تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

قال : «نعم ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة». قال : إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة ، وليس في الجنة أذى؟ قال: «تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه» (١) رواه الإمام أحمد والنسائي.

وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فيخر بين يديك مشويا» وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائرا كما كان بإذن الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٢ ـ ٣٣] ، وقال (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) [النساء : ٥٧].

وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها» (٢) ثم قرأ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار ، ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ). كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠].

وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه : عباد الله ، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من عبادتكم تقبلت منكم ، أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم؟ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم ، أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة (أُكُلُها دائِمٌ) رواه ابن أبي حاتم.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) (٣٧)

يقول تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم قائمون بمقتضاه (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] الآية ، وقال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ـ إلى قوله ـ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٨] أي إن كان

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، ٣٧١.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه في تفسير الآية ٢٩ من هذه السورة.

٤٠١

ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة وكائنا ، فسبحانه ما أصدق وعده ، فله الحمد وحده (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩] ، وقوله (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي اليهود والنصارى (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي بعض ما جاءك من الحق ، وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهذا كما قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران : ١٩٩] الآية ، (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي (إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى سبيله أدعو الناس (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي مرجعي ومصيري.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين ، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء ، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا ، شرفناك به ، وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ١١]. وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي آراءهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من الله سبحانه (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشريا ، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا ، يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويأتون الزوجات ، ويولد لهم ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠].

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١). وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد ، أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال : قال أبو أيوب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من سنن المرسلين : التعطر والنكاح ، والسواك ، والحناء» (٣). وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن مكحول ، عن أبي الشمال ، عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ١ ، ومسلم في النكاح حديث ٥.

(٢) المسند ٥ / ٤٢١.

(٣) أخرجه الترمذي في النكاح باب ١.

٤٠٢

أيوب فذكره ، ثم قال : وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال.

وقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه ، ليس ذلك إليه بل إلى الله عزوجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل مدة مضروبة ، كتاب مكتوب بها ، وكل شيء عنده بمقدار (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحج : ٧٠] وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل ، يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ، ومقدار معين ، فلهذا (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) منها ، (وَيُثْبِتُ) يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه (١).

وقوله (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة ، فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت ، وفي رواية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة ، فإنهما قد فرغ منهما.

وقال مجاهد (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران (٢). وقال منصور : سألت مجاهدا ، فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم ، واجعله في السعداء؟ فقال : حسن : ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر ، فسألته عن ذلك فقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآيتين ، قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير (٣).

وقال الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة : إنه كان كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء : اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء ، فامحه واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، رواه ابن جرير (٤) ، وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن أبي حكيمة عصمة ، عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٠.

٤٠٣

وقال حماد عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا. ورواه شريك عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عكيم ، عن ابن مسعود بمثله. وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا خصاف عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وما هي؟ قال : قول الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) الآية ، ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ، ويثبت منها ما يشاء.

وقد يستأنس لهذا القول بما ورواه الإمام احمد (٢) : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان هو الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر» (٣) ، ورواه النسائي وابن ماجة من حديث سفيان الثوري به.

وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي حديث آخر «إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض». وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جرير عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت ـ والدفتان : لوحان ـ لله عزوجل ، كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة ، يمحو ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب. وقال الليث بن سعد عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت» وذكر تمام الحديث ، رواه ابن جرير (٥).

وقال الكلبي : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويزيد فيه ، فقيل له : من حدثك بهذا؟ فقال : أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية ، فقال : يكتب القول كله حتى إذ كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلت وشربت ، ودخلت وخرجت ، ونحو ذلك من الكلام ، وهو صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب ، وقال عكرمة عن ابن عباس : الكتاب كتابان ، فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أم

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٠١.

(٢) المسند ٥ / ٢٧٧.

(٣) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، والفتن باب ٢٢.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

٤٠٤

الكتاب (١).

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يقول : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله ، فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت ، وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ ، وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب.

