تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ(٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣)

يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم.

وقد قيل إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وإسفنديار ، ولما قدم وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك ، ولله الحمد.

وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه كما قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كان يقول في كتاب الله عزوجل ما يقول فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد هذا الذي أردت ، قال وفيه أنزلت هذه الآية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ، ولهذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له» (٢) يعني الأسارى لأنه كان قد أجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم رجع من الطائف.

ومعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى (وَقالُوا أَساطِيرُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في الخمس باب ١٦ ، والمغازي باب ١٢ ، وأبو داود في الجهاد باب ١٢٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ٨٠.

٤١

الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٥ ـ ٦] أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه ، وقوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم ، وهذا مما عيبوا به وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب ، وتقديم العقوبة كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [العنكبوت : ٥٣] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] وقوله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) [المعارج : ١ ـ ٣].

وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] وقال هؤلاء (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال هو أبو جهل بن هشام قال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) رواه البخاري (١) عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، والله أعلم.

وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) [المعارج : ١ ـ ٢] وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي : إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] وقال (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤] وقال (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) [المعارج : ١ ـ ٢] قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزوجل (٢) ، وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٣١.

٤٢

فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها (١).

وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد ، قد ، ويقولون : اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي الاستغفار (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم. فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) يقول : ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة (٤).

وروي عن مجاهد وعكرمة وعطية والعوفي وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك. وقال الضحاك وأبو مالك (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عربي قال : قال ابن عباس : إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم ، فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم ، قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وقال أبو صالح عبد الغفار : حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس. وروى ابن مردويه وابن جرير عن أبي موسى الأشعري نحوا من هذا. وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ.

وقال الترمذي (٥) : حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣ ، ٢٣٤.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣.

(٥) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٤.

٤٣

«أنزل الله علي أمانين لأمتي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».

ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد (١) في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا رشدين هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزوجل».

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥)

يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم ، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر ، فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد. وقال قتادة والسدي وغيرهما : لم يكن القوم يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا (٣).

واختاره ابن جرير ، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك ، كما قال تعالى في يوم الحديبية (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٥].

قال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، قال : فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، قال : وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين ، يعني بمكة (يَسْتَغْفِرُونَ) فلما خرجوا أنزل الله

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٩ ، ٤١ ، ٧٦.

(٢) المسند ٦ / ٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٢.

٤٤

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) ، قال : فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وروي عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا ، وقد قيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في الأنفال (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فنسختها الآية التي تليها (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ ـ إلى قوله ـ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر ، وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ثم استثنى أهل الشرك فقال (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢).

وقوله ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به ، ولهذا قال : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كما قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة : ١٦ ـ ١٧] ، وقال تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] ، الآية.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية : حدثنا سليمان بن أحمد هو الطبراني ، حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا نوح بن أبي مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولياؤك؟ قال : «كل تقي» وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ). وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا إسحاق بن الحسن ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٦.

(٢) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٢٨.

٤٥

قريشا فقال : «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال : «حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون» ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه.

وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) قال هم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا ، ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام ، وما كانوا يعاملونه به ، فقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، قال عبد الله بن عمرو وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الصفير ، وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم ، وقال السدي : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز (وَتَصْدِيَةً).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري ، حدثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، قال كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التصفيق. وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس ، وكذا روى عن ابن عمر ومجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وحجر بن عنبس وابن أبزى نحو هذا. وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا قرة عن عطية عن ابن عمر في قوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ ...) قال المكاء التصفير والتصدية التصفيق ، قال قرة : وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه ، وعن ابن عمر أيضا أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه.

وقال عكرمة : كانوا يطوفون بالبيت على الشمال ، قال مجاهد : وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته ، وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين ، وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد (وَتَصْدِيَةً) قال صدهم الناس عن سبيل الله عزوجل.

قوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق : هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، واختاره ابن جرير (٢) ولم يحك غيره ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٤١.

