تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

على أعدائكم الكفرة المعاندين.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

قال مجاهد : أراهم الله إياه في منامه قليلا ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم ، وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد ، وحكى ابن جرير عن بعضهم ، أنه رآهم بعينه التي ينام بها ، وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو قتيبة ، عن سهل السراج عن الحسن في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) قال بعينك ، وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه.

وقوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أي لجبنتم عنهم ، واختلفتم فيما بينكم ، (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي من ذلك ، بأن أراكهم قليلا (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] وقوله : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) وهذا أيضا من لطفه تعالى بهم ، إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين ، فيجزؤهم عليهم ويطمعهم فيهم ، قال أبو إسحاق السبيعي : عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : لا بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه ، فقال : كنا ألفا ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير بن الحارث عن عكرمة (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ) الآية ، قال : حضض بعضهم على بعض ، إسناد صحيح ، وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته ، ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر ، وقلله في عينه ليطمع فيه ، وذلك عند المواجهة ، فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين ، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه ، كما قال تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين ، فإن كلا منهما حق وصدق ، ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا

٦١

اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم ، فقال : «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم» (١).

وقال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله ، فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت» (٢) ، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا معتمر بن سليمان ، حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن أرقم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مرفوعا ، قال : «إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن ، وعند الزحف ، وعند الجنازة» وفي الحديث الآخر المرفوع ، يقول الله تعالى : «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» (٣) أي لا يشغله ذلك الحال ، عن ذكري ودعائي واستعانتي.

وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة في هذه الآية ، قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون عند الضرب بالسيوف ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء ، قال : وجب الإنصات وذكر الله عند الزحف ، ثم تلا هذه الآية ، قلت : يجهرون بالذكر؟ قال : نعم ، وقال أيضا : قرأ علي يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش عن يزيد بن فوذر عن كعب الأحبار ، قال ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ، ولو لا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الشاعر : [الطويل]

ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا

وقد نهلت فينا المثقّفة السّمر (٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١١٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٢ ، وأبو داود في الجهاد باب ٨٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٥٤.

(٢) أخرجه الدارمي في السير باب ٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١١٨ ، بلفظ : «إنّ عبدي كل عندي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه».

(٤) البيت لأبي العطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٠ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٢ / ٦٧ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٦.

٦٢

وقال عنترة : [الكامل]

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه ، بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك ، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم ، (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم وحدتكم ، وما كنتم فيه من الإقبال.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به ، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله ، وكثرة ذكره ، ناهيا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم ، بطرا أي دفعا للحق ، (وَرِئاءَ النَّاسِ) وهو المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل : لما قيل له : إن العير قد نجا فارجعوا ، فقال : لا والله لا نرجع ، حتى نرد ماء بدر ، وننحر الجزر ، ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا ، فانعكس ذلك عليه أجمع ، لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام ، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء ، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ، ولهذا قال : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بما جاءوا به وله ، ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم.

٦٣

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) قالوا : هم المشركون الذين قاتلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١).

وقوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الآية ، حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر ، فقال : إني جار لكم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، سيد بني مدلج كبير تلك الناحية ، وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١٢٠] قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر ، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم ، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) قال : رجع مدبرا ، وقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) الآية (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس ، أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه‌السلام إلى إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، وذلك حين رأى الملائكة (٣).

وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على عقبيه وقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ، فتشبث به الحارث بن هشام ، فنخر في وجهه فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة على هذه الحال ، تخذلنا وتبرأ منا ، فقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤.

٦٤

وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ، ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف ، وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، فلما أبصر عدو الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث ، وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه ، وقال يا رب موعدك الذي وعدتني. وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع ، قريب من هذا السياق وأبسط منه ، ذكرناه في السيرة.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا (١).

قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص ، الحارث بن هشام أو عمير بن وهب ، فقال أين سراقة؟ أين وميل عدو الله فذهب ، قال فأوردهم ثم أسلمهم ، قال ونظر عدوا الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين ، فنكص على عقبيه ، وقال (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، وصدق عدو الله ، وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ، وهكذا روي عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم‌الله.

وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه‌السلام تنزل معه الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة ، فقال إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله وكذب عدو الله. والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك (٣).

قلت : يعني بعادته لمن أطاعه ، قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [الحشر : ١٦] وقوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٦٦٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٥.

٦٥

لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن بعض بني ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما كف بصره ، يقول : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى ، فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم ، أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل ، يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم فكروا عليهم ، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه ، وقال (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ، ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال : واللات والعزى ، لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا ، وهذا من أبي جهل لعنه الله ، كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) [الأعراف : ١٢٣] وكقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] وهو من باب البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.

