا عليه (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل ، كما قال الشاعر : [الوافر]

لدوا للموت وابنوا للخراب (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٥١.

(٢) عجزه :

١٦٤

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قال مجاهد : منكرا. وقال قتادة : عجبا ، فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا ، وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها ، لأنك لم تحط بها خبرا ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت (قالَ) أي موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تضيق علي ولا تشدد علي ، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا».

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦)

يقول تعالى : (فَانْطَلَقا) أي بعد ذلك (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى ، وأنه عمد إليه من بينهم ، وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله ، وروي أنه احتز رأسه ، وقيل رضخه بحجر ، وفي رواية اقتلعه بيده ، والله أعلم ، فلما شاهد موسى عليه‌السلام هذا ، أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثما بعد فقتلته (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير مستند لقتله (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي ظاهر النكارة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فأكد أيضا في التذكار بالشرط الأول ، فلهذا قال له موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي أعذرت إليّ مرة بعد مرة.

قال ابن جرير (١) : حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا حجاج بن محمد عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : «رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، ولكنه قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا».

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ

__________________

ـ فكلكم يصير إلى ذهاب

والبيت لأبي العتاهية في ديوانه ص ٣٣ ، وللإمام علي بن أبي طالب في خزانة الأدب ٩ / ٥٢٩ ، ٥٣١ ، والدرر ٤ / ١٦٧ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٣٣ ، والجنى الداني ص ٩٨.

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٦١.

١٦٥

عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

يقول تعالى مخبرا عنهما إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة ، وفي الحديث «حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما» (١) أي بخلاء (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) إسناد الإرداة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل ، والانقضاض هو السقوط. وقوله : (فَأَقامَهُ) أي فرده إلى حالة الاستقامة ، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله ، وهذا خارق ، فعند ذلك قال موسى له (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لأجل أنهم لم يضيفونا ، كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجانا (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها ، فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ) أي بتفسير (ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه‌السلام ، وما كان أنكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضرعليه‌السلام على حكمة باطنة ، فقال : إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة أي جيدة (غَصْباً) فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها ، وقد قيل إنهم أيتام ، وروى ابن جريج عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي أن اسم الملك هدد بن بدد (٢) ، وقد تقدم أيضا في رواية البخاري ، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة ، والله أعلم.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١)

قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور. وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به ، ولهذا قال : (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر ، قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١١٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٦٥.

١٦٦

قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ، وصح في الحديث «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: ٢١٦] وقوله (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي ولدا أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، قاله ابن جريج. وقال قتادة : أبرّ بوالديه ، وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم ، قاله ابن جريج.

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة ، لأنه قال أولا (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وقال هاهنا (فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] يعني مكة والطائف ، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد : وكان تحته مال مدفون لهما ، وهو ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جريررحمه‌الله.

وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال مجاهد : صحف فيها علم ، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغتباني ، عن ابن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال : «إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت ، مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ، وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ، وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل ، لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وبشر بن المنذر هذا يقال له قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم ، وقد روي في هذا آثار عن السلف ، فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب ، حدثنا الحسن بن حبيب ابن ندبة ، حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال : سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال : إن

١٦٧

الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجب لمن عرف النار ثم ضحك ، عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب ، عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للمؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح. وقد قال الله (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكانت بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، وكان نساجا ، وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به الحديث المتقدم ، وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالا ، لأنهم ذكروا أنه كان لوحا من ذهب ، وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعا فيه علم ، وهو حكم ومواعظ ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة ، لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت به السنة. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاحا ، وتقدم أنه كان الأب السابق ، فالله أعلم. وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله ، وقال في الغلام (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) وقال في السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) فالله أعلم.

وقوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح ، وما فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه‌السلام مع ما تقدم من قوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وقال آخرون : كان رسولا. وقيل : بل كان ملكا ، نقله الماوردي في تفسيره ، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا ، بل كان وليا ، فالله أعلم.

وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه‌السلام ، قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من أبناء الملوك ، ذكره النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيا إلى الآن ، ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات وآثارا

١٦٨

عن السلف وغيرهم ، وجاء ذكره في بعض الأحاديث ، ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها حديث التعزية ، وإسناده ضعيف.

ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤] وبقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (١) وبأنه لم ينقل أنه جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه ، ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، لأنه عليه‌السلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين : الجن والإنس ، وقد قال : «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف ، إلى غير ذلك من الدلائل.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخضر قال : «إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من تحته خضراء» ورواه أيضا عن عبد الرزاق ، وقد ثبت أيضا في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة ، فإذا هي تهتز من تحته خضراء» (٣) والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات ، قاله عبد الرزاق؟؟؟. وقيل : المراد بذلك وجه الأرض. وقوله : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعا ، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال (تَسْطِعْ) وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا ، فقال (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) ، فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) وهو الصعود إلى أعلاه (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) [الكهف : ٩٧] وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى ، والله أعلم.

فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون ، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام ، هذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة : حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث ، وقد كان معه؟ قال ابن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨ ، والترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠ ، ٣٢ ، ١١٧.

(٢) المسند ٢ / ٣١٢ ، ٣١٨.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٧.

١٦٩

عباس فيما يذكر من حديث الفتى ، قال : شرب الفتى من الماء فخلد ، فأخذه العالم فطابق به سفينة ، ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة ، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب ، إسناده ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (٨٤)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) أي عن خبره وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف ، وقد أورد ابن جرير (١) هاهنا والأموي في مغازيه حديثا أسنده ، وهو ضعيف ، عن عقبة بن عامر أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به أنه كان شابا من الروم ، وأنه بنى الاسكندرية ، وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد ، ورأى أقواما وجوههم مثل وجه الكلاب ، وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.

والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ، وفيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ، وهو ابن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه‌السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان وزيره الخضر عليه‌السلام ، وأما الثاني فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور. والله أعلم. وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم ، وقد كان قبل المسيح عليه‌السلام بنحو ثلاثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن ، فكان في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل عليه‌السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه‌السلام ، وقرب إلى الله قربانا ، وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية ، ولله الحمد.

وقال وهب بن منبه : كان ملكا ، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين. فقال : كان عبدا ناصحا لله ، فناصحه ، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه ، فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين ، وكذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٧٠ ، ٢٧١.

١٧٠

رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع عليا يقول ذلك. ويقال : إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.

وقوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي أعطيناه ملكا عظيما ممكنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات ، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم من العرب والعجم ، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم : يعني علما. وقال قتادة أيضا في قوله (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال : منازل الأرض وأعلامها.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال : تعليم الألسنة ، قال : كان لا يغزو قوما إلا كلمهم بلسانهم ، وقال ابن لهيعة ، حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار ، فإن معاوية كان يقول عن كعب : إن كنا لنبلو عليه الكذب ، يعني فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه ، ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ، فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي في أسباب السموات ، وقد قال الله في حق بلقيس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] أنه مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين ، يسر الله له الأسباب ، أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي ، وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا والله أعلم.

وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماز قال : كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)

١٧١

وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨)

قال ابن عباس (فَأَتْبَعَ سَبَباً) يعني بالسبب المنزل ، وقال مجاهد (فَأَتْبَعَ سَبَباً) منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عن مجاهد (سَبَباً) قال : طريقا في الأرض وقال قتادة : أي اتبع منازل الأرض ومعالمها ، وقال الضحاك (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي المنازل ، وقال سعيد بن جبير في قوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) قال : علما ، وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي ، وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك.

وقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض ، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة ، والشمس تغرب من ورائه ، فشيء لا حقيقة له ، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاف زنادقتهم وكذبهم ، وقوله : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه ، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين ، كما قال تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٨] أي طين أملس ، وقد تقدم بيانه.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أنبأنا نافع بن أبي نعيم ، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول في عين حمئة ثم فسرها ذات حمئة ، قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار ، فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء ، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغير واحد. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع ، عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه حمئة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وجدها تغرب في عين حامية ، يعني حارة ، وكذا قال الحسن البصري. وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب ، قلت : ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، وحمئة في ماء وطين أسود ، كما قال كعب الأحبار وغيره.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله قال نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشمس حين غابت فقال : «في

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٧٤.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٢٧٥.

١٧٢

نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض».

