تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

[الغاشية : ٥] أي حارة ، كما قال تعالى : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي وساءت النار منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق ، كما قال في الآية الأخرى (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦].

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١)

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم جنات عدن ، والعدن : الإقامة ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال فرعون (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] الآية ، (يُحَلَّوْنَ) أي من الحلية (فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وقال في المكان الآخر (وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [فاطر : ٣٣] وفصله هاهنا ، فقال (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.

وقوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) الاتكاء قيل الاضطجاع ، وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد هاهنا ، ومنه الحديث الصحيح «أما أنا فلا آكل متكئا» (١) ، فيه القولان : والأرائك جمع أريكة ، وهي السرير تحت الحجلة ، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم. قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة (عَلَى الْأَرائِكِ) قال : هي الحجال ، قال معمر وقال غيره : السرر في الحجال.

وقوله : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم وحسنت مرتفقا ، أي حسنت منزلا ومقيلا ومقاما ، كما قال في النار (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦] ، ثم ذكر صفات المؤمنين ، فقال (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٧٥ ـ ٧٦].

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ١٣ ، وأبو داود في الأطعمة باب ١٦ ، والترمذي في الأطعمة باب ٢٨ ، وابن ماجة في الأطعمة باب ٦ ، والدارمي في الأطعمة باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٠٨ ، ٣٠٩

١٤١

أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) (٣٦)

يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم مثلا برجلين جعل الله لأحدهما جنتين ، أي بستانين من أعناب ، محفوفتين بالنخيل ، المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة ، ولهذا قال : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي أخرجت ثمرها ، (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي ولم تنقص منه شيئا ، (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا ، (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قيل : المراد به المال ، روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل : الثمار ، وهو أظهر هاهنا ويؤيده القراءة الأخرى (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) بضم الثاء وتسكين الميم ، فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم ، فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره ، أي يجادله ، ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أكثر خدما وحشما وولدا ، قال قتادة : تلك والله أمنية الفاجر ، كثرة المال وعزة النفر.

وقوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) وذلك اغترارا منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار ، والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف ، ذلك لقلة عقله ، وضعف يقينه بالله ، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها ، وكفره بالآخرة ، ولهذا قال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي ، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] وقال (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] أي في الدار الآخرة تألى على الله عزوجل. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) (٤١)

يقول تعالى مخبرا عما أجابه به صاحبه المؤمن ، واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) الآية ، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود

١٤٢

ربه الذي خلقه ، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، كما قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] الآية ، أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه ، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ، ثم وجد وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء من المخلوقات ، لأنه بمثابته ، فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه ، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ، ولهذا قال المؤمن (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية ، (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.

ثم قال : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) هذا تحضيض وحث على ذلك ، أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها ، حمدت الله ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك ، وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده ، فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع ، أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا جراح بن مخلد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عيسى بن عون ، حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ، فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت» وكان يتأول هذه الآية (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) قال الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله» تفرد به أحمد. وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا بكر بن عيسى ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟» قال : قلت نعم فداك أبي وأمي. قال : «أن تقول لا قوة إلا بالله» قال أبو بلج : وأحسب أنه قال فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم» قال فقلت لعمرو : قال أبو بلج: قال عمرو : قلت لأبي هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال : لا إنها في سورة الكهف (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ).

__________________

(١) المسند ٢ / ٤٦٩.

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥١ ، ومسلم في الذكر حديث ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦.

(٣) المسند ٢ / ٣٣٥.

١٤٣

وقوله : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) أي في الدار الآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك عن الزهري : أي عذابا من السماء ، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها ، ولهذا قال : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي بلقا ترابا أملس لا يثبت فيه قدم ، وقال ابن عباس : كالجرز الذي لا ينبت شيئا وقوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي غائرا في الأرض ، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض ، فالغائر يطلب أسفلها ، كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠] أي جار وسائح ، وقال هاهنا : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) والغور مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه ، كما قال الشاعر : [المتقارب]

تظل جياده نوحا عليه

تقلده أعنتها صفوفا (١)

بمعنى نائحات عليه.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً(٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤)