٤٦

الإقرار بالسيف وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧)

قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا ، قال ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ـ إلى قوله ـ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (١) ، وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة ، وإن كان سبب نزولها خاصا فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي ندامة حيث لم تجد شيئا لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي ، ولهذا قال : (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

وقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء ، وقال السدي : يميز المؤمن من الكافر ، وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة كقوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] الآية ، وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، وقال في الآية الأخرى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] وقال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٤٣.

٤٧

وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : ١٦٦ ـ ١٦٧] الآية وقال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] الآية.

وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ونظيرها في براءة أيضا فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ) أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما متراكبا (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم ، وذنوبهم وخطاياهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» (١) وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها» (٢).

وقوله (وَإِنْ يَعُودُوا) أي يستمروا على ما هم فيه (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم ، وقال السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال البخاري (٣) : حدثنا

__________________

(١) أخرجه البخاري في المرتدين باب ١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٩.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٩ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٥.

٤٨

الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمر عن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال : يا ابن أخي أعير بهذه الآية ، ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالآية التي يقول الله عزوجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] إلى آخر الآية قال : فإن الله تعالى يقول (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان ، أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون.

وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال : خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك (١). هذا كله سياق البخاري رحمه‌الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالوا أو لم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي ، قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : إن الله يقول (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة ، فقال ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله ، وذهب الشرك ولم تكن فتنة ، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، رواهما ابن مردويه.

وقال أبو عوانة : عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه ، قال : قال ذو البطين ، يعني أسامة بن زيد : لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا. فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا ، فقال رجل ألم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)؟ فقالا : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه ، وقال

__________________

(١) راجع الحاشية السابقة.

٤٩

الضحاك عن ابن عباس (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، يعني لا يكون شرك ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم ، وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير ، وغيره من علمائنا ، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، حتى لا يفتن مسلم عن دينه.

وقوله (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال الضحاك : عن ابن عباس في هذه الآية ، قال يخلص التوحيد لله ، وقال الحسن وقتادة وابن جريج (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أن يقال لا إله إلا الله ، وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ، ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، لا يكون مع دينكم كفر ، ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها ، وحسابهم على الله عزوجل» (١) وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله عزوجل؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل» (٢).

وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه ، وإن لم تعلموا بواطنهم (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، كقوله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، الآية ، وفي الآية الأخرى (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: ١١] ، وقال (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٩٣] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة ، لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأسامة : «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ فقال يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا ، قال «هلا شققت عن قلبه؟» وجعل يقول ويكرر عليه ، «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ (٣).

وقوله (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ، أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن الله مولاكم ، وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان ١٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٤ ، ٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٤٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٠ ، ١٥١.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٥٨ ، وأبو داود في الجهاد باب ٩٥ ، وابن ماجة في الفتن باب ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٣٩ ، ٥ / ٢٠٧.

٥٠

ونعم النصير. وقال محمد بن جرير (١) : حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أبان العطار حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء فكتب إليه عروة : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني ، عن مخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، كان من شأن خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فنعم النبي ونعم السيد ونعم العشيرة ، فجزاه الله خيرا ، وعرفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته وأماتنا وبعثنا عليها ، وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه ، وكانوا يسمعون له ، حتى إذا ذكر طواغيتهم.

وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال ، أنكر ذلك عليه ناس واشتدوا عليه ، وكرهوا ما قال وأغروا به من أطاعهم ، فانعطف عنه عامة الناس ، فتركوه إلا من حفظه الله منهم ، وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنة شديدة الزلزال ، فافتتن من افتتن وعصم الله من شاء منهم ، فلما فعل ذلك بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ، وكان بالحبشة ملك صالح ، يقال له النجاشي ، لا يظلم أحد بأرضه ، وكان يثنى عليه مع ذلك ، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ، وكانت مساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق ، وأمنا ومتجرا حسنا ، فأمرهم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخافوا عليهم الفتن ، ومكث هو فلم يبرح.

فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم ، ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم ، فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أصحابه ، وكانت الفتنة الأولى : هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أرض الحبشة مخافتها ، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم تحدث باسترخائهم عنهم ، فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون ، فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها ، وجعلوا يزدادون ويكثرون ، وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير.

