تفسير القرآن العظيم - ج ٤

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٤

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤١

فقالوا : أيها العزيز إنا قدمنا للميرة ، قال : فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله. قال : فمن أين أنتم؟ قالوا من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبي الله. قال : وله أولاد غيركم؟ قالوا : نعم كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا ، هلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه ، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أوفى لهم كيلهم ، وحمل لهم أحمالهم ، قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) رغبهم في الرجوع إليه ، ثم رهبهم فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) الآية ، أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة ، (وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ، ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه ، وذكر السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم ، وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا ، وهذا لحرصه على رجوعهم.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي غلمانه (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها (فِي رِحالِهِمْ) أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بها ، قيل : خشي يوسف عليه‌السلام أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام ، وقيل أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجا وتورعا ، لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

يقول الله تعالى عنهم : إنهم رجعوا إلى أبيهم (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) يعنون بعد هذه المرة ، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين لا نكتل ، فأرسله معنا نكتل ، وإنا له لحافظون ، قرأ بعضهم بالياء أي يكتل هو ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك ، وهذا كما قالوا له في يوسف (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ولهذا قال لهم : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيبونه عني ، وتحولون بيني وبينه؟ (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) وقرأ بعضهم حفظا (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي هو أرحم الراحمين بي ، وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي ، وأرجو من الله أن يرده علي ويجمع شملي به ، إنه أرحم الراحمين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا

٣٤١

وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦)

يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم ، وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، فلما وجدوها في متاعهم (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) ، كما قال قتادة : ما نبغي وراء هذا ، إن بضاعتنا ردت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيل (١) ، (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، (وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) وذلك أن يوسف عليه‌السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير ، وقال مجاهد : حمل حمار ، وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا ، كذا قال (٢).

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي تحلفون بالعهود والمواثيق (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أكده عليهم ، فقال : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ، قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها ، فبعثه معهم.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨)

يقول تعالى إخبارا عن يعقوب عليه‌السلام ، إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد ، وليدخلوا من أبواب متفرقة ، فإنه كما قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد إنه خشي عليهم العين ، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ، ومنظر وبهاء ، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم ، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه (٣).

وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض تلك الأبواب. وقوله (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع ، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٧.

(٣) أخرج الحديث : «العين حق تستنزل الحالق» أحمد في المسند ١ / ٢٧٤ ، ٢٩٤.

٣٤٢

مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) قالوا : هي دفع إصابة العين لهم (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير (١) : لذو علم لتعليمنا إياه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٩)

يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين ، وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته ، وأفاض عليهم الصلة والألطاف والإحسان ، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له ، وعرفه أنه أخوه ، وقال له : لا تبتئس ، أي لا تأسف على ما صنعوا بي ، وأمره بكتمان ذلك عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرّما معظما.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢)

لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاما ، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية ، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين ، وقيل : من ذهب ، قال ابن زيد ، كان يشرب فيه ، ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد.

وقال شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : صواع الملك ، قال : كان من فضة يشربون فيه ، وكان مثل المكوك (٢) ، وكان للعباس مثله في الجاهلية ، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد ، ثم نادى مناد بينهم (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) فالتفتوا إلى المنادي وقالوا (ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي صاعه الذي يكيل به (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) وهذا من باب الجعالة (٣) ، (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) وهذا من باب الضمان والكفالة.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢٥٠.

(٢) المكوك : الصاع.

(٣) الجعالة : الأجر على الشيء.

٣٤٣

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا ، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال لهم الفتيان (فَما جَزاؤُهُ) أي السارق إن كان فيكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، أن السارق يدفع إلى المسروق منه ، وهذا هو الذي أراد يوسف عليه‌السلام ، ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله تورية ، (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم ، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ، ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.

وقوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره ، وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ، ولهذا مدحه الله تعالى فقال : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [المجادلة : ١١] الآية.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزوجل ، وكذا روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير ، قال : كما عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ، فقال ابن عباس : بئس ما قلت : الله العليم فوق كل عالم ، وكذا روى سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم ، وهكذا قال عكرمة ، وقال قتادة : وفوق كل ذي علم عليم ، حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدئ ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله ، وفوق كل عالم عليم.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يتنصلون إلى العزيز من التشبه به ، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف عليه‌السلام. قال سعيد بن جبير ، عن قتادة : كان يوسف عليه‌السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه فكسره ، وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد

٣٤٤

إسحاق ، وكانت عندها منطقة (١) إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته ، وكان لها به وله ، فلم تحب أحدا حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ، تاقت إليه نفس يعقوب عليه‌السلام ، فأتاها فقال : يا أخية سلمي إليّ يوسف ، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت : فو الله ما أنا بتاركته ، ثم قالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه ، وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه ، أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق عليه‌السلام ، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ، ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم ، فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسلم ، أصنع فيه ما شئت ، فأتاه يعقوب ، فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذلك ، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت (٢) ، قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

وقوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) يعني الكلمة التي بعدها ، وهي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي تذكرون ، قال هذا في نفسه ولم يبده لهم ، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر ، وهو كثير ، كقول الشاعر : [البسيط]

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزي سنمّار (٣)

وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها. قال العوفي عن ابن عباس (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) ، قال : أسر في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ).

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩)

لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم ف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يعنون وهو يحبه حبا شديدا

__________________

(١) المنطقة : شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٦٥.

(٣) البيت لسليط بن سعد في الأغاني ٢ / ١١٩ ، وخزانة ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، والدرر ١ / ٢١٩ ، ومعجم ما استعجم ص ٥١٦ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٩٥ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٨٩ ، وتذكرة النحاة ص ٣٦٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٨٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٦.

٣٤٥

ويتسلى به عن ولده الذي فقده (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله يكون عندك عوضا عنه ، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي العادلين المنصفين القابلين للخير ، (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي كما قلتم واعترفتم (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إن أخذنا بريئا بسقيم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢)

يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك (خَلَصُوا) أي انفردوا عن الناس (نَجِيًّا) يتناجون فيما بينهم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو روبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله ، قال لهم : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق هذه البلدة (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه راضيا عني (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) قيل : بالسيف ، وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ، ويتنصلوا إليه ويبرءوا مما وقع بقولهم وقوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال قتادة وعكرمة : ما علمنا أن ابنك سرق. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئا ، إنما سألنا ما جزاء السارق؟ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) : قيل المراد مصر ، قاله قتادة ، وقيل غيرها ، (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي التي رافقناها ، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦)

قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى ، اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف ، قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (١) وقال بعض

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٧٤.

٣٤٦

الناس : لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سحب حكم الأول عليه ، وصح قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة : يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه ، إما أن يرضى عنه أبوه ، فيأمره بالرجوع إليه ، وإما أن يأخذ أخاه خفية ، ولهذا قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي العليم بحالي ، (الْحَكِيمُ) في أفعاله وقضائه وقدره.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي أعرض عن بنيه ، وقال متذكرا حزن يوسف القديم الأول (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) جدد له حزن الابنين الحزن الدفين ، قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع (١) ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه‌السلام (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٢) أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق ، قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك : فهو كظيم كئيب حزين.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن داود عليه‌السلام قال : يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني لهم رابعا ، فأوحى الله تعالى إليه : أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر ، وتلك بلية لم تنلك». وهذا مرسل وفيه نكارة ، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ، ولكن علي بن زيد بن جدعان له ، مناكير وغرائب كثيرة ، والله أعلم.

وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه‌الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما ، والله أعلم ، فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه ، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء ، فإبراهيم ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفراق يوسف ، في حديث طويل لا يصح ، والله أعلم ، فعند ذلك رق له بنوه.

وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفارق تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي ضعيف القوة (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أي أجابهم عما قالوا بقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي) أي همي وما أنا فيه (إِلَى اللهِ) وحده ، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ

__________________

(١) الاسترجاع : أي القول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، إذا نزلت مصيبة.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٧٦.

