تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) كقوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] وقال : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١].

قال مجاهد في قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قال : طريق الحق على الله ، وقال السدي ، (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) الإسلام. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول : وعلى الله البيان ، أي يبين الهدى والضلالة. وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه ، وكذا قال قتادة والضحاك ، وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ، لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها ، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) أي حائد مائل زائغ عن الحق.

قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأ ابن مسعود ومنكم جائر ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩].

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)

لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم ، فقال : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أي جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ، ولم يجعله ملحا أجاجا (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) : أي وأخرج لكم منه شجرا ترعون فيه أنعامكم. كما قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون ، أي ترعون (١) ومنه الإبل السائمة ، والسوم : الرعي. وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس (٢).

وقوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٦٦ ، ٥٦٧.

(٢) أخرجه ابن ماجة في التجارات باب ٢٩.

٤٨١

ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠] ، ثم قال تعالى :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُون) (١٣)

ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات نورا وضياء ليهتدى بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.

وقوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) لما نبه تعالى على معالم السموات نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن ، والنباتات والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨)

يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام ، وما يخلقه فيه من اللئالئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه ، وقيل تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح ، وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثا عن أبيهم نوح عليه‌السلام ، فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم

٤٨٢

صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، ومن بلد إلى بلد ، ومن إقليم إلى إقليم ، لجلب ما هناك إلى ما هنا ، وما هنا إلى ما هناك ، ولهذا قال تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نعمه وإحسانه.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم؟ قال : أغرقهم ، فقال : بأسك في نواحيك ، وأحملهم على يدي ، وحرمت الحلية والصيد ، وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ فقال : أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها ، فأثابه الحلية والصيد ، ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو ، وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفا.

ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات ، والجبال الراسيات ، لتقر. الأرض ولا تميد ، أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ، ولهذا قال: (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة ، سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها.

وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثني حجاج بن منهال ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم يترجرج.

وقوله : (وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى مكان آخر رزقا للعباد ، ينبغ في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري والقفار ، ويخترق الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة ، وجنوبا وشمالا ، وشرقا وغربا ، ما بين صغار وكبار ، وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت ، وما بين نبع وجمع ، وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) [الأنبياء : ٣١] الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٧٠.

٤٨٣

وقوله : (وَعَلاماتٍ) أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك ، يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطرق. وقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي في ظلام الليل ، قاله ابن عباس ، وعن مالك في قوله : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يقول : النجوم وهي الجبال ، ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ، ولهذا قال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يتجاوز عنكم ، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ويجازي على اليسير ، وقال ابن جرير (١) : يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١)

يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، كما قال الخليل : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦]. وقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي لا يدرون متى تكون الساعة ، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣)

يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك ، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] وقال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر : ٤٥] وقوله : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر :

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٧٣.

٤٨٤

٦٠] ولهذا قال هاهنا (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٢٥)

يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا) معرضين عن الجواب (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لم ينزل شيئا ، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين ، أي مأخوذ من كتب المتقدمين ، كما قال تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالا متضادة مختلفة كلها باطلة ، كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الفرقان : ٩] وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ ، وكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما (فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ١٨ ـ ٢٤] أي ينقل ويحكي ، فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله.

قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»(١).

وقال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت : ١٣] وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الآية (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنها كقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وقال مجاهد : يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في العلم حديث ١٦ ، والذكر حديث ١ ، وأبو داود في السنة باب ٦ ، والترمذي في العلم باب ١٥ ، ١٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٤ ، ١٥ ، والدارمي في المقدمة باب ٤٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٩٧.

٤٨٥

وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢٧)

قال العوفي عن ابن عباس في قوله : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال : هو النمرود الذي بنى الصرح (١) ، قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض النمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته ، وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) وقال آخرون : بل هو بختنصر ، وذكروا من المكر الذي حكاه الله هاهنا كما قال في سورة إبراهيم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [إبراهيم : ٤٦] وقال آخرون : هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح عليه‌السلام : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢] أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] الآية.

وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم ، كقوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤] ، وقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، وقال الله هاهنا : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي يظهر فضائحهم ، وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان»(٢).

وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٣] (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ١٠] فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الجزية باب ٢٢ ، والأدب باب ٩٩ ، والحيل باب ٩ ، والفتن باب ٢١ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨ ، ١٠ ، ١٧.

٤٨٦

عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢٩)

يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) كما يقولون يوم المعاد (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله ، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] كما قال الله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢)

هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) قالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا إنما هذا أساطير الأولين ، وهؤلاء قالوا : خيرا ، أي أنزل خيرا ، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) الآية ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة ، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير أي من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) [القصص : ٨٠] الآية. وقال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٨] وقال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى :

٤٨٧

١٧] وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤] ثم وصف الدار الآخرة فقال : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ).

وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من دار المتقين أي لهم في الآخرة جنات عدن ، أي مقام يدخلونها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بين أشجارها وقصورها (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) كقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ). [الزخرف : ٧١] وفي الحديث «إن السحابة لتمر بالملإ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم ، فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليه حتى إن منهم لمن يقول أمطرينا كواعب أترابا فيكون ذلك» (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله.

ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢] وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧].

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤)

يقول تعالى مهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم ، قاله قتادة (١) ، (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به ، فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من العذاب الأليم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله ، فلهذا يقال لهم يوم القيامة : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٤].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٨١.

٤٨٨

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٧)

يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطانا ، ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه ، قال الله تعالى رادا عليهم شبهتهم : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة رسولا ، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥].

وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية ، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرا ، فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.

ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل ، فلهذا قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ

٤٨٩

وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ، فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الملك : ١٨]. ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وقال نوح لقومه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] وقال في هذه الآية الكريمة : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) كما قال الله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ) أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فلهذا قال : (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي من أضله ، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤].

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ(٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي اجتهدوا في الحلف ، وغلظوا الأيمان على أنه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) أي استبعدوا ذلك ، وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه ، فقال تعالى مكذبا لهم ورادا عليهم (بَلى) أي بلى سيكون ذلك (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) أي لا بد منه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر ، ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد ، فقال : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أي للناس (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من كل شيء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت.

ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا ، وتقول لهم الزبانية : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٤ ـ ١٦] ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقال (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨]

٤٩٠

وقال : في هذه الآية الكريمة (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن ، كما قال الشاعر : [الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له كن كائنا فيكون (١)

أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف ، لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، وقال ابن أبي حاتم : ذكر الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول قال الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) قال وقلت : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وأما شتمه إياي فقال : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). [الإخلاص : ١ ـ ٤] هكذا ذكره موقوفا وهو في الصحيحين مرفوعا بلفظ آخر.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢)

يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه ، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم ، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول ، وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قال ابن عباس والشعبي وقتادة : المدينة ، وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد.

ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله بما هو خير له منه ، وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد ، وحكمهم على رقاب العباد ، وصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي مما أعطيناهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ، ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن

__________________

(١) تقدم البيت في تفسير الآية ١١٧ من سورة البقرة ، ولفظ عجز البيت هناك :

يقول له كن قوله فيكون

٤٩١

الخطاب رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ هذه الآية (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). ثم وصفهم تعالى فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

قال الضحاك : عن ابن عباس : لما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢] الآية ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعني أهل الكتب الماضية أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا.

قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ليسوا من أهل السماء كما قلتم ، وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب ، وقاله مجاهد والأعمش ، وقول عبد الرحمن بن زيد : الذكر القرآن ، واستشهد بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] صحيح ، لكن ليس هو المراد هاهنا ، لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه ، وكذا قول أبي جعفر الباقر : نحن أهل الذكر ، ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر ، صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة.

وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم‌السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين ، ومحمد ابن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه ، وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين ، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا بشرا كما هو بشر ، كما قال تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣ ـ ٩٤] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وقال تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا

٤٩٢

خالِدِينَ) [الأنبياء : ٨] وقال : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠].

ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشرا أو ملائكة ، ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل (وَالزُّبُرِ) وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم ، والزبر جمع زبور ، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] وقال (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يعني القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له ، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم ، فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤٧)

يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها ، مع قدرته على (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ، أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم ، كقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية ، قال قتادة والسدي : تقلبهم أي أسفارهم ، وقال مجاهد والضحاك وقتادة (فِي تَقَلُّبِهِمْ) في الليل والنهار كقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ).

وقوله : (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه. وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد ، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ، ولهذا قال العوفي عن ابن عباس : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك ، وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم.

ثم قال تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، كما ثبت في الصحيحين «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم

٤٩٣

ويعافيهم» وفيهما «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢] وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨].

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠)

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها : جماداتها وحيواناتها ، ومكلفوها من الإنس والجن ، والملائكة ، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال ، أي بكرة وعشيا فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عزوجل (١) ، وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم ، وقوله (وَهُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون. وقال مجاهد أيضا : سجود كل شيء فيؤه ، وذكر الجبال ، قال : سجودها فيؤها. وقال أبو غالب الشيباني : أمواج البحر صلاته.

ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) كما قال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره ، وترك زواجره.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥)

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد : أي دائما (٢) ، وعن ابن عباس أيضا : أي واجبا. وقال مجاهد : أي خالصا له ، أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض ، كقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٢ ـ ٨٣] هذا على قول ابن عباس وعكرمة ، فيكون من باب الخبر ، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب ، أي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٩٥.

