تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

الأنصار ، ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل أحدهما يخاطبه ، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه الله تعالى منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته ، وأما عامر بن الطفيل ، فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة ، فجعل يقول : يا آل عامر غدة كغدة البكر ، وموت في بيت سلولية (١) ، حتى ماتا لعنهما الله ، وأنزل الله في مثل ذلك (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) ، وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه : [المنسرح]

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السّماك والأسد (٢)

فجّعني الرعد والصواعق باك

فارس يوم الكريهة النّجد

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مسعدة بن سعيد العطار ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب ، وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه ، فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم». قال عامر بن الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس ذلك لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل» قال : أنا الآن في أعنة خيل نجد ، اجعل لي الوبر ولك المدر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا» ، فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمنعك الله» ، فلما خرج أربد وعامر ، قال عامر : يا أربد ، أنا أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف ، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب ، فنعطيهم الدية. قال أربد : أفعل ، فأقبلا راجعين إليه ، فقال عامر : يا محمد قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلسا إلى الجدار ، ووقف معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه ، وسل أربد السيف ، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف ، فلم يستطع سل السيف ، فأبطأ أربد على عامر بالضرب.

فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما يصنع ، فانصرف عنهما ، فلما خرج عامر وأربد من

__________________

(١) أغدة كغدة البعير ، وموت في بيت سلولية : مثل يضرب في خصلتين إحداهما شر من الأخرى. والبكر : ولد الناقة ، والغدة : طاعون الإبل ، وقلما تسلم منه ، وأما سلول : قبيلة من أدنى العرب وأذلهم ، وكان عامر قد نزل بيت امرأة من سلول ، فضرب هذا المثل عندهم.

(٢) البيتان للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ١٥٨ ، وتفسير الطبري ٧ / ٣٥٦ ، والبيت الثاني في لسان العرب (فجع) ، (صعق) ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٨٥ ، وتاج العروس (فجع)

٣٨١

عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا ، فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ، فقالا : اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله ، فقال عامر : من هذا يا سعد؟ قال : هذا أسيد بن حضير الكتائب ، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم ، أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته ، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سلولية ، ترغب أن يموت في بيتها ، ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا ، فأنزل الله فيهما (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ـ إلى قوله ـ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر أربد وما قتله به ، فقال (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية.

وقوله (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي يشكون في عظمته ، وأنه لا إله إلا هو ، (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قال ابن جرير : شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه ، وعتا وتمادى في كفره ، وهذه الآية شبيهة بقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل : ٥٠ ـ ٥١] ، وعن علي رضي الله عنه (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد الأخذ ، وقال مجاهد : شديد القوة.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) قال : التوحيد ، رواه ابن جرير(١). وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) الآية ، أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله (كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ). قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا بيده ، فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد (كَباسِطِ كَفَّيْهِ) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبدا ، وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه علي شيء ، كما قال الشاعر : [الطويل]

فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم

كقابض ماء لم تسقه أنامله (٢)

وقال الآخر : [الطويل]

فأصبحت مما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد (٣)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٦٤.

(٢) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي في لسان العرب (وسق) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٠٩ ، وتاج العروس (وسق). وبلا نسبة في تفسير الطبري ٧ / ٣٦٤ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٣٦ ، وأساس البلاغة (وسق)

(٣) البيت بلا نسبة في تفسير البحر المحيط ٥ / ٣٦٨ ، وتفسير الطبري ٧ / ٣٦٤ ، وروح المعاني ، للآلوسي ٧ / ١٢١.

٣٨٢

ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضا وإما متناولا له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلا للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره ، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥)

يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه ، الذي قهر كل شيء ، ودان له كل شيء ، ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين وكرها على الكافرين (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ) أي البكر (وَالْآصالِ) وهو جمع أصيل ، وهو آخر النهار ، كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨] الآية.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ، لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض ، وهو ربها ومدبرها ، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم ، وأولئك الآلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا ، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة ، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ، ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء ، ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له ، عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك ، وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) [النجم : ٢٦] الآية ، وقال (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥] فإذا كان الجميع عبيدا ، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل

٣٨٣

ولا برهان ، بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع ، ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم ، تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله ، فكذبوهم وخالفوهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أي أخذ كل واد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء ، وهذا صغير وسع بقدره ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع علما كثيرا ، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه ، هذا مثل.

وقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) الآية ، هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية ، أي ليجعل حلية نحاس أو حديد ، فيجعل متاعا ، فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي إذا اجتمعا ، لا ثبات للباطل ولا دوام له ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ، ونحوهما مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل ، ولهذا قال : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ، ويذهب في جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر ، وتنسفه الرياح ، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس ، يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء ، وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ، ولهذا قال : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقال بعض السلف : كنت إذا قرأت مثلا من القرآن فلم أفهمه ، بكيت على نفسي ، لأن الله تعالى يقول (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الآية ، هذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ) وهو الشك ، (فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٠.

٣٨٤

وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت ، فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له وبقي ، كما بقي ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار ، فتأكل خبثه ، ويخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحل الباطل ، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق (١) ، وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف.

وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين : ناريا ومائيا وهما قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [البقرة : ١٧] الآية ، ثم قال (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة : ١٩] الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين [أحدهما] قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ، ولهذا جاء في الصحيحين : فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال : ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا(٢).

ثم قال تعالى في المثل الآخر : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) الآية ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، ورعوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (٣) فهذا مثل مائي.

وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثلي ومثلكم كمثل

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٠.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.

(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٢٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٩.

(٤) المسند ٢ / ٣١٢.

٣٨٥

رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال ـ : فذلكم مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني فتقتحمون فيها» (١) وأخرجاه في الصحيحين أيضا ، فهذا مثل ناري.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨)

يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي أطاعوا الله ورسوله ، وانقادوا لأوامره ، وصدقوا أخباره الماضية والآتية ، فلهم (الْحُسْنى) وهو الجزاء الحسن ، كقوله تعالى مخبرا عن ذي القرنين أنه قال : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) [الكهف : ٨٧ ـ ٨٨] ، وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

وقوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) أي لم يطيعوا الله ، (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي في الدار الآخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به ، ولكن لا يقبل منهم ، لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) أي في الدار الآخرة. أي يناقشون على النقير (٢) والقطمير (٣) ، والجليل والحقير ، ومن نوقش الحساب عذب ، ولهذا قال (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩)

يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد (مِنْ رَبِّكَ) هو الحق الذي لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا لبس فيه ، ولا اختلاف فيه ، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا ، لا يضاد شيء منه شيئا آخر ، فأخباره كلها حق ، وأوامره ونواهيه عدل ، كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي صدقا في الإخبار ، وعدلا في الطلب ، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وقال في هذه الآية الكريمة : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي أفهذا كهذا؟ لا استواء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٦ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٧ ، ١٩.

(٢) النقير : النكتة التي في النواة.

(٣) القطمير : شق النواة : أي يناقشون في كل الأمور صغيرها وكبيرها.

٣٨٦

وقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة ، جعلنا الله منهم.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

يقول تعالى مخبرا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار ، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من صلة الأرحام والإحسان إليهم ، وإلى الفقراء والمحاويج ، وبذل المعروف ، (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، ويراقبون الله في ذلك ، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة ، فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم ، وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي عن المحارم والمآثم ، ففطموا أنفسهم عنها لله عزوجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها ، على الوجه الشرعي المرضي (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، آناء الليل وأطراف النهار (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : ٣٤ ـ ٣٥] ، ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار.

ثم فسر ذلك بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) والعدن الإقامة ، أي جنات إقامة يخلدون فيها ، وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له عدن ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حبرة ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.

وقال الضحاك في قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها ، رواهما ابن جرير (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٦ ، ٣٧٧.

٣٨٧

وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [طور : ٢١] الآية.

وقوله (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا ومن هاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين ، مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا معروف بن سويد الحراني عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ـ قال ـ : فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

رواه أبو القاسم الطبراني عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب. وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عزوجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

وقال عبد الله بن المبارك عن بقية بن الوليد : حدثنا أرطاة بن المنذر ، سمعت رجلا من

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٨.

٣٨٨

مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا ، فيقول أقربهم للمؤمن : ائذنوا له ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا له ، حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف ، رواه ابن جرير (١). ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الإلهاني قال : سمعت أبا أمامة فذكر نحوه. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥)

هذا حال الأشقياء وصفاتهم ، وذكر ما لهم في الآخرة ، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا ، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) كما ثبت في الحديث «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» (٢). وفي رواية «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» (٣) ، ولهذا قال (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وهي الإبعاد عن الرحمة ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي سوء العاقبة والمآل ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

وقال أبو العالية في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) الآية ، قال : هي ست خصال في المنافقين ، إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ) (٢٦)

يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ، ويقتر على من يشاء ، لما له في ذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٨.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٦.

