تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

سورة الكهف

وهي مكية

[ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال]

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اقرأ فلان ، فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو تنزلت للقرآن» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به ، وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» (٤) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به ، ولفظ الترمذي «من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف» (٥) وقال : حسن صحيح.

[طريق أخرى] ـ قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن قتادة ، سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» ورواه مسلم (٧) أيضا والنسائي من حديث قتادة به ، وفي لفظ النسائي «من قرأ عشر آيات من الكهف» فذكره (حديث آخر) وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف فإنه

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٨١.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، وفضائل القرآن باب ١١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٤٠ ، ٢٤١.

(٣) المسند ٥ / ١٩٦.

(٤) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٢٥٧ ، وأبو داود في الملاحم باب ١٤.

(٥) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٦. ولفظ الترمذي : «من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال».

(٦) المسند ٦ / ٤٤٦.

(٧) كتاب المسافرين حديث ٢٥٧.

١٢١

عصمة له من الدجال» فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء.

وقال أحمد (١) : حدثنا حسين ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها ، كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض» انفرد به أحمد ولم يخرجوه ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن سعيد بن أبي مريم ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين» وهذا الحديث في رفعه نظر ، وأحسن أحواله الوقف.

وهكذا روى الإمام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. هكذا وقع موقوفا ، وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل ، حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم ، حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد ، عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين» ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم ، ثم قال البيهقي : ورواه يحيى بن كثير عن شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الكهف كما نزلت ، كانت له نورا يوم القيامة» وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني ، عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعا : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة ، وإن خرج الدجال عصم منه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٥)

قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها ، فإنه

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٣٩.

١٢٢

المحمود على كل حال ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين ، بشيرا للمؤمنين ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا ميلا ، بل جعله معتدلا مستقيما ولهذا قال : (قَيِّماً) أي مستقيما (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأسا شديدا عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى (مِنْ لَدُنْهُ) أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) أي مثوبة عند الله جميلة (ماكِثِينَ فِيهِ) في ثوابهم عند الله ، وهو الجنة خالدين فيه (أَبَداً) دائما لا زوال له ولا انقضاء.

وقوله : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال ابن إسحاق : وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات الله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه (وَلا لِآبائِهِمْ) أي لأسلافهم (كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمة. وقيل : على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا ، قاله بعض البصريين ، وقرأ ذلك بعض قراء مكة : كبرت كلمة ، كما يقال عظم قولك وكبر شأنك ، والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ، ولهذا قال: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال : (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار اليهود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها ، فجاؤوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما

١٢٣

أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبركم غدا عما سألتم عنه» ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل عليه‌السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليه‌السلام من الله عزوجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عزوجل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ) الآية.

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٨] وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] وقال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ، ولهذا قال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَسَفاً) يقول : لا تهلك نفسك أسفا. قال قتادة : قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم ، وقال مجاهد : جزعا (١) ، والمعنى متقارب ، أي لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة ، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (٢) ، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها ، فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به.

كما قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد : صعيدا جرزا بلقعا ، وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات ، وقال ابن زيد : الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٧٧.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٩٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٢.

١٢٤

ترى إلى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) وقال محمد بن إسحاق : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد ، وأن المرجع لإلى الله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢)

هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : (أَمْ حَسِبْتَ) يعني يا محمد (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطانا فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف ، كما قال ابن جريج عن مجاهد (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.

وقال العوفي عن ابن عباس (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم (١) ، وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم ، وأما الكهف فهو الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون ، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة ، وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك : أما الكهف فهو غار في الوادي ، والرقيم اسم الوادي ، وقال مجاهد : الرقيم كان بنيانهم ، ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم : كان يزعم كعب أنها القرية ، وقال ابن جريج عن ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف ، وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس ، وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس (٢) ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران. وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا والأواه والرقيم. وقال ابن جريج :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٨٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٨١.

١٢٥

أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم؟ كتاب أم بنيان. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرقيم الكتاب. وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ، ثم وضعوه على باب الكهف.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب ، ثم قرأ : كتاب مرقوم. وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير ، قال : الرقيم فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقال للمقتول قتيل ، وللمجروح جريح ، والله أعلم.

وقوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا أي اجعل عاقبتنا رشدا ، كما جاء في الحديث «وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا» وفي المسند من حديث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدعو «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» (١).

وقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة ، (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله ، ولهذا قال : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي المختلفين فيهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) قيل : عددا ، وقيل : غاية ، فإنّ الأمد الغاية ، كقوله : [البسيط]

سبق الجواد إذا استولى على الأمد (٢)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٨١.

