تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

وقال عكرمة : سبعة أبواب سبعة أطباق ، وقال ابن جريج : سبعة أبواب : أولها جنهم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وروى الضحاك عن ابن عباس نحوه : وكذا روي عن الأعمش بنحوه أيضا ، وقال قتادة : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) هي والله منازل بأعمالهم ، رواهن ابن جرير ، وقال جويبر عن الضحاك (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال : باب لليهود ، وباب للنصارى ، وباب للصابئين ، وباب للمجوس ، وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب ، وباب للمنافقين ، وباب لأهل التوحيد ، فأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى لأولئك أبدا.

وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن حميد عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لجهنم سبعة أبواب ، باب منها لمن سل السيف على أمتي ـ أو قال على أمة محمد» (١) ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عباس بن الوليد الخلال ، حدثنا زيد ـ يعني ابن يحيى ـ حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال «إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ، منازلهم بأعمالهم ، فذلك قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٢).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ(٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠)

لما ذكر تعالى حال أهل النار ، عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون. وقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي سالمين من الآفات ، مسلم عليكم (آمِنِينَ) أي من كل خوف وفزغ ، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء ، وقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) روى القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف ، وقد روى سنيد في تفسيره : حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال : لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٤.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣٢ ، ٣٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٠ ، ٢٥٤.

٤٦١

وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة : حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخلص المؤمن من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة» (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا هشام عن محمد هو ابن سيرين قال : استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه ، وعنده ابن لطلحة فحبسه ثم أذن له ، فلما دخل قال : إني لأراك إنما حبستني لهذا ، قال : أجل ، قال : إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني ، قال : أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثنا الحسن ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

وقال : ورجلان جالسان إلى ناحية البساط ، فقالا : الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا ، فقال علي رضي الله عنه : قوما أبعد أرض وأسحقها ، فمن هم إذا إن لم أكن أنا وطلحة؟ وذكر أبو معاوية الحديث بطوله ، وروى وكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن جراش عن علي نحوه ، وقال فيه فقام رجل من همدان فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فصاح به علي صيحة فظننت أن القصر تدهده لها ، ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هم؟

وقال سعيد بن مسروق عن أبي طلحة ، وذكره وفيه : فقال الحارث الأعور ذلك ، فقام إليه علي رضي الله عنه فضربه بشيء كان في يده في رأسه ، وقال : فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن؟ وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم ، فقال علي : بفيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وكذا روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بنحوه. وقال سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول : قال علي : فينا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣ ، ٥٧ ، ٦٣ ، ٧٤ ، ٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٠.

٤٦٢

والله أهل بدر نزلت هذه الآية (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

وقال كثير النواء : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت : وليي وليكم ، وسلمي سلمكم ، وعدوي عدوكم ، وحربي حربكم ، أنا أسألك بالله أتبرأ من أبي بكر وعمر فقال : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تولهما يا كثير فما أدركك فهو في رقبتي هذه ، ثم تلا هذه الآية (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح في قوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : هم عشرة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة ، والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. وقوله : (مُتَقابِلِينَ) قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وفيه حديث مرفوع.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا إبراهيم بن بشير ، حدثنا يحيى بن معين عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلا هذه الآية (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في الله ينظر بعضهم إلى بعض. وقوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) يعني المشقة والأذى ، كما جاء في الصحيحين «أن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(١).

وقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) كما جاء في الحديث «يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا». وقال الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٢) [الكهف : ١٠٨].

وقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم ، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف ، وذكر في سبب نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال «اذكروا الجنة واذكروا النار» فنزلت (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) رواه ابن أبي حاتم وهو مرسل.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا ابن المكي ، أخبرنا ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري في العمرة باب ١١ ، والتوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٧١ ، ٧٢.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٢.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٢.

٤٦٣

المبارك ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رياح ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : طلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال «ألا أراكم تضحكون» ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : «إني لما خرجت جاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ») وقال شعبة عن قتادة في قوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ(٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦)

يقول تعالى : وأخبرهم يا محمد عن قصة (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر ، وكيف (دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون ، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة ، وهو العجل السمين الحنيذ (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي لا تخف (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي إسحاق عليه‌السلام كما تقدم في سورة هود ثم (قالَ) متعجبا من كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط ، ولكن يرجو من الله الولد ، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

يقول تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه‌السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى ، أنه شرع يسألهم عما جاءوا له ، فقالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط ، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين ، ولهذا قالوا : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين المهلكين.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤)

يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه ، فدخلوا عليه داره

٤٦٤

قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) كقوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر : ٨]. وقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦)

يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل ، وأن يكون لوط عليه‌السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم ، وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يزجي الضعيف ويحمل المنقطع.

وقوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) كأنه كان معهم من يهديهم السبيل (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي تقدمنا إليه في هذا (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي وقت الصباح كقوله في الآية الأخرى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود : ٨١].

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢)

يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم ، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله ، كما قال في سورة هود ، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم ، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه ، فقالوا له مجيبين : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي أو ما نهيناك أن تضيف أحدا؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء وماذا يصبحهم من العذاب المنتظر. ولهذا قال تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض.

قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول : وحياتك وعمرك وبقاؤك في الدنيا (إِنَّهُمْ لَفِي

٤٦٥

سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) رواه ابن جرير (١) ، وقال قتادة : (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي في ضلالهم (يَعْمَهُونَ) أي يلعبون ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لَعَمْرُكَ) لعيشك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال يترددون.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

يقول تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها ، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته ، كما قال مجاهد في قوله : (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : المتفرسين. وعن ابن عباس والضحاك : للناظرين. وقال قتادة : للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتأملين.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس ، عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٢) رواه الترمذي : وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد ، وقال الترمذي. لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.

وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الفرات بن السائب ، حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإن المؤمن ينظر بنور الله».

وقال ابن جرير (٤) : حدثني أبو شرحبيل الحمصي ، حدثنا سليمان بن سلمة ، حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي ، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي ، حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احذروا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله». وقال أيضا : حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا عبد الواحد بن واصل ، حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٦.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ٦ ، والطبري في تفسيره ٧ / ٥٢٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٨ ، ٥٢٩.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٩.

٤٦٦

قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم» ، ورواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال : وكان ثقة ، عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم». وقوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة ، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع (١) مسالكه مستمرة إلى اليوم ، كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٣٧] وقال مجاهد والضحاك (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال : معلم ، وقال قتادة : بطريق واضح. وقال قتادة أيضا : بصقع من الأرض واحد ، وقال السدي : بكتاب مبين ، يعني كقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا ، والله أعلم. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩)

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، قال الضحاك وقتادة وغيرهما : الأيكة الشجر الملتف ، وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة ، وقد كانوا قريبا من قوم لوط بعدهم في الزمان ، ومسامتين لهم في المكان ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي طريق مبين ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره : طريق ظاهر ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ(٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤)

أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم عليهم‌السلام ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين ، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين ، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، فلما عتوا وعقروها قال لهم (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] وقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

وذكر تعالى أنهم (كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) أي من غير خوف ولا احتياج إليها

__________________

(١) طريق مهيع : أي طريق سهل واضحة.

٤٦٧

بل أشرا وبطرا وعبثا كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مرّ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ذاهب إلى تبوك ، فقنع رأسه وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم». وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي وقت الصباح من اليوم الرابع (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (٨٦)

يقول تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي بالعدل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] الآية ، وقال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٣٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] ثم أخبر نبيه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به ، كقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٩] وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال ، وهو كما قالا ، فإن هذه مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ، كقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٨١ ـ ٨٣].

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرنّ إلى الدنيا ، وزينتها ، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك ، (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥] أي ألن لهم جانبك ، كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقد اختلف في السبع المثاني

٤٦٨

ما هي؟ فقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم : هي السبع الطوال ، يعنون البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، نص عليه ابن عباس وسعيد بن جبير ، وقال سعيد : بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام. وقال ابن عباس : بين الأمثال والخبر والعبر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : المثاني : البقرة. وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال وبراءة سورة واحدة ، قال ابن عباس : ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعطي موسى منهن ثنتين ، رواه هشيم عن الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه. وقال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعا من المثاني الطوال ، وأوتي موسى عليه‌السلام ستا ، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع.

وقال مجاهد : هي السبع الطوال ، ويقال : هي القرآن العظيم. وقال خصيف عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال : أعطيتك سبعة أجزاء آمر ، وأنه ، وأبشر ، وأنذر ، وأضرب الأمثال ، وأعدد النعم ، وأنبئك بنبإ القرآن. رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم [والقول الثاني] أنها الفاتحة ، وهي سبع آيات. وروي ذلك عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس ، قال ابن عباس : والبسملة هي الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها ، وبه قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي مليكة وشهر بن حوشب والحسن البصري ومجاهد.

وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع ، واختاره ابن جرير ، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك ، وقد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير ولله الحمد ، وقد أورد البخاري رحمه‌الله هاهنا حديثين :

[أحدهما] قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى قال : مربي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته ، فقال : «ما منعك أن تأتيني؟» فقلت : كنت أصلي ، فقال : «ألم يقل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج فذكرت فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن الذي أوتيته» (٢).

[الثاني] قال : حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٣٣ ، ٥٣٤.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٥ ، باب ٣.

٤٦٩

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم» (١).

فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك ، لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا ، كما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه ، وهو القرآن العظيم أيضا ، كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأشار إلى مسجده ، والآية نزلت في مسجد قباء ، فلا تنافي ، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة ، والله أعلم.

وقوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية ، ومن هاهنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (٢) إلى أنه يستغني به عما عداه ، وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير.

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن وكيع بن الجراح ، حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيف ولم يكن عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود «يقول لك محمد رسول الله : أسلفني دقيقا إلى هلال رجب» قال : لا ، إلا برهن فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه» فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى آخر الآية ، كأنه يعزيه عن الدنيا ، قال العوفي عن ابن عباس (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) قال : نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وقال مجاهد (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) هم الأغنياء.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣)

يأمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للناس : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) البين النذارة ، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها ، وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام. وقوله : (الْمُقْتَسِمِينَ) أي المتحالفين ، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ، كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] الآية ، أي نقتلهم ليلا ، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٥ ، باب ٣ ، وأبو داود في الوتر باب ١٥.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٤٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٠ ، والدارمي في الصلاة باب ١٧١ ، وفضائل القرآن باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٥ ، ١٧٩.

٤٧٠

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٤٤] الآية (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) [الأعراف : ٤٩] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق» (١).

وقوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال : آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : السحر ، وقال عكرمة : العضه السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة ، وقال مجاهد : عضوه أعضاء ، قالوا سحر ، وقالوا كهانة ، وقالوا أساطير الأولين ، وقال عطاء : قال بعضهم ساحر ، وقالوا مجنون ، وقال كاهن ، فذلك العضين ، وكذا روي عن الضحاك وغيره.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا شرف فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به ، قال : بل أنتم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٦ ، والاعتصام باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦.

٤٧١

قولوا لأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : ما هو بكاهن ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، قالوا : فنقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، قالوا : فماذا نقول؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، فتفرقوا عنه بذلك ، وأنزل الله فيهم (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أولئك النفر الذين قالوا لرسول الله.

وقال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : عن لا إله إلا الله. وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : عن لا إله إلا الله ، وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي ، عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال : عن لا إله إلا الله ، ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفا.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم ، قال : ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعا ، وقال عبد الله هو ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : ابن آدم ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟

وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين ، وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بإصبعه ، فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا؟.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٤٨.

٤٧٢

السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس في قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي أمضه ، وفي رواية «افعل ما تؤمر» (١) وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ، فخرج هو وأصحابه.

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم ، عن أنس قال : سمعت أنسا يقول في هذه الآية ، (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل ، أحسبه قال : فغمزهم ، فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا.

قال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : «اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد ، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) إلى قوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

وقال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء ، أن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، ومر به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله ، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين ، وهو يجز إزاره ، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له (٢) ، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٤٨ ، ٥٤٩.

(٢) يريش نبلا له : أي ينحت نبالا ويجعل لها ريشا.

٤٧٣

وليس بشيء ، فانتفض به فقتله ، ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض على شبرقة (١) فدخلت في أخمص قدمه فقتلته ، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط (٢) قيحا فقتله (٣).

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به ، عن يزيد عن عروة بطوله ، إلا أن سعيدا يقول : الحارث ابن غيطلة ، وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري : وصدقا هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة ، وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي : كانوا سبعة ، والمشهور الأول : وقوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبود آخر.

وقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله ، وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ، ولهذا قال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه ، ولهذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى.

وقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال البخاري : قال سالم : الموت ، وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر ، كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ، حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال : الموت ، وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره ، والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)

__________________

(١) ربض على شبرقة : أي برك على شبرقة ، والشبرقة : نبت يؤكل وله شوك.

