تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

الكي ولا أحبه» ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري ، عن عبد الله بن الوليد به ، ولفظه «إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم» وذكره ، وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجوه.

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي ، حدثنا زيد بن حباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن» (١) وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجة مرفوعا ، وقد رواه ابن جرير (٢) عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه.

وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك فإنه شفاء : أي من وجوه ، وقال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩] وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] وقال في العسل : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

وقال ابن ماجة (٣) أيضا : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله «من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء» الزبير بن سعيد متروك.

وقال ابن ماجة (٤) أيضا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي ، حدثنا عمرو بن بكير السكسكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي ابن أم حرام وكان قد صلى القبلتين ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «عليكم بالسنا والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» قيل : يا رسول الله وما السام؟ قال «الموت» قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : السنوت الشبت. وقال آخرون : بل هو العسل الذي في زقاق السمن ، وهو قول الشاعر : [الطويل]

هم السّمن بالسنّوت لا لبس فيهم

وهم يمنعون الجار أن يقرّدا (٥)

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الطب باب ٧.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦١٤.

(٣) كتاب الطب باب ٧.

(٤) كتاب الطب باب ٩.

(٥) يروي البيت :

هم السمن بالسّنّوت لا ألس بينهم

وهم يمنعون جارهم أن يقرّدا

وهو للحصين بن القعقاع في لسان العرب (سنت) ، (قرد) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٦٥ ، ٢ / ٤٧ ، ـ

٥٠١

كذا رواه ابن ماجة ، وقوله : لا لبس فيهم أي لا خلط. وقوله : يمنعون الجار أن يقردا ، أي يضطهد ويظلم ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء ، (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٧٠)

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة ، كما قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم : ٥٤] الآية ، وقد روي عن علي رضي الله عنه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف ، وسوء الحفظ وقلة العلم ، ولهذا قال : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ، أي بعد ما كان عالما أصبح لا يدري شيئا من الفند والخرف.

ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو «أعوذ بك من البخل والكسل والهرم ، وأرذل العمر وعذاب القبر ، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» (١) وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة : [الطويل]

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين عاما لا أبا لك يسأم (٢)

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١)

__________________

ـ ومجمل اللغة ٣ / ٩٤ ، وتاج العروس (سنت) ، (ألس) ، وللأعشى في أساس البلاغة (قرد) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (بختر) ، (ألس) ، وجمهرة اللغة ص ٦٣٦ ، ١٢١٤ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٠٤ ، والمخصص ٣ / ٨٤ ، ٨ / ١٢٢ ، وديوان الأدب ١ / ٣٣٢ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٣٨٥ ، ١٣ / ٧١ ، وتاج العروس (بختر)

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٦ ، باب ١ ، ومسلم في الذكر حديث ٥٢.

(٢) البيتان في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، والبيت الأول في كتاب العين ٥ / ٣٧٢ ، وأساس البلاغة (كلف) ، وتاج العروس (حمل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (خبط) ، (عشا) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٥٤ ، ٧ / ٢٥١ ، وجمهرة اللغة ص ٨٧٢ ، وتاج العروس (خبط) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٣٢٣ ، وكتاب العين ٢ / ١٨٨ ، وأساس البلاغة (عشو) ، وبلا نسبة في المخصص ٧ / ١٢٣.

٥٠٢

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء ، وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال تعالى منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الروم : ٢٨] الآية ، قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، فذلك قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم. وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل الآلهة الباطلة ، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحق أن ينزه منك.

وقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته ، وأشركوا معه غيره. وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلي به كلا ، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ، رواه ابن أبي حاتم.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)

يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين ، قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد ، قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : بنين وحفدة ، وهم الولد وولد الولد (١). وقال سنيد : حدثنا حجاج عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال : بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك ، قال جميل : [الكامل]

حفد الولائد حولهن وأسلمت

بأكفّهنّ أزمة الإجمال (٢)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٩.

(٢) البيت للفرزدق في زيادات الطبعة الأولى من جمهرة اللغة ص ٥٠٤ ، الهامش ، وليس في ديوانه ، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص ٢٤٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حفد) ، وجمهرة اللغة ص ٥٠٤ ، ـ

٥٠٣

وقال مجاهد : بنين وحفدة ابنه وخادمه وقال في رواية : الحفدة الأنصار والأعوان والخدام ، وقال طاوس وغير واحد : الحفدة الخدم. وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري. وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال : الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك (١) ، قال الضحاك : إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) يقول : بنو امرأة الرجل ليسوا منه ، ويقال : الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل. يقال : فلان يحفد لنا أي يعمل لنا ، قال : وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل ، وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس ، قاله ابن مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الأصهار.

قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة ، وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار ، فالنعمة حاصلة بهذا كله ، ولهذا قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً).

قلت : فمن جعل (وَحَفَدَةً) متعلقا بأزواجكم ، فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار ، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة ، وكذا قال الشعبي والضحاك ، فإنهم يكونون غالبا تحت كنف الرجل وفي حجرة وفي خدمته ، وقد يكون هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بن أكثم «والولد عبد لك» (٢) رواه أبو داود. وأما من جعل الحفدة الخدم ، فعنده أنه معطوف على قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدما.

وقوله : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من المطاعم والمشارب. ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهم الأنداد والأصنام (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره. وفي الحديث الصحيح «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه : ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع؟» (٣).

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ(٧٣) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ

__________________

ـ وكتاب العين ٣ / ١٨٥ ، ونسبة الطبري في تفسيره ٧ / ٦١٩ لحميد ، والبيت ليس في ديوانه حميد بن ثور.

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٩.

(٢) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣٧.

(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٦ ، والترمذي في القيامة باب ٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٩٢ ، ٤ / ٣٧٨ ، ٣٧٩.

٥٠٤

لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٧٤)

يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق ، وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ، أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ، ولا يملكون ذلك لأنفسهم ، أي ليس لهم ذلك ، ولا يقدرون عليه لو أرادوه ، ولهذا قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو ، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥)

قال العوفي عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن ، وكذا قال قتادة ، واختاره ابن جرير ، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن ، فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بينا لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦)

قال مجاهد : وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ولا فعال ، وهو مع هذا كل أي عيال وكلفة على مولاه (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) أي يبعثه (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) ولا ينجح مسعاه (هَلْ يَسْتَوِي) من هذه صفاته (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي بالقسط ، فمقاله حق وفعاله مستقيمة (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقيل : الأبكم مولى لعثمان ، وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني ، واختار هذا القول ابن جرير.

وقال العوفي عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضا كما تقدم ، وقال ابن جرير (١) :

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة ، عن يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) قال : نزلت في رجل من قريش وعبده ، يعني قوله (عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية ، وفي قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ـ إلى قوله ـ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٢٤.

٥٠٥

(وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : هو عثمان بن عفان : قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير ، قال : هو مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء ، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، كما قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] أي فيكون ما يريد كطرف العين ، وهكذا قال هاهنا : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كما قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨].

ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات والأبصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة ، وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح ، وقيل : الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها ، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.

كما جاء في صحيح البخاري (١) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزوجل ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عزوجل ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٥٦.

٥٠٦

مستعينا بالله في ذلك كله ، ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها «فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي» ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كقوله تعالى في الآية الأخرى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك : ٢٣ ـ ٢٤].

ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض ، كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ، ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك ، وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك ، كما قال تعالى في سورة الملك : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [الملك : ١٩] وقال هاهنا : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣)

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ، يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع ، وجعل لهم أيضا (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) أي من الأدم ، يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ، ولهذا قال : (تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها) أي الغنم ، (وَأَوْبارِها) أي الإبل ، (وَأَشْعارِها) أي المعز ، والضمير عائد على الأنعام (أَثاثاً) أي تتخذون منه أثاثا وهو المال ، وقيل : المتاع ، وقيل : الثياب ، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة ، وقال ابن عباس : الأثاث المتاع ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله : (إِلى حِينٍ) أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.

وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) قال قتادة : يعني الشجر (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي حصونا ومعاقل ، كما (جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وهي الثياب من القطن والكتان والصوف (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك ، (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) هكذا فسره

٥٠٧

الجمهور ، وقرءوه بكسر اللام من (تُسْلِمُونَ) أي من الإسلام.

وقال قتادة في قوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها (تسلمون) بفتح اللام ، يعني من الجراح ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد ، أخرجه ابن جرير (١) من الوجهين ، ورد هذه القراءة.

وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) وما جعل من السهل أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال؟ ألا ترى إلى قوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر؟ ألا ترى إلى قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وما تقي من البرد أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر (٢).

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان ، فلا عليك منهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد أديته إليهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله ، فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) فقال الأعرابي : نعم ، قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) الآية ، قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه كل ذلك ، يقول الأعرابي : نعم حتى بلغ (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) فولى الأعرابي ، فأنزل الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) الآية.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨)

يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة ، وأنه يبعث من كل أمة شهيدا

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٢٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٢٨ ، ٦٢٩.