يقول تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) بأمواله أو بثماره على القول الآخر ، والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عزوجل (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي أذهبها عليها (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) أي عشيرة أو ولد ، كما افتخر بهم واستعز (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) اختلف القراء هاهنا فمنهم من يقف على قوله : (وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ) أي في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله ، فلا منقذ له منه ، ويبتدئ بقوله : (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) ومنهم من يقف على (وَما كانَ مُنْتَصِراً) ويبتدئ بقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) ثم اختلفوا في قراءة الولاية ، فمنهم من فتح الواو من الولاية ، فيكون المعنى هنالك الموالاة لله ، أي هناك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب ، كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر : ٨٤] وكقوله إخبارا عن فرعون : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٩٠ ـ ٩١] ومنهم من كسر الواو من الولاية ، أي

__________________

(١) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري ٨ / ٢٢٦.

١٤٤

هنالك الحكم لله الحق ، ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية ، كقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦] ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عزوجل ، كقوله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] الآية ، ولهذا قال تعالى : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) أي جزاء (وَخَيْرٌ عُقْباً) أي الأعمال التي تكون للهعزوجل ، ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦)

يقول تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) يا محمد للناس (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في زوالها وفنائها وانقضائها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور والنضرة ، ثم بعد هذا كله أصبح (هَشِيماً) يابسا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل ، كما قال تعالى في سورة يونس (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) [يونس : ٢٥] الآية ، وقال في الزمر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الزمر : ٢١] الآية ، وقال في سورة الحديد (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [الحديد : ٥٠] الآية ، وفي الحديث الصحيح «الدنيا خضرة حلوة» (١) وقوله (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) كقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ) [آل عمران : ١٤] الآية ، وقال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : ١٥] أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم ، والجمع لهم ، والشفقة المفرطة عليهم ، ولهذا قال : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : الباقيات الصالحات الصلوات الخمس. وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس : الباقيات الصالحات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان

__________________

(١) أخرجه بلفظ : «إنّ الدنيا حلوة خضرة» : الترمذي في الفتن باب ٢٦ ، والزهد باب ٤١ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٩ ، والدارمي في الرقاق باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ٧ ، ١٩ ، ٢٢ ، ٤٦ ، ٦١ ، ٧٤ ، ٢ / ٢٨؟؟؟.

١٤٥

عن الباقيات الصالحات ما هي؟ فقال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا حيوة ، حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد ، فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : «من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح : ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء ، وهي الحسنات يذهبن السيئات» قالوا هذه الحسنات ، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، تفرد به.

وروى مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : الباقيات الصالحات : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله (٢) ، وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات ، فقلت: الصلاة والصيام ، فقال لم تصب ، فقلت الزكاة والحج ، فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله (٣). وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات. قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال ابن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.

وقال مجاهد : الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هن الباقيات الصالحات ، قال ابن جرير (٤) : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هن الباقيات الصالحات» قال : وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا

__________________

(١) المسند ١ / ٧١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٣١.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢٣٢.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ٢٣١.

١٤٦

السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات» قيل : وما هن يا رسول الله قال «الملة» قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال «التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله» وهكذا رواه أحمد (١) من حديث دراج به.

قال ابن وهب : أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة ، فقال : قل له القني عند زاوية القبر ، فإن لي إليك حاجة ، قال : فالتقيا فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال : لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله؟ قال : ما زلت أجعلها ، قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا فلم ينزع ، قال : فأثبت؟ قال سالم : أجل فأثبت ، فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه‌السلام ، فقال : يا جبريل من هذا الذي معك؟ فقال : محمد ، فرحب بي وسهل ، ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة ، فقلت : وما غراس الجنة فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن يزيد عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ، ثم قال : «أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم ، فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هن الباقيات الصالحات».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام ، عن مولى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده ـ وقال ـ بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن دخل الجنة : يؤمن بالله واليوم الآخر ، وبالجنة والنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب».

__________________

(١) المسند ٣ / ٧٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٣١.

(٣) المسند ٤ / ٢٦٧ ، ٢٦٨.

(٤) المسند ٤ / ٢٣٧.

١٤٧

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية ، قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالشفرة نعبث بها ، فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب» ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه.

وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي ، حدثنا عمي الحسين عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال : كنت في أول من أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الطائف ، فخرجت من أهلي من السراة غدوة ، فأتيت منى عند العصر ، فتصاعدت في الجبل : ثم هبطت فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلمت وعلمني (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] و (إِذا زُلْزِلَتِ) [الزلزلة : ١] وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقال : «هن الباقيات الصالحات» وبهذا الإسناد «من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ، ثم قال سبحان الله مائة مرة ، والحمد لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل».

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قال : هي ذكر الله قول لا إله إلا الله ، والله أكبر وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس : هي الكلام الطيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها ، واختاره ابن جرير رحمه‌الله.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً(٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [طور : ٩ ، ١٠] أي تذهب من أماكنها وتزول ، كما قال

__________________

(١) المسند ٤ / ١٢٣.

١٤٨

تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] وقال تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٦ ـ ١٠٧] يذكر تعالى أنه تذهب الجبال ، وتتساوى المهاد ، وتبقى الأرض قاعا صفصفا ، أي سطحا مستويا لا عوج فيه ولا أمتا ، أي لا وادي ولا جبل ، ولهذا قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد ، ولا مكان يواري أحدا ، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) لا خمر فيها ولا غيابة قال قتادة : لا بناء ولا شجر.

وقوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) وأي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا ، كما قال : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠] وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣]. وقوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفا واحدا ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] ويحتمل أنهم يقومون صفوفا ، كما قال : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد ، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن.

وقوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا وإن صغر ، إلا أحصاها ، أي ضبطها وحفظها.

وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال : لما فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة حنين ، نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجمعوا من وجد عودا فليأت به ، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به» قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا ، فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها محصاة عليه».

وقوله : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي من خير وشر ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠] الآية ، وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما

١٤٩

قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] وقال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] أي تظهر المخبئات والضمائر. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به» (٢) أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ «يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، يقال هذه غدرة فلان بن فلان» (٣).

وقوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا ، ولا يظلم أحدا من خلقه بل يغفر ويصفح ويغفر ويرحم ، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين ، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠] الآية ، وقال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ـ إلى قوله ـ حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلا ، فسرت عليه شهرا حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس ، فقلت للبواب : قل له جابر على الباب ، فقال : ابن عبد الله؟ قلت نعم ، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فقال سمعت رسول الله يقول : «يحشر الله عزوجل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلا بهما» قلت ، وما بهما؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند لأحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة «قال : قلنا كيف وإنما نأتي الله عزوجل حفاة عراة غرلا بهما؟ قال : «بالحسنات والسيئات».

وعن شعبة عن العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» (٥) رواه عبد الله ابن الإمام

__________________

(١) المسند ٣ / ١٤٢.

(٢) أخرجه البخاري في الجزية باب ٢٢ ، والأدب باب ٩٩ ، والفتن باب ٢١ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨ ، ١٠.

(٣) أخرجه بهذا اللفظ ، الترمذي في الفتن باب ٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٩ ، ٣ / ٧ ، ٦١ ، ٦٤.

(٤) المسند ٣ / ٤٩٥.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٢.

١٥٠

أحمد ، وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) وعند قوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨].

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠)

يقول تعالى منبها بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه ، وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه ، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله ، فقال تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٨ ـ ٢٩]. وقوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) أي خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور.

كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (١) ، فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه ، وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ، فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة ، ونبه تعالى هاهنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار ، كما قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢ ـ ٧٦] قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم عليه‌السلام أصل البشر ، رواه ابن جرير (٢) بإسناد صحيح عنه.

وقال الضحاك عن ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، وكان خازنا من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار (٣) ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الضحاك أيضا عن ابن عباس : كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، واستخرج الله ذلك

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٥٣ ، ١٦٨.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٢٣٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢٣٥.

١٥١

الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم ف (اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

قال ابن عباس قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي من خزان الجنان ، كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : هو من خزان الجنة ، وكان يدبر أمر السماء الدنيا ، رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب : كان رئيس ملائكة سماء الدنيا ، وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمون جنا.

وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر ، أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا ، قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت في معصية فارجه ، وعن سعيد بن جبير أنه قال : كان من الجنانين الذين يعملون في الجنة ، وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها ، ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا ، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث ، وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعفيه من منكره ، وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال ، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل.

وقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فخرج عن طاعة الله ، فإن الفسق هو الخروج ، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها ، وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد ، ثم قال تعالى مقرعا وموبخا لمن اتبعه وأطاعه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) الآية ، أي بدلا عني ، ولهذا قال : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ـ إلى قوله ـ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس : ٥٩ ـ ٦٢].

١٥٢

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٥١)

يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا ، ولا أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير ، كما قال : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٢ ـ ٢٣] الآية ، ولهذا قال : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) قال مالك: أعوانا.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣)

يقول تعالى مخبرا عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤] وقوله : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) كما قال : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤] الآية ، وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] الآيتين ، وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) قال ابن عباس وقتادة وغير واحد : مهلكا ، وقال قتادة : ذكر لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة : موبقا واديا في جهنم.

وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم ، سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) قال : واد في جهنم من قيح ودم ، وقال الحسن البصري : موبقا عداوة ، والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك ، ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو غيره ، والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله بينهم عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٤٠.

١٥٣

عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به ، فهو كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] وقال (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] ، وقال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [يونس : ٢٨ ـ ٣٠].

وقوله : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك فإذا (رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.

قال ابن جرير (١) : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة». وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة ، كما لم يعمل في الدنيا ، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤)

يقول تعالى : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق الهدى ، ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل إلا من هدى الله بصره لطريق النجاة.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة ، فقال : «ألا تصليان؟» فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٤) أخرجاه في الصحيحين.

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢٤١.

(٢) المسند ٣ / ٧٥.

(٣) المسند ١ / ١١٢.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٨ ، باب ١ ، والاعتصام باب ١٨ ، والتهجد باب ٥ ، والتوحيد باب ـ

١٥٤

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦)

يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانا ، كما قال أولئك لنبيهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] وآخرون قالوا (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت : ٢٩] وقالت قريش (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الحجر : ٦ ـ ٧] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.

ثم قال (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي يرونه عيانا مواجهة ومقابلة ، ثم قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم ، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم ، ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون (بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل لهم ، (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب (هُزُواً) أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩)

يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالا ، (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة ، (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قلوب هؤلاء (أَكِنَّةً) أي أغطية وغشاوة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما معنويا عن الرشاد (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً).

__________________

ـ ٣١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٠٦.

١٥٥

وقوله : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) كما قال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] وقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦] والآيات في هذا كثيرة شتى ، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر ، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد ، وتضع كل ذات حمل حملها ، ولهذا قال : (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل. وقوله : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أي الأمم السالفة والقرون الخالية ، أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ، (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين ، لا يزيد ولا ينقص ، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي ، ولستم بأعز علينا منهم ، فخافوا عذابي ونذري.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٦٥)

سبب قول موسى لفتاه وهو يوشع بن نون ، هذا الكلام أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الرحيل إليه ، وقال لفتاه ذلك (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال سائرا (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق : [الطويل]

فما برحوا حتى تهادت نساؤهم

ببطحاء ذي قار عياب اللطائم (١)

قال قتادة وغير واحد : هما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وقال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم. وقوله : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي ولو أني أسير حقبا من الزمان. قال ابن جرير (٢) رحمه‌الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة ، ثم روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد : سبعون خريفا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) قال : دهرا ، وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك.

__________________

(١) البيت في ديوان الفرزدق ص ٥٤٣ ، وتفسير الطبري ٨ / ٢٤٦ ، وتفسير البحر المحيط ٦ / ١٣٥.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٢٤٦.

١٥٦

وقوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه ، وقيل له : متى فقدت الحوت ، فهو ثمة ، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين ، وهناك عين يقال لها عين الحياة ، فناما هنالك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء ، فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع عليه‌السلام ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع عليه‌السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ، ولهذا قال تعالى : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي مثل السرب في الأرض. قال ابن جريج : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر. وقال العوفي عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ذكر حديث ذلك : ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه ، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه ، فقال : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) وقال قتادة : سرب من البر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك طريقا فيه إلا صار ماء جامدا.

