تفسير القرآن العظيم - ج ٥

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٥

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٤٧

فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فيأتون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى ، أخرجاه في الصحيحين (١).

وقال مسلم (٢) رحمه‌الله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا عقل بن زياد عن الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فروخ ، حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأول شافع وأول مشفع». وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) سئل عنها فقال : «هي الشفاعة» رواه الإمام أحمد عن وكيع ومحمد بن عبيد عن داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه» (٤).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأكون أول من يدعي ، وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله عزوجل ، صدق ، ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ، قال : فهو المقام المحمود» وهذا حديث مرسل.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ ، باب ٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢٧.

(٢) كتاب الفضائل حديث ٣.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ١٣٣.

(٤) المسند ٢ / ٤٤١ ، ٥٢٨.

١٠١

الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه ، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه ، فأراد الله قتال أهل مكة ، أمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله عزوجل :

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) الآية (٢).

وقال قتادة (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني المدينة (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني مكة (٣) ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهذا القول هو أشهر الأقوال. وقال العوفي عن ابن عباس (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) يعني الموت (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني الحياة بعد الموت ، وقيل غير ذلك من الأقوال ، والأول أصح ، وهو اختيار ابن جرير.

وقوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) قال الحسن البصري في تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه له ، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة فيها : إن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ، ولو لا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم (٤) ، قال مجاهد (سُلْطاناً نَصِيراً) حجة بينة ، واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة ، وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ـ إلى قوله ـ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] الآية. وفي الحديث «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع.

وقوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) الآية ، تهديد ووعيد لكفار قريش ، فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان والعلم النافع ، وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨]. وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل

__________________

(١) المسند ١ / ٢٢٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٣٥.

(٣) تفسير الطبري ٨ / ١٣٥.

(٤) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٣٧.

١٠٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : «جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» (١) وكذا رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به ، وكذا رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شبابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكبت على وجوهها ، وقال : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً) (٨٢)

يقول تعالى مخبرا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله ، وهو أيضا رحمة يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه ، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة ، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك ، فلا يزيد سماعه القرآن إلا بعدا وكفرا ، والآفة من الكافر لا من القرآن ، كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] والآيات في ذلك كثيرة. قال قتادة في قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (٢).

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤)

يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء ، فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ، ونال ما يريد ، أعرض عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في المظالم والغضب باب ٣٢ ، وتفسير سورة ١٧ ، باب ١٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨٤ ، ٨٧ ، والترمذي في تفسير سورة ١٧ ، باب ٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٣٩.

١٠٣

طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه. قال مجاهد : بعد عنا ، قلت : وهذا كقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] وقوله : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب ، والحوادث والنوائب (كانَ يَؤُساً) أي قنط أن يعود فيحصل له بعد ذلك خير ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: ٩ ـ ١١].

وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال ابن عباس : على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته وطبيعته. وقال قتادة : على نيته. وقال ابن زيد : دينه ، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى وهذه الآية ـ والله أعلم ـ تهديد للمشركين ووعيد لهم ، كقوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) [هود : ١٢١ ـ ١٢٢] الآية ، ولهذا قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا تخفى عليه خافية.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ، عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قال : فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.

ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الآية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينا أنا أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرث وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم إليه ، وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه ، فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية (٢).

وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله

__________________

(١) المسند ١ / ٣٨٩ ، ٤١٠ ، ٤٤٥.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ ، باب ١٣ ، والتوحيد باب ٢٨ ، ومسلم في صفات المنافقين حديث ٣٢.

١٠٤

اليهود عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).

ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل ، فقالوا : سلوه عن الروح ، فسألوه ، فنزلت (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، قال : وأنزل الله (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) [الكهف : ١٠٩] الآية.

وقد روى ابن جرير (٢) عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى ، عن داود عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الروح ، فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية ، فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا ، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) قال : فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] الآية ، قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل.

وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا : يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أفعنيتنا أم عنيت قومك ، فقال «كلا قد عنيت» فقالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم» وأنزل الله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣) [لقمان : ٢٧].

وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال [أحدها] أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا ، فأتاه جبريل فقال له : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ

__________________

(١) المسند ١ / ٢٥٥.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ١٤١ ، ١٤٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٤٣.