٣٤٧

ما لا تَعْلَمُونَ) أي أرجو منه كل خير ، وعن ابن عباس (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني رؤيا يوسف أنها صدق ، وأن الله لا بد أن يظهرها ، وقال العوفي عنه في الآية : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان ليعقوب النبي عليه‌السلام أخ مؤاخ له ، فقال له ذات يوم : ما الذي أذهب بصرك ، وقوس ظهرك؟ قال : أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف ، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكوني إلى غيري؟ فقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال جبريل عليه‌السلام : «الله أعلم بما تشكو» وهذا حديث غريب فيه نكارة.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨)

يقول تعالى مخبرا عن يعقوب عليه‌السلام : إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين ، والتحسس يكون في الخير ، والتجسس يكون في الشر ، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه ، فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

وقوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ، ودخلوا على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام ، (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره ، وهو ثمن قليل ، قاله مجاهد والحسن وغير واحد. وقال ابن عباس : الرديء لا ينفق مثل خلق (٢) الغرارة والحبل والشيء ، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان ، وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير : هي الدراهم الفسول (٣). وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء ، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق. وقال أبو صالح : جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر ، وأصل الإخاء الإزجاء

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٨١.

(٢) الخلق : البالي.

(٣) الفسول : جمع فسل : هو الرديء من كل شيء.

٣٤٨

لضعف الشيء ، كما قال حاتم طيئ : [الطويل]

ليبك على ملحان ضيف مدفّع

وأرملة تزجي مع الليل أرملا (١)

وقال أعشى بني ثعلبة : [الكامل]

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجّي خلفها أطفالها (٢)

وقوله إخبارا عنهم (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك ، وقرأ ابن مسعود : فأوقر ركابنا وتصدق علينا. وقال ابن جريج : وتصدق علينا برد أخينا إلينا. وقال سعيد بن جبير والسدي (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة ، وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال ألم تسمع قوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) رواه ابن جرير (٣) عن الحارث ، عن القاسم عنه. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ، حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الأسود ، سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي؟ قال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

يقول تعالى مخبرا عن يوسف عليه‌السلام ، أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء فتعرف إليهم ، فيقال : إنه رفع التاج عن جبهته ، وكان فيها شامة ، وقال (هَلْ

__________________

(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (رمل) ، وتاج العروس (رمل) ، وهو منسوب أيضا لحاتم الطائي في تفسير الطبري ٧ / ٢٨٥.

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٧٩ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٠٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٥٦ ، ٢٦٠ ، ٥ / ١٣١ ، ٦ / ٤٩٨ ، والدرر ٥ / ١٣ ، والكتاب ١ / ١٨٣ ، والمقتضب ٤ / ١٦٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٤٣٩ ، وجمهرة اللغة ص ٩٢٠ ، والدرر ٦ / ١٥٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٢٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٧ ، والمقرب ١ / ١٢٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٨ ، ١٣٩ ، والبيت للأعشى بني ثعلبة في تفسير الطبري ٧ / ٢٨٥.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٢٨٩.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٢٩٠.

٣٤٩

عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [النحل : ١١٩] الآية.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه‌السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فرج الله تعالى من ذلك الضيق ، كما قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] فعند ذلك قالوا (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) وقرأ أبي بن كعب إنك لأنت يوسف ، وقرأ ابن محيصن أنت يوسف ، والقراءة المشهورة هي الأولى ، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي).

وقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) الآية ، يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضا ، على قول من لم يجعلهم أنبياء ، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه وأخطئوا في حقه (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) يقول : أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ، ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم ، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) قال السدي : اعتذروا إلى يوسف فقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) يقول : لا أذكر لكم ذنبكم : وقال ابن إسحاق والثوري (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ، (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) أي يستر الله عليكم فيما فعلتم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥)

يقول : اذهبوا بهذا القميص (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) وكان قد عمي من كثرة البكاء ، (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي بجميع بني يعقوب ، (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي خرجت من مصر (قالَ أَبُوهُمْ) يعني يعقوب عليه‌السلام لمن بقي عنده من بنيه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ولما فصلت العير ، قال : لما خرجت

٣٥٠

العير هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، فقال (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام (١) ، وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به وقال الحسن وابن جريج : كان بينهما ثمانون فرسخا ، وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.