وقوله : (فَلَمَّا جاوَزا) أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ، ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج من المالح على أحد القولين ، فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه بمرحلة (قالَ) موسى (لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) أي الذي جاوزا فيه المكان (نَصَباً) يعني تعبا (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) قال قتادة : وقرأ ابن مسعود أن أذكر له ، ولهذا قال (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي طريقه (فِي الْبَحْرِ عَجَباً قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي هذا هو الذي نطلب (فَارْتَدَّا) أي رجعا (عَلى آثارِهِما) أي طريقهما (قَصَصاً) أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهذا هو الخضر عليه‌السلام ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال البخاري (١) : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه‌السلام ، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب وكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٨ ، باب ٢.

١٥٧

بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتا فجعله بمكتل ، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه‌السلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق.

فلما استيقظ ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، قال له فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) قال : فكان الحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فقال (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) قال : فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب ، فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام. فقال : أنا موسى. فقال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ـ فكانت الأولى من موسى نسيانا ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.

ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) قال : وهذه أشد من الأولى ، (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي مائلا ، فقال الخضر بيده (فَأَقامَهُ) فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما».

١٥٨

قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.

ثم رواه البخاري (١) عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه ، وفيه : فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فنزلا عندها ، قال : فوضع موسى رأسه فنام ، قال سفيان : وفي حديث عن عمرو قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من ماء تلك العين ، فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ، فلما استيقظ قال موسى لفتاه (آتِنا غَداءَنا) قال : وساق الحديث ، ووقع عصفور على حرف السفينة ، فغمس منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.

وقال البخاري (٢) أيضا : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير ، يزيد أحدهما على صاحبه ، وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن عباس في بيته ، إذ قال سلوني ، فقلت : أي أبا عباس جعلني الله فداك ، بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل ، أما عمرو فقال لي قال : كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى ، فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أعلم منك؟ قال : لا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله ، قيل : بلى ، قال أي رب ، وأين؟ قال : بمجمع البحرين ، قال : أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال لي عمرو : قال حيث يفارقك الحوت ، وقال لي يعلى : خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح ، فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كبيرا ، فذلك قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) يوشع بن نون ليست عند سعيد بن جبير.

قال : فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ يضرب الحوت وموسى نائم ، فقال فتاه ، لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في حجر ، قال : فقال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر ، وحلق بين إبهاميه واللتين تليهما ، قال : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) قال : وقد قطع الله عنك النصب ، ليست هذه عند سعيد بن جبير ، أخبره فرجعا فوجدا خضرا قال : قال عثمان بن أبي سليمان : على طنفسه خضراء على كبد البحر ، قال سعيد بن جبير : مسجى بثوب قد جعل

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٨ ، باب ٣.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٨ ، باب ٢.

١٥٩

طرفه تحت رجليه وطرفه عند رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه ، وقال : هل بأرضي من سلام؟ من أنت؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال : فما شأنك؟ قال : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا.

قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى ، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه ، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال : والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر ، عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح ، قال : فقلنا لسعيد بن جبير خضر ، قال : نعم لا نحمله بأجر ، فخرقها ووتد فيها وتدا ، قال موسى (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قال مجاهد : منكرا ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كانت الأولى نسيانا ، والثانية شرطا ، والثالثة عمدا ، (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ).

قال يعلى : قال سعيد : وجد غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، فقال أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث؟ وابن عباس قرأها زكية مسلمة كقولك غلاما زكيا ، فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال سعيد : بيده هكذا ودفع بيده فاستقام ، قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال يعلى : حسبت أن سعيدا قال : فمسحه بيده فاستقام ، قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال سعيد : أجرا نأكله ، وكان وراءهم ملك ، وكان أمامهم ، قرأها ابن عباس : أمامهم ملك يزعمون ، عن غير سعيد ، أنه هدد بن بدد ، والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها ، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها ، منهم من يقول سدوها بقارورة ، ومنهم من يقول بالقار ، كان أبواه مؤمنين ، وكان هو كافرا ، فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه ، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة ، كقوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) ، وقوله : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر ، وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية ، وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد : إنها جارية.

قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : خطب موسى عليه‌السلام بني إسرائيل فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني ، فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان ، والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال : جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : يا أبا العباس إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا ، قال سعيد : فقال ابن عباس : أنوف يقول هذا يا سعيد؟ فقلت له : نعم أنا سمعت نوفا يقول ذلك ، قال : أنت سمعته يا سعيد؟ قال : نعم ،

١٦٠