وقال مالك بن أنس : عن إبراهيم بن أبي علية ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما رأى إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر» قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال : «أما إنه رأى جبريل عليه‌السلام يزع الملائكة» (١) وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : غر هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقال قتادة : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله ، وذكر لنا ، أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوا (٢).

__________________

(١) أخرجه مالك في الحج حديث ٢٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

٦٦

وقال ابن جريج في قوله (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم قوم كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر (١) ، وقال عامر الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين ، قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٢). وقال مجاهد في قوله عزوجل : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) قال فئة من قريش ، قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، خرجوا مع قريش من مكة ، وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ، وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن الحسن في هذه الآية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين ، قال معمر : وقال بعضهم : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين ، قالوا غر هؤلاء دينهم ، وقوله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي يعتمد على جنابه (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي لا يضام من التجأ إليه ، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان (حَكِيمٌ) في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها ، فينصر من يستحق النصر ، ويخذل من هو أهل لذلك.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١)

يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار ، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا ، إذ (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) ويقولون لهم (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، قال ابن جريج : عن مجاهد (أَدْبارَهُمْ) أستاهم ، قال يوم بدر (٤). قال ابن جريج : قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ، ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم.

وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، في قوله (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يوم بدر ، وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٨.

٦٧

عن مجاهد ، وعن شعبة عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) قال وأستاههم ، ولكن الله يكنى ، وكذا قال عمر مولى عفرة. وعن الحسن البصري قال : قال رجل يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك ، قال «ذاك ضرب الملائكة» رواه ابن جرير (١) وهو مرسل ، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر ، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر ، بل قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) وفي سورة القتال (٢) مثلها.

وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم ، إذ استصعبت أنفسهم ، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرا ، وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله ، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة ، يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده ، كما يخرج السفود (٣) من الصوف المبلول (٤) ، فتخرج معها العروق والعصب ، ولهذا أخبر تعالى : أن الملائكة تقول لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى ، وتقدس وتنزه الغني الحميد ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح ، عند مسلم (٥) رحمه‌الله ، من رواية أبي ذر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن الله تعالى يقول «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولهذا قال تعالى.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

يقول تعالى : فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد ، كما فعل الأمم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) أي سورة محمد الآية ٢٧.

(٣) السفود : حديدة ذات شعب معقوفة. يشوى بها اللحم.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٨٨ ، ٢٩٦.

(٥) كتاب البر حديث ٥٥.

٦٨

المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل ، الكافرين بآيات الله (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (٥٤)

يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد ، إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [الرعد : ١١] وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم ، حين كذبوا بآياته ، أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم ، من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

أخبر تعالى : أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام ، (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب ، (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي نكل بهم ، قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ، ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ، ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة ، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) قد عاهدتهم (خِيانَةً) أي نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي عهدهم (عَلى سَواءٍ) ، أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم ، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز : [رجز]

٦٩

فاضرب وجوه الغدر للأعداء

حتى يجيبوك إلى السّواء (١)

وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي على مهل ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا. قال الإمام أحمد (٢) :

حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن أبي الفيض عن سليم بن عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدرا ، إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء» قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه (٣) ، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان ، يعني الفارسي رضي الله عنه ، أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم ، فهداني الله عزوجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، وإن أبيتم نابذناكم على سواء ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولا تحسبن يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي فاتونا ، فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا ، وفي قبضة مشيئتنا ، فلا يعجزوننا ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] أي يظنون ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور : ٥٧] وقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري ٦ / ٢٧٢.

(٢) المسند ٤ / ١١١.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٥٢ ، والترمذي في السير باب ٢٧.

(٤) المسند ٥ / ٤٤٠.

٧٠

الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧] ثم أمر تعالى ، بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي مهما أمكنكم (مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ).

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثمامة بن شفي ، أخي عقبة بن عامر ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على المنبر : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» (٢) رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان ، عن رجل عنه ، وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا» (٣).

وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل لثلاثة ، لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها (٤) ذلك من المرج أو الروضة ، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ، فاستنّت (٥) شرفا أو شرفين (٦) كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك الرجل أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا (٧) ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء (٨) ، فهي على ذلك وزر» (٩).

__________________

(١) المسند ٤ / ١٥٦ ، ١٥٧.

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٦٧ ، وأبو داود في الجهاد باب ٢٣ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٩ ، والدارمي في الجهاد باب ١٤ ، والترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٥.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٢٣ ، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١١ ، والنسائي في الخيل باب ٨ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٤٤ ، ١٤٦ ، ١٤٨.

(٤) الطيل ، بكسر الطاء وفتح الياء : الحبل الذي تربط فيه.

(٥) استنّت : جرت.

(٦) الشرف : المكان العالي من الأرض.

(٧) تغنيا وتعففا : أي استغناء عن الناس وتعففا عن السؤال.