٤٩٤

ارهبوا أن تشركوا بي شيئا وأخلصوا لي الطاعة ، كقوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣].

ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم ، وإحسانه إليهم (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به ، كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧] وقال هاهنا : (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) قيل : اللام هاهنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم ، ثم توعدهم قائلا (فَتَمَتَّعُوا) أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي عاقبة ذلك.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠)

يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم ، وجعلوا للأوثان نصيبا مما رزقهم الله فقالوا (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦] أي جعلوا لآلهتهم نصيبا مع الله وفضلوها على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله فعبدوها معه ، فأخطأوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا ولد له ، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢].

وقوله هاهنا : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) أي عن قولهم وإفكهم (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات : ١٥١ ـ ١٥٤]. وقوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، فإنه (إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي كئيبا من الهم (وَهُوَ كَظِيمٌ) ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن.

٤٩٥

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي يكره أن يراه الناس (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوه إليه ، كقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). وقوله هاهنا : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي النقص إنما ينسب إليهم (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر ، وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة ، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا. قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجعل (١) أن يعذب بذنب بني آدم ، وقرأ الآية (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (٢) وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم. وقال ابن جرير (٣) : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، قال : فالتفت إليه ، فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، أنبأنا الوليد بن عبد الملك ، حدثنا عبيد الله بن شرحبيل ، حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربيعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر».

__________________

(١) الجعل : حيوان كالخنفساء.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٠١.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٦٠١.

٤٩٦

وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.

وقوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ٩ ـ ١٠] وقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [فصلت : ٥٠]. وقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] وقال إخبارا عن أحد الرجلين أنه (دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٥ ـ ٣٦] فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق إنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ ، فمن ذلك : تعلمون السيئات وتجوزن الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.

وقال مجاهد وقتادة : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي الغلمان. وقال ابن جرير : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد ، ولهذا قال تعالى رادا عليهم في تمنيهم ذلك : (لا جَرَمَ) أي حقا لا بد منه (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي يوم القيامة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١]. وعن قتادة أيضا : مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط ، وهو السابق إلى الورد ، ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٥)

يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلا فكذبت الرسل ، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك ، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي هم تحت العقوبة والنكال ، والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم ، ولهم عذاب أليم. ثم قال تعالى لرسوله : إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه؟ فالقرآن فاصل بين

٤٩٧

الناس في كل ما يتنازعون فيه (وَهُدىً) أي للقلوب (وَرَحْمَةً) أي لمن تمسك به (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها ، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يفهمون الكلام ومعناه.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧)

يقول تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها الناس (فِي الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أفردها هاهنا عودا على معنى النعم ، أو الضمير عائد على الحيوان ، فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان ، وفي الآية الأخرى مما في بطونها ، ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [المدثر : ٥٤ ـ ٥٥] وفي قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٥ ـ ٣٦] أي المال.

وقوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته ، ما بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته ، فيصرف منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به.

وقوله : (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي لا يغص به أحد ، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ، ولهذا امتن به عليهم فقال : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك.

كما قال ابن عباس في قوله : (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) السكر ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما ، وفي رواية : السكر حرامه ، والرزق الحسن حلاله ، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ناسب ذكر العقل هاهنا فإنه أشرف ما في الإنسان ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ

٤٩٨

وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٤ ـ ٣٦].

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية ، والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل ، ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها ، أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها ، وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها.

وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) أي مطيعة (١) ، فجعلاه حالا من السالكة ، قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم ، والقول الأول هو الأظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي فاسلكيها مذللة لك ، نص عليه مجاهد ، وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح. وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عمر الذباب أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل».

وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) أي في العسل شفاء للناس ، أي من أدواء تعرض لهم ، قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه الشفاء للناس ، لكان دواء لكل داء ، ولكن قال فيه شفاء للناس ، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار والشيء يداوى بضده.

وقال مجاهد وابن جرير في قوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يعني القرآن ، وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ، فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٣.

٤٩٩

والدليل على أن المراد بقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) هو العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا ، فما زاده إلا استطلاقا ، قال : «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ (١).

قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت ، فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل (٢) ، هذا لفظ البخاري : وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي» (٣).

وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكون في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي» (٤) ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية تصيب ألما ، وأنا أكره

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطب باب ٢٤ ، ومسلم في السلام حديث ٩١ ، والترمذي في الطب باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٩.

(٢) أخرجه البخاري في الأشربة باب ١٠ ، ١٥ ، والطب باب ٤ ، ومسلم في الرضاع حديث ٨٨.

(٣) أخرجه البخاري في الطب باب ٣.

(٤) أخرجه البخاري في الطب باب ١٥ ، ومسلم في السلام حديث ٧١.

(٥) المسند ٤ / ١٤٦.

٥٠٠