وقوله (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن : تهرمون. وقولهم (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) قال ابن عباس : لفي خطئك القديم. وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال السدي وغيره.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨)

قال ابن عباس والضحاك : (الْبَشِيرُ) البريد. وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب ، قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب ، فأحب أن يغسل ذلك بهذا ، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيرا ، وقال لبنيه عند ذلك (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم أن الله سيرده إلي ، وقلت لكم : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي من تاب إليه تاب عليه ، قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السحر.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السحر فاغفر لي. قال فاستمع الصوت ، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسأل عبد الله عن ذلك ، فقال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة الجمعة ، كما قال ابن جرير (٣) أيضا : حدثني المثنى ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد ، أنبأنا ابن جريج عن عطاء ، وعكرمة عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقول : حتى تأتي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٠.

٣٥١

ليلة الجمعة ، وهو قول أخي يعقوب لبنيه «وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم».

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه‌السلام على يوسف عليه‌السلام ، وقدومه بلاد مصر ، لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فتحملوا عن آخرهم ، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر ، فلما أخبر يوسف عليه‌السلام باقترابهم ، خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه‌السلام ، ويقال : إن الملك خرج أيضا لتلقيه ، وهو الأشبه ، وقد أشكل قوله : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ) على كثير من المفسرين ، فقال بعضهم : هذا من المقدم والمؤخر ، ومعنى الكلام (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش ، ورد ابن جرير هذا ، وأجاد في ذلك ، ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما ، ثم لما وصلوا باب البلد قال : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

وفي هذا نظر أيضا ، لأن الإيواء إنما يكون في المنزل ، كقوله (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) [يوسف: ٦٩] وفي الحديث «من آوى محدثا» (١) وما المانع أن يكون قال لهم بعد ما دخلوا عليه وآواهم إليه : ادخلوا مصر ، وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين ، أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط ، ويقال ـ والله أعلم ـ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم ، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل مكة حين قال : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه ، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك ، فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه‌السلام (٢).

وقوله : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما كان أباه وخالته ، وكانت أمه قد ماتت قديما. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان ، قال ابن جرير (٣) : ولم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها ، وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق. وقوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) قال ابن عباس

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٢١ ، ومسلم في العتق حديث ٢٠.

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٢.

٣٥٢

ومجاهد وغير واحد : يعني السرير ، أي أجلسهما معه على سريره ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجد له أبواه وإخوته الباقون. وكانوا أحد عشر رجلا ، (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي التي كان قصها على أبيه من قبل ، (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] الآية ، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه‌السلام ، فحرم هذا في هذه الملة ، وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى ، هذا مضمون قول قتادة وغيره.

وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم ، فلما رجع سجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما هذا يا معاذ؟» فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم ، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله ، فقال : «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها» (١). وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض طرق المدينة ، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ، فسجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت» ، والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ، ولهذا خروا له سجدا ، فعندها قال يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي هذا ما آل إليه الأمر ، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر ، كما قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أي يوم القيامة يأتينهم ما وعدوا به من خير وشر.

وقوله : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي صحيحة صدقا يذكر نعم الله عليه ، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي البادية. قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية ، وقال : كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام ، قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمى ، وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل (٢).

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إذا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بمصالح عباده ، (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده. قال أبو عثمان النهدي ، عن سليمان : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة ، قال عبد الله بن شداد : وإليها ينتهي أقصى الرؤيا ، رواه ابن جرير(٣) ، وقال أيضا : حدثنا عمر بن علي ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا هشام عن الحسن قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خديه ، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في النكاح باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٠٧.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٨.

