تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل كذلك (١).

وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ذلك الملك ، يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبريل عليه‌السلام فقال «هل تعرف هذا»؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان.

وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه‌الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحرض على القتال.

وقوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي من وسوسة أو خاطر سيئ وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) فهذا زينة الظاهر (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) وهو شجاعة الظاهر ، والله أعلم.

وقوله (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق : وازروهم. وقال غيره : قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٩٣.

٢١

الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه.

وقوله (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى (فَوْقَ الْأَعْناقِ) فقيل معناه اضربوا الرؤوس ، قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) [محمد: ٤] وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق» واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام ، قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول «نفلّق هاما» فيقول أبو بكر : [الطويل]

من رجال أعزة علينا

وهم كانوا أعق وأظلما (١)

فيبتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به ، وقوله (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) وقال ابن جرير (٢) :

معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم ، والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر : [الطويل]

ألا ليتني قطعت مني بنانة

ولاقيته في البيت يقظان حاذرا (٣)

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير : وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل ، وقال الأوزاعي في قوله تعالى : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم

__________________

(١) البيت للحصين بن الحمام المري في الشعر والشعراء ٢ / ٦٤٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٩٧.

(٣) البيت لعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٢٥ ، وتاج العروس (بنن) ، وتفسير الطبري ٦ / ١٩٧.

٢٢

ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس : فذكر قصة بدر إلى أن قال : فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) الآية ، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلا ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبرا فوفى ذلك سبعين يعني قتيلا.

ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوهما فساروا في شق ، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق ، ومأخوذ أيضا من شق العصا وهو جعلها فرقتين (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي تفروا وتتركوا أصحابكم (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي ، وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة ، فبتنا ، ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال «من القوم؟» فقلنا نحن الفرارون فقال «لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» قال فأتيناه حتى قبلنا يده (٢).

__________________

(١) المسند ٢ / ٧٠ ، ٨٦ ، ١٠٠ ، ١١١.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦ ، والترمذي في الجهاد باب ٣٦.

٢٣

وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به ، وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ).

قال أهل العلم معنى قوله «العكارون» أي العطاقون ، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال لما قتل أبو عبيد قال عمر : أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم ، وقال عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا؟ فقال إن الفئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت إن الله يقول : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) الآية ، فقال إنما أنزلت هذه الآية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها ، وقال الضحاك في قوله (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) المتحيز الفار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله وما هن؟ قال «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (١) وله شواهد من وجوه أخر ، ولهذا قال تعالى : (فَقَدْ باءَ) أي رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ) أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت يا رسول الله أما اثنتان فو الله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوصايا باب ٢٣ ، والطب باب ٤٨ ، والحدود باب ٤٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٤ ، وأبو داود في الوصايا باب ١٠ ، والنسائي في الوصايا باب ١٢.

(٢) المسند ٥ / ٢٢٤.

٢٤

وكرهت الموت ، والصدقة فو الله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هنّ رسل أهلي وحمولتهم ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده ثم قال : «فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا؟» قلت يا رسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن ، هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» وهذا أيضا حديث غريب جدا ، وقال الطبراني أيضا حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر الشني حدثني عمرو بن مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف» (١) وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه سواه ، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم ، وقيل على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وقيل المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم ، وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»(٢).

ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه ، وقال ابن المبارك عن المبارك أيضا عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ـ إلى قوله ـ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ٢٧].

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٦ ، والترمذي في الدعوات باب ١١٧.

(٢) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠ ، ٣٢.

٢٥

وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) إنما أنزلت في أهل بدر (١) ، وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير ، والله أعلم.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨)

يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه ولهذا قال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم. أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران : ١٢٣] الآية ، وقال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة (٢) والعدد ، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩].

ثم قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال : «شاهت الوجوه» ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت.

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه يعني يوم بدر فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال له جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين (٣).

وقال السدي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر «أعطني حصبا من الأرض» فناوله حصبا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦.

(٢) اللأمة : هي الدرع ، والسلاح.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٤.

٢٦

شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١). وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه» فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال «شاهت الوجوه» فانهزموا ، وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنه أنزلت في رمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا.

وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الرمية فانهزمنا ، غريب من هذا الوجه ، وهاهنا قولان آخران غريبان جدا.

[أحدهما] قال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة وقال «جيئوني بقوس غيرها» فجاؤوه بقوس كبداء فرمى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عزوجل (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم والله أعلم.

[والثاني] روى ابن جرير أيضا والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا : أنزلت في رمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته فخدشه في ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٤) لم أجد هذا الأثر والذي يليه في تفسير الطبري.