وقال قتادة في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) الآية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : قالت كفار قريش لما نزلت (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ما نرى محمدا يملك شيئا وقد فرغ من الأمر ، فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم ، إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ، ونحدث في كل رمضان ، فيمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم.

وقال الحسن البصري (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : من جاء أجله يذهب ، ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله ، وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله ، وقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : الحلال والحرام ، وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله ، وقال الضحاك (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : كتاب عند رب العالمين ، وقال سنيد بن داود : حدثني معتمر عن أبيه ، عن يسار ، عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، ثم قال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا ، وقال ابن جريج عن ابن عباس (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : الذكر.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ(٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

يقول تعالى لرسوله (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) يا محمد ، بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي قبل ذلك ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله ، وقد فعلت ما أمرت به (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي حسابهم وجزاؤهم ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٦] ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

٤٠٥

مِنْ أَطْرافِها) قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأرض بعد الأرض (١) ، وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية (٢).

وقال مجاهد وعكرمة : ننقصها من أطرافها ، قال : خرابها. وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين. وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها. وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض. وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك (٣) ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات (٤) ، وكذا قال عكرمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه ، ولكن هو الموت. وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها ، وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء ، وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان ، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق ، أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه : [الطويل]

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها

متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها

وإن أبى عاد في أكنافها التلف

والقول الأول أولى ، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية ، كقوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) الآية ، وهذا اختيار ابن جرير.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢)

يقول تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) برسلهم ، وأرادوا إخراجهم من بلادهم ، فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين ، كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] ، وقوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٠ ـ ٥٢] الآيتين. وقوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله وسيعلم الكافر ، والقراءة الأخرى (الْكُفَّارُ ، لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل ، كلا ، بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٦ ، ٤٠٧.

(٣) الحش : البستان ، وحيث يقضي الإنسان حاجته.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٧.

٤٠٦

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

يقول تعالى : يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : (لَسْتَ مُرْسَلاً) أي ما أرسلك الله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة ، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان ، وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ، قال مجاهد (١) ، وهذا القول غريب ، لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال : هم من اليهود والنصارى (٢) ، وقال قتادة : منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري (٣) ، وقال مجاهد في رواية عنه : هو الله تعالى ، وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول : هي مكية ، وكان يقرؤها (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ويقول : من عند الله (٤) ، وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.

وقد روى ابن جرير (٥) من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، ثم قال : لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات ، قلت ، وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا ، عن سليمان بن أرقم ، وهو ضعيف ، عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا كذلك ولا يثبت ، والله أعلم.

والصحيح في هذا أن (وَمَنْ عِنْدَهُ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٧] الآية : وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] الآية ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة.

قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل : حدثنا سليمان بن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤١١.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤١٢.

٤٠٧

أحمد الطبراني ، حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود : إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيدا ، فانطلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة ، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى والناس حوله ، فقام مع الناس ، فلما نظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنت عبد الله بن سلام؟» قال قلت : نعم ، قال «ادن».

قال : فدنوت منه. قال : «أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام ، أما تجدني في التوراة رسول الله؟» فقلت له : انعت ربنا ، قال : فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] إلى آخرها ، فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة ، فكتم إسلامه ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها ، فألقيت نفسي ، فقالت أمي : لله أنت ، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة ، فقلت : والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من موسى بن عمران إذ بعث ، وهذا حديث غريب جدا. آخر تفسير سورة الرعد ، ولله الحمد والمنة.

٤٠٨

سورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلنا إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] الآية. وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الحديد : ٩٠] الآية.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) ، أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، (الْحَمِيدِ) أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره. وقوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قرأ بعضهم مستأنفا مرفوعا وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٥٨] الآية.

وقوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك ، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا ، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهي اتباع الرسل (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة عائلة ، وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها ، ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق ، لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.

٤٠٩

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ، ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم ، كما روى الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال : قال مجاهد عن أبي ذر : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبعث الله عزوجل نبيا إلا بلغة قومه». وقوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم ، يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى الحق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، (الْحَكِيمُ) في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك.

وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم ، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم ، واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (٢) وله شواهد من وجوه كثيرة. وقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨].