٣٥٣

وقال هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة ، وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، فغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وله عشرون ومائة سنة ، وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة. وقال محمد بن إسحاق : ذكر ـ والله أعلم ـ أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة ، قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها ، وأن يعقوب عليه‌السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه. وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا ، وقال أبو إسحاق ، عن مسروق : دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون بين رجل وامرأة ، فالله أعلم. وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا : صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عزوجل لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما منّ الله به عليه من النبوة والملك سأل ربه عزوجل كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه ، قاله الضحاك : وأن يلحقه بالصالحين وهم إخوانه من النبيين والمرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه‌السلام ، قاله عند احتضاره ، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يرفع إصبعه عند الموت ويقول : «اللهم في الرفيق الأعلى» (١) ثلاثا ، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله ، وانقضى عمره ، لا أنه سأله ذلك منجزا كما يقول الداعي لغيره : أماتك الله على الإسلام ، ويقول الداعي : اللهم أحينا مسلمين ، وتوفنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، كما قال قتادة قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) لما جمع الله شمله وأقر عينه ، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها ، اشتاق إلى الصالحين قبله.

وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه‌السلام ، وكذا ذكر ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب ٥ ، ومسلم في السلام حديث ٤٦.

٣٥٤

جرير (١) والسدي عن ابن عباس أنه أول نبي دعا بذلك ، وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام ، كما أن نوحا أول من قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) [نوح : ٢٨] ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك ، وهو ظاهر سياق قول قتادة ، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا.

قال الإمام أحمد بن حنبل (٢) رحمه‌الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد متمنيا الموت ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» وأخرجاه في الصحيحين ، وعندهما «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء ، وقال : يا ليتني مت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سعد أعندي تتمنى الموت؟» فردد ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : «يا سعد إن كنت خلقت للجنة ، فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس ، وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمره ، وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» تفرد به أحمد ، وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به ، وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [الأعراف : ١٢٦] وقالت مريم لما أجاءها المخاض ، وهو الطلق ، إلى جذع النخلة : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة ، لأنها لم تكن ذات زوج ، وقد حملت ووضعت ، وقد قالوا : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٧ ـ ٢٨] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا ، وأنطق

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٩.

(٢) المسند ٣ / ١٠١.

(٣) أخرجه البخاري في المرضى باب ١٩ ، ومسلم في الذكر حديث ١٠.

(٤). ٥ / ٢٦٦ ، ٢٦٧.

(٥) المسند ٢ / ٣٥٠.

٣٥٥

الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله ، فكان آية عظيمة ، ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه.

وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي في قصة المنام والدعاء الذي فيه «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو سلمة ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد مرفوعا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اثنتان يكرههما ابن آدم : يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب» فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ولا يزداد الأمر إلا شدة ، فقال : اللهم خذني إليك ، فقد سئمتهم وسئموني. وقال البخاري رحمه‌الله : لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى ، قال: اللهم توفني إليك.

وفي الحديث «إن الرجل ليمر بالقبر ـ أي في زمان الدجال ـ فيقول : يا ليتني مكانك» (٣) لما يرى من الفتن. والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون. قال أبو جعفر بن جرير : وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم ، وغفر لهم ذنوبهم.

(ذكر من قال ذلك)

حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج عن صالح المري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خلا ولده نجيا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم؟ وما لقي منكم الشيخ ، وما لقي منكم يوسف؟ قالوا : بلى. قال فيغركم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ ، فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جانب أبيه قاعد ، قالوا : يا أبانا إنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله قط حتى حركوه ، والأنبياء عليهم‌السلام أرحم البرية ، فقال : ما لكم يا بني؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟

قال : بلى قالوا : أولستما قد غفرتما لنا؟ قالا : بلى. قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا ، إن كان الله لم يعف عنا. قال : فما تريدون يا بني؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٨ ، باب ٢ ، ٤ ، ومالك في القرآن حديث ٩٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٦٨ ، ٤ / ٦٦ ، ٥ / ٢٤٣ ، ٣٧٨.

(٢) المسند ٥ / ٤٢٧.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٤.

٣٥٦

الوحي من الله بأنه قد عفا عنا ، قرت أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا. قال : فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين ، قال : فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، قال صالح المري يخيفهم ، قال : حتى إذا كان على رأس العشرين نزل جبريل عليه‌السلام ، على يعقوب عليه‌السلام ، فقال : إن الله تعالى قد بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأن الله تعالى قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة (١).