٢٧

الأليم موصولا بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الآخرة ، وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته (١) وهكذا فسره ابن جرير أيضا ، وفي الحديث «وكل بلاء حسن أبلانا» وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب ، وقوله (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم وكل ما لهم في تبار ودمار ، ولله الحمد والمنة.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

يقول تعالى للكفار : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم كما قال محمد بن إسحاق وغيره عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة. وكان ذلك استفتاحا منه فنزلت (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إلى آخر الآية.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد يعني ابن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح ، وأخرجه النسائي في التفسير من حديث صالح بن كيسان عن الزهري به ، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد ، وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين فقال الله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، وقوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي في الدنيا والآخرة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) كقوله (وَإِنْ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٦٨ ، وتفسير الطبري ٦ / ٢٠٤.

(٢) المسند ٥ / ٤٣١.

٢٨

عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨] معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة. وقال السدي (وَإِنْ تَعُودُوا) أي إلى الاستفتاح (نَعُدْ) أي إلى الفتح لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والنصر له وتظفيره على أعدائه والأول أقوى (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ولهذا قال (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي بعد ما علمتم ما دعاكم إليه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) قيل : المراد المشركون واختاره ابن جرير ، وقال ابن إسحاق هم المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك (١).

ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة فقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُ) أي عن سماع الحق (الْبُكْمُ) عن فهمه ولهذا قال (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] الآية ، وقال في الآية الأخرى (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

وقيل المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش روي عن ابن عباس ومجاهد واختاره ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق هم المنافقون ، قلت : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح ، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح لو فرض أن لهم فهما فقال (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأفهمهم وتقدير الكلام ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي أفهمهم (لَتَوَلَّوْا) عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٩.

٢٩

الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

قال البخاري (١) : (اسْتَجِيبُوا) أجيبوا (لِما يُحْيِيكُمْ) لما يصلحكم. حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال «ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ـ ثم قال ـ لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج فذكرت له. وقال معاذ : حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني.

هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة.

وقال مجاهد في قوله (لِما يُحْيِيكُمْ) قال للحق (٢) ، وقال قتادة (لِما يُحْيِيكُمْ) قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدي (لِما يُحْيِيكُمْ) ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر (٣) ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم (٤).

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ، قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان (٥) ، رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال صحيح ولم يخرجاه ، ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا ، ولا يصح لضعف إسناده والموقوف أصح ، وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي ، وفي رواية عن مجاهد في قوله (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي حتى يتركه لا يعقل (٦) ، وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه (٧). وقال قتادة هو كقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] (٨) وقد وردت الأحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢١١ ، ٢١٢.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢١٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢١٢.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٢١٣.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

(٨) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

٣٠

يناسب هذه الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال : فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : «نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها». وهكذا رواه الترمذي (٢) في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش ، واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن أنس ، ثم قال : حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.

حديث آخر : وقال الإمام أحمد (٣) في مسنده : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا. وهو مع ذلك على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول: حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» وكان يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال «والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه» (٥) وهكذا رواه النسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يونس حدثنا حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو بها «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالت : فقلت يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فقال «إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه».

__________________

(١) المسند ٣ / ١١٢.

(٢) كتاب القدر باب ٧.

(٣) المسند ٤ / ١٨٢.

(٤) المسند ٤ / ١٨٢ ، ٤١٨.

(٥) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٢.

(٦) المسند ٦ / ٩١.

٣١

حديث آخر قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أم سلمة تحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر في دعائه يقول «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالت فقلت يا رسول الله أو إنّ القلوب لتقلب؟ قال «نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عزوجل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب» قالت فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال «بلى قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني».

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة أخبرني أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف شاء» ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك» (٣) انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري به.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥)

يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد بن سعيد حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت ، وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث ، وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم عن الحسن عن الزبير نحو هذا.

وقد روى ابن جرير (٥) : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن قال ، قال الزبير لقد خوفنا بها يعني قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) المسند ٦ / ٣٠١ ، ٣٠٢.

(٢) المسند ٢ / ١٦٨ ، ١٧٣.

(٣) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٧.

(٤) المسند ١ / ١٦٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٢١٧.

٣٢

مِنْكُمْ خَاصَّةً) ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة وكذا رواه حميد عن الحسن عن الزبير رضي الله عنه وقال داود بن أبي هند عن الحسن في هذه الآية قال نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم ، وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وقد روي من غير وجه عن الزبير بن العوام ، وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) يعني أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب ، وهذا تفسير حسن جدا ، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد.

وقال ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة إن الله تعالى يقول (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن رواه ابن جرير (١) ، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد (٢) حيث قال : حدثنا أحمد بن الحجاج أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك ، أنبأنا سيف بن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يقول ، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله عزوجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» فيه رجل متهم ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم والله أعلم.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سليمان الهاشمي حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل عن حذيفة بن اليماني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ورواه عن أبي سعيد عن إسماعيل بن جعفر وقال «أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢١٧.

(٢) المسند ٤ / ١٩٢.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٨ ، ٣٨٩.

