تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس ، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ، كقول عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك.

وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) الآية ، وقول عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] الآية ، ثم رفع يديه ثم قال : «اللهم ، أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي» وبكى فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد ، وربك أعلم ، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه‌السلام فسأله ، فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ، فقال الله : اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (١).

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عند ما ولى عن هاجر وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى الله عزوجل ، ولهذا قال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير (٢) : هو متعلق بقوله (الْمُحَرَّمِ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك ، وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثمارا يأكلونها ، وقد استجاب الله ذلك كما قال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه‌السلام.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٦١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٦٤.

٤٤١

الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١)

قال ابن جرير (١) : يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم قصدي في دعائي ، وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد ، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك ، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها ، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء ، ثم حمد ربه عزوجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إنه يستجيب لمن دعاه ، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد.

ثم قال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي محافظا عليها مقيما لحدودها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعلهم كذلك مقيمين لها (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي فيما سألتك فيه كله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وقرأ بعضهم : ولوالدي بالإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عزوجل (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي كلهم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ(٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

يقول تعالى : ولا تحسبن الله يا محمد غافلا عما يعمل الظالمون ، أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم ، بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عدا (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي من شدة الأهوال يوم القيامة ، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر ، فقال : (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] الآية ، وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ـ إلى قوله ـ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١٠٨ ـ ١١١] ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) [المعارج : ٤٣] الآية. وقوله (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : رافعي رؤوسهم.

(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر ، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم ، عياذا بالله العظيم من ذلك ، ولهذا قال : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف ، ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٦٦.

٤٤٢

من شدة الخوف. وقال بعضهم : هي خراب لا تعي شيئا لشدة ما أخبر به تعالى عنهم ، ثم قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

يقول تعالى مخبرا عن الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) كقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] الآية ، وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ) [المنافقون : ٩] الآيتين ، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) [الأنعام : ٢٧] الآية ، وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) [فاطر : ٣٧] الآية ، قال تعالى ردا عليهم في قولهم هذا (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك.

قال مجاهد وغيره (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة ، كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] الآية ، (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر : ٥].

وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن أن عليا رضي الله عنه قال في هذه الآية (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا ، قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ما ترى؟ قال : أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال : فصوب العصا ، فصوبها فهبطا جميعا ، قال : فهو قوله عزوجل : وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال.

قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله وإن كاد مكرهم قلت : وكذا روي عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرءا وإن كاد كما قرأ علي ، وكذا رواه

٤٤٣

سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي فذكر نحوه ، وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة للنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا ، وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر ، وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه ، فصوب الرماح فصوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك ، فذلك قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ).

ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) بفتح اللام الأولى وضم الثانية ، وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ، ما ضر شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك عليهم.

قلت : ويشبه هذا قول الله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء : ٣٧] ، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : شركهم كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) الآية ، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّار) (٤٨)

يقول تعالى مقررا لوعده ومؤكدا : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب ، وذو انتقام ممن كفر به وجحده (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [الطور : ١١] ، ولهذا قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٤ ، ومسلم في المنافقين حديث ٢٨.

(٢) المسند ٦ / ٣٥ ، ١٣٤.

٤٤٤

وَالسَّماواتُ) قالت : قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : «على الصراط» (١) ، رواه مسلم منفردا به دون البخاري ، والترمذي وابن ماجة من حديث داود بن أبي هند به ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه أحمد أيضا عن عفان عن وهيب عن داود ، عن الشعبي عنها ، ولم يذكر مسروقا.

وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قالت : قلت يا رسول الله ، فأين الناس يومئذ؟ قال : «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي ، ذاك أن الناس على جسر جهنم».

وروى الإمام أحمد (٢) من حديث حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد ، عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : «هم على متن جهنم».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا الحسن ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا القاسم ، سمعت الحسن قال : قالت عائشة : يا رسول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) فأين الناس يومئذ؟ قال : «إن هذا شيء ما سألني عنه أحد ـ قال ـ على الصراط يا عائشة» ، ورواه أحمد(٤) عن عفان عن القاسم بن الفضل ، عن الحسن به.

وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني الحسن بن علي الحلواني ، حدثني أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام ، حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثه قال : كنت نائما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه حبر من أحبار اليهود ، فقال : السلام عليك يا محمد ، فدفعته دفعة كاد يصرع منها ، فقال : لم تدفعني؟ فقلت : ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي» فقال اليهودي : جئت أسألك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أينفعك شيئا إن حدثتك؟» قال : أسمع بأذني ، فنكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعود معه فقال : «سل» فقال اليهودي : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٩ ، والترمذي في تفسير سورة ١٤ ، باب ٣ ، وسورة ٣٩ ، باب ٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٣.

(٢) المسند ٢ / ٧٢ ، ٨٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٢ ، ٤٨٣.

(٤) المسند ٦ / ١٠١.

٤٤٥

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم في الظلمة دون الجسر» قال : فمن أول الناس إجازة؟ فقال: «فقراء المهاجرين» ، فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال : «زيادة كبد النون» قال : فما غذائهم في أثرها؟ قال : «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال : فما شرابهم عليه؟ قال «من عين فيها تسمى سلسبيلا». قال : صدقت ، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال «أينفعك إن حدثتك؟» قال : أسمع بأذني. قال : جئت أسألك عن الولد ، قال : «ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل منيّ المرأة ، أذكرا بإذن الله تعالى ، وإذا علا منيّ المرأة مني الرجل ، أنثا بإذن الله» قال اليهودي : لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به» (١).

قال أبو جعفر بن جرير الطبري (٢) : حدثنا ابن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي ، عن أبي أيوب الأنصاري أن حبرا من اليهود سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : «أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه» ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به.

وقال شعبة : أخبرنا أبو إسحاق ، سمعت عمرو بن ميمون ، وربما قال : قال عبد الله ، وربما لم يقل ، فقلت له عن عبد الله فقال : سمعت عمرو بن ميمون يقول : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة ، ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا ، قال : أراه قال قياما حتى يلجمهم العرق.

وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بنحوه ، وكذا رواه عاصم عن زر عن ابن مسعود به. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون : لم يخبر به ، أورد ذلك كله ابن جرير.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل ، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب ، حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله عزوجل : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة» ثم قال : لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب ، وليس بالقوي.

ثم قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحيض حديث ٣٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٣ ، وفيه : حدثنا محمد بن عون.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠.

٤٤٦

الجعفي ، عن أبي جبيرة عن زيد قال : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليهود فقال : «هل تدرون لم أرسلت إليهم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة» فلما جاءوا سألهم ، فقالوا : تكون بيضاء مثل النقي ، وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض بيضاء من فضة.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال : تصير الأرض فضة والسموات ذهبا. وقال الربيع عن أبي العالية بن كعب ، قال : تصير السموات جنانا. وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي أو عن محمد بن قيس في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم ، وكذا روى وكيع عن عمر بن بشير الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.

وقال الأعمش عن خيثمة قال : قال عبد الله بن مسعود : الأرض يوم القيامة كلها نار ، والجنة من ورائها ترى كواعبها ، وأكوابها ، ويلجم الناس العرق أو يبلغ منهم العرق ، ولم يبلغوا الحساب (١). وقال الأعمش أيضا عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال : قال عبد الله : الأرض كلها نار يوم القيامة ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، والذي نفس عبد الله بيده ، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب ، قالوا : مم ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : مما يرى الناس ويلقون (٢). وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قال : تصير السموات جنانا ، ويصير مكان البحر نارا ، وتبدل الأرض غيرها.

وفي الحديث الذي رواه أبو داود «لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر ، فإن تحت البحر نارا ـ أو تحت النار بحرا ـ» (٣) وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأديمالعكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة». وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي الذي قهر كل شيء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠ ، ٤٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩.

٤٤٧

يقول تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وتبرز الخلائق لديانها ، ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم (مُقَرَّنِينَ) أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] وقال : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣] وقال: (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٧ ـ ٣٨] والأصفاد هي القيود ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد ، وهو مشهور في اللغة ، قال عمرو بن كلثوم : [الوافر]

فآبوا بالثياب وبالسبايا

وأبنا بالملوك مصفدينا (١)

وقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران ، وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى ، قال قتادة : وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه : قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها ، وبكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم : [رجز]

كأن قطرانا إذا تلاها

ترمي به الريح إلى مجراها (٢)

وكان ابن عباس يقول : القطران هنا النحاس المذاب ، وربما قرأها (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أي من نحاس حار قد انتهى حره ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كقوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) [المؤمنون : ١٠٤] وقال الإمام أحمد (٣) رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من أمر الجاهلية لا يتركن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» انفرد بإخراجه مسلم (٤). وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار».

وقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي يوم القيامة كما قال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] الآية (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحتمل أن يكون كقوله تعالى :

__________________

(١) البيت في تفسير الطبري ٧ / ٤٨٤ ، والشطر الثاني في تفسير البحر المحيط ٥ / ٤١٩.

(٢) الرجز في تفسير الطبري ٧ / ٤٨٥.

(٣) المسند ٥ / ٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤.

(٤) كتاب الجنائز حديث ٢٩.

٤٤٨

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء ، ولا يخفى عليه خافية ، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان: ٢٨] وهذا معنى قول مجاهد (سَرِيعُ الْحِسابِ) إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين ، والله أعلم.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١] الآية ، (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي ليتعظوا به (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول.

آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والحمد لله رب العالمين.

٤٤٩

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين ، ونقل السدي في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل : إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا. وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله في.

قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار (١) ، وقال ابن جرير (٢) : حدثني المثني ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم ، حدثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار ، قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا ، قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم ، فذلك حين يقول : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٣).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم ، وعن خصيف عن مجاهد قالا : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك ، قال الله : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، قال : فعند ذلك قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٤) ، وهكذا روي عن الضحاك وقتادة وأبي العالية وغيرهم ، وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٤) راجع الحاشية السابقة.

٤٥٠

فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن العباس هو الأخرم ، حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ وابن علية يحيى بن موسى ، حدثنا معروف بن واصل عن يعقوب بن نباتة عن عبد الرحمن الأغر ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة ، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين» ، فقال رجل : يا أنس أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أنس : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم أنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هذا ، ثم قال الطبراني : تفرد به الجهبذ.

[الحديث الثاني] ـ قال الطبراني أيضا : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي ، حدثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا ـ قال : ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ») ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به ، وزاد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم عوض الاستعاذة.

[الحديث الثالث] قال الطبراني أيضا : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن راهويه ، قال : قلت لأبي أسامة أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث حدثني صالح بن أبي طريف قال : سألت أبا سعيد الخدري فقلت له : هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)؟ قال : نعم سمعته يقول : «يخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم» وقال : «لما أدخلهم الله النار مع المشركين ، قال لهم المشركون : تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا فيما بلاكم معنا في النار ، فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة لهم ، فتشفع لهم الملائكة والنبيون ، ويشفع المؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله ، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج معهم ـ قال ـ فذلك قول الله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فيسمون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم ، فيقولون : يا رب أذهب عنا هذا الاسم ، فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم» فأقرّ به أبو أسامة وقال نعم.

٤٥١

[الحديث الرابع] قال ابن أبي حاتم ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا العباس بن الوليد النرسي ، حدثنا مسكين أبو فاطمة ، حدثني اليمان بن يزيد عن محمد بن جبر عن محمد بن علي ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته (١) ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء ، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى ، فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

وقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) تهديد شديد لهم ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [النجم : ٣٠]. وقوله : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦] ، ولهذا قال : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي عن التوبة والإنابة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمرهم.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥)

يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها ، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم ، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي الذي تدعي ذلك (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا (لَوْ ما) أي هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين ، كما قال فرعون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٢] ، (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)

__________________

(١) الحجزة : معقد الإزار.

٤٥٢

[الفرقان : ٢١ ـ ٢٢] ، وكذا قال في هذه الآية : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ).

وقال مجاهد في قوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) بالرسالة والعذاب (١) ، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ، ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى : (لَهُ لَحافِظُونَ) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش : إنه أرسل من قبله في الأمم الماضية وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به ، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى قال أنس والحسن البصري (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) يعني الشرك (٢). وقوله (قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار ، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

يخبر تعالى عن قوّة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم بابا من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك ، بل قالوا : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال مجاهد وابن كثير والضحاك : سدت أبصارنا. وقال قتادة عن ابن عباس : أخذت أبصارنا. وقال العوفي عن ابن عباس : شبه علينا وإنما سحرنا. وقال الكلبي : عميت أبصارنا. وقال ابن زيد : (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ، السكران الذي لا يعقل (٣).