١٠٥

رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فأخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا؟ قال : جاءني به جبريل من عند الله ، فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدونا ، فأنزل الله (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [البقرة : ٩٧] وقيل : المراد بالروح هاهنا جبريل ، وقال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه ، وقيل المراد به هاهنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) يقول : الروح ملك. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب بن روق بن هبيرة ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل ، تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب بل منكر. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله. حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة ، وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم.

وقال السهيلي : روي عن علي أنه قال : هو ملك له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي : وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم ، وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم ، فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم.

وقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم ، ولهذا قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى ، والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى ، وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة ، أي شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر ، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا قال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وقال السهيلي : قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا ، لأنهم سألوا على وجه التعنت ، وقيل : أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من شرعه ، أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك ، لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع ، وفي

١٠٦

هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم.

ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر ، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء ، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا (١) أو خمرا ، ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو ، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه ، فحاصل ما نقول : إن الروح هي أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه ، وهذا معنى حسن ، والله أعلم.

قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها ، وصنفوا في ذلك كتبا ، ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن مندة في كتاب سمعناه في الروح.

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً) (٨٩)

يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه : يطرق الناس ريح حمراء ، يعني في آخر الزمان من قبل الشام ، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية ، ثم قرأ ابن مسعود (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية (٢).

ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع ، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له ، وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به ، فأنزل الله هذه الآية ، وفي هذا نظر ، لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش ، واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة ، فالله أعلم. وقوله (وَلَقَدْ صَرَّفْنا

__________________

(١) المصطار : الخمر الحديثة المتغيرة الطعم والريح ، وقيل : المصطار : من أسماء الخمر.

(٢) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٤٤.

١٠٧

لِلنَّاسِ) الآية ، أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة ، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ، ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا للحق وردا للصواب.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً) (٩٣)

قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة ، عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار ، وأبا البختري أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين ، اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه (٢).

فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء (٣) ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم (٤) حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعبث؟؟؟ الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة ، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٤٩ ، ١٥٠ ، ١٥١.

(٢) حتى تعذروا فيه : أي حتى تقدموا العذر فيه ، فلا تلامون بعد ذلك على ما يكون بينكم وبينه.

(٣) أي ظهر لهم ما لم يكن معروفا قبلا.

(٤) العنت : ما بشق على المرء فعله.

١٠٨

الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما ، فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا منا ، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فإن تقبلوا ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك ، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك إلى الله ، إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا : يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب ، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب ، فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو فعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان

١٠٩

طمع فيه من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق : حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء.

وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له ، لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه ، ولكن علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفرا وعنادا له ، فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شئت أعطيناهم ما سألوا ، فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة؟ فقال : «بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة ، كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام أيضا عند قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩]. وقال تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ٧ ـ ١١].

وقوله تعالى (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الينبوع : العين الجارية ، سألوه أن يجري لهم عيونا معينا في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأنعام : ١١١] الآية.

وقوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي أطرافها ، فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفا ، أي قطعا كقوله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] الآية ، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، وأما نبي الرحمة ونبي التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا ، وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له ما قال ، أسلم إسلاما تاما وأناب إلى الله عزوجل.

١١٠

وقوله تعالى : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هو الذهب ، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود : أو يكون لك بيت من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) قال مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك ، وأمركم فيما سألتم إلى الله عزوجل.

قال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرض علي ربي عزوجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ـ أو نحو ذلك ـ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» ورواه الترمذي (٢) في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به ، وقال : هذا حديث حسن ، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥)

يقول تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أي أكثرهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلا ، كما قال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢] ، وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] الآية. وقال فرعون وملؤه (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] وكذلك قالت الأمم لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [إبراهيم : ١٠] والآيات في هذا كثيرة ، ثم قال تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] وقال تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٥٤.

(٢) كتاب الزهد باب ٣٥.

١١١

ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥١ ـ ١٥٢] ولهذا قال هاهنا (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي كما أنتم فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) أي من جنسهم. ولما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا ورحمة.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٩٦)

يقول تعالى مرشدا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به : إنه شاهد علي وعليكم ، عالم بما جئتكم به ، فلو كنت كاذبا عليه لا لانتقم مني أشد الانتقام ، كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦]. وقوله (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي عليما بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة ، ولهذا قال :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) (٩٧)

يقول تعالى مخبرا عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم ، كما قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) قال الإمام أحمد (١) ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نفيع قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل : يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال : «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (٢) ، وأخرجاه في الصحيحين.