هذا الأثر موقوف عن أنس. ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا. وذكر السدي أن يعقوب عليه‌السلام لما حضره الموت أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات صبره وأرسله إلى الشام ، فدفن عندهما عليهم‌السلام.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ(١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤)

يقول تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قص عليه نبأ إخوة يوسف ، وكيف رفعه الله عليهم ، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام ، هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك ، والاتعاظ لمن خالفك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي على إلقائه في الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) به ، ولكنا أعلمناك به وحيا إليك وإنزالا عليك ، كقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤] الآية ، وقال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤] الآية ، إلى قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦] الآية ، وقال : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) [القصص : ٤٥] الآية ، وقال (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [ص : ٦٩ ـ ٧٠] يقول تعالى : إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق ، مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، ولهذا قال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ١١٦] وقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٨] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر ، أي من جعالة ولا أجرة على ذلك ، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٠٩ ، ٣١٠.

٣٥٧

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت ، وسيارات وأفلاك دائرات ، والجميع مسخرات ، وكم في الأرض من قطع متجاورات ، وحدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وأمواج متلاطمات ، وقفار شاسعات ، وكم من أحياء وأموات ، وحيوان ونبات ، وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات ، فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات ، وغير ذلك.

وقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال ابن عباس : من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم : من خلق السموات ، ومن خلق الأرض ، ومن خلق الجبال؟ قالوا : الله ، وهم مشركون به (١). وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وفي الصحيحين : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا : لبيك لا شريك لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد قد» أي حسب حسب ، لا تزيدوا على هذا (٢).

وقال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره ، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (٣).

وقال الحسن البصري في قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس ، وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) وثمّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله ، كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه ـ أو انتزعه ـ ثم قال (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وفي الحديث «من حلف بغير الله فقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣١٢.

(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٢٢.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢.

٣٥٨

أشرك» (١) رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر.

وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (٢) ، وفي لفظ لهما «الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل» (٣) ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن يحيى الجزار عن ابن أخي زينب ، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير ، قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطا فقال : ما هذا الخيط؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ، فأخذه فقطعه ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» قالت : قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ، فقال إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كف عنها ، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أذهب البأس ، رب الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» (٤).

وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد (٥) عن وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن عيسى بن عبد الرحمن قال : دخلت على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده ، فقيل له ، لو تعلقت شيئا ، فقال : أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلق شيئا وكل إليه» ورواه النسائي عن أبي هريرة.

وفي مسند الإمام أحمد (٦) من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من علق تميمة فقد أشرك» ، وفي رواية «من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» (٧) ، وعن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه

__________________

(١) أخرجه الترمذي في النذور باب ٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٧ ، وابن ماجة في الطب باب ٣٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨١.

(٣) أخرجه أبو داود في الطب باب ٢٤ ، والترمذي في السير باب ٤٦ ، وابن ماجة في الطب باب ٤٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٩ ، ٤٣٨ ، ٤٤٠.

(٤) المسند ١ / ٣٨١.

(٥) المسند ٤ / ٣١٠.

(٦) المسند ٤ / ١٥٦.

(٧) المسند ٤ / ١٥٤.

٣٥٩

مسلم (١).

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه الإمام أحمد (٢).

وقال أحمد (٣) : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد يعني ابن الهادي ، عن عمرو ، عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : «الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» وقد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد به.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسن ، أنبأنا ابن لهيعة ، أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا : يا رسول الله ، ما كفارة ذلك؟ قال : «أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت ، أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون. قال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال : «يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء الله أن يقول : فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال : «قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه».

وقد روي من وجه آخر ، وفيه أن السائل في ذلك هو الصديق ، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي محمد ، عن معقل بن يسار ، قال : شهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قال : حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل» ، فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها

__________________

(١) كتاب الزهد حديث ٤٦.

(٢) المسند ٤ / ٢١٥.

(٣) المسند ٥ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(٤) المسند ٢ / ٢٢٠.

(٥) المسند ٤ / ٤٠٣.

٣٦٠