٣٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا رزين حبيب الجهني حدثني أبو الرقاد قال : خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) أيضا. حدثني يحيى بن سعيد عن زكريا حدثنا عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب يقول : وأومأ بإصبعيه إلى أذنيه يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها وأصاب بعضهم أعلاها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا : فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا (٣) ، انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم فرواه في الشركة والشهادات ، والترمذي في الفتن من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش عن عامر بن شراحيل الشعبي به.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسين حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أمّ سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده» فقلت يا رسول الله : أما فيهم أناس صالحون قال «بلى» قالت فكيف يصنع أولئك؟ قال «يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان».

حديث آخر قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حجاج بن محمد حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب» ورواه أبو داود (٦) عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق به.

وقال الإمام أحمد (٧) أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسحاق

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٩٠.

(٢) المسند ٤ / ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧٤.

(٣) أخرجه البخاري في الشركة باب ٦ ، والشهادات باب ٣٠ ، والترمذي في الفتن باب ١٢.

(٤) المسند ٦ / ٣٠٤.

(٥) المسند ٤ / ٣٦١.

(٦) كتاب الملاحم باب ١٧.

(٧) المسند ٤ / ٣٦٤ ، ٣٦٦.

٣٤

يحدث عن عبيد الله بن جرير ، عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب» ، ثم رواه أيضا عن وكيع عن إسرائيل ، وعن عبد الرزاق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم عن أبي إسحاق السبيعي به وأخرجه ابن ماجة (١) عن علي بن محمد عن وكيع به ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان حدثنا جامع بن أبي راشد عن منذر عن الحسن بن محمد عن امرأته عن عائشة تبلغ به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه» فقلت وفيهم أهل طاعة الله؟ قال : «نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله».

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم ، فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي ، كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره ، وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه‌الله في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ، قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨)

قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه

__________________

(١) كتاب الفتن باب ٢٠.

(٢) المسند ٦ / ٤١.

٣٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه ، أي إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله ، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله : إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال «يجزيك الثلث أن تصدق به».

وقال ابن جرير (١) : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عزوجل (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية ، هذا حديث غريب جدا ، وفي سنده وسياقه نظر.

وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله : ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال : «دعه فإنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٣).

قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الأمانة ، الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد ، يعني الفريضة. يقول : (لا تَخُونُوا) لا تنقضوها (٤). وقال في رواية : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، يقول بترك سنته وارتكاب معصيته.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٣) تقدم الحديث مع تخريجه في الآية ٩ ، من هذه السورة.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٢١.

٣٦

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الآية ، أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم (١). وقال السدي : إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم ، وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وقال عبد الرحمن بن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون (٢).

وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : ١٥] وقال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون : ٩]. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] الآية.

وقوله (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة. وفي الأثر يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ، وفي الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ثلاث من كن فيه ، وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه» (٣) ، بل حب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس ، كما ثبت في الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين» (٤).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد (فُرْقاناً) مخرجا ، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة ، وفي رواية عن ابن عباس (فُرْقاناً) نجاة ، وفي رواية عنه نصرا ، وقال محمد بن إسحاق (فُرْقاناً) أي فصلا بين الحق والباطل وهذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٢١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٩ ، والأدب باب ٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٦.

(٤) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٩ ، ٧٠.

٣٧

التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها ، وغفرها سترها عن الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد : ٢٨].

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة (لِيُثْبِتُوكَ) ليقيدوك ، وقال عطاء وابن زيد : ليحبسوك ، وقال السدي : الإثبات هو الحبس والوثاق ، وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال ، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء ، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال : من أخبرك بهذا؟ قال «ربي» قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا. قال «أنا استوصي به ، بل هو يستوصي بي» (١).

وقال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يأتمر بك قومك؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال : من أخبرك بهذا؟ قال «ربي». قال : نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال «أنا استوصي به ، بل هو يستوصي بي». قال : فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الآية.

وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا ، بل منكر ، لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه.

والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٢٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٥ ، ٢٢٦.

٣٨

إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا : أجل ، ادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره.

فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال : والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ فانظروا في غير هذا.

قال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا : صدق والله ، فانظروا رأيا غير هذا.

قال : فقال أبو جهل لعنه الله ، والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد ، لا أرى غيره. قالوا : وما هو؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك ، قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.

قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي ، القول ما قال الفتى ، لا أرى غيره. قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي (١).

وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦] وكذا

__________________

(١) انظر الأثر في تفسير الطبري ٦ / ٢٢٦ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٤٨٠ ، ٤٨٣.

٣٩

روى العوفي عن ابن عباس ، وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك ، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه‌السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القوم وهم على بابه ، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ـ إلى قوله ـ فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] ، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا.

وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : دخلت فاطمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبكي فقال : «ما يبكيك يا بنية؟» قالت يا أبت وما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك ، فقال : «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا : ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال : «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري ، عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) الآية قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال لا أدري ، فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.

__________________

(١) المسند ١ / ٣٤٨.

٤٠