(٢) امتخط : أي أخرجه مخاطا من أنفه.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٠٩ ، ٤١٠ ، وتفسير الطبري ٧ / ٥٥٠ ، ٥٥١.

(٤) المسند ٥ / ٢٨٦.

٤٧٤

[المدثر : ٤٣ ـ ٤٧].

وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن؟ فقال : «أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير» (١) ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلي بحسب حاله.

كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب» (٢) ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم ، وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة ، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ، كما قدمناه ، ولله الحمد والمنة ، والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل ، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها ، فإنه جواد كريم.

آخر تفسير سورة الحجر ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٢٠.

٤٧٥

سورة النحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة ، كقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ، وقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. وقوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه ، يحتمل أن يعود الضمير على الله ، ويحتمل أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم ، كما قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٣ ـ ٥٤] وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب ، فقال في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي فرائضه وحدوده ، وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب ، فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا ، قلت : كما قال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [الشورى : ١٨].

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن حجيرة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها : يا أيها الناس ، فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم ، فمنهم من يقول : نعم ، ومنهم من يشك ، ثم ينادي الثانية : يا أيها الناس ، فيقول الناس بعضهم لبعض : هل سمعتم ، فيقولون : نعم.

ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه» قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فو الذي نفسي بيده ، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا ، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئا ابدا ، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا ـ قال ـ ويشتغل الناس» ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد ، تعالى وتقدس علوا كبيرا ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٤٧٦

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

يقول تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي الوحي ، كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] وقوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، وقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٥ ـ ١٦]. وقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا) أي لينذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٤)

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات ، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره ، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة ، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) [الفرقان : ٥٤ ـ ٥٥]. وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٨ ـ ٧٩].

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن بسر بن جحاش قال : بصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كفه ، ثم قال : «يقول الله تعالى : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة» (١).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الوصايا باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢١٠.

٤٧٧

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧)

يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها ، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ، ولهذا قال : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ) وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه أسنمة (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك ، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل ، كقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون : ٢١ ـ ٢٢] ، وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٧٩ ـ ٨١] ، ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم ، كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٢] ، وقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٢ ـ ١٤].

قال ابن عباس : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي ثياب ، (وَمَنافِعُ) ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة (١). وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس : دفء ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد : لكم فيها دفء أي لباس ينسج ، ومنافع مركب ولحم ولبن. وقال قتادة : دفء ومنافع ، يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة ، وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٥٩.

٤٧٨

هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم ، وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فصلها من الأنعام ، وأفردها بالذكر ، استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة رحمه‌الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير وهي حرام ، كما ثبتت به السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أنبأنا هشام الدستوائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن علقمة ، أنّ ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فهذه للأكل ، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) فهذه للركوب ، وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله ، وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة أيضا رضي الله عنه.

واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد (٢) في مسنده : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير(٣). وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث صالح بن يحيى بن المقدام وفيه كلام.

ورواه أحمد (٤) أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة (٥) ، فقرم (٦) أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم ، فحبلوها وقلت : مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوة خيبر فأسرع الناس في حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم ، ثم قال : «أيها الناس : إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير» والرمكة هي الحجرة ، وقوله

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٦٣.

(٢) المسند ٤ / ٨٩.

(٣) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٥ ، والنسائي في الصيد باب ٣٠ ، وابن ماجة في الذبائح باب ١٤.

(٤) المسند ٣ / ٣٥٦ ، ٣٦٢.

(٥) الصائفة : الغزوة في الصيف.

(٦) قرم : شدة الشهوة إلى اللحم.

٤٧٩

حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها ، والحظائر والبساتين القريبة من العمران ، وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم.

فلو صح هذا الحديث لكان نصا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل (١).

ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل (٢). وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : نحرنا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة (٣) ، فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله أعلم. فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال ، وقد أهديت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل.

قال الإمام أحمد (٤) : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي قال : قلت يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلا فتركبها؟ قال : «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون».

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] ، وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦] ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ، شرع في ذكر الطرق

__________________

(١) أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨ ، ومسلم في الصيد حديث ٢٣ ، ٣٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٥٦.

(٣) أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٤ ، ومسلم في الصيد حديث ٣٨ ، والنسائي في الضحايا باب ٣٣.

(٤) المسند ٤ / ٣١١.

٤٨٠