وقال الإمام أحمد (٣) أيضا : حدثنا الوليد بن جميع القرشي عن أبيه عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال : يا بني غفار ، قولوا ولا تحلفوا ، فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج : فوج راكبين طاعمين كاسين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار ، فقال قائل منهم : هذان قد عرفناهما ، فما بال الذين يمشون ويسعون؟ قال «يلقي الله عزوجل الآفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر ، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف (٤) ذات القتب (٥) فلا يقدر عليها».

__________________

(١) المسند ٣ / ١٦٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٥ ، باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٥٤.

(٣) المسند ٥ / ١٦٤ ، ١٦٥.

(٤) الشارف : الناقة المسنة.

(٥) القتب للبعير : شبه الرحل.

١١٢

وقوله : (عُمْياً) أي لا يبصرون ، (وَبُكْماً) يعني لا ينطقون ، (وَصُمًّا) لا يسمعون ، وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكما وعميا وصما عن الحق ، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه (مَأْواهُمْ) أي منقلبهم ومصيرهم (جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) قال ابن عباس : سكنت ، وقال مجاهد طفئت ، (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي لهبا ووهجا وجمرا ، كما قال : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠].

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً) (٩٩)

يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه ، لأنهم كذبوا (بِآياتِنا) أي بأدلتنا وحجتنا ، واستبعدوا وقوع البعث (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي بالية نخرة (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض ، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك ، كما قال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣] الآية ، وقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨١ ـ ٨٢] إلى آخر السورة.

وقال هاهنا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم. وقوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها ، كما قال تعالى : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود : ١٠٤]. وقوله : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) أي بعد قيام الحجة عليهم (إِلَّا كُفُوراً) إلا تماديا في باطلهم وضلالهم.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١٠٠)

يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق ، قال ابن عباس وقتادة : أي الفقر (١) ، خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا ، لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ، ولهذا قال : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) قال ابن عباس وقتادة : أي بخيلا منوعا ، وقال الله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٥٤.

١١٣

الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير ، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج : ١٩ ـ ٢٢] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه ، وقد جاء في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه» (١).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) (١٠٤)

يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون ، وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، قاله ابن عباس (٢). وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا ، والخمس في الأعراف والطمسة والحجر ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة : هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي ، وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة ، وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [الأعراف : ١٣٣] أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها ، كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ، وما نجعت فيهم : فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا ، وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى آخرها ، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله ، كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) قيل : بمعنى ساحر ، والله تعالى أعلم.

فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد هاهنا ، وهي المعنية في قوله تعالى : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ ـ إلى قوله ـ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [النمل : ١٠ ـ ١٢] فذكر هاتين الآيتين العصا واليد وبين الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد أوتي موسى عليه

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٢ ، والتوحيد باب ١٩ ، ٢٢ ، ومسلم في الزكاة حديث ٣٧ ، والترمذي في تفسير سورة ٥ ، باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٣ ، ٥٠٠.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ١٥٥.

١١٤

السلام آيات أخر كثيرة ، منها ضربة الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه ، ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر ، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فقال : لا تقل له نبي ، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين ، فسألاه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه ، وقالا : نشهد أنك نبي. قال : «فما يمنعكما أن تتبعاني؟» قالا : لأن دوادعليه‌السلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود (٢). فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وهو حديث مشكل ، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وقد تكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون ، والله أعلم.

ولهذا قال موسى لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي حججا وأدلة على صدق ما جئتك به (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي هالكا ، قاله مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس : ملعونا ، وقال أيضا هو والضحاك (مَثْبُوراً) أي مغلوبا ، والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله ، قال الشاعر عبد الله بن الزبعرى : [الخفيف]

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي

ومن مال ميله مثبور (٣)

وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب لفرعون ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] الآية ، فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٣٩.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٧ ، باب ١٥ ، والنسائي في التحريم باب ١٨.

(٣) البيت لابن الزبعرى في تفسير البحر المحيط ٦ / ٦٧ ، والجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٣٣٨ ، وسيرة ابن هشام ٢ / ٤١٩ ، وتفسير الطبري ٨ / ١٥٩.