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٨.

٤٥٣

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات ، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه ، وبهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي الكواكب. (قلت) : وهذا كقوله تبارك وتعالى (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] الآية. ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر. وقال عطية العوفي : البروج هاهنا هي قصور الحرس. وجعل الشهب حرسا لها من مردة الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى ، فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه ، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الآخر ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح.

كما قال البخاري (١) في تفسير هذه الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ، ووصف سفيان بيده ، وفرج بين أصابع يده اليمنى ، نصبها بعضها فوق بعض ، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض ، وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق ، فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء.

ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من الجبال الرواسي ، والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.

وقال ابن عباس (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي معلوم ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عتيبة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة ، ومنهم من يقول : مقدر بقدر. وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر ، وقال ابن زيد : ما يزنه أهل الأسواق. وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة. وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال مجاهد : هي الدواب والأنعام.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، وتفسير سورة ٣٤ ، باب ١.

٤٥٤

وقال ابن جرير (١) : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام ، والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها ، والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزقهم على خالقهم لا عليهم ، فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله تعالى.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه ، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) كما يشاء وكما يريد ، ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية ، رواه ابن جرير (٢) ، وقال أيضا : حدثنا القاسم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ، ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر ، قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس ، وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت (٣).

وقال البزار : حدثنا داود هو ابن بكير ، حدثنا حيان بن أغلب بن تميم ، حدثني أبي عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له كن فكان» ثم قال : لا يرويه إلا أغلب وليس بالقوي ، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ، ولم يروه عنه إلا ابنه. وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها ، وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم ، فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج ، لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا.

وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قال : ترسل الريح فتحمل الماء من السماء ، ثم تمرى السحاب

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٣ ، ٥٠٤.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٤.

٤٥٥

حتى تدر كما تدر اللقحة ، وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة. وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء. وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ).

وقد روى ابن جرير (١) من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة ، وهي التي ذكر الله في كتابه ، وفيها منافع للناس» وهذا إسناد ضعيف ، وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده. حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله الأزيب (٢) ، وهي فيكم الجنوب».

وقوله : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي أنزلناه لكم عذبا يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجا ، كما نبه على ذلك في الآية الأخرى في سورة الواقعة ، وهو قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) [الواقعة : ٦٨] ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠]. وقوله : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) قال سفيان الثوري : بما نعين ، ويحتمل أن المراد وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا ، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك ، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.

وقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته ، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم ، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع ، وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها ، وإليه يرجعون ، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم ، فقال : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الآية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه‌السلام ، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة ، وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم ، وهو اختيار ابن جرير(٣)رحمه‌الله.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٦ ، وفيه : عيسى بن ميمون بدل عبيس بن ميمون.

(٢) الأزيب : رياح الجنوب ، وتسمى النكهاء تجري بينها وبين الصبا.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٧ ، ٥٠٨.

٤٥٦

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن رجل ، عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ، وقد ورد فيه حديث غريب جدا ، فقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن موسى الجرشي ، حدثنا نوح بن قيس ، حدثنا عمرو بن قيس ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت تصلي خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة حسناء ، قال ابن عباس : لا والله ما رأيت مثلها قط ، وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، يعني لئلا يروها ، وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٣).

وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره ، ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما ، وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحداني ، وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما ، وحكي عن ابن معين تضعيفه ، وأخرجه مسلم وأهل السنن ، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ، وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) في الصفوف في الصلاة و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ، ليس فيه لابن عباس ذكر ، وقد قال الترمذي : هذا أشبه من رواية نوح بن قيس ، والله أعلم.

وهكذا روى ابن جرير (٤) عن محمد بن أبي معشر ، عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) وأنها في صفوف الصلاة ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الميت والمقتول و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) من يخلق بعد (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالصلصال هاهنا التراب اليابس ، والظاهر أنه كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٤ ـ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٩ ، ٥١٠ ، وفيه محمد بن موسى الحرسي بدل الجرشي.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، والنسائي في الإمامة باب ٦٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٦٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٥.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٧.