٣٨٩

من الحكمة والعدل ، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا ، كما قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة ، فقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ، كما قال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٧٧]. وقال : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٦ ـ ١٧].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد ، قالا : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة ، رواه مسلم (٢) في صحيحه. وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بجدي أسك ميت ، والأسك الصغير الأذنين ، فقال : «والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه» (٣).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩)

يخبر تعالى عن قيل المشركين (لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، كقولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة ، وأن الله قادر على إجابة ما سألوا ، وفي الحديث إن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا ، وأن يجري لهم ينبوعا ، وأن يزيح الجبال من حول مكة ، فيصير مكانها مروج وبساتين : إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك ، فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : «بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة» (٤).

ولهذا قال لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي هو المضل والهادي سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم إلى سؤالهم ، فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه ، كما قال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] وقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٢) كتاب الجنة حديث ٥٥.

(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢ ، ومالك في الطهارة حديث ٧٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٦٥.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٤٢.

٣٩٠

وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١١١] ، ولهذا قال : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي ويهدي إليه من أناب إلى الله ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي تطيب وتركن إلى جانب الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرا ، ولهذا قال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي هو حقيق بذلك.

وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فرح وقرة عين. وقال عكرمة : نعم ما لهم. وقال الضحاك : غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي : خير لهم. وقال قتادة : هي كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك ، أي أصبت خيرا. وقال في رواية : طوبى لهم حسنى لهم ، (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي مرجع ، وهذه الأقوال شيء واحد ، لا منافاة بينها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس (طُوبى لَهُمْ) قال : هي أرض الجنة بالحبشية (١) ، وقال سعيد بن مسجوح : طوبى اسم الجنة بالهندية (٢) ، وكذا روى السدي عن عكرمة : طوبى لهم هي الجنة ، وبه قال مجاهد. وقال العوفي عن ابن عباس : لما خلق الله الجنة وفرغ منها ، قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) وذلك حين أعجبته(٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب عن جعفر ، عن شهر بن حوشب قال : طوبى شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها ، أغصانها من وراء سور الجنة ، وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث بن سليمان وأبي إسحاق السبيعي ، وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها. وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة ، وأمرها أن تمتد ، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى ، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن. وقد قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا «طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» (٥).

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت عبد الله بن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا قال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢. وفيه : سعيد بن مشجوج ، بدل : سعيد بن مسجوح.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٤.

(٦) المسند ٣ / ٧١.

٣٩١

يا رسول الله : طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني» قال له رجل : وما طوبى؟ قال : «شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». وروى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق بن راهويه ، عن مغيرة المخزومي عن وهيب عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (١) قال : فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي ، فقال : حدثني أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها»(٢).

وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (٣).

وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا فليح عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٤) [الواقعة : ٣٠]. أخرجاه في الصحيحين.

وفي لفظ لأحمد (٥) أيضا : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج ، قالا : حدثنا شعبة : سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة سنة ـ هي شجرة الخلد». وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر سدرة المنتهى ، فقال : «يسير في ظل الغصن منها الراكب مائة سنة ـ أو قال ـ يستظل في الفنن (٦) منها مائة راكب ، فيها فراش (٧) الذهب كأن ثمرها القلال» (٨) رواه الترمذي(٩).

وقال إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام الأسود

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٧.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الجنة حديث ٨.

(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، باب ١.

(٤) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، في الترجمة ، وأحمد في المسند ٣ / ١٦٤.

(٥) المسند ٢ / ٤٥٥.

(٦) الفنن : الغصن.

(٧) الفراش : واحدة فراشة ، وهي التي تطير وتتهافت في السراج.

(٨) القلال : جمع قله : وهي إناء للشرب ، كالجرة الكبيرة.

(٩) كتاب الجنة باب ٩.

٣٩٢

قال : سمعت أبا أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى ، فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء ، إن شاء أبيض وإن شاء أحمر ، وإن شاء أصفر ، وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن».

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : طوبى شجرة في الجنة ، يقول الله لها : تفتقي لعبدي عما شاء ، فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها ، وعن الإبل بأزمتها ، وعما شاء من الكسوة.

وقد روى ابن جرير (٢) عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا ، قال وهب رحمه‌الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، زهرها رياط (٣) ، وورقها برود (٤) ، وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة ، بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح حسنا ، ووبرها كخز المرعزّى (٥) من لينه ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب ، وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها يقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال : فيركبونها فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش ، نجبا من غير مهنة (٦) ، يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى ، ولا برك رحلة برك الأخرى ، حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه.

قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والإكرام ، قال : فيقول تعالى عند ذلك : أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري ، قال : فيقولون : ربنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك حق قدرك ، فأذن لنا في السجود قدامك. قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، فإن لكل رجل منكم أمنيته ، فيسألونه

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٣.

(٣) الرياط : جمع ريطة ، وهي كل ثوب لين رقيق.

(٤) البرود : جمع برد ، وهو الموشى من الثياب.

(٥) المرعزّى ، بكسر الميم ، وسكون الراء ، وكسر العين ، وفتح الزاي المشددة : هو الزغب الذي تحت شعر العنز ، وهو ألين الصوف.

(٦) المهنة : جمع ماهن ، وهو الخادم.

٣٩٣

حتى إن أقصرهم أمنية ليقول : ربي تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها رب فآتني مثل كل شيء كانوا فيها من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك أمنيتك ، ولقد سألت دون منزلتك ، هذا لك مني ، وسأتحفك بمنزلتي لأنه ليس في عطائي نكد ولا تصريد(١).

قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ، ولم يخطر لهم على بال ، قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة ، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة ، على كل سرير منها قبة من ذهب ، مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة ، متظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين ، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة ، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ، ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما ، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة ، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ، ويرى هو لهما مثل ذلك ويدخل إليهما فيحييانه ، ويقبلانه ، ويتعلقان به ، ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلة التي أعدت له.

وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه ، وزاد : فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية من الدر والمرجان ، أبوابها من ذهب ، وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس وإستبرق ، ومنابرها من نور يفور من أبوابها ، وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها ، فلو لا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض ، وما كان فيها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر ، وما كان فيها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر ، وما كان فيها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر ، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من الجوهر ، وشرفها قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان.

فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم ، قربت لهم براذين من ياقوت أبيض ، منفوخ فيها الروح ، تجنبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة (٢) برذون من تلك البراذين ، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سروجها سرر موضونة (٣) مفروشة بالسندس والإستبرق ، فانطلقت بهم تلك

__________________

(١) التصريد : تقليل العطاء.

(٢) الحكمة : ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه.

(٣) السرر الموضونة : أي المنسوجة بالدر والجواهر.

٣٩٤

البراذين تزفّ (١) بهم ببطن رياض الجنة ، فلما انتهوا إلى منازلهم ، وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم ، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم ، وما سألوا وتمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان : جنتان ذواتا أفنان ، وجنتان مدهامتان ، وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم ، قال لهم ربهم : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟.

قالوا : نعم وربنا. قال : هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا : ربنا رضينا فارض عنا. قال : برضاي عنكم حللتم داري ، ونظرتم إلى وجهي ، وصافحتكم ملائكتي ، فهنيئا لكم ، (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ليس فيه تنغيص ولا تصريد ، فعند ذلك قالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، وأدخلنا دار المقامة من فضله ، لا يمسنا فيها نصب ، ولا يمسنا فيها لغوب ، إن ربنا لغفور شكور ، وهذا سياق غريب ، وأثر عجيب ، ولبعضه شواهد.

ففي الصحيحين أن الله تعالى يقول لذلك الرجل يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة : تمنّ ، فيتمنى ، حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى : تمن من كذا ، وتمن من كذا ، يذكره ، ثم يقول : ذلك لك وعشرة أمثاله (٢).

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر» (٣). الحديث بطوله ، وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، لها ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة ، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة ، فيبعث ابن أربعين سنة ، رواه ابن أبي حاتم.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي تبلغهم رسالة الله إليهم ، كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله ، وقد كذب الرسل من قبلك بهم أسوة ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك ، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم ، فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين ، قال الله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ

__________________

(١) تزفّ بهم : أي تسرع بهم.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩ ، ٣٠١ ، ٣٠٩.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٦٠.

٣٩٥

مِنْ قَبْلِكَ) [النحل : ٦٣] الآية ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤] أي كيف نصرناهم ، وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به ، لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم ، ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم ، قاله قتادة ، والحديث في صحيح البخاري. وقد قال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» (١).