١١٥

الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه ، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله ، وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث ، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه ، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة ، فإن له بعض ما ينكر ، والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات فحصل وهم في ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي يخليهم منها ويزيلهم عنها ، (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) وفي هذا بشارة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة ، وكذلك فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها ، كما قال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) الآيتين ، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين ، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما ، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم ، كما قال (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] ، وقال هاهنا (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي جميعكم أنتم وعدوكم ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : لفيفا أي جميعا.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦)

يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل ، أي متضمنا للحق ، كما قال تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء : ١٦٦] أي متضمنا علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك يا محمد محفوظا محروسا لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا نقص منه ، بل وصل إليك بالحق ، فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى. وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ) أي يا محمد (إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين ونذيرا لمن عصاك من الكافرين.

وقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاث وعشرين سنة ، قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ابن عباس أيضا أنه قرأ : فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه آية آية مبينا ومفسرا ، ولهذا قال : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم ، أي (عَلى مُكْثٍ) أي مهل (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي شيئا بعد شيء.

١١٦

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي سواء آمنتم به أم لا ، فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله ، ولهذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم يبدلوه ولا حرفوه (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) هذا القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) جمع ذقن وهو أسفل الوجه (سُجَّداً) أي لله عزوجل شكرا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلا أن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب ، ولهذا يقولون (سُبْحانَ رَبِّنا) أي تعظيما وتوقيرا على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً). وقوله : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) أي خضوعا لله عزوجل وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) اي إيمانا وتسليما ، كما قال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧]. وقوله : (وَيَخِرُّونَ) عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود ، كما قال الشاعر : [المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١)

يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عزوجل ، المانعين من تسميته بالرحمن (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن ، فإنه ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ـ إلى أن قال ـ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤] الآية ، وقد روى مكحول أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول في سجوده : «يا رحمن يا رحيم» فقال: إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين ، فأنزل الله هذه الآية ، وكذا روي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير.

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٦٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥١ ، ٥ / ١٠٧ ، ٦ / ٩١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٩٥.

١١٧

وقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) الآية قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم ، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوار بمكة ، (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به ، قال : فقال الله تعالى لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به ، وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس ، وزاد : فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع ، فإن خفض صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٣) وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة : نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة ، وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن سلمة بن علقمة (٥) عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ قال : أناجي ربي عزوجل وقد علم حاجتي ، فقيل : أحسنت. وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت ، فلما نزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا ، وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس : نزلت في الدعاء (٦) ،

__________________

(١) المسند ١ / ٢٣ ، ٢١٥.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢ ، ٣٤ ، ٤٤ ، ٥٢ ، ومسلم في الصلاة حديث ١٤٥ ، ١٤٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٦٨ ، ١٦٩.

(٤) تفسير الطبري ٨ / ١٦٨.

(٥) في الطبري : عن سلمة عن علقمة.

(٦) انظر تفسير الطبري ٨ / ١٦٦.

١١٨

وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير. وقال الثوري عن ابن عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال : كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم ارزقنا إبلا وولدا» قال : فنزلت هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها).

[قول آخر] قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الآية في التشهد (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله.

[قول آخر] : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس. وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها ، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به ، وهشيم عن عوف عنه به ، وسعيد عن قتادة عنه كذلك.

[قول آخر] قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) قال : أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف ، فيصيح به ويصيحون هم به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة.

وقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) لما اثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائض فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي ليس بدليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير ، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له ، ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له. قال مجاهد في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أى عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.

قال ابن جرير (٢) : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول في هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية ، قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولدا ، وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذل ، فأنزل الله هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٨ / ١٧٠.

(٢) تفسير الطبري ٨ / ١٧٢.

١١٩

يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) وقال أيضا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أهله هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية ، الصغير من أهله والكبير. قلت وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى هذه الآية آية العز ، وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا بشر بن سيحان البصري ، حدثنا حرب بن ميمون ، حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويده في يدي ، أو يدي في يده ، فأتى على رجل رث الهيئة فقال : «أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟» قال : السقم والضر يا رسول الله ، قال : «ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟» قال : لا ، قال : ما يسرني بها أن شهدت معك بدرا أو أحدا ، قال : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟» قال : فقال أبو هريرة : يا رسول الله إياي فعلمني ، قال : «فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت ، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا» قال : فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي قال : فقال لي «مهيم» (١) قال : قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني» ، إسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة ، والله أعلم. آخر تفسير سورة سبحان. ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) مهيم : كلمة يمنية ، تعني ما شأنك وأمرك ، وما بك.

١٢٠