٥٠٨

وهو نبيها ، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار ، لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ، كقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] فلهذا قال : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين أشركوا (الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب ، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فيشرف عنق منها على الخلائق ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا ، وتذكر أصنافا من الناس ، كما جاء في الحديث ، ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب ، قال الله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٢ ـ ١٤] ، وقال تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣] وقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [الأنبياء : ٣٩ ـ ٤٠].

ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي قالت لهم الآلهة : كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال الخليل عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥] الآية ، وقال تعالى : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [الكهف : ٥٢] الآية ، والآيات في هذا كثيرة.

وقوله : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) قال قتادة وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذ ، أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع ، وكقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ ، وقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١] أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.

٥٠٩

ثم قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً) الآية ، أي عذابا على كفرهم وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضا (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم ، كما قال تعالى : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: ٣٨] وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قول الله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال. وحدثنا شريح بن يونس ، حدثنا إبراهيم بن سليمان ، حدثنا الأعمش عن الحسن ، عن ابن عباس في الآية أنه قال : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال : هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يعني أمتك ، أي اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع ، وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدر سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبك» فقال ابن مسعود رضي الله عنه : فالتفت فإذا عيناه تذرفان (١).

وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) قال ابن مسعود : قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام ، وقول ابن مسعود أعم وأشمل ، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي ، وكل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم (وَهُدىً) أي للقلوب (وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وقال الأوزاعي : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : بالسنة.

ووجه اقتران قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) مع قوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أن المراد ـ والله أعلم ـ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٩ ، وفضائل القرآن باب ٣٣ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٤ ، ٣٨٠ ، ٤٣٣.

٥١٠

أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠)

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ، كقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] ، وقال : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال سفيان بن عيينة ، العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا ، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.

وقوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) [الإسراء : ٢٦]. وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالفواحش المحرمات ، والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها ، ولهذا قال في الموضع الآخر : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] وأما البغي فهو العدوان على الناس ، وقد جاء في الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (١).

وقوله : (يَعِظُكُمْ) أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقال الشعبي عن شتير بن شكل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، رواه ابن جرير (٢) ، وقال سعيد عن قتادة قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ليس من خلق حسن ، كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم ، إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها. (قلت) ولهذا جاء في

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣ ، والترمذي في القيامة باب ٥٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٦ ، ٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦٣٥.

٥١١

الحديث «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها».

وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن داود المنكدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير ، عن أبيه ، قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه ، قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك من أنت ، وما أنت؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله» قال : ثم تلا عليهم هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، قالوا : اردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطا في مضر ـ أي شريفا ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا أذنابا.

وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون ، فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تجلس؟» فقال: بلى ، قال : فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببصره إلى السماء ، فنظر ساعة إلى السماء ، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض ، فتحرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره ، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر.

فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له ، شخص بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة ، فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء ، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى ، فقال : يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة ، فقال : «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك ، قال : «وفطنت لذلك؟» فقال عثمان : نعم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس» قال : رسول الله؟ قال «نعم» ، قال : فما قال لك؟ قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا.

__________________

(١) المسند ١ / ٣١٨.

٥١٢

حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب ، عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال : «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢)

هذا مما يأمر الله تعالى به ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ، ولهذا قال : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) ولا تعارض بين هذا وبين قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] الآية ، وبين قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) [المائدة : ٨٩] أي لا تتركوها بلا كفارة ، وبين قوله عليه‌السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» (٢) لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة هاهنا ، وهي قوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع ، ولهذا قال مجاهد في قوله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) يعني الحلف ، أي حلف الجاهلية.

ويؤيد ما رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة» (٤) وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

__________________

(١) المسند ٤ / ٢١٨.

(٢) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١ ، ٤ ، ومسلم في الأيمان حديث ٩.

(٣) المسند ٤ / ٨٣.

(٤) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٦.

٥١٣

وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال : حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا (١) ، فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبد الله بن موسى ، أخبرنا أبو ليلى عن بريدة في قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) قال : نزلت في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان من أسلم بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) البيعة لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان ، وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يدا ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون صيلم بيني وبينه» المرفوع منه في الصحيحين.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة».

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) قال عبد الله بن كثير والسدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده ، وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.