(٢) صدره :

إلا لمثلك أو من أنت سابقه

والبيت للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢١ ، ولسان العرب (أمد) ، (سوا) ، (ولي) ، وجمهرة اللغة ص ٦٥٩ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٢٢٢ ، ١٥ / ٤٥٤ ، وتاج العروس (أمد) ، (سند) ، وتفسير الطبري ٨ / ١٨٧.

١٢٦

لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)

من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب ، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا ، وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق ، فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم ، فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلا هو (وَزِدْناهُمْ هُدىً) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص ، ولهذا قال تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) كما قال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] وقال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: ١٢٤] وقال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.

وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم ، فالله أعلم ، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم ، وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم.

وقوله (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس ،. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض ، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية.

فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر وجاء الآخر ،

١٢٧

ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.

كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (١) وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والناس يقولون : الجنسية علة الضم ، والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفا منهم ، ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم : تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء ، فليظهر كل واحد منكم بأمره ، فقال آخر : أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك ، وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدا واحدة ، وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه ، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عزوجل ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ولن لنفي التأبيد أي لا يقع منا هذا أبدا ، لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ، ولهذا قال عنهم: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي باطلا وكذبا وبهتانا.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم ، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه ، وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة ، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء في الحديث «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (٢) ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها ، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع ، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضا بأبدانكم ، (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢ ، ومسلم في البر حديث ١٥٩ ، ١٦٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الفتن باب ٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٠.

١٢٨

أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) الذي أنتم فيه (مِرْفَقاً) أي أمرا ترتفقون به ، فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف فأووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك ، فيقال أنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصاحبه الصديق حين لجئا إلى غار ثور ، وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه ، وعندها قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» (١) وقد قال تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ، وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم ، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعلوا ذلك ، وفي هذا نظر ، والله أعلم ، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشيا ، كما قال تعالى :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧)

فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال ، لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) أي يتقلص الفيء يمنة ، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة (تَزاوَرُ) أي تميل (٢) ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ، ولهذا قال : (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب ، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا ولا شمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ، ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد.

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : تقرضهم تتركهم (٣) ، وقد أخبر الله تعالى بذلك ، وأراد منا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٩٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٩٣.

١٢٩

فهمه وتدبره ، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض ، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي ، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا ، فتقدم عن ابن عباس أنه قال : هو قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق : هو عند نينوى. وقيل : ببلاد الروم. وقيل : ببلاد البلقاء ، والله أعلم بأي بلاد الله هو ، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه ، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به» فأعلمنا تعالى بصفته ، ولم يعلمنا بمكانه ، فقال : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) قال مالك عن زيد بن أسلم : تميل (ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في متسع منه داخلا بحيث لا تصبيهم ، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، قاله ابن عباس.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) ، ثم قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الآية ، أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له.

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ، ولهذا قال تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر : [الطويل]

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم (١)

وقوله : تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس : لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : الوصيد الفناء ، وقال ابن عباس : بالباب. وقيل : بالصعيد وهو التراب ، والصحيح أنه بالفناء وهو الباب ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ

__________________

(١) يروى عجر البيت :

بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع

والبيت لحميد بن ثور في ديوانه ص ١٠٥ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٢١٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٩٢ ، والشعر والشعراء ١ / ٣٩٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٦٢ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٢١٤ ، وشرح الأشموني ١ / ١٠٦ ، وشرح ابن عقيل ص ١٣٢.

١٣٠

مُؤْصَدَةٌ) [الهمزة : ٨] أي مطبقة مغلقة ، ويقال : وصيد وأصيد ، ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.

قال ابن جريج : يحرس عليهم الباب ، وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ، لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ، كما ورد في الصحيح : «ولا صورة ولا جنب ولا كافر» (١) ، كما ورد به الحديث الحسن ، وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخبار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه ، وقيل : كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه ، فالله أعلم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي : حدثنا صدقة بن عمر الغساني ، حدثنا عباد المنقري ، سمعت الحسن البصري يقول : كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير ، واسم هدهد سليمان عليه‌السلام عنقز ، واسم كلب أصحاب الكهف قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه بهموت ، وهبط آدم عليه‌السلام بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصفهان ، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران ، واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب.

وقوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٢٠)

يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئا وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، ولهذا تساءلوا بينهم (كَمْ لَبِثْتُمْ) أي كم رقدتم؟ (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان في آخر نهار ، ولهذا استدركوا فقالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٨٩ ، واللباس باب ١٢٩ ، والنسائي في الطهارة باب ١٦٧ ، والدارمي في الاستئذان باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٨٠ ، ٨٢ ، ١٠٧ ، ١٣٩ ، ١٥٠.

١٣١

لَبِثْتُمْ) أي الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك ، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) أي فضتكم هذه ، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا منها وبقي منها ، فلهذا قالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي مدينتكم التي خرجتم منها ، والألف واللام للعهد.

(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي أطيب طعاما. كقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور : ٣١] وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى: ١٤] ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره ، وقيل : أكثر طعاما ، ومنه زكا الزرع إذا كثر ، قال الشاعر : [الطويل]

قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة

والسّبع أزكى من ثلاث وأطيب (١)

والصحيح الأول ، لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيرا أو قليلا. وقوله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه ، يقولون : وليختف كل ما يقدر عليه (وَلا يُشْعِرَنَ) أي ولا يعلمن (بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) أي إن علموا بمكانكم (يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها ، أو يموتوا ، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

يقول تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي أطلعنا عليهم الناس (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد ، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك ، وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى

__________________

(١) يروى البيت :

قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة

والسّبع خير من ثلاث وأكثر

وهو للقتال الكلابي في ديوانه ص ٥٠ ، والإنصاف ٢ / ٧٧٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٧٠ ، والكتاب ٣ / ٥٦٥ ، والبيت برواية ابن كثير بلا نسبة في تفسير الطبري ٨ / ٢٠٤.

١٣٢

إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس ، وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر : [الطويل]

أما الديار فإنها كديارهم

وأرى رجال الحي غير رجاله

فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدا من أهلها : لا خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونا أو مسا أو أنا حالم ، ويقول : والله ما بي شيء من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي ، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعاما ، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا وجد كنزا ، فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة ، لعله وجدها من كنز وممن أنت؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه البلدة ، وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس ، فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله وما هو فيه ، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل ، فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبرهم ، ويقال بل دخلوا عليهم ورأوهم ، وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلما فيما قيل ، واسمه تيدوسيس ، ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله عزوجل ، فالله أعلم.

قال قتادة : غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظاما فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ، فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة ، رواه ابن جرير.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين [أحدهما] أنهم المسلمون منهم. [والثاني] أهل الشرك منهم ، فالله أعلم.

والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟

١٣٣

فيه نظر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» (١) يحذر ما فعلوا ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

يقول تعالى مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، فدل على أنه لا قائل برابع ، ولما ضعف القولين الأولين بقوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قولا بلا علم ، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فدل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا.

وقوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي من الناس. قال قتادة : قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عزوجل ، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عزوجل ويقول عدتهم سبعة ، وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن يسار حدثنا عبد الرحمن حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) قال أنا من القليل كانوا سبعة فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو موافق لما قدمناه.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس : فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله ، وكانوا ثمانية نفر : مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ، وتمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطونس وقالوش ، هكذا وقع في هذه الرواية ، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه ، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو ظاهر الآية ، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران ، وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته ، والله أعلم ، فإن غالب ذلك

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٩٦ ، ومسلم في المساجد حديث ١٩ ، ٢٠ ، ٢١.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ٢٠٦.

١٣٤

متلقى من أهل الكتاب ، وقد قال تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي سهلا هينا ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب ، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه ، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢٤)

هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عزوجل ، علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قال سليمان بن داود عليهما‌السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ـ وفي رواية : تسعين امرأة ، وفي رواية : مائة امرأة ـ تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك : قل إن شاء الله ، فلم يقل ، فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لم يحنث ، وكان دركا لحاجته» وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعين» (١) وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف «غدا أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة عشر يوما ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته.

وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قيل معناه إذا نسيت الاستثناء ، فاستثن عند ذكرك له ، قاله أبو العالية والحسن البصري ، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال : له أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ذلك ، قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد؟ فقال : حدثني به ليث بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا ، ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة ، أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله؟؟؟ وذكر ولو بعد سنة ، فالسنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث ، قاله ابن جرير رحمه‌الله ، ونص على ذلك لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة ، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه‌الله هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه ، والله أعلم.

وقال عكرمة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني:

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأيمان باب ٣ ، والكفارات باب ٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣ ، ٢٤.