وفشا الإسلام بالمدينة وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فلما رأت قريش ذلك ، توامروا على أن يفتنوهم ويشتدوا ، فأخذوهم فحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، فكانت الفتنة الآخرة ، فكانت فتنتان : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وأذن لهم في الخروج إليها ، وفتنة : لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٤٦ ، ٢٤٧.

٥١

أهل المدينة ، ثم إنه جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة سبعون نقيبا ، رؤوس الذين أسلموا ، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ، على أنا منك وأنت منا ، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا ، فاشتدت عليهم قريش ، عند ذلك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله عزوجل فيها (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عروة بن الزبير ، أنه كتب إلى الوليد يعني ابن عبد الملك بن مروان بهذا ، فذكر مثله ، وهذا صحيح إلى عروة رحمه‌الله.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١)

يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة ، من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار ، بإيجاف (١) الخيل والركاب ، والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها ، ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك ، هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف.

ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة ، وبالعكس أيضا ، ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الحشر : ٨] الآية ، قال فنسخت آية الأنفال تلك ، وجعلت الغنائم أربعة أخماس للمجاهدين ، وخمسا منها لهؤلاء المذكورين ، وهذا الذي قاله بعيد ، لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، وتلك نزلت في بني النضير ، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة ، أن بني النضير بعد بدر ، وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب ، فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة ، يقول تلك نزلت في أموال الفيء ، وهذه في الغنائم ، ومن يجعل أمر الغنائم والفيء راجعا إلى رأي الإمام ، يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس ، إذا رآه الإمام والله أعلم.

فقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [آل عمران : ١٦١] ، وقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) اختلف المفسرون هاهنا ، فقال بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة. قال أبو جعفر

__________________

(١) الإيجاف : سرعة السير ، وأوجف دابته : حثها على السير.

٥٢

الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية الرياحي ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل (١).

وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم لرسوله عليه‌السلام ، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فأن لله خمسه ، مفتاح كلام (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، وهكذا قال إبراهيم النخعي والحسن بن محمد ابن الحنيفة ، والحسن البصري والشعبي وعطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن بريدة وقتادة ومغيرة وغير واحد ، أن سهم الله ورسوله واحد. ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي ، بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رجل ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بوادي القرى ، وهو يعرض فرسا ، فقلت يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة؟ فقال : «لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش» قلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال : «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أبان عن الحسن ، قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله ، وقال ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ، ثم اختلف قائلو هذا القول ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تخمس على خمسة أخماس ، فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس ، فربع لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس شيئا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة في قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، قال : الذي لله فلنبيه ، والذي للرسول لأزواجه. وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : خمس الله والرسول واحد ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أعم وأشمل ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء ، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد (٣) حيث قال : حدثنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٥٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٠.

(٣) المسند ٥ / ٣٢٦ ، ٦ / ٣١.

٥٣

إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن أبي سلام الأعرج ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي ، أنه جلس مع عبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم ، فتذاكروا حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ، فقال عبادة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه ، فقال : «إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر ، وجاهدوا في الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ، ينجي الله به من الهم والغم» ، هذا حديث حسن عظيم ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

ولكن روى الإمام أحمد أيضا وأبو داود والنسائي ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول. وعن عمرو بن عنبسة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير ، ثم قال : «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم» (١) رواه أبو داود والنسائي ، وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء.

وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد (٢) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت صفية من الصفي ، رواه أبو داود (٣) في سننه ، وروى أيضا بإسناده والنسائي أيضا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها «من محمد رسول الله إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم الصفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله» فقلنا من كتب هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٩ ، والنسائي في الفيء.

(٢) أخرجه الترمذي في السير باب ١٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٧١.

(٣) كتاب الإمارة باب ٢١.

(٤) أخرجه أبو داود في الإمارة باب ٢١ ، والنسائي في الفيء.