(٨) النواء : المناوأة والمعاداة.

(٩) أخرجه البخاري في الشرب باب ١٢ ، والجهاد باب ٤٨ ، والمناقب باب ٢٨ ، وتفسير سورة ٩٩ ، باب ١ ، والاعتصام باب ٢٤ ، ومسلم في الزكاة حديث ٢٤ ، ٢٦ ، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١٠ ، والنسائي في الخيل باب ١ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٤ ، ومالك في الجهاد حديث ٣ ، وأحمد في ـ

٧١

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمر ، فقال «ما أنزل الله عليّ فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] رواه البخاري وهذا لفظه ، ومسلم كلاهما من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ـ وذكر ما شاء الله ـ وأما فرس الشيطان ، فالذي يقامر أو يراهن عليها ، وأما فرس الإنسان ، فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي له ستر من الفقر» وقد ذهب أكثر العلماء ، إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك ، إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجاج وهشام ، قالا : حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة ، أن معاوية بن خديج ، مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعاني من فرسك هذا؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ، قال : وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال : والذي نفسي بيده ، ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر ، فيقول: اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده.

قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن أبي جعفر ، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس ، عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين : يقول : اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه ـ أو ـ أحب أهله وماله إليه» (٤) ، رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطان به.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن ، أنه قال لابن الحنظلية يعني سهلا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ،

__________________

ـ المسند ٢ / ٢٦٢ ، ٢٨٣.

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٩ ، باب ١.

(٢) المسند ١ / ٣٩٥.

(٣) المسند ٥ / ١٦٢.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٧٠ ، والنسائي في الخيل باب ٩.

٧٢

ومن ربط فرسا في سبيل الله ، كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها» ، والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة. وفي صحيح البخاري ، عن عروة بن أبي الجعد البارقي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم» (١).

وقوله : (تُرْهِبُونَ) أي تخوفون (بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي من الكفار (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) قال مجاهد يعني بني قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور ، وقد ورد حديث بمثل ذلك.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي ، حدثنا أبو حيوة يعني شريح بن يزيد المقري ، حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن غريب ، يعني يزيد بن عبد الله بن غريب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في قول الله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) قال هم الجن ، ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم ، عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان ، عن يزيد بن عبد الله بن غريب به ، وزاد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل» ، وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه ، وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون ، وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١].

وقوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود (٢) : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، كما تقدم في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٦١] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فأمر بالصدقة بعدها ، على كل من سألك من كل دين ، وهذا أيضا غريب.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤٤ ، والخمس باب ٨ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٨ ، ٩٩.

(٢) كتاب الجهاد باب ١٣.

٧٣

يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة ، فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك ، فقاتلهم (وَإِنْ جَنَحُوا) أي مالوا (لِلسَّلْمِ) أي المسالمة والمصالحة والمهادنة ، (فَاجْنَحْ لَها) أي فمل إليها واقبل منهم ذلك ، ولهذا لما طلب المشركون ، عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري ، حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل» (١).

وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة (٢) ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله ، وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] الآية ، وفيه نظر أيضا ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم.

وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ، ليتقووا ويستعدوا (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك وحده ، ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك ، (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : ١٠٣].

وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب الأنصار ، في شأن غنائم حنين ، قال لهم : «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمنّ (٣) ، ولهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٩٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٧٩.

(٣) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٥٧ ، ٧٦ ، ١٠٤ ، ٢٥٣ ، ٤ / ٤٢.

٧٤

بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه ، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين القنديلي الاستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ، يقول الله تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وذلك موجود في الشعر :

إذا بت ذو قربى إليك بزلة

فغشّك واستغنى فليس بذي رحم (١)

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته

أجاب وأن يرمي العدو الذي ترمي

قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم

وبلوت ما وصلوا من الأسباب (٢)

فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا

وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس أو هو من قول من دونه من الرواة ، وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، سمعه يقول : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الآية ، قال هم المتحابون في الله. وفي رواية نزلت في المتحابين في الله. رواه النسائي والحاكم في مستدركه وقال : صحيح ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) رواه الحاكم أيضا.

وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد ، ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر. قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ، فقال : لا تقل ذلك فإن الله يقول (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني (٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، عن إبراهيم الجزري عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد ، قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال قلت لمجاهد

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور ٣ / ٣٦١.

(٢) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور ٣ / ٣٦١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٨٠ ، ٢٨١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٨٠ ، وفيه : إبراهيم الخوزيّ بدل إبراهيم الجزري.

