تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

قال محمد بن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم بدر : «إني قد عرفت أنا أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا منهم ـ أي من بني هاشم ـ فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها» فقال أبو حذيفة بن عتبة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف فبلغت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لعمر بن الخطاب «يا أبا حفص ـ قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا حفص ـ أيضرب وجه عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيف؟» فقال عمر يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فو الله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه.

وبه عن ابن عباس قال : لما أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، والأسارى محبوسون بالوثاق ، بات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساهرا أول الليل فقال له أصحابه يا رسول الله ما لك لا تنام؟ وقد أسر العباس رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه» فسكت فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب وذلك أنه كان رجلا موسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا ، وفي صحيح البخاري من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال «لا والله لا تذرون منه درهما» (١).

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا ، وقال العباس يا رسول الله قد كنت مسلما فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» : قال ما ذاك عندي يا رسول الله.

قال : «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم» قال : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٧٢ ، والمغازي باب ١٢.

٨١

أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك» ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عزوجل.

وقد روى ابن إسحاق أيضا عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم. وقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع حدثنا ابن إدريس عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال العباس : فيّ نزلت (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر مالي في يده ، وقال ابن إسحاق أيضا حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جابر بن عبد الله بن رباب قال كان العباس بن عبد المطلب يقول في نزلت والله حين ذكرت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلامي ثم ذكر نحو الحديث كالذي قبله.

وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) عباس وأصحابه قال : قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا. فأنزل الله (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الشرك الذي كنتم عليه قال فكان العباس يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا لقد قال (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وقال (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) وأرجو أن يكون قد غفر لي (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب فقال العباس حين قرئت هذه الآية لقد أعطاني الله عزوجل خصلتين ما أحب أن لي بهما الدنيا : إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدا وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله عزوجل (٣). وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر لنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا وقد توضأ لصلاة الظهر فما أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه ، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي فكان العباس

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢ ، ٢٩٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

٨٢

يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة (١).

وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البحرين ثمانين ألفا ما أتاه مال أكثر منه لا قبل ولا بعد. قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة. قال وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمثل قائما على المال وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضا وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا في خميصة (٢) عليه وذهب يقوم فلم يستطع قال فرفع رأسه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: يا رسول الله ارفع علي. قال فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى خرج ضاحكه (٣) أو نابه وقال له : «أعد من المال طائفة وقم بما تطيق» قال ففعل وجعل العباس يقول : وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا ، وما ندري ما يصنع الله في الأخرى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية ثم قال : هذا خير مما أخذ منا وما أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماثلا على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم وما بعث إلى أهله بدرهم ثم أتى الصلاة فصلى.

حديث آخر في ذلك ـ قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي حدثنا محمد بن عصام حدثنا حفص بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال من البحرين فقال «انثروه في مسجدي» قال وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلا فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذ» فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلى قال «لا» قال فارفعه أنت عليّ ، قال «لا» فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجبا من حرصه ، فما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثمّ منها درهم ، وقد رواه البخاري (٤) في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم يقول : وقال إبراهيم بن طهمان ويسوقه وفي بعض السياقات أتم من هذا.

وقوله (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) فيما أظهروا لك من الأقوال (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بدر بالكفر به (فَأَمْكَنَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

(٢) الخميصة : كساء أسود مربع.

(٣) خرج ضاحكه : أي بدت أسنانه عند الضحك ، والضواحك : الأسنان التي تبدو عند الضحك ، وهي الأربع التي بين الأسنان والأضراس.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٤٢ ، والجزية باب ١.

٨٣

مِنْهُمْ) أي بالأسارى يوم بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بفعله حكيم فيه. قال قتادة نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين (١) ، وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا (٢) وفسرها السدي على العموم وهو أشمل وأظهر والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك ، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ، ولهذا آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ، ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه ، وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد :

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» تفرد به أحمد.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الأزدي حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المهاجرون والأنصار ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة» هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود.

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار ، في غير ما آية في كتابه ، فقال : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) [التوبة : ١٠٠] الآية ، وقال (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة : ١١٧]

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٣.

(٣) المسند ٤ / ٣٦٣.

٨٤

الآية ، وقال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٨ ـ ٩] الآية.

وأحسن ما قيل في قوله (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم ، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن حذيفة ، قال : خيرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الهجرة والنصرة ، فاخترت الهجرة ، ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) قرأ حمزة ولايتهم بالكسر ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدلالة والدلالة (مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين ، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، بل أقاموا في بواديهم ، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال.

كما قال أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش ، أوصاه في خاصة نفسه ، بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ، وقال : «اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا ، فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» انفرد به مسلم (٢) ، وعنده زيادات أخر.

وقوله (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الآية ، يقول تعالى وإن استنصركم هؤلاء الأعراب ، الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم ، فإنه واجب عليكم

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٥٢.

(٢) كتاب الجهاد وحديث ٢.

٨٥

نصرهم ، لأنهم إخوانكم في الدين ، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ، بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ، كما قال.

الحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن صالح بن هانئ ، حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي ، حدثنا محمد بن أبان ، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرا ، ولا كافر مسلما ـ ثم قرأ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ») ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

قلت : الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (١) وفي المسند والسنن ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (٢) وقال الترمذي : حسن صحيح وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا محمد ، عن معمر ، عن الزهري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام ، فقال : «تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ، وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» وهذا مرسل في هذا الوجه ، وقد روي متصلا في وجه آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال : «لا يتراءى ناراهما» (٤).

وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد (٥) : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، أخبرني يحيى بن حسان ، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب أخبرني خبيب بن سليمان عن سمرة بن جندب : أما بعد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٢٦ ، ومسلم في الفرائض حديث ١.

(٢) أخرجه أبو داود في الفرائض باب ١٠ ، والترمذي في الفرائض باب ١٦ ، وابن ماجة في الفرائض باب ٦ ، والدارمي في الفرائض باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٨٧ ، ١٩٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٦.

(٤) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٥ ، والنسائي في القسامة باب ٢٧.

(٥) باب ١٧٠.

٨٦

أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه قال : «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات (١) ، وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث حاتم بن إسماعيل به بنحوه.

ثم روي من حديث عبد الحميد بن سليمان : عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» (٢) ومعنى قوله (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان كما تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة ، كما قال (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) [التوبة : ١٠٠] الآية وقال (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] الآية. وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «المرء مع من أحب» (٣) وفي الحديث الآخر «من أحب قوما فهو منهم» وفي رواية «حشر معهم».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» قال شريك : فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

وأما قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله وليس المراد بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين

__________________

(١) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣١ ، والترمذي في النكاح باب ٣.

(٢) أخرجه الترمذي في النكاح باب ٣ ، وابن ماجة في النكاح باب ٤٦.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٦ ، ومسلم في البر حديث ١٦٥.

(٤) المسند ٤ / ٣٤٣.

٨٧

لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (١) قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم.

آخر تفسير سورة الأنفال. ولله الحمد والمنة ، وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوصايا باب ٦ ، والترمذي في الوصايا باب ٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٥ / ٢٦٧.

٨٨

سورة التوبة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال البخاري (١) : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] وآخر سورة نزلت براءة ، وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام ، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ، كما قال الترمذي : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جميلة ، أخبرني يزيد الفارسي ، أخبرني ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٢) وإلى براءة وهي من المئين (٣) وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتي عليه الزمان (٤) وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال (٥) ، وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ١.

(٢) المثاني : كل سورة عدد آياتها أقل من مائتين آية.

(٣) المئين : كل سورة عدد آياتها أكثر من مائتين آية.

(٤) أي يأتي عليه الزمان الطويل.

(٥) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٢٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٦٩.

٨٩

يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه.

فقوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) اختلف المفسرون هاهنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان ، لقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] الآية ، ولما سيأتي في الحديث. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير رحمه‌الله ، وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) الآية ، قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاؤوا وأجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة ، فأمر الله نبيه إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضا حتى يدخلوا في الإسلام (١).

وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان (٢).

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم ، فقفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ثم قال : «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل أبا بكر

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٤.

٩٠

وعليا رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمّنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا (١) ، وهكذا روي عن السدي وقتادة وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم ، وهذا القول غريب وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ولهذا قال تعالى :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ) أَلِيمٍ (٣)

يقول تعالى وإعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وتقدم وإنذار إلى الناس (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي بريء منهم أيضا ثم دعاهم إلى التوبة إليه ، فقال (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي استمررتم على ما أنتم عليه (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الآخرة بالمقامع والأغلال.

قال البخاري (٢) رحمه‌الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

ورواه البخاري (٣) أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٤.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٢ ، ٣.

(٣) كتاب الجهاد باب ٦٦.

٩١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشرك ، هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد.

وقال عبد الرزاق : عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : لما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمّر أبا بكر على تلك الحجة ، قال معمر : قال الزهري : وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر ، قال أبو هريرة : ثم أتبعنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميرا سنة تسع.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال : ما كنتم تنادون؟. قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك ، قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي (٢).

وقال الشعبي : حدثني محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت : بأي شيء كنتم تنادون؟ قال بأربع ، لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رواه ابن جرير (٣) من غير وجه عن الشعبي ، ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به ، إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر وذكر تمام الحديث.

قال ابن جرير (٤) : وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ورواه الترمذي (٦) في التفسير : عن

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٩٩.

(٢) صحل صوتي : أي بح صوتي.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٥) المسند ٣ / ٢٨٣.

(٦) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٥.

٩٢

بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن حماد بن سلمة به ، ثم قال : حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سليمان ، ـ لوين ـ حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت عشر آيات من براءة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : «أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم» فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، نزل فيّ شيء؟ فقال «لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» (١) هذا إسناد فيه ضعف ، وليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء مبينا في الرواية الأخرى.