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم ، تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا ، قال مجاهد : هي التسع الآيات (٣) (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) أي أمرناه قائلين له (أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم ، قال ذلك مجاهد (٤) وقتادة وغير واحد.

__________________

(١) المسند ٥ / ١٥٨.

(٢) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥ ، والترمذي في السير باب ٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

٤١٠

وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : بنعم الله (١) ، ورواه ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ، ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار ، أي في الضراء شكور أي في السراء ، كما قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر (٣). وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له» (٤).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم ، إذ أنجاهم من آل فرعون ، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال ، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ، ويتركون إناثهم ، فأنقذهم الله من ذلك ، وهذه نعمة عظيمة ، ولهذا قال : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك ، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل : وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل (بَلاءٌ) أي اختبار عظيم ، ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا ، والله أعلم ، كقوله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ١٦٨]. وقوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه ، كقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ١٦٢].

وقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها ، (وَلَئِنْ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٢٢.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

(٤) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣.

٤١١

كَفَرْتُمْ) أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها ، وقد جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (١).

وفي المسند أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مر به سائل فأعطاه تمرة ، فسخطها ولم يقبلها ، ثم مر به آخر فأعطاه إياها ، فقبلها وقال : تمرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر له بأربعين درهما ، أو كما قال : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أسود ، حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس ، قال : أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها أو وحش بها ـ قال ـ : وأتاه آخر فأمر له بتمرة ، فقال: سبحان الله تمرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال للجارية : «اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها» تفرد به الإمام أحمد ، وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبان وأحمد ويعقوب بن سفيان. وقال ابن معين : صالح. وقال أبو زرعة : لا بأس به. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، ليس بالمتين. وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه ، وعن أحمد أيضا أنه قال : روى أحاديث منكرة. وقال أبو داود : ليس بذاك وضعفه الدار قطني. وقال ابن عدي : لا بأس به ممن يكتب حديثه.

وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي هو غني عن شكر عباده ، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره ، كقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] الآية. وقوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن : ٦]. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» (٣) فسبحانه وتعالى الغني الحميد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩)

قال ابن جرير (٤) : هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢.

(٢) المسند ٣ / ١٥٤ ، ١٥٥.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٦٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٢١.

٤١٢

الأمم المكذبة بالرسل ، وفيما قال ابن جرير نظر ، والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم ، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم ، وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عزوجل (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات ، وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) كذب النسابون (١). وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان.

وقوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) اختلف المفسرون في معناه ، قيل : معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله عزوجل. وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم. وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل. وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة : ومعناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم. قال ابن جرير (٢) : وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة ، وقال الشاعر : [الطويل]

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنني عن سنبس لست أرغب (٣)

يريد أرغب بها. قلت : ويؤيد مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) فكأن هذا ـ والله أعلم ـ تفسير لمعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ). وقال سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : عضوا عليها غيظا (٤). وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة بن يريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا (٥). وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير (٦) مختارا له بقوله تعالى عن المنافقين (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩]. وقال العوفي عن ابن عباس : لما سمعوا كلام الله عجبوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٢١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٣.

(٣) البيت بلا نسبة في لسان العرب (ذرأ) (فيا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٣ ، ٥٨٣ ، وتاج العروس (فيا) ، وتفسير الطبري ٧ / ٤٢٣. وفي اللسان وتاج العروس وتهذيب اللغة. «عن عبيد ورهطه» بدل «عن لقيط ورهطه».

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

(٦) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

٤١٣

ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به الآية ، يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ، فإن عندنا فيه شكا قويا.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)

يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة ، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له ، قالت الرسل : (أَفِي اللهِ شَكٌ) وهذا يحتمل شيئين.

[أحدهما] أفي وجوده شك ، فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به ، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما ، فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا الله هو خالق كل شيء وإلاهه ومليكه.

[والمعنى الثاني] في قولهم : (أَفِي اللهِ شَكٌ) أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك ، وهو الخالق لجميع الموجودات ، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى.