٤٥٧

١٥] وعن مجاهد أيضا الصلصال المنتن ، وتفسير الآية بالآية أولى. قوله : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي الصلصال من حمأ ، وهو الطين. والمسنون : الأملس ، كما قال الشاعر : [الخفيف]

ثم خاصرتها إلى القبّة الخضراء

تمشي في مرمر مسنون (١)

أي أملس صقيل ، ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال : هو التراب الرطب ، وعن ابن عباس ومجاهد أيضا والضحاك : أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل : المراد بالمسنون هاهنا المصبوب. وقوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الإنسان (مِنْ نارِ السَّمُومِ) قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل ، وقال بعضهم : السموم بالليل والنهار ، ومنهم من يقول : السموم بالليل والحرور بالنهار. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : دخلت على عمر الأصم أعوده ، فقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود ، يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ، ثم قرأ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

وعن ابن عباس : أن الجان خلق من لهب النار ، وفي رواية : من أحسن النار. وعن عمرو بن دينار : من نار الشمس. وقد ورد في الصحيح «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (٢). والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدمعليه‌السلام وطيب عنصره وطهارة محتده.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣)

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكة قبل خلقه وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له ، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وكفرا وعنادا واستكبارا وافتخارا بالباطل ، ولهذا قال : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) كقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] وقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا

__________________

(١) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص ٧٠ ، ولسان العرب (خصر) ، (سنن) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٥ ، ولعبد الرحمن بن حسان في أساس البلاغة (خصر) ، وتهذيب اللغة ٧ / ١٢٧ ، وتاج العروس (سنن) ، ولأبي العيال أو لعبد الرحمن بن حسان في لسان العرب (سنن) ، والكامل ص ٣٨٨ ، وجمهرة اللغة ص ٥٨٦ ، وكتاب العين ٤ / ١٨٣ ، وتاج العروس (خصر) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٨٩.

(٢) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٥٣ ، ١٦٨.

٤٥٨

الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] الآية.

وقد روى ابن جرير (١) هاهنا أثرا غريبا عجيبا من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) قالوا : لا نفعل ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى فقال لهم مثل ذلك ، فقالوا : لا نفعل ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، قالوا :

سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين ، وفي ثبوت هذا عنه بعد ، والظاهر أنه إسرائيلي ، والله أعلم.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

يذكر تعالى أنه أمر إبليس أمرا كونيا لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى ، وأنه رجيم أي مرجوم ، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس ، تغيرت صورته عن صورة الملائكة ، ورن رنة ، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها ، رواه ابن أبي حاتم ، وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له ، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة ، وهو يوم البعث ، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجا له وإمهالا ، فلما تحقق النظرة قبحه الله.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

يقول تعالى مخبرا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : (بِما أَغْوَيْتَنِي) قال بعضهم :

أقسم بإغواء الله له. (قلت) ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) أي لذرية آدم عليه‌السلام (فِي الْأَرْضِ) أي أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها وأؤزهم إليها ، وأزعجهم إليها إزعاجا (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي كما أغويتني وقدرت عليّ ذلك (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) كقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢].

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥١٥.

٤٥٩

(قالَ) الله تعالى له متهددا ومتوعدا (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي مرجعكم كلكم إليّ ، فأجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤]. وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى ، وإليه تنتهي ، قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩] وقرأ قيس بن عبادة ومحمد بن سيرين وقتادة (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) كقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤] أي رفيع والمشهور القراءة الأولى.

وقوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي الذي قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) استثناء منقطع.

وقد أورد ابن جرير (١) هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن موهب ، حدثنا يزيد بن قسيط قال : كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم ، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له ، ثم سأله ما بدا له ، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله ـ يعني إبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة ، فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال : فردد ذلك ثلاث مرات.

فقال عدو الله : أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم مرتين؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه ، فقال النبي : إن الله تعالى يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). قال عدو الله : قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي : ويقول الله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله : صدقت بهذا تنجو مني ، فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال آخذه عند الغضب والهوى.

قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس ، كما قال عن القرآن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] ، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه ، أجارنا الله منها ، وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في درك بقدر عمله. قال إسماعيل ابن علية وشعبة ، كلاهما عن أبي هارون الغنوي عن حطان بن عبد الله أنه قال : سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال : إن أبواب جهنم هكذا ـ قال أبو هارون ـ أطباقا بعضها فوق بعض. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة بن أبي يريم ، عن علي رضي الله عنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تمتلئ كلها.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥١٧ ، ٥١٨.

٤٦٠