٥٤

ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه ، وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين ، كما يتصرف في مال الفيء ، وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه‌الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف ، وهو أصح الأقوال. فإذا ثبت هذا وعلم ، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه‌السلام من الخمس ، ماذا يصنع به من بعده ، فقال قائلون يكون لمن يلي الأمر من بعده ، روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة. وجاء فيه حديث مرفوع ، وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين ، وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ، ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، اختاره ابن جرير ، وقال آخرون : بل سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم ذوي القربى ، مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل.

قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق ، وقيل إن الخمس جميعه لذوي القربى ، كما رواه ابن جرير (١) : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا عبد الغفار ، حدثنا المنهال بن عمرو ، سألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين عن الخمس ، فقالا : هو لنا ، فقلت لعلي : فإن الله يقول (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فقالا : يتامانا ومساكيننا ، وقال سفيان الثوري وأبو نعيم وأبو أسامة ، عن قيس بن مسلم ، سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية رحمه‌الله تعالى ، عن قول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فقال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والآخرة ، ثم اختلف الناس في هذين السهمين ، بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قائلون : سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما للخليفة من بعده ، وقال آخرون لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (٢).

قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم ما كان علي يقول فيه؟ قال : كان أشدهم فيه (٣) ، وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم‌الله ، وأما سهم ذوي القربى ، فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ، لأن بني المطلب ووازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام ، ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا بني عمهم ، فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٣.

٥٥

كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم ، لشدة قربهم ، ولهذا يقول في أثناء قصيدته : [الطويل]

جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلا

عقوبة شرّ عاجل غير آجل (١)

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا

بني خلف قيضا بنا والعياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم

وآل قصي في الخطوب الأوائل

وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ، فقال : «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» رواه مسلم. وفي بعض روايات هذا الحديث ، «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» (٢) ، وهذا قول جمهور العلماء ، إنهم بنو هاشم وبنو المطلب.

قال ابن جرير (٣) : وقال آخرون : هم بنو هاشم ، ثم روي عن خصيف عن مجاهد ، قال: علم الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة ، وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة ، ثم روي عن علي بن الحسين نحو ذلك.

قال ابن جرير (٤) وقال آخرون : بل هم قريش كلها ، حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، قال : كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه ابن عباس ، كنا نقول : إنا هم ، فأبى علينا ذلك قومنا ، وقالوا قريش كلها ذوو قربى (٥) وهذا الحديث صحيح ، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري ، عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى ، فذكره إلى قوله : فأبى ذلك علينا قومنا ، والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني ، وفيه ضعف.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، حدثنا المعتمر بن

__________________

(١) الأبيات في ديوان أبي طالب بن عبد المطلب ص ١٢٨ ، والبيت الأول في لسان العرب (عيل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (عيل) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٩٦ ، ٤٠٢ ، وتاج العروس (حصص) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٢٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حصص) ، والمخصص ١٢ / ٢٦٣ ، وكتاب العين ٣ / ١٤.

(٢) أخرجه النسائي في الفيء باب ٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٥٢. وأخرجه أيضا. مسلم في الجهاد حديث ١٤٠ ، وأبو داود في الإمارة باب ٢٠ ، والنسائي في الفيء باب ١ ، ٢.

٥٦

سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغبت لكم عن غسالة الأيدي ، لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» (١) ، هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين : يأتي بمناكير ، والله أعلم.

وقوله (وَالْيَتامى) أي أيتام المسلمين ، واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء ، أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين ، والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة ، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك ، وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقوله (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وما أنزل على رسوله ، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس في حديث وفد عبد القيس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع. آمركم بالإيمان بالله ـ ثم قال ـ هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (٢) ، الحديث بطوله ، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الإيمان من صحيحه ، فقال : [باب أداء الخمس من الإيمان] ثم أورد حديث ابن عباس هذا ، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

وقال مقاتل بن حيان : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي في القسمة ، وقوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه ، بما فرق به بين الحق والباطل ببدر ، ويسمى الفرقان ، لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه ، قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، رواه الحاكم ، وكذا قال مجاهد ومقسم وعبيد الله بن عبد الله والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد أنه يوم بدر.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير في قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم فرق الله بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، والمشركون ما بين الألف

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٤٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤.