وقالت لهم رسلهم : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي في الدار الآخرة (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي في الدنيا كما قال تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود : ٣] الآية ، فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول ، وحاصل ما قالوه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة ، (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي خارق نقترحه عليكم (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي بالرسالة والنبوة (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) على وفق ما سألتم (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

٤١٤

الْمُؤْمِنُونَ) أي في جميع أمورهم ، ثم قالت الرسل : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي وما يمنعنا من التوكل عليه ، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي من الكلام السيئ والأفعال السخيفة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ(١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧)

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) [الأعراف : ٨٨] الآية. وكما قال قوم لوط : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] الآية ، وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦].

وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره ، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارا وأعوانا وجندا يقاتلون في سبيل الله تعالى ، ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته ، ومكن له فيها ، وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان.

ولهذا قال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وكما قال : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] ، وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] الآية ، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، وقال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧] وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ

٤١٥

الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧] وقال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

وقوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) أي استنصرت الرسل ربها على قومها ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ويحتمل أن يكون هذا مرادا وهذا مرادا ، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنصر ، وقال الله تعالى للمشركين : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [الأنفال : ١٩] الآية ، والله أعلم ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق ، كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) [ق : ٢٤ ـ ٢٦] وفي الحديث «إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادي الخلائق ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد» (١) الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) وراء هنا بمعنى أمام ، كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك ، أي من وراء الجبار العنيد جهنم ، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد ، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق ، فهذا حار في غاية الحرارة ، وهذا بارد في غاية البرد والنتن ، كما قال : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٧ ـ ٥٨] وقال مجاهد وعكرمة : الصديد من القيح والدم. وقال قتادة : هو ما يسيل من لحمه وجلده ، وفي رواية عنه : الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قلت يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال «صديد أهل النار» (٢). وفي رواية «عصارة أهل النار» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) قال : «يقرب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ويقول : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الآية ، وهكذا رواه ابن جرير (٥) من

__________________

(١) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٦٠.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٧١.

(٤) المسند ٥ / ٢٦٥.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٩.

٤١٦

حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.

وقوله : (يَتَجَرَّعُهُ) أي يتغصصه ويتكرهه ، أي يشربه قهرا وقسرا لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) [الحج : ٢١] (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره ، وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي من أمامه وخلفه ، وفي رواية : وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه ومن تحت أرجله ، ومن سائر أعضاء جسده.

وقال الضحاك عن ابن عباس (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال ، ولهذا قال تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ).

وقوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ ، أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله ، وأدهى وأمر ، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٥ ـ ٦٨] فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى جحيم ، عياذا بالله من ذلك.

وهكذا قال تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤] ، وقال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٤٣ ـ ٥٠] ، وقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤١ ـ ٤٤] ، وقال تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٥ ـ ٥٨] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه ، وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عزوجل جزاء وفاقا

٤١٧

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨)

هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها ، فقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ) أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدوا شيئا ، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة.

(فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية ، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم ، كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، وقوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧] ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٦٤] ، وقوله في هذه الآية (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة ، حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠)

يقول تعالى مخبرا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس ، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها ، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات ، والحركات المختلفات ، والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد ، وبراري وصحارى ، وقفار وبحار ، وأشجار ونبات ، وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ

٤١٨

مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٧٧ ـ ٨٣].

وقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر : ١٥ ـ ١٧] وقال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء : ١٣٢].

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١)

يقول تعالى : (وَبَرَزُوا) أي برزت الخلائق كلها برها وفاجرها لله الواحد القهار ، أي اجتمعوا له في براز من الأرض وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل قالوا لهم : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ، فقالت القادة لهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عزوجل ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا : إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك ، فعند ذلك قالوا (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (١) الآية.

قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى : (وَإِذْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٣٣.

٤١٩

يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [غافر : ٤٧ ـ ٤٨] وقال تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩] ، وقال تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٨].

وأما تخاصمهم في المحشر ، فقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣١ ـ ٣٣].

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣)

يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم ، وغبنا إلى غبنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ، فقال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) أي على ألسنة رسله ، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١٢٠].

ثم قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه (فَلا تَلُومُونِي) اليوم (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ،

٤٢٠