وقال عبد الله أيضا : حدثني أبو بكر ، حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال : «لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت» قال : فإن كان ولا بد فسأذهب أنا ، قال : «انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك» قال : ثم وضع يده على فيه (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع رجل من همدان ، سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبي بكر في الحجة ، قال : بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ، ورواه الترمذي (٤) عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال : حسن صحيح كذا قال ، ورواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: زيد بن يثيع وهم فيه ، ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله عنه.

وقال ابن جرير (٥) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت براءة بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ثم رواه ابن جرير (٦) عن محمد بن عبد الأعلى عن

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٥١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٥١.

(٣) المسند ١ / ٧٩.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

٩٣

ابن ثور عن معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : أمرت بأربع فذكره ، وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع قال : نزلت براءة فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر ثم أرسل عليا فأخذها ، فلما رجع أبو بكر قال : نزل فيّ شيء؟ قال : «لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي» فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته (١).

وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر؟ فقال : «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي» ثم دعا عليا فقال «اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو له إلى مدته» فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال بل مأمور ، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، أخبرنا حيوة بن شريح ، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٩ ، ٣١٠.

٩٤

أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال : يوم عرفة ، فقلت : أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : كل في ذلك (١) ، وقال عبد الرزاق أيضا : عن ابن جريج عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة (٢). وقال عمر بن الوليد الشّنّي : حدثنا شهاب بن عباد العصري عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا : سعيد بن المسيب فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة ، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر ، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر ، رواه ابن جرير (٣) وابن أبي حاتم ، وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاوس أنهم قالوا : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر.

وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج ، أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم عرفة فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» (٤) وروي من وجه آخر : عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر» والقول الثاني أنه يوم النحر قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وقال إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور : سألت عليا رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر (٥).

وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الحج الأكبر فقال هو يومك هذا خل سبيلها (٦) ، وقال عبد الرزاق : عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر (٧) ، وروى شعبة وغيره عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٣١١.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٣١٢.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ٣١١.

٩٥

عبد الملك بن عمير به نحوه. وهكذا رواه هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى. وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر ، وقال حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الحج الأكبر يوم النحر.

وكذا روي عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن جرير ، وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى.

وقد ورد في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني سهل بن محمد الحساني ، حدثنا أبو جابر الحرمي ، حدثنا هشام بن الغازي الجرشي عن نافع عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه محمد بن عبد الملك به ، ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به ، ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به ، وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال : «أتدرون أي يوم يومكم هذا؟» قالوا : يوم النحر ، قال : «صدقتم يوم الحج الأكبر».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم قعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه ، فقال : «أي يوم هذا؟» قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، فقال «أليس هذا يوم الحج الأكبر؟» وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح. وقال أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فقال : «أي يوم هذا؟» فقالوا: اليوم الحج الأكبر ، وعن سعيد بن المسيب أنه قال : يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٥ ، وفيه : سهل بن محمد السجستاني ، بدل : سهل بن محمد الحساني.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣١٥.

٩٦

وقال مجاهد أيضا : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، وكذا قال أبو عبيد. قال سفيان : يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي أيامه كلها ، وقال سهل السراج : سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر؟ فقال : ما لكم وللحج الأكبر ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة عن ابن عون ، سألت محمدا يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر ، فقال : كان يوما وافق فيه حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحج أهل الوبر.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤)

هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعهده إلى مدته ، وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسلمين أحدا أي يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك ، فقال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الموفين بعهدهم.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] الآية ، قال أبو جعفر الباقر ، ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم ، وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب الضحاك أيضا وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] ثم قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٣.

٩٧

مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة.

وقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي من الأرض وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم ، بقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وقوله : (وَخُذُوهُمْ) أي وأسروهم إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا ، وقوله : (وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ، ولهذا قال : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عزوجل ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (١) الحديث.

وقال أبو إسحاق : عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» (٣) ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجة ، من حديث عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢.

(٢) المسند ٣ / ١٩٩ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥.

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٢٨ ، وأبو داود في الزكاة باب ١ ، والجهاد باب ٩٥ ، والترمذي في الإيمان باب ١ ، ٢ ، وتفسير سورة ٨٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٣ ، والإيمان باب ١٥ ، والجهاد باب ١ ، والتحريم باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ١.

٩٨

المبارك به.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئا فارقها والله عنه راض» قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) قال : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١] ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حكام بن سلمة ، حدثنا أبو جعفر الرازي به سواء.

وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة ، وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر ، وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان بن عيينة : قال علي بن أبي طالب : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة أسياف سيف في المشركين من العرب ، قال الله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب لقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] والسيف الثالث قتال المنافقين في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ والتحريم : ٩] الآية ، والرابع قتال الباغين في قوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٢٠.

٩٩

الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] وقال قتادة بالعكس.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم (اسْتَجارَكَ) أي استأمنك فأجبه إلى طلبته (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء (١) ، ومن هذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم ، واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم ، ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك» وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الآن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه‌الله ولعنه.

والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه ، لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم‌الله.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٢٢.

١٠٠