٥٧

والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين ، وأسر منهم مثل ذلك.

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود ، قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين ، فإن في صبيحتها يوم بدر ، وقال على شرطهما ، وروي مثله ، عن عبد الله بن الزبير أيضا ، من حديث جعفر بن برقان ، عن رجل عنه ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عون عن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : قال الحسن بن علي : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان ، إسناد جيد قوي ، ورواه ابن مردويه ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ، ليلة التقى الجمعان ، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ، وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير ، وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم الاثنين ، ولم يتابع على هذا ، وقول الجمهور مقدم عليه ، والله أعلم.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

يقول تعالى مخبرا عن يوم الفرقان (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ، (وَهُمْ) أي المشركون نزول (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة ، (وَالرَّكْبُ) أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة ، (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي مما يلي سيف البحر ، (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي أنتم والمشركون إلى مكان (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) ، قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، في هذه الآية ، قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، ما لقيتموهم.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم (٢) ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه ، وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، وقال ابن جرير (٣) : حدثني يعقوب حدثني ابن علية ، عن ابن عون عن عمير بن إسحاق ، قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٥.

(٢) على غير ملأ : أي على غير اجتماع وتشاور.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٧.

٥٨

ليمنعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة ، ونهد الناس بعضهم لبعض.

وقال محمد بن إسحاق في السيرة (١) : ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه ذلك ، حتى إذا كان قريبا من الصفراء ، بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين ، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان ، فانطلقا حتى إذا وردا بدرا ، فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء ، فاستقيا في شن لهما من الماء ، فسمعا جاريتين تختصمان ، تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي ، وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأقضيك حقك ، فخلص بينهما مجدي بن عمرو ، وقال صدقت ، فسمع بذلك بسبس وعدي ، فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبراه الخبر ، وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر ، فتقدم أمام عيره ، وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره؟ فقال : لا والله ، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا ، فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى ، فقال هذه والله علائف يثرب ، ثم رجع سريعا فضرب وجه عيره فانطلق بها فساحل ، حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدرا ـ وكانت بدر سوقا من أسواق العرب ـ فنقيم بها ثلاثا فنطعم بها الطعام ، وننحر بها الجزر ، ونسقى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا. فقال الأخنس بن شريق : يا معشر بني زهرة ، إن الله قد أنجى أموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة ، فلم يشهدوها ، ولا بنو عدي.

قال محمد بن إسحاق (٢) : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دنا من بدر ، علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر ، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان : نحن سقاة لقريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما ، فلما أزلقوهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد سجدتين ثم سلم ، وقال «إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش» قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل.

فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كم القوم؟» قالا : كثير. قال : «ما عدتهم؟» قالا ما ندري. قال

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٦١٧ ـ ٦١٩.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٦١٦ ، ٦١٧.

٥٩

«كم ينحرون كل يوم؟» قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف» ثم قال لهما : «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس فقال : «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها».

قال محمد بن إسحاق (١) رحمه‌الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما التقى الناس يوم بدر يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، وننيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، وإن تكن الأخرى ، فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم ، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، ويوازرونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ، ودعا له به فبني له عريش ، فكان فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما. قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب ، الذي جاءوا منه إلى الوادي ، فقال : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة».

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، وهذا تفسير جيد. وبسط ذلك أنه تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد ، على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ، ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه ، على بصيرة من أمره ، إنه مبطل لقيام الحجة عليه ، (وَيَحْيى مَنْ حَيَ) أي يؤمن من آمن (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي حجة وبصيرة ، والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك فيّ من هلك (٢) ، أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك. وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به ، (عَلِيمٌ) أي بكم ، وأنكم تستحقون النصر

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٦٢٠ ، ٦٢١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٤ ، باب ٦ ، والمغازي باب ٣٤ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٦ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٩٥ ، ولفظ أحمد في المسند : «فهلك فيمن هلك في شأني» ، ولفظ البخاري ومسلم : «فهلك من هلك في شأنى».

٦٠