وقوله : (أَنْكاثاً) يحتمل أن يكون اسم مصدر ، (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) أي أنقاضا ، ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثا جمع نكث من ناكث (٥) ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١٦ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦٣٦.

(٣) المسند ٢ / ٤٨.

(٤) المسند ٥ / ٤٠٤.

(٥) النّكث ، بالكسر : أن تنقض أخلاق الأكسية تغزل ثابتة ، ونكث العهد : نقضه فانتكث ، وتناكثوا عهودهم : تناقضوها.

٥١٤

ولهذا قال بعده : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي خديعة ومكرا (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم ، فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى ، إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.

وقد قدمنا ـ ولله الحمد ـ في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم ، وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عبسة : الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها» فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش ، قال ابن عباس : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي أكثر ، وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) قال سعيد بن جبير : يعني بالكثرة ، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

يقول الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) أيها الناس (أُمَّةً واحِدَةً) كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافا ولا تباغض ولا شحناء (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩] ، وهكذا قال هاهنا : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير. ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها ، مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام ، ولهذا قال (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٥١٥

ثم قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له ، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده ، ولهذا قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له ، فإنه دائم لا يحول ولا يزول (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قسم من الرب تعالى مؤكد باللام ، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم ، أي ويتجاوز عن سيئها.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧)

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكر أو أنثى ، من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا ، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة ، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها هي السعادة. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي العمل بالطاعة والانشراح بها ، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه» (٢) ، ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به.

وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قد أفلح من هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا وقنع به» (٣). وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٨.

(٢) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٢٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٣٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٤.

٥١٦

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا» ، انفر بإخراجه مسلم (٢).

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠)

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وهذا أمر ندب ليس بواجب ، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة.

والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته ، ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة ، وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة ، واحتجا بهذه الآية ، ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه ، وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون كقوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) قال مجاهد : يطيعونه ، وقال آخرون : اتخذوه وليا من دون الله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي أشركوا في عبادة الله تعالى. أي أشركوه في عبادة الله ، ويحتمل أن تكون الباء سببية ، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون : معناه أنه شركهم في الأموال والأولاد.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢)

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم ، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة ، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٣.

(٢) كتاب المنافقين حديث ٥٦.

٥١٧

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي كذاب ، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقال مجاهد : (بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أي رفعناها وأثبتنا غيرها ، وقال قتادة : هو كقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) (١) [البقرة : ١٠٦] الآية ، فقال تعالى مجيبا لهم (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) أي جبريل (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي بالصدق والعدل (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا ، وتخبت له قلوبهم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه ، فلهذا قال الله تعالى : رادا عليهم في افترائهم ذلك (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي القرآن ، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أرسل ، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل.

قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة (٢) : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغني ـ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر ، عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) وكذا قال عبد الله بن كثير ، وعن عكرمة وقتادة : كان اسمه يعيش.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم قينا بمكة ، وكان اسمه بلعام ، وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله هذه الآية (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

وقال الضحاك بن مزاحم : هو سلمان الفارسي ، وهذا القول ضعيف ، لأن هذه الآية مكية ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٤٧.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٣٩٣.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٦٤٨.

٥١٨

وسلمان إنما أسلم بالمدينة ، وقال عبيد الله بن مسلم : كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما ، فقال المشركون : يتعلم منهما ، فأنزل الله هذه الآية (١). وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارتد بعد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة ، قبحه الله.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥)

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن له قصد إلى الايمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الايمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة ، ثم أخبر تعالى أن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمفتر ولا كذاب ، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرار الخلق ، (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) [النحل : ١٠٥] من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس ، والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا ، فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزوجل.

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩)

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به ، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فهم لا يعقلون بها شيئا ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٤٩.

٥١٩

بهم ، (لا جَرَمَ) أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى ، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوافقهم على ذلك مكرها ، وجاء معتذرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف تجد قلبك»؟ قال : مطمئنا بالإيمان. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عادوا فعد».

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك ، وفيه أنه سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، فشكا ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئنا بالإيمان ، فقال «إن عادوا فعد» ، وفي ذلك أنزل الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم ، وهو يقول : أحد ، أحد. ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم. فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تعذبوا بعذاب الله» وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدل دينه فاقتلوه» فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن عباس ، رواه البخاري (٣).

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٥١.

(٢) المسند ١ / ٢١٧.

(٣) كتاب الاستتابة باب ٢.

٥٢٠