١٣٥

حدثنا محمد بن الحارث الجبلي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أن تقول إن شاء الله ، وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس في قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ، وقال : هي خاصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ، ثم قال : انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين ، ويحتمل في الآية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ، لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله تعالى سبب للذكر ، ولهذا قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) وقوله : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله تعالى فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك ، وقيل في تفسيره غير ذلك ، والله أعلم.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (٢٦)

هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان ، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية ، وهي الثلثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال : بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا. وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه ، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف.

وقال قتادة في قوله : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) الآية ، هذا قول أهل الكتاب ، وقد ردّه الله تعالى بقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) قال : وفي قراءة عبد الله وقالوا : (وَلَبِثُوا) ، يعني أنه قاله الناس (١) ، وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله ، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر ، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ، يعنون بالشمسية ، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال : وازدادوا تسعا ، والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم ، وهذا اختيار ابن جرير رحمه‌الله ، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ، ثم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ٢١٠.

١٣٦

هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور ، فلا يحتج بها ، والله أعلم.

وقوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي أنه لبصير بهم سميع لهم ، قال ابن جرير (١) : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا. وقوله : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغير لها ولا محرّف ولا مزيل. وقوله : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) عن مجاهد ملتحدا قال : ملجأ. وعن قتادة : وليا ولا مولى. قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا ملجأ لك من الله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وقال : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.

وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا ، من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء ، أو أقوياء أو ضعفاء ، أو ضعفاء يقال : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجلس معهم ، وحده ، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه ، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله عن ذلك فقال : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، فقال (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام: ٥٢] الآية.

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال : كنا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة نفر

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢١٢.

١٣٧

فقال المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ، ورجلان نسيت اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يشاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) انفرد بإخراجه مسلم (١) دون البخاري.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي التياح قال : سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قاص يقص فأمسك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قص ، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب». وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا هاشم : حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت كردوس بن قيس ، وكان قاص العامة بالكوفة ، يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب» قال شعبة : فقلت أي مجلس؟ قال : كان قاصا.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا» فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين ألفا وهاهنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل ، والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم» ، هكذا رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا. وحدثنا يحيى بن المعلى عن المنصور ، حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، قالا : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر ، أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون المرئي ، حدثنا ميمون بن سياه

__________________

(١) كتاب فضائل الصحابة حديث ٤٦.

(٢) المسند ٥ / ٢٦١.

(٣) المسند ٣ / ٤٧٣.

(٤) المسند ٣ / ١٤٢.

١٣٨

عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه ، إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات» تفرد به أحمد رحمه‌الله. وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بعض أبياته.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية ، فخرج يتلمسهم ، فوجد قوما يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم» عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة. وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم.

وقوله (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم ، يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ، (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعا ولا محبا لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ١٣١].

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ، ولهذا قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي أرصدنا (لِلظَّالِمِينَ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي سورها. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار مثل مسافة أربعين سنة» وأخرجه(٢) الترمذي في صفة النار ، وابن جرير (٣) في تفسيره ، من حديث دراج أبي السمح به.

وقال ابن جريج : قال ابن عباس : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) قال : حائط من نار. قال ابن جرير (٤) : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا : حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٩.

(٢) كتاب صفة جهنم باب ٤.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ٢١٨.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ٢١٨.

١٣٩

أمية ، حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البحر هو جهنم» قال : فقيل له كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية ، أو قرأ هذه الآية (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) ثم قال «والله لا أدخلها أبدا أو ما دمت حيا لا تصيبني منها قطرة».

وقوله (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الآية ، قال ابن عباس : المهل : الماء الغليظ مثل دردي الزيت (١) ، وقال مجاهد : هو كالدم والقيح. وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره. وقال آخرون : هو كل شيء أذيب. وقال قتادة : أذاب ابن مسعود شيئا من الذهب في أخدود ، فلما انماع وأزبد ، قال : هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك : ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود ، وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ، ولهذا قال : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه.

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه» وهكذا رواه الترمذي (٣) في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث ، عن دراج به ، ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا ، قال : وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب ، عن ابن لهيعة ، عن دراج ، والله أعلم.

وقال عبد الله بن المبارك وبقية بن الوليد : عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن يسر ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) ، قال : «يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) (٤). وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا ، فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها ، فاختلت جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون ، فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ، ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة (بِئْسَ الشَّرابُ) أي بئس هذا الشراب ، كما قال في الآية الأخرى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] وقال تعالى : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ٢١٩.

(٢) المسند ٣ / ٧٠ ، ٧١.

(٣) كتاب صفة جهنم باب ٤.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧٠ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٦٥.

١٤٠