قلت : ورواه الإمام أحمد (١) عن يزيد بن هارون وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ولعله من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد يعني ابن بشر حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف «تغرب في عين حامية» قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة ، فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال : عبد الله كما قرأتها ، قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي نزل القرآن ، فأرسل إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب سل أهل العربية فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب قال ابن حاضر : لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة ، قال ابن عباس : وإذا ما هو؟ قلت : فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه : [الكامل]

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب أمر من حكيم مرشد (٢)

فرأى مغيب الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأط حرمد

فقال ابن عباس : ما الخلب؟ قلت : الطين بكلامهم ، قال : فما الثأط؟ قلت : الحمأة ، قال : فما الحرمد؟ قلت : الأسود ، قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل وقال سعيد بن جبير بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قال : كعب والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء ، وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) قال مدينة لها اثنا عشر ألف باب لو لا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب ، وقوله: (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) أي أمّة من الأمم ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.

وقوله : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) معنى هذا أن الله تعالى

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٠٧

(٢) البيتان لأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٢٦ ، وفيه «سيد» بدل «مرشد» ، والبيت الأول في لسان العرب (ثأط) ، وتاج العروس (ثأط) ، والبيت الثاني ، في لسان العرب (حرمد) ، (ثأط) ، ومقاييس اللغة ١ / ١٥٤ ، وتهذيب اللغة ٧ / ٤١٨ ، وتاج العروس (أوب) ، (حرمد) ، (ثأط) ، والبيت الثاني لتبعّ في تاج العروس (خلب) ، ولسان العرب (أوب) ، (خلب) ، (حرمد) ، وكتاب العين ٤ / ٢٧٠ ، ٨ / ٤١٧ ، وتهذيب اللغة ٥ / ٣٣٠ ، ١٤ / ٥ ، ١٥ / ٦٠٧ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ١ / ٣٩٨ ، وجمهرة اللغة ص ١١٤.

١٧٣

مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيّره إن شاء قتل وسبي وإن شاء منّ أو فدى فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي من استمر على كفره وشركه بربه (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) قال قتادة بالقتل وقال السدي كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا وقال وهب بن منبه كان يسلط الظلمة فتدخل أجوافهم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم ، وقوله : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي شديدا بليغا وجيعا أليما وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وقوله : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) أي في الدار الآخرة عند الله عزوجل (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) قال مجاهد معروفا.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١)

يقول تعالى ثم سلك طريقا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عزوجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الأقاليم المتاخمة لهم ، وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) أي أمة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس ، وقال سعيد بن جبير كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من السمك.

قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسأل عن قول الله تعالى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غربت خرجوا يتراغون كما ترغى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة ، وقال قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئا فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وعن سلمة بن كهيل أنه قال : ليست لهم أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى. قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قال هم الزنج.

وقال ابن جرير (١) في قوله : (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قال لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول

__________________

(١) في تفسير الطبري ٨ / ٢٧٧ ، قال ابن جريج وليس ابن جرير.

١٧٤

الشمس أو دخلوا البحر وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها ، قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ما هذه العظام؟ قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا ... فماتوا ، قال : فذهبوا هاربين في الأرض وقوله : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) قال مجاهد والسدي : علما أي نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [آل عمران : ٥].

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦)

يقول تعالى مخبرا عن ذي القرنين (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي ثم سلك طريقا من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان (١) بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فسادا ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه‌السلام كما ثبت في الصحيحين «إن الله تعالى يقول : يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول وما بعث النار فيقول ابعث بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ، فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها فقال إن فيكم أمّتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج» (٢) وقد حكى النووي رحمه‌الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك ، فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء وهذا قول غريب جدا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم.

وفي مسند الإمام أحمد (٣) عن سمرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك» قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، وقال إنما سمي هؤلاء تركا لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة ، وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرا

__________________

(١) جبلان متناوحان : أي متقابلان.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٢ ، باب ١ ، والرقاق باب ٤٥ ، والتوحيد باب ٣٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٧٩.

(٣) المسند ٥ / ٩.

١٧٥

طويلا عجيبا في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها والله أعلم.

وقوله : (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أجرا عظيما يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا لهم من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه‌السلام (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [النمل : ٣٦] الآية وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه.

(حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولا وعرضا واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال (قالَ انْفُخُوا) أي أجج عليه النار حتى صار كله نارا (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ : ١٢] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.

قال ابن جرير (١) : حدثنا بشر عن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال «انعته لي» قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال «قد رأيته» هذا حديث مرسل.

وقد بعث الخليفة الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشا سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما وعليه أقفال عظيمة ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك ، وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له وأنه عاقل منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالا وعجائب. ثم قال الله تعالى.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٨٥.

١٧٦

وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٩٩)

يقول تعالى مخبرا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيستثني فيعودون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيقتلهم بها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم» (١).

ورواه أحمد أيضا عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون فذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله أعلم.

ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال سفيان أربع نسوة ـ قالت : استيقظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : «لا إله إلا الله ويل

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٨ ، باب ٥ ، وابن ماجة في الفتن باب ٣٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٥١٠ ، ٥١١.

١٧٧

للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وحلق قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث» (١) هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث الزهري ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة وأثبتها مسلم وفيه أشياء عزيزة قليلة نادرة الوقوع في صناعة الإسناد منها رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده كلهن يروي بعضهم عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان رضي الله عنهن.

قد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وعقد التسعين (٢) ، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب به ، وقوله : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي لما بناه ذو القرنين (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي إذا اقترب الوعد الحق (جَعَلَهُ دَكًّا) أي ساواه بالأرض ، تقول العرب : ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستويا لا سنام لها ، وقال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) جعله دكاء [الأعراف : ١٤٣] أي مساويا للأرض.

وقال عكرمة في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) قال : طريقا كما كان ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) أي كائنا لا محالة. وقوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ) أي الناس يومئذ ، أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم ، وهكذا قال السدي في قوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : ذاك حين يخرجون على الناس ، وهذا كله قبل القيامة وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه عند قوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) [الأنبياء : ٩٦] الآية ، وهكذا قال هاهنا (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : هذا أول القيامة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) على أثر ذلك (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) وقال آخرون : بل المراد بقوله: (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن.

وروى ابن جرير (٣) عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة ، عن شيخ من بني فزارة في قوله (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر ، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفتن باب ٤ ، ٢٨ ، ومسلم في الفتن حديث ١ ، ٢ ، ومالك في الكلام حديث ٢٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٧ ، ومسلم في الفتن حديث ٣.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢٨٩ ، ٢٩٠.

١٧٨

يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض ، فيقول : ما من محيص ، ثم يظعن يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول ما من محيص ، فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنا من خزان النار ، فقال : يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ، ألم تكن في الجنان؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه ، فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة ، فيقول : ما هي؟ فيقول يأمرك أن تدخل النار فيتلكأ عليه ، فيقول : به وبذريته بجناحيه ، فيقذفهم في النار ، فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى لركبتيه ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به ، ثم رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون عن عنترة ، عن أبيه عن ابن عباس (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : الإنس والجن يموج بعضهم في بعض.

وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر ، عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل وتأيس ومنسك» هذا حديث غريب ، بل منكر ضعيف.

وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه ، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعا «إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا ، وشجر يلقحون كما شاءوا ، ولا يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا».

وقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) والصور كما جاء في الحديث : قرن ينفخ فيه ، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام ، كما تقدم في الحديث بطوله ، والأحاديث فيه كثيرة ، وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعا «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر؟» قالوا : كيف نقول؟ قال : «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» (١). وقوله : (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) أي أحضرنا الجميع للحساب (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠] (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧].

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٨ ، وتفسير سورة ٣٩ ، باب ٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٢٦ ، ٣ / ٧ ، ٤ / ٣٧٤.

١٧٩

سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

يقول تعالى مخبرا عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم ، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهمّ والحزن لهم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك» (١) ثم قال مخبرا عنهم (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق ، كما قال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] وقال هاهنا : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ثم قال : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلا.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) (١٠٦)

قال البخاري (٢) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) أهم الحرورية؟ قال : لا هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين ، وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد : هم الحرورية (٣) ، ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء ، بل هي أعم من هذا ، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها ، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود ، كما قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤] وقال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٩ ، والترمذي في جهنم باب ١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٨ ، باب ٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٩٤.

١٨٠