٧٥

بمصافحة يغفر لهما؟ قال مجاهد : أما سمعته يقول : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني ، وكذا روى طلحة بن مصرف عن مجاهد ، وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق ، قال : كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة ، وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني رحمه‌الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

يحرض تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران ، ويخبرهم أنه حسبهم أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم ، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ، ولو قل عدد المؤمنين. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أنبأنا سفيان عن ابن شوذب عن الشعبي في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال حسبك الله ، وحسب من شهد معك ، قال : وروي عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد مثله.

ولهذا قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حثهم أو مرهم عليه ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرض على القتال ، عند صفهم ومواجهة العدو ، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» ، فقال : بخ بخ فقال : «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال : رجاء أن أكون من أهلها ، قال «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه (١) ، وقد روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب وكمل به الأربعون ، وفي هذا نظر ، لأن هذه الآية مدنية ، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة ، وقبل الهجرة إلى المدينة ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٤٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣٦.

٧٦

ثم قال تعالى مبشرا للمؤمنين وآمرا : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كل واحد بعشرة ، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة. قال عبد الله بن المبارك : حدثنا جرير بن حازم ، حدثنا الزبير بن الحريث ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شق ذلك على المسلمين ، حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف ، فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) إلى قوله (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال خفف الله عنهم من العدة ، ونقص من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم.

وروى البخاري (١) من حديث ابن المبارك نحوه. وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ، ثم خفف الله عنهم ، فقال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين ، وروى البخاري عن علي بن عبد الله عن سفيان به نحوه ، وقال محمد بن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح ، عن عطاء عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفا ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى ، فقال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم ، لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم قتالهم ، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم (٢).

وروى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو ذلك ، قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن ، وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والضحاك ، وغيرهم نحو ذلك ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه : من حديث المسيب بن شريك ، عن ابن عون عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، في قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال نزلت فينا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي عمرو بن العلاء ، عن نافع عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) رفع ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ(٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

__________________

(١) كتاب التفسير تفسير سورة ٨ ، باب ٦ ، ٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٨٣.

٧٧

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن هاشم ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : للناس مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، قال فذهب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء ، قال وأنزل الله عزوجل (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.

وقال الأعمش : عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر «يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب ، أضرم الوادي عليهم نارا ، ثم ألقهم فيه ، قال فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، ثم قام فدخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.

ثم خرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه‌السلام ، قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه‌السلام ، قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وإن مثلك يا عمر ، كمثل موسى عليه‌السلام ، قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] وإن مثلك يا عمر ، كمثل نوح عليه‌السلام ، قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء ، أو ضربة عنق» قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا سهيل ابن بيضاء» فأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) إلى آخر الآية (٢) ،

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٤٣.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٣ ، ٣٨٤ ، والطبري في تفسيره ٦ / ٢٨٧.

٧٨

رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ، والحاكم في مستدركه ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه.

وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري ، وروى ابن مردويه أيضا ، واللفظ له والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد عن ابن عمر ، قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» فقال له عمر أفآتهم؟ فقال «نعم» ، فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله ، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى؟ قالوا فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى فخذه ، فأخذه عمر فلما صار في يده ، قال له : يا عباس أسلم فو الله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه إسلامك ، قال واستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر فيهم ، فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأسارى ، إن شاؤوا الفداء ، وإن شاؤوا القتل ، على أن يقتل عاما مقبلا منهم مثلهم ، قالوا : الفداء ويقتل منا (١) ، رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري به ، وهذا حديث غريب جدا ، وقال ابن عون عن عبيدة عن علي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى يوم بدر : «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ، واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم» قال فكان آخر السبعين ، ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه ، ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا ، فالله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء عن ابن عباس : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) فقرأ حتى بلغ (عَذابٌ عَظِيمٌ). قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم ، يقول : لو لا أني لا أعذب من عصاني ، حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (٢) ، وكذا روى ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، وقال الأعمش : سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا ، وروي نحوه عن سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن جبير وعطاء ، وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي لهم بالمغفرة ونحوه ، عن سفيان الثوري رحمه‌الله.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في السير باب ١٨.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٧٦.

٧٩

وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) يعني في أم الكتاب الأول ، أن المغانم والأسارى حلال لكم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الأسارى (عَذابٌ عَظِيمٌ) قال الله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) الآية. وكذا روى العوفي عن ابن عباس ، وروي مثله عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعطاء والحسن البصري ، وقتادة والأعمش أيضا ، أن المراد (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) لهذه الأمة بإحلال الغنائم ، وهو اختيار ابن جرير رحمه‌الله.

ويستشهد لهذا القول ، بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة» (١) وقال الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا» (٢) ولهذا قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) الآية ، فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء.

وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة (٣) ، وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر ، أو بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الجارية وابنتها ، اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه من كتب الفقه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

__________________

(١) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، والصلاة باب ٥٦ ، والخمس باب ٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٢.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٢١.

٨٠