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هذا الذي تكفرون به ، أنا مؤمن به معترف ، مقر له بالربوبية والألوهية ، هو ربي لا إله إلا هو (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي في جميع أموري ، (وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي إليه أرجع وأنيب ، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق ، أو تكلم به الموتى في قبورهم ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به ، جاحدون له (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي مرجع الأمور كلها إلى الله عزوجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، ومن يهد الله فما له من مضل ، وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة ، لأنه مشتق من الجميع.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه. قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خففت على داود القراءة فكان يأمر بدابته أن. تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه» انفرد

__________________

(١) أخرجه مسلم في الأدب حديث ٢.

(٢) المسند ٢ / ٣١٤.

٣٩٦

بإخراجه البخاري (١). والمراد بالقرآن هو الزبور.

وقوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا ، أو يتبينوا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس. من هذا القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢) ، معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان عن عطية العوفي قال : قلت له : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآية ، قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع ، فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه ، فأنزل الله هذه الآية ، قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا روى ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري وغير واحد في سبب نزول هذه الآية ، والله أعلم. وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم (٣).

وقوله (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) قال ابن عباس : أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضا. وقال غير واحد من السلف في قوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يعلم الذين آمنوا ، وقرأ آخرون : أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. وقال أبو العالية : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا. وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ، ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٧] وقال (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤]. قال قتادة عن الحسن (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة(٤) وهذا هو الظاهر من السياق.

__________________

(١) كتاب الأنبياء باب ٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١ ، وفضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩١.

٣٩٧

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي عن قتادة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) قال : سرية ، (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) قال «فتح مكة» ، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في رواية ، وقال العوفي عن ابن عباس (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) قال : عذاب من السماء ينزل عليهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) يعني نزول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم وقتاله إياهم (١) ، وكذا قال مجاهد وقتادة. وقال عكرمة في رواية عن ابن عباس (قارِعَةٌ) أي نكبة. وكلهم قال (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) يعني فتح مكة. وقال الحسن البصري : يوم القيامة ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) [إبراهيم : ٤٧].

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي فلك فيهم أسوة (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي أنظرتهم وأجلتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أخذة رابية ، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم وأمليت لهم ، كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨] وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢) [هود : ١٠٢].

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

يقول تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ، ولا يخفى عليه خافية (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] ، وقال تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] ، وقال: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] ، وقال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] ، وقال : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، وقال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤] أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها ، لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٠.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢.

٣٩٨

ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ، ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها؟

وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي أعلمونا بهم ، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا ، فإنهم لا حقيقة لهم ، ولهذا قال : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي لا وجود له ، لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها ، لأنه لا تخفى عليه خافية (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) قال مجاهد : بظن من القول. وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول ، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) [النجم : ٢٣] قال مجاهد : قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ) [فصلت : ٢٥] الآية ، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه ، وأنه حق دعوا إليه ، وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل ، ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه ، صدوا به عن سبيل الله ، ولهذا قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) كما قال (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وقال (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [النحل : ٣٧].

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار ، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا (أَشَقُ) أي من هذا بكثير ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتلاعنين : «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» (١) وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، فإن عذاب الدنيا له انقضاء ، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا ، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته ، كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر : ٢٥ ـ ٢٦].

وقال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [الفرقان : ١١ ـ]

__________________

(١) أخرجه مسلم في اللعان حديث ٤ ، وأبو داود في الطلاق باب ٢٧.

٣٩٩

[١٥] ، ولهذا قرن هذا بقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفتها ونعتها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي سارحة في أرجائها وجوانبها ، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا ، أي يصرفونها كيف شاؤوا وأين شاؤوا ، كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ) [محمد : ١٥] الآية.

وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء ، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه قالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت (١) ، فقال : «إني رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» (٢).

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا أبو عقيل عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدمنا ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة ، قال له أبي بن كعب : يا رسول الله ، صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه ، فقال : «إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» (٣). وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهدا لبعضه.

وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابيا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنة ، فقال : فيها عنب؟ قال: «نعم». قال : فما عظم العنقود؟ قال : «مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر» ، رواه الإمام أحمد (٤).

وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور ، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى». وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأكل أهل الجنة ويشربون ، ولا يتمخطون ولا يتغوطون ، ولا يبولون ، طعامهم جشاء كريح المسك ، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» رواه مسلم (٥).

وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة ، سمعت زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم : تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟

__________________

(١) تكعكع : أي توقف وأحجم.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٩١ ، ومسلم في الكسوف حديث ١٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٩٨ ، ٣٥٨.

(٣) أخرجه مسلم في الكسوف حديث ١٨.

(٤) المسند ٤ / ١٨٤.

(٥) كتاب الجنة حديث ١٥ ـ ١٩.

٤٠٠